|
- وجهة الوعي العقلاني الليبرالي في مرحلة ما بعد الحداثة - من -دهشة فعل التفلسف كعقلنة - في الحلقة الحادية عشر- الجزء الثاني من حوارنا مع البروفيسورة خديجة زتيلي في -بؤرة ضوء-
فاطمة الفلاحي
(Fatima Alfalahi)
الحوار المتمدن-العدد: 5617 - 2017 / 8 / 22 - 14:12
المحور:
مقابلات و حوارات
" وجهة الوعي العقلاني الليبرالي في مرحلة ما بعد الحداثة " من "دهشة فعل التفلسف كعقلنة " في الحلقة الحادية عشر- الجزء الثاني من حوارنا مع البروفيسورة خديجة زتيلي في "بؤرة ضوء"
https://i58.servimg.com/u/f58/19/60/38/08/5510.jpg
فعندما طرحتْ أكاديميّة ديجون السؤال هل ساهم تقدّم العلوم والفنون في إفساد الأخلاق أم في تطهيرهـا؟ Si le rétablissement des sciences et des arts a contribué à épurer les mœurs?، لم يجب روسو عن سؤال أكاديميّة ديجون بأجوبة نمطيّة لأنه أراد أن ينسف ما كان تقليديًّا ومتداولاً، واعترف في عبارة صريحـة له تعكس موقفـه من الحضارة الحديثة: «أنّ أنفسنا قد ازدادت فسـاداً بقدر ما تقدّمت علومنـا وفنوننـا نحو الكمـال»، ما يعني عدم اطمئنانه إلى واقـع حال العلوم والفنون، نظراً لماّ انجـرّ عنها من نتائج كارثيّة على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي، لم يكن خطاب روسو نمطيّـا بل كان معارضاً لفكـرة التقدّم التي طالمـا تشدّق بها عصر التنوير. فقد أدان روسو الحضارة الحديثة، ومنظومـة القيّم التي أفرزتهـا، ووقف ضدّ التقدّم الذي كان وهمـاً كبيراً أطلقه القرن الثامن عشر، فالعلوم والفنون، في تقديـره، أسهمت في تعاسـة الإنسان بدلاً من أن تجلب له السعادة، وبناء على ذلك لا يمكن اعتبار التقدّم المادّي والتقني جالباً للسعـادة بل للشقاء، كما وأنّه لا يمكن للإنسان أن يكون سعيـدًا إلاّ وهو يحقّـق أخلاقيته وينتصـرُ لطبيعته وإنسانيتهِ. لقد أفصح الواقـع عن التناقض الصارخ بين حياة الإنسان وسعادته وكشف عن مسألة غاية في الخطـورة وهي أنّ التقدّم لا يمكنه أن يُقاس بالماديّات، وأنّ سعـادة الإنسان لا يمكنها أن تحفـل بفكرة التقدّم في هذا المعنى.
ومن هذا المنطلق عـاد روسو لكي يستشهد بالتاريخ الإنساني الحافـل بالأحداث في مراحـل زمنيّة مختلفـة، فراح يستحضر الأدّلة من حضارات ماضيّة شرقيّة و غربيّة، دعما لمواقفه كالتاريخ المصـري وتاريخ رومـا وأثينا والصيـن والقسطنطينيّة وبـلاد فارس، كي يحلّل ويبـرّر موقفه الرافض كثيراً للتفـاؤل بالحضارة التقنيّة في صيّغهـا المطروحة، وللتقدّم الذي أدّى إلى التناحـر والحروب والأنانيّـة والتملّك والاحتيـال والغش والكذب والاضطراب والفساد والانحطاط والبشاعـة والكفـر والفوضى والإبادة والموت وغيـرها من تعاسات هذا العالم. ما يعنـي أنّ الإنسان قد أساء استخدام الحضارة وأنّ الإنجـازات العظيمة للبشريّة لم يصاحبها قطّ تهذيب الأخلاق وتطهيرهـا، بل على العكس من ذلك، قد أعقبها انتشار المفاسـد والرذائل، والرياء الاجتماعي، وتوطين التفـاوت بين الناس، والافتقار إلى