|
الثقافة والمثقف بين الجانبين المادي والروحي
مصطفى حقي
الحوار المتمدن-العدد: 1460 - 2006 / 2 / 13 - 08:23
المحور:
الادب والفن
يقول الاستاذ عيد الدرويش في كتابه (سيكيولوجيا الثقافة ) في باب الثقافة والإعـلام ... ان الثقافة البصرية هي السائدة بدون محتوى مما جعل العقل يحجم عن المحاكمة العقلية ، وبخاصة في بلدان العالم الثالث ، وإحباط القدرات العقلية والذهنية ص87 وأنه لم يعد أحد يقرأ وينشط ذاكرته ، والحفظ بدون تحليل للأبعاد المعرفية ، فالكتابة أصبحت لمن لم يكن لديه أي عمل ، والشعر أصبح تعبيراً عن هلوسات ...ص88 كما شدّني المؤلف الأستاذ عيد في بداية كتابه المذكور تعريفه للثقافة من جانبيـــــها المادي والروحي ... ولما كنت أرى أن الثقافة والمثقف هو نتيجة تراكم معرفي وتفاعـــل مادي وروحي عقلاني ، وان الجانب المادي للثقافة هو حصيلة صراع ايديولوجيات وضعــــــــية وثقافات متفاوتة بين الشعوب وصراع حضارات ، تتعلق بإنسان يعيش في حيّز من السنين ليحقق فيها ذاته في الحياة ، وليكون مفيداً على الصعيد الفكري والإنســــــاني والعملي ، اجتماعياً واقتصادياً ، مع تمسكه بالقيم الإنسانية من حيث العدالة والحريّة والوطن .. بينما الروحية أو الروحانية هي ثقافة ذاتية لأيديولوجيات غيبية ومعتقدات سلفية ، ترضي المؤمنين بها وتعطيهم راحة نفسية ، وتشعرهم بالســـــــــعادة لوجود العقاب والثواب وديمومة الحياة بعد الموت ، فمن الصعب أن يتخلى الإنســــــان عن حياته بلا رجعة ، أو أن يؤمن أن لاحياة بعد الموت وتنحصر ثقافــــــــته في إرضاء الخالق وأن يكون صالحاً في مجتمعه لينال السعادة الأبدية في الآخرة وان هذه الدنيا فانية .. يقول الاستاذ عيد الدرويش.. ان الثقافة هي ذلك البحث في الجوانب المادية والروحية ، لاتقف عند حاجــــز ، فهي تتعدى حدود الزمان والمكان والذات الفردية والجماعية ، وأصبحت من الضرورات الموضوعية بين الشعوب ، والزاد الفكري والمعرفي للذهنية الجماعية ويقوم بإنتاجها الأفراد ، فهي تبحث في كل جوانب الحياة وظواهر الأمور ص14 عناصر الثقافة بحد ذاتها هي متغيرة باستمرار وتظهر فيها الجوانب الفكـــــــــــــرية والانسانية لتلك الحضارات والثقافات التي أنتجت هذه النظريات ، وتحمل بين طيّات ذاكرتها المسائل الدينية والاجتماعية والاقتصادية والعادات والتقاليد ص15 قد يميل المجتمع إلى الجانب المادي ، وينحى عن الجانب الروحي ، وهذا مايفقــــــــد المجتمع توازنه وتختل معادلته الثقافية .... عندما يميل العالم والمجتمعات إلى الجانب الروحي والأخلاق الإنسانية فهذا الجانب ( هو القادر على الابتكارات والتقنية ) وصنع الحضارة ... ص 16 .. وهنا يلاحظ ان الاستاذ عيد الدرويش يغلب الجانب الروحي على الجانب المـــادي مع أنه كان يحبذ توازن المعادلة الثقافية بين الجانبين الروحي والمادي بل ويؤكــد ان معيار الابتكارات والتقنية هو دافع روحي صرف مفوتاً على المادية الشيء الكثــــير مع ملاحظة أن الأخلاق الثقافية لاتتنافي في جانبيها الروحي والمادي وتتمــــــثل في العدالة والمساواة ، وبشكل نسبي مفهوم الحرية ...؟ ولكن الواقع التاريخي العملي ، يبين أ ن الروحانيين من رجال الثقافــــــــة الدينية لم يكونوا مطلقاً مع التفكير المادي ، ويحاربون الأفكار العلمية - كروية الأرض- الصعود إلى القمر .. حتّى التفكير الفلسفي وفيما وراء الطبيعة ، كان محظــوراً على اتباعهم ولهم قول مشهور – من تمنطق فقد تزندق – وحتى عندما ظهـرت إلى حيز الوجود جماعة المعتزلة ذات التفكير المنهجي الحر عقلاً لانقلاً .. حوربـــــــت هذه الجماعة إلى يومنا هذا .. وكذلك ماوقع به روّاد الثورة الفرنسية من خطأ فادح عندما أعدموا العالم لافوازيه بحجة أن الثورة ليست بحاجة إلى علماء ، وقد غلبــــت عليهم العاطفة وروح الثورة غير العقلانية وهناك مثال قريب حدث عام 1585 ميلاديه عندما ثار شيخ الإسلام العثمـــــــــاني (القاضي زاده) هو وجماعته ، فبعد أن استطاع العالم المسلم تقي الدين الراصــــد ، الرائد في علم الفلك وعلم الهندسة الميكانيكية ، أن ينتهي من بناء مرصــد استانبول وان يجهزه بالآلات الفلكية التي عرفتها من قبل مراصد بغداد والقاهرة وسمر قنــد ومراغة ..وآلات فلكية جديدة ابتكرها تقي الدين ... وبدأ مع العلماء في رصــــــــــد المشاهدات الفلكية الكاملة .. وفي أواخر ذلك العام ظهر شهب مذنب في سمــــــــاء استانبول ، فقدم تقي الدين للسلطان تفسيراً لهذه الظاهرة وأخبره ( كمنجم ) بأنــــــه سينتصر على الصفويين .. وانتصر الجيش العثماني ، ولكنه مني ببعض الخســــائر .. وحدث أن شاع في البلاد التركية مرض الطاعون ، وتوفيت بعض الشخصـــيات المهمة في الدولة العثمانية في فترة قصيرة ، وهُزم الجيش العثماني أما أســوار فيينا فخلق ذلك كله جواً سلبياً نحو المرصد ، وغذى لدى الرأي العام ، وبين الفقـــــــهاء والمتصوفة ميولاً متعصبة ، وانتهز هذه الفرصة شيخ الإسلام العثمــــــــاني (قاضي زاده) هو وجماعته ، وراحوا يذكّون الحملة المعادية للمرصد .... وفوجيء تقي الدين والفلكيون وهم منهمكون في مشاهداتهم الفلكية ليلاً ، بالجند الإنكشارية ، يقتحمـــــون عليهم مرصدهم ويبدأون في هدمه وتدمير آلاته ( لأنهم يتجسسون على الســـــــماء ) ولم يكن المرصد قد أتم من عمره بعد أربع سنوات ....* وفي أوروبا لولا انفصال الكنيسة عن السياسة ، الروح عن المادة ، لماحظيت بالتقدم الهائل الذي وصلت إليه في مجال العلوم والتكنلوجيا فالثقافة الروحانية هي ثقافة خاصة وبايديولوجية مغلقة ، والثقافة المادية هي ثقافـــــة عامة ، والربط بين المادية والروحية قد يتحقق في مراحــــــــــــــل من التفكير ولكنه يتجاوزها في مراحل أخرى .. واني مع الأستاذ عيد ، من أن للجـــــــــــانب الروحي ايجابيات يجب أن لاتغفل ، وخاصة في تذكية روح المقاومة ضد عدو غاصـــــب في كل زمان ومكان ( تجربة حزب الله في لبنان ) حيث يتكاتف الروحي والمـــــــادي ، روح الجهاد وآلة القتال المتطورة المواكبة لمسيرة التقدم التكنلوجي... فالسيف لم يعد سلاحاً فاعلاً حتى لو كان حامله