|
بريطانيا وسياسة البحث عن قواعد بحرية متوسطية خلال القرن 18م:
عبد الرزاق العساوي
الحوار المتمدن-العدد: 5624 - 2017 / 8 / 29 - 01:07
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لقد استخلص البريطانيون من خلال تجاربهم السابقة العديد من الدروس، كان أهمها ضرورة التوفر على قاعدة بحرية قارة، يمكن اتخاذها مركزا لاستقرار الأساطيل البحرية البريطانية بالمتوسط، ونقطة تموين لها. وازداد إصرار البريطانيين على ضرورة اتخاذ قاعدة بحرية بالمتوسط بفعل تفاقم حدة المنافسة الفرنسية خلال فترة حكم لويس الرابع عشر XIV Louis ، إذ أصبحت البحرية الفرنسية تتجول في البحر الأبيض المتوسط بكل حرية، محققة انتصارات مدوية في كل مكان، مستفيدة من انشغال بريطانيا بمشاكلها الداخلية، كما حدث في حرب الوراثة البريطانية سنة 1689م 20. لقد تبنى لويس الرابع عشر إستراتيجية وزيره كولبير التي محورها الأساسي، "حرب البر تبتدئ بالبحر"، فقد اعتبر أن تحقيق الانتصارات البرية مرتبط بإرغام العدو على الانسحاب من البحر، وذلك بجمع الأسطول البحري، وجعله قوة ردعية، قادرة على اغتنام الفرص وضرب العدو كلما سنحت الفرصة21. واستفادت فرنسا في تنفيذ خطتها من موقعها الجغرافي الذي خول لها التوفر على موانئ على واجهات متعددة، سواء في البحر الأبيض المتوسط، أو في بحر الشمال، أو في القناة الإنجليزية22. وكرد فعل عن هذه الخطة الفرنسية تبنت بريطانيا انطلاقا من سنة 1698م إستراتيجية جديدة بالبحر الأبيض المتوسط، تعتمد على ضرورة البحث عن العدو وتدميره قبل العودة، وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال تعليمات ويليام الثالث William III (1689م-1702م) الموجهة إلى الأميرال راسل Russell بالعمل على إحراق الأسطول الفرنسي، وتدميره في بريستBrest ، ومطاردته في حالة انتقاله إلى البحر الأبيض المتوسط. غير أن راسل فشل في مهمته بسبب تردده، وعدم رغبته في الابتعاد مسافة كبيرة عن قاعدته في الوطن23. بعد هذا الفشل توصل راسل بأمر من ويليام الثالثWilliam III ، يطلب منه قضاء الشتاء مع أسطوله في قادسCadix ، التي أصبحت قاعدة صديقة بعد التحالف الإسباني - البريطاني. وأثناء استقراره بقادس تلقى راسل عدة اقتراحات بانتقال الأسطول البريطاني إلى نابولي Naples أو مسيناMessine أو مايوركا Majorque، إلا أنه رفض هذه المقترحات بسبب افتقار نابولي لدفاعات قوية، وصغر مساحة مسينا، وموقع مايوركا البعيد عن بريطانيا24. وكان الهدف من خطة ويليام هو مراقبة البحر الأبيض المتوسط، والتصدي لمحاولات الملك لويس الرابع عشر للسيطرة على بعض المناطق المتوسطية، مثل كاتالونيا و السافوى Savoie. وقد انعكس ذلك سلبا على هيبة فرنسا، التي فشلت في تحقيق أطماعها التوسعية بالمتوسط، إذ عجزت عن الاستمرار في تمويل حملاتها، مما دفع لويس الرابع عشر إلى البحث عن سبل لتوقيع اتفاقية سلام مع بريطانيا، فكان له ما أراد سنة 1697م عندما وقع صلح ريسفيك Riswiek25. وفي سنة 1702م توفي ويليام الثالث، وخلفته الملكة آن