الموَاطَنَـة الصالحـة والفعالة. ما يُفْضي في نهاية المطاف إلى وجـود تعارض صارخ وصريح بين الحضارة الحديثة ومُنجزاتهـا التقنيّة والعلميّة وبين الأخلاق. هذا ويؤكد روسو في ((مقال في العلوم والفنون)) على التضادّ الموجـود بين الحضارة والفضيلة : ففي القسم الأوّل من المقال يقدمّ جملـة من الأدلّة التاريخيّة عن فسـاد الدوّل في حقب زمنيّة معيّنة، ويوضّح أنّ العلوم والفنون قد ساهمت بشكـل فعليّ في انحـدار الأخلاق والإنسان. في حين يعرض في القسم الثاني من المقال غـرور العلوم ومخاطـرِها الكبيـرة ونتائجها الفادحـة إذاَ لمْ تُعَلَّم بمـوازاة مع تعليم الفضيلـة والحكمة. وهكذا فإنّ التنوير الذي أسّس للرؤية الحديثة للعالم لم يقدر، في رأي روسو، أن يُطَهّـر الأخلاق التي سارت نحو الانحطـاط، ففنون العصر وعلومـه شكّلها الخمـول وغذاها الترف Le Luxe، والتقدّم المزعـوم أدّى إلى اغتراب الانسان وحُلْمِـه بجنـّة مفقـودة، بل إنّ حنينه أصبح مُلحّـا إلى مرحلة الطبيعـة، فلم يعد تحصيل السعادة، وفقا لهـذا الطرح، يتأسّس بالتطلّـع إلى المستقبل بل بالعـودة إلى الماضي، وهكذا فَقدتْ فكـرة التقدّم مصداقيتها كونها مجـردّ مزاعـم عارية عن الصحّة.
اغْتبطَ الناس كثيرا في عصر التنوير بـالتقدّم الذي حقّقـه العلم، وخاصّة في مجـال العلم الرياضي والفيزيائي، وقد دفعتهم تلك الاكتشافات العلميّة، التي حصلت في هذين المجاليـن من العلوم، إلى التطلّـع بعيـن التفاؤل والرضـى لفكرة التقدّم، بوصفها الضامـن الحقيقي للسعادة والرقيّ. لكنّ موقف روسو من التقدّم قد اتّسم بالتشـاؤم، وهو الذي عارض النزعـة التنويريّة، وشدّد على القول بعدم الفصل بين الحضارة في جانبهـا المادّي والحضارة في جانبها الأدبي والأخلاقي. ولكن من السذاجـة بمكان اعتبار روسو عدّواً للتقدّم في مفهومه العام أو خصماً لذوذًا للحضارة، فقد افتتـحَ القسم الأول من ((مقال في العلوم والفنون)) بالإعجاب الشديد بالمشهـد العظيم والجميل للإنسان وهو يخـرج من العدم بفضل مجهوداتـه، ليبدّد بنـور عقله الظلمات في الطبيعـة فيتجـاوز بذلك ذاته ويندفـع بفكـره إلى السماوات ليخترق الكون ويعـود من جديد إلى ذاته، ليعرف واجباتهـا وغاياتهـا. لكن الملفت للانتباه في حِجـاَج روسو هذا، والذي سيصنعُ المفارقـة لا محالـة، هو التأكيد في ذات السياق أنّه رغم التقدّم الباهـر للعلوم والفنون والمعارف فقد صاحب ذلك التطوّر الكبيـر، الانحـدار الشديد في مجال الأخلاق، و مفاسـد كبرى يستنكـرها في مقال في العلوم والفنون، ويعيد طرحها بصيـغ أخرى في نصوص لاحقـة: كـ((مقال/ خطاب في أصل التفاوت))، وكذا في ((العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي)) عام 1762، Du Contrat Social ou Principes du droit politique ، عندما يتطـرّق إلى وضعيّة الإنسان في حالة الطبيعة، ووضعيته في الحالة المدنيّة، هذه الأخيـرة التي تعدُّ هي المسؤولة مباشـرة على الشرور وفسـاد الأخلاق، وعلى الخروج من حالة البـراءة الأولى.
