|
القناعُ الرمزيّ في أعمال نوال السعدواي
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 1460 - 2006 / 2 / 13 - 10:07
المحور:
الادب والفن
"إيزيس" بين السعداوي والحكيم رسالةٌ إلى الوطن لولا الميثولوجيا لَثَقُلَتِ الحياةُ على الإنسان ولانتفى الجنسُ البشريّ، بزعمي، منذ البدء. فالأسطورةُ بالنسبة للبشريّ هي معادلٌ موضوعيّ للقصيدة بالنسبة للشاعر. التي من خلالها يعيد تشكيلَ العالم كي يستطيع أن يتعاملَ مع معطياته التي قد يرفضها فيتمرد عليها، شعرًا. من أجل ذلك فكل أسطورة تحمل رسالةً طوباوية من خلال معطيات الثقافة والزمن والبيئة التي أفرزتها. ومن هنا فكل ميثولوجيا لابد أن تُقرأ بعين زمانها وفي سياقها التاريخي والسوسيولجي والفكري الذي نسج خيوطَها، وفي ذات الوقت يجوز مصارعتُها وخرقها واللعب بها ثم إعادةُ نحتِها من جديد بوصفها إرثًا يرثه بشرٌ عن بشرٍ فيغدو مُلكًا خالصًا للوريث حتى ولو ظل الإرثُ يرمق بين لحظة وأخرى جذورَه البعيدة بعين الحنين. لهذا فإعادة قراءة الأساطير بل وإعادة إنتاجها وتجديد خيوطها، ليس فقط من حق كل مبدع، بل أظنها من واجبه أيضًا. ولعل الأساطير الفرعونية والإغريقية والأشورية هي من أكثر ما شكّل مُلهمًا للفنان في كل عصر، كونُها تتقاطع بقوة مع الإنسان بصرف النظر عن موقعه الجغرافي والتاريخيّ والحضاري الضيق. ولأن المرأةَ هي أحد المحاور الرئيسية في كل أسطورة تقريبًا، إن لم تكن هي المحور الأول، فإن تناوُلَ الأسطورةِ على نحو جديد سوف يختلف إذا ما تناوله مبدعٌ عما إذا تناولته مبدعةٌ، سيما إذا كانت مبدعةً مهمومةً بمكانة وموقع وقانون المرأة مثل نوال السعدواي. خلال تلك المزاعم نستطيع أن نقرأ "إيزيس" السعداوي في مقارنةٍ مع "إيزيس" توفيق الحكيم، بوصفهما طرفيْ النقيض في تناول أسطورة بعينها وشخصية بعينها هي إيزيس المصرية إلهة الجمال والخير وزوجة أوزوريس. ومن الطريف أنني حين قرأت المسرحيتين لم أقرأ شخصَ إيزيس بقدر ما قرأت دماغ كل مبدع منهما وطرائق تناوله العالم. توفيق الحكيم وتطرّفه ومغالاته في النظرة المتعالية للمرأة ووضعها في مرتبة دنيا، ونوال السعدواي في تطرفها في احترام المرأة وإعلاء شأنها في الوجود. ولن أدعي الحياد وأزعم أنني في حال تأمل ونقد لمبدعيْن هما من رموز الحياة الثقافية المصرية المعاصرة، لكنني رأسًا سآخذ موقعي كمؤيدة لنوال السعدواي في موقفها من المرأة. وموقفي هنا ليس بوصفي امرأة تنتمي لمجتمع ذكوري حتى النخاع، لكنه انتصارٌ لقيمة الأنثوية في الحياة بوصفها الجمالَ والخير والعدل في الوجود. ومن الطريف أيضًا أن الحكيم كان يجتهد أن يثني على إيزيس ويمجدها ويمدحها عن طريق نعتها بصفاتٍ رفيعة من قبيل الوفاء والإخلاص وإعلاء شأن الزوج. حتى أنه، كما جاء في بيانه المذيّل للمسرحية، ربط بينها وبين شهرزاد التاريخ وبنيلوب الإغريق من حيث اتفاقهن في الوفاء الزوجي. وإن وضع بنيلوب في خانة الوفاء