|
المفتّشة اليهوديّة !
سليمان جبران
الحوار المتمدن-العدد: 5633 - 2017 / 9 / 7 - 09:13
المحور:
الادب والفن
هذيك الأيّام سليمان جبران: المفتّشة اليهوديّة !
انتقلت إلى دالية الكرمل. بفضل المدير/ المفتّش بلديّاتي المذكور. الانتقال كان في الواقع إلى المدرسة في عسفيا. بل حرصتُ على مقابلة مديرها في الصيف، قبل بداية التعليم، كما نصّت رسالة الانتقال الرسميّة. وفي الأوّل من أيلول سافرت إلى عسفيا، ودخلت مدرستها، فأخبرني مديرها أنّ المفتّشة نقلتني آخر الأمر إلى دالية الكرمل. هذا كان قرارها، وبلّغته مدير عسفيا في الاجتماع الأخير. تركت عسفيا رأسا، وسافرت في اليوم ذاته إلى المدرسة في الدالية، لأبدأ عملي هناك، كما كان قرار المفتّشة. نقلي إلى الدالية، في آخر لحظة، وقع عليّ مثل زخّة برَد مفاجئة. مدير عسفيا قابلته في الرامة، حين كان في زيارة لأهله من إقرث هناك، في عطلة الصيف. أمّا مدير الدالية فلم أكن أعرفه من قبل. قرأت اسمه غير مرّة في "صدى التربية" بالذات. كان من أعضاء نقابة المعلّمين البارزين. في كلّ انتخابات معلّمين كان يرأس إحدى القوائم "المستقلّة" فيها. أعرف أنّ أصله من ترشيحا لا أكثر. قلت في نفسي: طبعا هذي مقدّمة لمواصلة مجريات الطرد من المعارف. تكملة ما بدءوه معي في حرفيش. مدير الدالية سيواصل، بالتعاون مع المفتّشة طبعا، ما بدأه المفتّش السيّئ الذكر في حرفيش. أقوم بواجبي نحو تلاميذي وضميري ، أعلّمهم كما يجب عليّ، قلت في نفسي، وليكنْ ما يكون ! وصلت دالية الكرمل. سألت عن المدرسة، وذهبت إليها. المدارس في قرانا يعرفها الناس باسم مديرها، وكذا كان سؤالي طبعا. دخلت غرفة المدير، فوجدته مكبّا على البرنامج، في ورقة كبيرة على الطاولة، وسيجارته أمامه في المكتّة وقد قطّعت. حيّيت الرجل، وعرّفته بنفسي. رفع رأسه عن البرنامج في نظرة فاحصة، وأخبرني أنّ المفتّشة بلّغته فعلا في الاجتماع الأخير بقدومي إليهم. أضاف أنّ اسمي صار أمامه حتّى. بل سألني إذا كانت لي طلبات معيّنة ليأخذها بالاعتبار في وضعه البرنامج. بعد معرفتي بمدير الدالية عن كثب، وجدته مغايرا تماما للصورة التي كانت له في ذهني. بل غدونا مع الأيّام صديقين قريبين أيضا. قال لي بيني وبينه ذات مرّة: كلّ ما تريده منّي بلّغني به، بيني وبينك، وأنا ألبّي لك كلّ طلباتك الممكنة. فقط لا تكثّر من رفع إصبعك، والأسئلة في الاجتماع ! حتّى المحفوظات التي كنت أختارها لتعليمها تلاميذ الصفوف العليا كان يقرؤها ويمهرها بتوقيعه أوّل الأمر. ثمّ صار يسألني في كلّ قصيدة أختارها للتلاميذ : فيها شيء؟ وإذ أجيبه بالنفي يوقّع عليها دونما قراءتها حتّى. تعلّمت من علاقتي مع المدير المذكور أنّ الحكم على الناس، من بعيد دونما معرفة شخصيّة، كثيرا ما تكون نتيجته الخطأ. هكذا غدونا، المدير وأنا، في السنوات التي تلت ذلك، صديقين قريبين، كثيرا ما نتزاور ونسهر معا. يعرف الواحد منّا ظروف الآخر ويفهمها حتّى ! بعد مدّة، أواخر الفصل الأوّل؟ شرّفت المفتّشة العراقيّة مدرستنا. رأيتها من شبّاك الغرفة، في أواخر الدرس الثاني، تدخل غرفة المدير. كنت واثقا أنّها جاءت مدرستنا، وغايتها أنا بالذات. يبدو أنّهم بعثوها إليّ، قلت في نفسي، لاستكمال ما كان المفتّش السيّئ الذكر بدأه معي من قبل في حرفيش. لكنّي، في هذه المرّة، لم أعدْ ذلك المعلّم الذي كنته في حرفيش. الانتقال إلى الدالية غيّر من مشاريعي، ومن مواقفي تبعا لذلك. أصبح طردي من التعليم يخيفني. كيف أواصل تحصيلي في الجامعة إذا طردوني ؟ عليّ أن أُمسك لساني ما أمكن، وأتدثّر بالصمت، قلت في نفسي، وليكن ما يكون. لم تعد ظروفي تشجّعني على التحرّش بهم، كما في السابق. في الحصّة الثالثة دخلتُ الصفّ الثالث، في درس حساب أذكر. بعد بداية الدرس بقليل، فوجئت بدخول المفتّشة الصفّ. ألقتْ عليّ التحيّة، بالعبريّة أذكر، وطلبت منّي مواصلة الدرس، متّخذة لها مقعدا في الصفوف الأخيرة من الصفّ. كانت ترتدي بدلة، من جاكيت وتنّورة، بلون واحد غامق. امرأة قصيرة القامة، يبدو الحزم جليّا في وجهها، ومشيتها الواثقة بنفسها. كما تنعكس المحافظة في تسريحة شعرها التقليديّة إلى الوراء دونما مفْرق. لم تسألني شيئا، ولم تطلب منّي يوميّاتي ولا تحضيري. بل قامت قبل نهاية الحصّة بدقائق، فشكرتني، وغادرت غرفة الصفّ. كان درس الحساب، أذكر، عن مبنى العدد، وعن منزلة العشرات بالذات. لم يكن صعبا شرح منزلة العشرات، وقد استعنت، كما في الكتاب، بالنقود في التمثيل على ذلك. الآحاد قروش، والمنزلة بعدها عشرات، الواحد منها عشرة، تماما مثل قطعة النقود من عشرة. سألت التلاميذ لأطمئنّ أنهم استوعبوا الدرس الجديد، وواصلت الدرس وفق المكتوب في يوميّاتي. الغريب أنّ المفتّشة لم تتدخّل في الدرس مطلقا. لعلّها رأت دفاتر التلاميذ الجالسين قربها. لكنّها لم تسأل شيئا، ولم تطلب منّي أو من التلاميذ شيئا. لعلّ التقرير جاهز، قلت في نفسي، فلا حاجة إلى التفتيش عليّ وعلى التلاميذ. وإلّا فما تفسير سلوكها الصامت طوال الوقت، ومغادرتها الصفّ قبل نهاية الحصّة حتّى ؟ بعد الحصّة الرابعة، في الفرصة، دخلت غرفة المدير لسماع ملاحظاتها عن الدرس الذي حضرتْه. وجدتها هناك وقد جلست على كرسي بجانب كرسي المدير. ألقيت التحيّة بالعربيّة، فردّت عليّ بعربيّة عراقيّة لا تخطئها الأذن. ثمّ التفتت إلى المدير، وقالت له، بالعبريّة هذه المرّة، ما معناه: معلّم جيّد، ساعدْه في أداء مهمّته ما تستطيع. أهذا هو التقرير الذي أعدّته عنّي؟ قلت في نفسي. هذا كلّ ما عندها لتقوله عن الدرس، وعلى مسمع المدير أيضا ؟ بعد مغادرتها المدرسة، دخلتُ غرفة المدير علّني أسمع منه المزيد عن الدرس وملاحظات المفتّشة. لا يمكن أن يكون تقريرها إيجابيّا موجزا كالذي سمعت منها. يبدو أنّ المفتّشة لم تقرأ كلّ ما تكدّس في ملفّي من تقارير وملاحظات سابقة، قلت للمدير. ملاحظتها الإيجابيّة القصيرة لا يمكن أن تكون كتبتها في تقريرها أيضا. يبدو أنّك لا تعرفها، أجابني المدير. هذه المفتّشة لا يهمّها المكتوب في الملفّات. لا تتلقّى الأوامر من أحد، ولا تقول غير ما ترى وتؤمن ! المفتّشة العراقيّة المذكورة رافقتنا في الدالية سنوات. "مفتّشة شاملة" أوّل الأمر، ثمّ "مفتّشة مهنيّة" على اللغة العربيّة بعد ذلك. خلال هذه الفترة الطويلة، انتقلنا إلى مدرسة جديدة، في شرق البلد، مدرسة نمت إلى مدرسة إعداديّة ثانويّة. بل ظلّت مفتّشة على مدرستنا بعد إنهائي اللقب الأوّل في حيفا، وبدء عملي في جامعة تل أبيب. كانت تجيئنا يوم أربعاء عادة. وفي الحصّة الرابعة تدخل صفّي، في حصّة تاريخ الأدب، للحادي عشر؟أدخل إليك في كلّ زيارة، قالت لي، لأستمع وأستمتع، صدّقني. ثمّ ترافقني في سيّارتي إلى تل أبيب، فتنزل في الجامعة، ومن هناك تركب الباص إلى بيتها. طبعا، في الطريق الطويلة إلى تل أبيب، كان حديثنا يتناول المجالات كلّها، بما فيها السياسيّة أيضا ! ولا أنسى صراحتها ذات مرّة، في نهاية نقاشنا السياسي الطويل: هربنا من الاضطهاد في العراق، فلماذا لا يتركوننا نعيش حياتنا هنا في أمن وسلام؟!
#سليمان_جبران (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سالم لأنّه ظلّ.. سالما !
-
ضحايا -أبو عمر-!
-
كيف أتدبّر بعدها ؟!
-
نوافذ الستر
-
القناعة كنز لا يفنى ؟!
-
رومانسيّة مشايخ؟!
-
ريتا الواقع والقناع
-
لم أتغيّر.. وقفت على الرصيف !
-
رفضتنا حيفا.. فاستقبلتنا تل أبيب في الأحضان !
-
المنايا خبط عشواء !
-
هذيك الأيّام؛ مارون عبّود أبو محمّد !
-
الرحيل الافتراضي !
-
وحدي ؟!
-
هذيك الأيّام: ماذا سيقولون في القرية؟!
-
غسلا للعار ؟!!
-
هوامش للغتنا المعاصرة 2
-
هل استقى شوقي حكايته من الفولكلور اللبناني ؟!
-
هل المبالغة، أيضا، من عاداتنا وتقاليدنا؟!
-
هكذا بالحرف !
-
عبق الذكريات
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|