وإذا كان أيّ نصّ يُقْـرَأ في حضوره التاريخيّ، فإنّ النصوص الكبيـرة بمقدورها أن تتخطّـى التاريخيّة إلى العالميّة والإنسانيّة لأنّها تواكب، في كلّ عصر، همـوم الناس وتطلّعاتهم فتعيـد تأسيس الأفكار على ضوء معطيات الحاضر. ولعلّ هذه الفكرة تحاول ترهيـن روسو وجعله لحظـة تاريخية هامّـة، في العصر الحديث، من المفيد العودة إليها للتأسيس للجدل القائم اليوم بخصوص ضرورة تخليـق العلم والتقنيّة، سيّما وأنّ التطوّرات الحاصلة في هذه المجـالات لا حدود لهـا. لقد تحدّث روسو في هذه الموضوعات واهتجس خوفا من مآلات سوء استخـدام العلم وغياب الفضيلة والحكمة وأثر ذلك على فسـاد الأخلاق، وقدّم مبـرّراته حول مشروعيّة تخوّفاتـه. وها نحن اليوم نجد، في عصرنا الحالي، مشروعيّـة لتلك التخوّفات والهواجس ولموقفـه المتشائم من فكرة التقدّم التي جرى الانبهار بهـا في عصره، ونقف ممتعضين معه ومثله مما يجري من حولنا، ينتابنا شعور الخوف والوهن والقلق والضياع والفناء من مآلات التقنية والعولمة وما بعد الحداثة. وما أحوجنا اليوم، أكثر من أي وقت مضـى، إلى إعـادة طرح سـؤال أكاديمية ديجون؟ مع فارق بسيـط في الصيغـة والتوقيت. إنّ أهمية ما طرحه روسو لا تكمن قيمته في سياقه الزمني وحسب بل في امتداداته في أزمنتنـا المعاصرة بل الراهنة العامرة بالخراب والدمار والحروب! فمتى يحين الأوان لكي ينتبه الوعي العقلاني / اللاعقلاني الليبرالي المعاصر بأنّ عليه واجب إعادة النظر في حساباته والحدّ من جموحه وجنوحه نحو المغامرات الطائشة المميتة؟
انتظرونا في الحلقة الثانية عشر من حوارنا مع البروفيسورة خديجة زتيلي في "بؤرة ضوء"
#فاطمة_الفلاحي (هاشتاغ)
Fatima_Alfalahi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- وجهة الوعي العقلاني الليبرالي في مرحلة ما بعد الحداثة - من
...
-
- الانفتاح الكوني والثورة المعلوماتية - من -دهشة فعل التفلسف
...
-
- الثقافة النسقيّة عند الناقد الأدبي عبد الله الغذامي - من -
...
-
اشتهرت الخنساء بمرثيتها لأخيها صخر وأسبازيا اشتهرت بخطابها ا
...
-
- هل اختلف وضع المرأة العربية بشكل عام عن وضع المرأة الأثنية
...
-
-هل وجدت أن انزلاقات أفلاطون بالحديث عن المرأة بصورة متدنيّة
...
-
-هل تجدين أن الشعوب العربية في الوضع الراهن بحاجة الى الوعي
...
-
هل يجب على الفيلسوف أن يجدد من لغته الفلسفية ليجاري فكر القا
...
-
- هل خانتك اللغة يوما ووجدت أن الفكرة أعقد وأكبر من أن تسعها
...
-
- تعددت اللسانيات ، فبأي لغة تكتبين الفلسفة ؟- من -دهشة فعل
...
-
((إدغار موران والفكر المركّب/ الفكر المعقّد)). من -دهشة فعل
...
-
((إدغار موران وتعليم فنّ الحياة في الزمن الراهن)). من -دهشة
...
-
- مَن يكتب مَن؛ تكتبين، أم تكتبك الكتابة؟-من -دهشة فعل التفل
...
-
- الفضيلة عند سقراط - من -دهشة فعل التفلسف كعقلنة - في الجزء
...
-
-كيف يقرأ المرء لهؤلاء العُظماء الحكماء ولا تتطلسم الروح بهم
...
-
-قصيدة بارميندس- و -الأشياء متباينة بالذات- من حوارنا مع أست
...
-
دهشة فعل التفلسف كعقلنة - حوار مع أستاذة التعليم العالي بقسم
...
-
شطآن
-
حوار مع الكاتبة التقدمية والناشطة فؤادة العراقية وَ - المرأة
...
-
حوار مع الكاتبة التقدمية والناشطة فؤادة العراقية وَ - المرأة
...
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|