السلبي عكس وفاء إيزيس الإيجابي. والطريف أن مدْح الحكيم إيزيس كان مدحًا معكوسًا، ومن المدح ما قتل. فالحكيم لم ينتبه (أم تراه انتبه؟) أن كل النعوت الطيبة التي خلعها على إيزيس كانت تضرب بقوة في مقتل استقلالها الوجودي. معنى أنه كبّلها في قيد الرجل ودثّرها بعباءته طوال الوقت، وكأن لا جمالَ وجوديًّا وإنسانيًّا لامرأة خارج حدود الرجل وخارج بساط خدمته. لم أكن لأقول كل هذا القول لولا أنني بصدد عقد مقارنة بين المسرحيتين. فالحكيم غير ملام مطلقا كونه استلهم الأسطورة كما هي تقريبا ولم يفعل إلا أن نسج على نولها، ومن ثم فهو غير مطالب بتغيير الأحداث لصالح فكرة ما، ليس فقط لأنه اشتهر بعدائه للمرأة (فمن الواضح أنه لم يكن عدوا لإيزيس)، لكن الأخطر أنه كان طوال الوقت يكرم شخصها في مسرحيته عبر تكريس قيمة الوفاء الزوجيّ ولا شيء آخر. وهي قيمة أجلى وأعلى من أن نناقش حتميتها وجمالها ورقيّها، سوى أن الفكرة التي تطرحها السعداوي في عملها تقول إن الجمال الإنساني يكمن في مناطق أخرى كثيرة غير هذه القيمة التي تنهل من بساط الرجل وتصب فيه. والأهم هو أن الجمال الإنساني لو توّلد فلا ريب سينبت كل ألوان الجمال الأخرى مثل قيم الوفاء والإخلاص والحب الخ. ومن ثم فقد رسمت السعداوي "منبع" النهر فيما رسم الحكيم "فرعًا" من فروعه. ففي حين كانت إيزيس الحكيم محضَ امرأة ثكلى تحاول طيلة الأحداث أن تلملم نثارات جسد زوجها المغدور بمعرفة أخيه إله الشر "سيت"، كانت إيزيس السعداوي امرأةً عضويةً فاعلةً في المجتمع تبني عقول الناشئة وتعلمهم الكتابة والقراءة وتبذر فيهم المفهومَ الحقَّ للعدل والجمال والنبالة واحترام الإنسان لنفسه وللآخر بصرف النظر عن نوعه وعِرقه وطبقته وديانته. إيزيس الأولى امرأة "مفعول بها" كما هو شأن المرأة في معظم الأدب الكلاسيكيّ ويأتي دورها دومًا كردّة فعلٍ صنعه الرجل. فالرجل هو المهيمن على حراك الكون والموجدات وما المرأة إلا أحد هذه الموجدات التي تخص الرجل. فيما إيزيس الثانية هي مالكٌ مناصفٌ للكون مع الرجل وفاعلٌ ومفعّلٌ للوجود. إيزيس الجديدة لا تدور في فلك الرجل وداخل عباءته، فهي موجودة بذاتها الخاص وتبني الكونَ بحقها الخاص، فيما الأولى مرهونٌ وجودها بوجود الرجل، وكما قال الفارابي: "كلُّ موجود بغيره آلة". ونوال السعداوي لم تقل الصدق في مقدمتها حين زعمت أنها ترد الاعتبار إلى إيزيس الإلهة القوية التي ظلمها التاريخ. فالسعداوي ليست ذلك الكائن الماضويّ الذي يعنيه إعادة ترتيب التاريخ وتصحيحه. لكنها كتبت هذه المسرحية كرسالة شديدة اللهجة إلى "المستقبل" الذي وحده ما يعنيها. ومسرحية "إيزيس" ليست العمل الوحيد لها الذي يخفي بين سطوره رسالة إلى المجتمع، فكلُّ أعمالها تنحو النحو ذاته. فهي تجيد لعبة الرمز والقناع وتضمين الرسائل المُرّة عبر أعمالها الأدبية. والكاتب عادة يلجأ إلى الرمز، ليس فقط كتيمة فنية، لكن أيضًا حينما يفسد النظام، مثلما