يملك الروح كاملة ... أي أن التطور يجب أن يتناول الجانبين الروحي والمادي معاً .. كما أن الأستاذ الدرويش لم ينكر المادية ، مادية الثقافة ولكنه انتقد الاستغراق فيــــها بعيداً عن الروحانية والتي اعتبرها ملازمة للمادية ، فيقول ان هذا المخزون الفكري والمعرفي الكبير لايمكن أن يكون منغلقاً ... إلا أن مانلاحظه في ثقافتنا العربية التي تتميز عن كل النتاجات الفكرية .. والارث الحضاري ، فكلما كنا أكثر غنى في ثقافتنا الروحية ، نكون أكثر غنى وقوة في ثقافتنا المادية ص 20 ويتابع المؤلف .وأجيز لنفسي أن أقول الثقافة بمعناها الخاص : هي تنمية الملكــــــات العقلية ، أو تسوية بعض الوظائف البدنية ، أو الذهنية لدى الفرد الذي يأخــــــذ منحى متميزاً عن غيره من المجتمع ، وهذا التمييز من الجانب الوظيفي له عدة وجوه ، كأن نقول ، الثقافة المدنية ، أو الثقافة الرياضية ، أو الثقافة الأدبية ، وغيرهــــــــــا ، فهي تنحصر في مجال يتخصص فيه ، ويتفرد به ، فيميل إلى ثقافة شاملة ، والآخـــــرون يرون في الثقافة عصارة عامة يجتمع فيها كل ماهو ليس سياسياً ، ولا اقتصادياً ، ولا دينياً ، وهذا المفهوم ليس صحيحاً ، فكيف تسمى السياسة التي تعتمد على حيــــــــــاة المجتمع وأساليب معيشته، وطبيعة تعامله مع الواقع ، وهذا في جوهــــره تسييس هذا المجتمع من أجل نقله من حالة إلى حالة أفضل ، فلا يمكن أن ينفصـــل الاقتصاد عن المعتقدات وعن السياسة ، لأن هذه العناصر مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع بعضـــــــــــها ببعض، فلا يمكن أن نفصل هذين المفهومين ، وهذا مايدعو المثقف لأن يأخــــــذ هذه الجوانب المهمة للاستزادة في المعرفة الأدبية والعلمية والفيزيائية ، وبذلك يمــكن أن يكون المثقف أكثر قدرة على مواجهة الصعاب ص24 وفي خاتمة كتابه يقول الأستاذ عيد: لن تنفصل هذه الدراسة عن كل دراسة يقـــوم بها الإنسان ، لأنها تتأثر به ويتأثر بها ، وجاءت عبر سلسلة مترابطة متوغلة في القــــدم والتاريخ ، ولا ترتكز على جانب واحد من جوانب الحياة ، بل تتداخل العـــــــــــــلوم والمعارف ، وتشمل جميع العلوم وما أنجزته البشرية ومعالمها التي ارتســــمت على أرض الواقع من بناء عمراني وهندسي وزراعات وصناعات والتعامل مع قوانيــــن الطبيعة ، واستثمار مواردها ، والتي أصبحت جزءاً لايتجزأ من مكوناتها ، وانعكس ذلك على الحياة الاجتماعية ، والسياسية ، والاقتصادية . ص124 وسبق أن طالعت مقال بعنوان – الدين والعلم والشباب –للدكتور عبد العزيز كامل ووجدت في متن مقاله المذكور مرونة علمية وفهم عصري ، وأنهى بحثه المذكور بالتالي : لابديل عن العلم ، ولابديل عن الإيمان ، ومن الخير أن تنبعث النهضة من أصولنا وجذورنا ، وأن نتخذ من الدين دافعاً قوياً ، ومن المنهجية العلمية أســلوباً ، ومن التغلب على عقبات التخلف هدفاً ، ومن التعاون العلمي العالمي وسيلة تجــــعلنا على صلة بكل إبداع الإنسان . بهذا تتكون عندنا قاعدة علمية جديدة مؤمنة ، تستطيع أن تستقطب الكثير