أحمد فيصل البكل
الحوار المتمدن-العدد: 5633 - 2017 / 9 / 7 - 13:10
المحور:
الادب والفن
لم يكن وجهه ذو التعاريج شبه المتغضّنة ، والقسمات المُنقَبِضة ، هو ما أثار دهشتى فى البداية ، ولا نظرته المُفتعَلة الموزّعة بين الركّاب ، وأحسب أننى إنما أصفها كذلك مخافة الاعتراف بعجزى عن فهمها ، فثمة عفوية باطنة تسكنها ، غير أنها مستترة خلف نظرة ناضجة تعرف تماما ماذا تريد ، نظرة كبار ، كبار هذا العصر بالذات ، وليس أي عصر آخر .
جعل يروّج لمناديله الورقيّة وهو يقلّب نظره بين الوجوه وكأنه يعرف "زبونه" بالغريزة ، ضابطا إيقاع نبرته دون علو أو انخفاض ، كأنما ينطوى صوته على ميزان حسّاس لا تعوزه دقّة أو رهافة ، وبدا في خُطاه وكأنه قد خبُر عربة المترو "شبر شبر" ، كأنه أمير يمضى فى مملكته الخاصّة . راح يحدّق فى تلك الكتل الجسديّة المصطفّة لعلّه يظفر من أحدهم بشيء ، وعلى مشارف إحدى المحطات أشاح بوجهه عن تلك الأجساد الشمعيّة الساكنة وكأن على رؤوسها الطير ، قبل أن يلملم ذيل جلبابه متأهّبا للنزول ، غير أن التفاتة خاطفة استولت عليه على حين فجأة فارضةً سطوتها على كيانه فرضا ، وبدا كأنه مَجذوب تحت سلطان قوّة قاهِرة لا سبيل لمقاومتها .
استقر بناظريه في عينىّ ، ولست أدرى لماذا خُيّل إلىّ أن ثمة رصاصتين نحاسيتين تختبئان تحت الثقبين السوداوين المحفورين فوق أنفه الصغير ، تتربّصان بى أنا بالذات . بى أنا وحدى . كانت التفاتة مفاجئة لم تنُم عنها أو تهيّىء لها إيماءاته المضطربة القَلِقة ، إذ كان جسده يتململ فى مكانه وكأنه يستقر على جَمرة من نار . وحين كانت تشارِف العربة على التوقّف كان يبلغ توتّره حدّه الأقصى ليبدو كأنه يتوسّل القفز على أى نحو ، يبدو لى ، وليس لغيرى . وإذا التفت كان يبزغ فى عينيه ألَق الأمل ، كأنما قد عثر فى دهشتى على سر الخلاص ، كأن أرض الهند التى ينام الفيل ليحلم بها قد تمثّلت أمامه فى عينىّ كاملة ، تامّة . وبين إرادة القفز ، والتفاتة الأمل ، غلبتنى رغبة نزقة في إشعال سيجارة استعين بدخّانها على فقد تلك الصورة الكاريكاتورية ، وأقنعت نفسى أنّى قد عقدت العزم على ذلك ، ورحت أفتّش في العلبة عن سيجارة ، قبل أن اُفاجأ بالكائن الكاريكاتورى الذي لم يتجاوز عامه العاشِر على الأرجح وقد تلاشى دفعة واحدة ، فحاولت أن اتبيّن أثره وسط الكُتَل الحيّة ، ولكن بلا جدوى !
#أحمد_فيصل_البكل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