فعل ديدبا في "كليلة ودمنة" ولنا في التاريخ شواهدُ عديدةٌ مماثلة. وجليّ أن السعداوي لا تتوسّل الرمز خوفًا من النظام أو طلبا للسلامة لأنها مقاتلةٌ شرسة كما عرفناها وليس المعتقل بالمكان الغريب عنها، لكنها تعمل ذلك حفاظًا على الرسالة الخبيئة داخل العمل من أجل حمايتها من بطش مصادرات الرأي وقمع حرية التعبير. لو قرأنا إيزيس من هذا المنطلق فلن نجد بين أيدينا إلا نصًّا تعبويًّا تحريضيًّا مغلّفًا بنصٍّ إبداعيّ أدبيّ، أو لنقل هو خطابٌ إصلاحي كتبته إيزيس في مرقدها خلف قرص الشمس لترسله إلى وطنها المعاصر. وبإجراء عملية إحلال بسيطة لدوال وشخوص العمل سوف نخلُص رأسًا إلى متن الرسالة الإيزيسية/السعداوية. حيث "رع" هو السلطة التشريعية أو النظام، "وسيت" هو القانون والدستور الذي يخدم مصالح النظام، وحيث "رئيس الجيش" هو السلطة التنفيذية، التي لابد وأن تكون محدودة الفكر بليدة التأمل لا قدرة لها على إعمال العقل ولا ينبغي لها، لأنها مجردُ يدٍ باطشة من أيادي النظام الطولى، رغم أننا سنجده وقد تحوّل في نهاية العمل ليأخذ صف الشعب فيما يشبه انقلابا عسكريًّا على النظام. و"نوت" هي النوستالجيا إلى ماضٍ كان جميلا، لأن كل ماضٍ هو جميل بالضرورة، و"معات" هي العدالةُ الغائبة في الحياة، و"إيزيس" بالطبع هي الجمالُ بالمفهوم الفلسفي للكلمة، وأما "توت ومسطاط" فهما الجبهة المعارضة للحاكم وإن اختلفت طرائق تناولهما لمفهوم الغاية والوسيلة. ولأن العدل نسبيّ، ولم يقف الإنسان على تعريف دقيق له حتى الآن، فسنجد أن "معات" ترتبك أحيانًا أو يتملكها اليأس عكس "إيزيس" التي حافظت على صلابتها وقوة منطقها ونبلها طوال الوقت. أما اللعبة الفنية في هذه المسرحية هي أن السعداوي قد انطلقت من بنية ميثولوجية هي أسطورة "إيزيس وأزوريس" ثم شدت بأطراف القص إلى منطقة الواقعي الحداثي فصارت الشخوص خاضعةً للقانون الفيزيقيّ عوضًا عن السحرية والأسطرة والخيال. وخلال هذه العملية الاستبدالية يمكن أن نلمح منهج السعداوي في التفكير وهي رسالة أخرى تمررها لقارئها عبر العمل بأن الميتافيزيقا هي أداةُ خداع وشَرك ينسجه لنا السلطان عبر الكهنوت كيلا نتدبّر مشاكلنا الراهنة ونحيل الأمر إلى قوى غيبية ميتافيزيقية بيدها مقاليد الأمر. هذه الإحالة الغيبية التغيبية هي آفة كلِّ الشعوب التي لا تأخذ بالعلم والمنطق والعقل وتستنيم إلى النقل السلفيّ الإحالي الذي فيه مقتل الإنسان. أكدّت السعداويّ على أهمية العلم فكانت إيزيس، الإلهة التي نزلت من عليائها، تعلم الفلاحين والفقراء وأبناءهم الكتابة والقراءة. وهو ما يجب أن يستوقفنا طويلا، لأن الكتابة لونٌ من الحضور، أو كما قالت فرجينيا وولف: "لا حدث يحدث إلا إذا دُوِّن"، فهل يجوز لنا أن نوسع الأمر ونقول لا بشرَ موجودًا إلا إذا كتب شيئا؟ حُرمت المرأة من التعليم والكتابة دهورًا طويلة، ليس فقط عند العرب لكن في الغرب أيضًا سيما في الأسر الفيكتورية. وكلنا يذكر "أرنولف" في مسرحية "مدرسة النساء" لموليير، حين أسِف كَوْن "آنييس" تعرف الكتابة ما يخوّل لها مراسلة عشيقها. سوى أن وضع المرأة العربية كان أسوأ كثيرا طوال الوقت لأن العرب اعتبر المرأةَ كائنا ناقصا فيما الكتابةُ حرفةٌ تحتاج عقلا حصيفًا أنىّ للمرأة أن تمتلكه. وعلّنا نذكر كتابَ "صبحُ الأعشى" للقلقشندي الذي تناول صفات الكاتب وآداب الكتابة وما يحتاج إليه الكاتب من معارفَ في اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ والأدب، وفيه رفع من شأن الكتابة كما جاء: إن الكتابة من أشرف الصنائع وأرفعها وأخطرها في ذات الوقت"، وقد قرن فعل الكتابة بالذكورة مستشهدًا بقول عمر بن الخطّاب "جنبوا النساء الكتابة" ولا أدرى مدى صحة انتساب الكلمة لعُمر. هذه المسرحية إذن هي محاول من السعداوي لتمرير رسالة مُفادُها أن المجتمعات الأمومية matriarchal كانت الأرقى سياسّيًا واجتماعيًّا وجماليًّا وإنسانيًّا عكس المجتمعات الأبوية (البطريركية) patriarchal التي اتسمت بالرقِّ والعنف والسباية والطبقية ودحر الأنثى. ولم تكتف السعداوي باستلهام أسطورة إيزيس وتطويعها لرؤاها الخاصة المعاصرة المحملّة بأيديولوجيا إصلاحية تعنيها تماما، لكنها عدلّت في سير الأحداث وسيناريو الحوار بين شخوص العمل، أي كأنها عملت نصًّا على نص أو كتابةً على كتابة. وهذا يُحسب لها لأنها صارعت الأسطورة المنقولة وخرجت علينا بنصٍّ جديد يحمل سمات العصر الجديد. وخلال ذلك سوف نجد بسهولة أن إيزيس تنطق بلسان السعداوي طوال الوقت، تنقل أفكارها وتدين إشكاليات مجتمعها التي ظهرت بجلاء خلال حوار شخوص العمل. حين سأل "سيت" إيزيس" عن سبب عدم حبها له لم تستطع الإجابة في بادئ الأمر وكادت تحيل الأمرَ إلى العاطفة لكنها بعد برهة عرفت الإجابة بعدما بثها "سيت" مشاعره التي خلالها أيقنت إيزيس إنها لم تحبه لأنه لم يحبها ككائن مستقل بل كجسد رخو بلا عقل وتابع لمقادير الرجل فقالت: "الآن فقط أدركت لماذا أحببت أوزوريس ولم أحبك. كنتُ مع أوزوريس أشعر أنني إنسان. كان يعرف قيمتي. الحب هو المعرفة. أن تعرف قيمة من تحب. أوزوريس كان يعرفني، يعرف إنسانيتي ويعرف أجمل ما فيّ: عقلي وقلبي."(ص85) وجاء في حوار ثلاثي بين إيزيس وأوزوريس وكاهن يستنكر شرعَهما الجديد الذي بدءا في تكريسه في الأرض عوضًا عن شريعة "رع" المستبدة، وفيما يحاولان أن يقنعاه أن مفهوم الطبقية هو ابن رؤية لا إنسانية، تقول إيزيس: "... لنا فلسفةٌ أخرى تساوي بين الآلهة والبشر، وبين الأسياد والعبيد، لا فرق بين إنسان وإنسان إلا في العدل والرحمة". وجليّ هنا أن ندرك بعد عملية استبدال الواقعيّ بالأسطوريّ التي تكلمنا عنها، أن الآلهة هنا تمّثل السلطة والحاكم الآنيّ. ونجد الكاهن يستنكر تلك المساواة ويحاججها بشريعة "رع" الطبقية فيجيبه أوزوريس قائلا: "... ليس في هذه القرية أسياد وعبيد، كلنا بشر والناس سواسية. هذه إيزيس ابنة الإلهة "نوت" تعمل معنا، وقد تزوجتني أنا الملاح الفقير".