Anneالتي اعتمدت على ذوق مارلبورو Marlborough26، الذي تميز بطموحه الجامح لغزو البحار، خاصة وأنه كان متأثرا بأفكار ويليام حول الأهمية الإستراتيجية للبحر. وكان مالبورو حريصا كل الحرص على تجنب ّأخطاء الماضي، والمتمثلة في عدم توفر بريطانيا على قاعدة بحرية بالبحر الأبيض المتوسط. وهو الأمر الذي كان يدركه جيدا الملك ويليام قبل وفاته عندما عرض تقديم تنازلات كبيرة للملك لويس الرابع عشر مقابل حصول بريطانيا على قاعدة دائمة بالبحر الأبيض المتوسط. وقد وضع ويليام نصب عينه جزيرة مايوركا، بالنظر إلى قربها من مضيق جبل طارق، فضلا عن قربها من ميناء تولونToulon . غير أن الملك لويس الرابع عشر وضع حدا لرغبة ويليام، بحيث رفض مقترحاته مصمما على بقاء جزيرة مايوركا ضمن الممتلكات الإسبانية27. وقد بدأ مالبورو تحركاته الحربية بالمتوسط سنة 1702م، عندما حاول أسطول مشترك بريطاني - هولندي الاستيلاء على قادس. غير أن هذه العملية باءت بالفشل لضعف الاستعداد والتخطيط. وقد عوض هذا الفشل بالاستيلاء على خليج "فيغو"Vigo ، الذي سمح للبريطانيين بمضايقة السفن الإسبانية القادمة من العالم الجديد. وقد أكسبهم ذلك هيبة كبيرة دفعت بالبرتغال إلى التوقيع على معاهدة السلم مع بريطانيا28. ومن ثم أصبح من حق الأساطيل البريطانية استغلال ميناء لشبونة. وتبنى مارلبورو خطة مفادها تهديد موطن الضعف داخل تنظيم عدوه. لذا فقد قام بإنزال وحدات سرية بلشبونة عام 1704م، على رأسها الأرشيدوق شارل Charles المنافس الإسباني المطالب بالتاج الإسباني تحت اسم شارل الثالث Charles III. كما دعم دوق سافوى في محاولته للانفصال عن فرنسا وإسبانيا29. وفي خضم هذه التدابير التي لجأ إليها مارلبورو، تأكد للبريطانيين مدى أهمية وجود قاعدة بحرية ثابتة بالبحر الأبيض المتوسط. وبناء على توصية هيئة الحرب، تمت الموافقة على احتلال جبل طارق، خاصة وأن الدفاع عن المكان كان ضعيفا، كما أنه كان يمنح عدة مزايا دفاعية بالنظر إلى خصوصياته الطبيعية. ومن ثم، فقد نظم الأمير هيس George Luis de Hesseهجوما اشتركت فيه اثنتان وعشرون سفينة بريطانية وهولندية، أسفر عن السيطرة على جبل طارق، باسم شارل الثالث المطالب بالعرش الإسباني30. وقد أحدث سقوط جبل طارق في يد بريطانيا دويا هائلا في فرنسا التي سارعت إلى إرسال أسطول بحري بقيادة لويس دي بوربون Louis-Alexander de Bourbon )الابن غير الشرعي للملك لويس الرابع عشر) إلى جبل طارق. غير أن هذه المحاولة، على الرغم من جديتها، لم تسفر عن أية نتيجة تذكر ليظل جبل طارق تحت النفوذ البريطاني. كما تعرض جبل طارق لمحاولة حصار أخرى بواسطة جيش يدعمه سرب بحري فرنسي، لكن العملية كان مصيرها الفشل. ثم تجدد الحصار مرة أخرى في فبراير1705م، وكان مصير هذه المحاولة كذلك الفشل بفعل الجهود التي بذلتها الحامية البريطانية. عقب ذلك، عمل ذوق مارلبورو على ضرب عمق فرنسا بالهجوم على تولون. غير أن هذه العملية انتهت بفشل كبير، تداركه مارلبورو سنة 1708م، عندما قامت قواته بالسيطرة على جزيرتي سردينيا