من طاقــات الشباب إلى ماهو أجدى ، دون أن تنحرف بالدين أو تنحرف عنه ، ويكون لشبابنا هذا الصبر الطويل على العمل والتواصل الحميد بين الأجيال ، والتعاون الذي يختصــــر الطريق ويقترب من الهدف البعيد ** انها دعوة إلى التفاعل مابين الروح والمادة عن طريق التعاون العلمي العـــــــــــالمي والتواصل مع كل إبداعات الإنسان ويستمر الأستاذ عيد في كتابه المذكور ليقول : الثقافة تختص بما هو ذهـــــــــــــني ، والحضارة هي الجانب المادي ، وبهذا يكون الفعل الثقافي أوسع من الفعل الحضاري ، ولكن تأتي الحضارة مرحلة متطورة على الثقافة ، فنقول سلوكاً حضــــــارياً ، وأن البناء ومسيرة الشعوب ، هي نتاج حضاري ، كان أهم ركائزه هي الثقافة ص20 وكأن الأستاذ عيد يكمل ما يصبو إليه الدكتور عبد العزيز كامل ... لأن المـــــــــادية الصرف البعيدة عن الروحانية لايمكن أن تحقق ذات المثقف حضارياً... يشير الدكتور ادوارد سعيد إلى قيام بعض المثقفين الفرنسيين الكبار أصحاب النـزعة الليبرالية والقيم الديمقراطية بالدفاع عن هذه القيم داخل بلادهم ، وإنكــــــارها خارج الحدود مثاله المثقف الفرنسي اللامع ( دوتوكفيل) فبعد دفاعه المجيد عن الديمقراطية في أمريكا ، ولكن مجازر الاستعمار الفرنسي في الجزائر لم تثيره ( فالمسلمون كما يقول ينتمون إلى ديانة أدنى منـزلة ويتحتم تأديبهم ... وبذلك فقد رسالته كمثقف فيما يتعلق بالقيم الانسانية العامة التي تجاهلها عمداً عندما تعلق الأمر ببلاده فرنسا وبذلك فقد حياديته كمثقف ....*** مما تقدم أستطيع أن أقول ان الأستاذ عيد الدرويش ربط الجانبين المـــادي والروحي في الثقافة وفعاليتها ، وتأثيرها وتأثرها ، ولكــــــن له غلبة روحية في بعض المناحي وهذه سمة حميدة في تفكير متميز غير موارب ... ولابد في النهاية من أن أعرج على الفلســـــــفة المادية الصرف ( المادية الماركسية) التي تجاوزت الروح إلى حد أن استغرقت المـــادة صفة الإنسان وسبقت كلمة العامل عليه أي العمل ( المادة) أولاً ثم الروح الانسان وقد تناولت ذلك في نهاية مســرحيتي ( الولادة) وأكدت على أن صفة الإنسان هي الأساس ويجب أن تغلب كل صفة لأنه يمثل المادة والروح معاً وصفة العامل هي لاحقة عليه ومكمـــــــلة له ليحقق ذاته في الوجود فالانسان بلا عمل هو كائن هامشي وعالة على المجتمع .... ولكـــــــــــن هل استطاع الماركسيون الاستقلال بماديتهم ..؟ أذكر أنّه وفي وقت أزمــــة خاطب لينين الشعب الروسي ب( ياأبناء كاترين ) محفزاً فيهم الروحـــــــــــية المتأصلة في طبيعة المواطن ككائن بشري .. ..! وبالنتيجة ، فالمثقف يجب أن يلم بالثقافتين المادية والروحية ، وكلما تعمق في ثقافـته كان الأقدر على خلق جو من التوازن بين الثقافتين في سبيل اسعاد الإنسان وعــدالته وعيشه الكريم في وطن آمن وعالم يحترم إنسانية الإنسان في كل زمان ومكان
*مجلة العربي العدد 461 ص148 **م العربي العدد 303ص25 *** م العربي العدد 543ص193
#مصطفى_حقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|