(ص 62-63). وفي ذات الصدد كرد على تشريع "رع" بإخصاء جميع العبيد وختان جميع النساء سوى الملكات والنبيلات بحجة أن الفضيلةَ فنٌّ لا يعرفه إلا الأسياد، تقول إيزيس: "الفضيلة إذا لم يكن لها مقياسٌ واحد لجميع الناس لم تكن فضيلةً، وإنما قانونٌ عبوديّ مزدوج يمنح الحريةَ للأسياد ويفرض القيود على العبيد". وهنا تجدر الإشارة إلى جذور طقس الختان الذي حرّمته وجرّمته كلُّ الأعراف الدولية وردّه إلى أصول عبودية لا علاقة لها بأية ديانة. كما نلمح كثيرا من الإسقاطات السياسية مثلما في رد رئيس الجيش على "سيت" القلِق بسبب أن إيزيس استطاعت أن تستقطب بنبلها أعدادا ضخمة من الفلاحين والفقراء إذ قال:"... لا قيمة للفقراء يا مولاي، هم مجرد عدد، المهم هم طبقة الأسياد." (ص62). فالحاكم الذي لا يخاف الشعبَ على كثرته العددية يخاف امرأة وحيدة عزلاء لأنها ذات عقل يفكر ويحلل ويتأمل. وهذا حق فالنظم المستبدة يهددها عقل واعٍ واحد أكثر مما يهددها آلاف العقول الناقلة الفارغة. وهذا ما يقرّه رئيس الجيش إذ يقول: الشعب الجاهل أفضل من الشعب الواعي يا مولاي،....، لا شيء يدخل عقول الناس إلا ما نمليه عليهم في الأبواق والمزامير."، (وجليٌّ أن الأبواق والمزامير هنا هي وسائل الإعلام والصحافة اليمينية التي تشّكل بوق النظام الحاكم). وفي قول "معات": السلطة المطلقة والقوة غير المحدودة تجعل الحاكم مستبدًّا ثم تفقده عقله." (ص 118) إشارةٌ إلى أن كلَّ مستبدٍ هو بالضرورة صناعةٌ محلية أنتجه شعبه. وكتلك الإلماحة الذكية إلى لعبة الحاكم مع المعارضة المتمثلة في "توت ومسطاط" إذ يقول رئيس الجيش: "هي معاركُ وهميةٌ فوق الورق ليس إلا، توهم الكتّابَ أنهم أبطال. ولذلك لم يمسسهم الملك بسوء. بل كان يحميهم حين نرغب في البطش بهم ويقول لنا: دعوهم يكتبون وينقدون فهم غير ضارين لنا، بل مفيدون، يؤدون دور المعارضة ويوهمون الناس أنني حاكمٌ غير مستبد أشجع النقد وأؤمن بالحرية." (ص 124). وفي ذات الصدد تشير السعداوي إلى أن اليمينيين المتطرفين قد يفسدون الحكم أكثر من حاكم فاسد، إذ يجيء على لسان "سيت": "... ملكيون أكثر من الملك! حاشية الحكام والملوك، مجموعة من المنافقين يتصورون أن مثل هذه الإجراءات القاسية ترضيني."(ص 78). وفي تهكم مرير تسخر المسرحية من طرائق الأنظمة العربية المتهافتة في استقبال الحاكم الجديد حين نستمع إلى رئيس الجيش يقول: كل شيء تمام يا مولاي، الأمن مستتب والأمور كلها مستقرة. أُزيلت جميع صور الآلهة الراحلين ولم تبق إلا صورة الحاكم. (ص52). وفي إشارة إلى ثقافة التواطؤ التي نحياها تحت وطأة الخوف و"الأنا-مالية" ، تلك الثقافة التي تنتعش في مجتمعاتنا وكل مجتمع يتميز بنظام فاسد ووعي منخفض نجد الفلاحة الفقيرة التي اختطف العسسُ ابنتها تقول في ذعر: لا، لا أتهم أحدًا، رأيت أشباحًا، الأرواح الشريرة خطفتها، لا أستطيع