Sardaigneومايوركا31. وفي سنة 1713م، انتهى هذا الصراع بالتوقيع على اتفاق أترختUtrecht السلمي، الذي كان منعطفا تاريخيا بالمتوسط، بحيث كرس الوجود البريطاني بجبل طارق وجزيرة مايوركا. وبذلك أصبحت بريطانيا قادرة على مراقبة البحر المتوسط وحماية تجارتها المتزايدة مع الشرق. غير أن حالة السلم التي أقرتها معاهدة أترخت بالمتوسط كانت هشة بفعل الاضطرابات السياسية التي شهدها المتوسط بعد وفاة الملكة آن سنة 1714م. فقد تجدد الصراع حول العرش بإسبانيا بين فيليب الخامس) Philippe V 1700م-1746م) وإمبراطور النمسا شارل السادسCharles VI . وقد حاولت بريطانيا وضع حد لهذا الصراع من خلال تعديل بنود معاهدة أترخت، بحيث منحت صقلية Sicile إلى ملك النمسا مقابل تنازله عن المطالبة بعرش إسبانيا، غير أن فيليب الخامس Philippe Vرفض ذلك، وقام سنة 1717م بإرسال حملة عسكرية بهدف احتلال سردينيا 32. وكان رد بريطانيا على التحدي الإسباني قويا، إذ تم إرسال أسطول إلى البحر الأبيض المتوسط قصد وضع حد لمناوشات الإسبان وتدمير أسطولهم. وقد نجحت بريطانيا في تحقيق هدفها بعد مجهودات كبيرة. وبذلك تم وضع حد - ولو مرحليا - للخطر الإسباني الذي شكل هاجسا كبيرا لبريطانيا، خاصة وأن إسبانيا كانت تطالب باستعادة جبل طارق33. غير أن ذلك لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما استرجعت إسبانيا عافيتها، بعد ظهور الوزير ربيرداJuan Guillermo Ripperda ، الذي بذل كل جهده لردم الهوة بين إسبانيا والنمسا وتكوين حلف ضد بريطانيا لإرغامها على الانسحاب من جبل طارق ومايوركا، لكن بريطانيا لم تكن مستعدة للتفريط في مراكزها المتوسطية. لذا فقد أرسلت أساطيلها للقيام بدوريات قرب الشواطئ الإسبانية لحماية جبل طارق ومايوركا. وانطلاقا من سنة 1727م شرعت إسبانيا في محاولاتها الجادة لاستعادة صخرة جبل طارق، فقد قامت بمحاصرتها، و كان بها حامية بريطانية مكونة من ثلاثة ألف رجل، واستمر هذا الحصار مدة أربعة أشهر، وانتهى في نهاية المطاف بالفشل. وعقبه أعلنت إسبانيا عن تخليها عن المطالبة باستعادة جبل طارق بموجب اتفاقية إشبيلية سنة 1729م. ومن جهة أخرى ظهرت طموحات فرنسية للسيطرة على جزيرة مايوركا، مما دفع البحرية البريطانية إلى توجيه أوامرها إلى الحامية البريطانية بجبل طارق لصد الهجوم الفرنسي المحتمل، لكن فرنسا كانت أكثر دهاء عندما نفذت هجوما مباغتا، فكانت الخسارة فادحة للبريطانيين، الذين اقترح فريق منهم ضرورة الانسحاب إلى جبل طارق والعمل على تحصينه حتى لا يسقط بدوره في يد الفرنسيين34. كان سقوط مايوركا ضربة قاصمة للسياسة البريطانية المتوسطية، بحيث أصبحت بريطانيا في موقف حرج نتيجة افتقارها لقاعدة بحرية شرق جبل طارق، بإمكانها حماية هذه الصخرة. ومما زاد الأمور صعوبة على البريطانيين ظهور محاولات فرنسية متكررة لاحتلال الخلجان المحصنة في كورسيكا. وقد نجحت فرنسا في تحقيق هدفها، إذ أصبحت تتحكم في مثلث إستراتيجي مؤلف من طولون ومايوركا وكورسيكا. وللخروج من هذه الوضعية