أن أشهد ضد أحد من الآلهة، ينقطع لساني إذا قلت. (ص51). لكن المرأة ذاتها لم تستنجد إلا بإيزيس وفي هذا دلالة إيجابية معنى أن صلاح حال المرأة لا يكمن إلا في يد المرأة نفسها. فالحرية ليست هبةً كي تطالب بها المرأةُ الرجلَ، لكنها أحد العناصر الأولى في بنية الإنسان وما على المرأة إلا أن تعي فقط أنها كائنٌ حر، وحسب. فانسحاق المرأة أمام الرجل كان بيدها لا بيد عمروُ أو كما تقول إيزيس : إن هزيمتك يا أمنا نوت تمتد إلينا، إلى كل النساء. (ص49). ثم تقول في وضع لاحق: لن أبكي بعد اليوم، سأحوّل الدموع إلى نارٍ تحرق، سأحول الحزن إلى نورٍ يضيء. في إلماحة إلى استنفار الطاقة الهائلة في روح المرأة المستترة خلف قناع الضعف والاستكانة وتراكم الانهزام الذي ساهمت كل السلطات في صنعها ولا أعفي المرأة ذاتها. ونلمح اعتناق السعداوي لمبدأ الأنثوية بوصفها الانتصار لقيم الجمال والعدل في الحياة حين تقول إيزيس: "إله الخير مازال يعيش طالما أنا أعيش". فالجمال مرهون بوجود المرأة في الحياة، ووجوده من وجودها. وحين تلوم إيزيس معات على صمتها عن الظلم ترد الأخيرة : أنا لا أخاف، لكنني صاحبة قلم وفكر ولا شأن لي بما يفعله الحاكم، لا شأن لي بالسياسة، سأكتب في أمور الفلسفة أو أكتب الشعر والقصص.(ص45). ما يشير إلى تحجيم دور المثقفين من قِبل النظام وسلبية بعض الكتاب والخطأ الشائع الذي يقول إن السياسة تنفصل عن الحياة. وتزعم معات أنها كاتبةٌ محايدة فتساجلها إيزيس بقولها إن الكلمةَ إذا كتبتِها لم تعودي محايدةً، فالكلمة موقف، والصمت عن الظلم ليس حيادًا لكنه موقف مناصر للظلم. هي رسالة إذًا استنطقتها نوال السعداوي، التي كرمتها بروكسل مؤخرًا بجائزة إنانا، عبر لسان إيزيس كي تصنع تشريعًا سياسيًّا واجتماعيًّا يعتمد المساواة والعدل والجمال والمحبة. رسالة أتمنى أن نعيَها جميعًا، لأن الحرية والعدل والجمال لن تمنحها الأنظمةُ لشعوبها الصامتة، لكن الشعوب عليها أن تمد يدها لتنالها بالقوة.
http://www.f-naoot.com/
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عيد ميلاد سيدة النبع
-
كراسة رسم
-
هولاهوب
-
محمود سالم رائدٌ عربيّ للرواية البوليسية لماذا لم يُترجم للم
...
-
مازن
-
ضرورةُ أن تكونَ النهاياتُ حاسمة
-
ما لم تحكه شهرزاد
-
بيجاما
-
خاتمٌ من أجل نائلة
-
شهادة
-
جريدة-الرأي العام- السودانية تلتقي فاطمة ناعوت
-
فانتازيا التاريخ ... شعرًا - -الغرام المسلّح- لحلمي سالم
-
اللغة والإنسان في تجربة الشاعر عماد أبو صالح
-
استقطار الطاقة الصوفية للحرف العربيّ -لسان النار- لـ أحمد ال
...
-
مجلة -آخر ساعة- المصرية تحاور فاطمة ناعوت
-
نساء شكسبير للكاتب المصري الكبير رجاء النقّاش
-
وهكذا أصبحت كائنًا مهذبًا جدًّا
-
-زمنٌ للسجنِ، أزمةٌ للحرية- الشاعر -علي الدُميني- يُغنّي في
...
-
اللّون
-
-محكمـة !!-
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|