المتأزمة35، عملت بريطانيا على كسب تحالف بروسيا التي أخذت تشن هجومات على سواحل فرنسا؛ فأدى ذلك إلى إضعاف قوة الفرنسيين أمام البريطانيين الذين دشنوا عودتهم بسلسلة من الانتصارات البحرية على فرنسا سنة 1759م. وبعد وفاة جورج الثاني George II سنة 1760م، اعتلى عرش بريطانيا جورج الثالث George IIIالذي تميزت بداية حكمه بالتقارب الإسباني - الفرنسي ضد بريطانيا. وكان الهدف الإسباني من وراء ذلك استعادة صخرة جبل طارق. إلا أن بريطانيا تصدت إلى هذه الطموحات بإحرازها لعدة انتصارات في البحر الأبيض المتوسط، وفي جنوب شرق آسيا، أعقبها اتفاق باريس السلمي سنة 1763م الذي أسفر عن تنازل فرنسا لبريطانيا على جزيرة مايوركا، في حين لم تتعرض بقية المفاوضات لمسألة جبل طارق36. دخلت بريطانيا عقب ذلك مرحلة ضعف، في حين كانت فرنسا تبذل مجهودات كبيرة لتطوير قدراتها البحرية، واستعادة دورها المتميز بالبحر الأبيض المتوسط. فقد قامت بشراء جزيرة كورسيكا Corse من جنوةGêne سنة 1768م. الأمر نفسه انطبق على إسبانيا التي أخذت بدورها في الاستعداد وتدعيم قوتها البرية والبحرية، لإرغام بريطانيا على الانسحاب من صخرة جبل طارق، مراهنة على الدعم الفرنسي. وقد فرضت هذه التحديات على بريطانيا ضرورة إعادة بناء قوتها البحرية، للدفاع عن مكتسباتها السابقة، خاصة قاعدتها بجبل طارق. غير أن اندلاع الثورة الأمريكية أربك حسابات البريطانيين، إذ تدخلت فرنسا لدعم الثوار الأمريكيين، كما عقدت حلفا مع إسبانيا سنة 1779م، كان هدفه الأساسي استعادة جبل طارق ومايوركا. وقد تمكن الإسبان من تحقيق الهدف الثاني، في حين أنهم فشلوا في تحقيق الهدف الأول، على الرغم من الحصار الطويل الأمد لجبل طارق. وأعقب ذلك اتفاق باريس سنة 1783م الذي سلمت على إثره بريطانيا جزيرة مايوركا للإسبان، في حين تمسكت بقبضة من حديد بجبل طارق، إدراكا منها للأهمية الإستراتيجية لهذه الصخرة في إطار سياستها المتوسطية.
#عبد_الرزاق_العساوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جبل طارق والإستراتيجية البحرية البريطانية
-
جوانب من تاريخ العلاقات المغربية البريطانية: الحلقة الثالثة:
...
-
جوانب من تاريخ العلاقات المغربية البريطانية: الحلقة الثانية:
...
-
جوانب من تاريخ العلاقات المغربية- البريطانية: الحلقة الأولى:
...
-
العولمة: قناع الأنانية المتجذرة
-
أهل الحسيمة وظهير العسكرة:مقاربة تاريخية
المزيد.....
-
سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي:
...
-
أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال
...
-
-أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
-
متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
-
الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
-
الصعود النووي للصين
-
الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف
...
-
-وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب
...
-
تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|