عبير خالد يحيي
الحوار المتمدن-العدد: 5614 - 2017 / 8 / 19 - 18:23
المحور:
الادب والفن
يوم مت
وحدها أمي كانت ترى في ضحكتي المعاقة حياة ..
كنت أرى دواخل الباقي من آل آدم بعينيي العمياوين ، سخرية، استخفاف ، اشمئزاز ، شفقة بأحسن الأحوال .
جسدي الذي غادره الزمن ، بعد أن حكم عليه بالضآلة مهما امتد به العمر .. موتور باهتزازات كثيرة ، كلها كانت عاجزة عن استنهاض أطرافي السفلية وتحفيزها على فعل ما خلقت لأجله .
وحده صوت أمي كان الوسيط بين ذلك الحي القابع في القبة الكروية التي تعلو الضآلة ، وبين عالم رحب لا أدري حجم اتساعه لكن تخيلته، عندما سألت أمي عن حجمه أخبرتني بأنه بحجم كفها عندما تمسح وجهي، فعرفت أنه شاسع جدا ..
سألتها يوما عن الألوان ، فعرفت أن الأحمر لون قبلتها على وجنتي ، الأزرق لون انفاسها، الأخضر لون صوتها وهي تغني، والأصفر لون آهاتها وهي مريضة ..أما الأبيض فهو ابتهالها في صلاة...
عندما طلبت مرة ورقة وأقلاما مبديا رغبتي برسم لوحة ، تناولني الجميع بالسخرية ، وحدها أمي من أخذت مطلبي على محمل الجد ، وضعت قلما في يدي وقالت لي : " هيا ابدأ!"
وضعت يدي على صدرها ، ورسمت جبلا أسمر ، وضعتها على جبينها ورسمت شمسا ، أدمعت عينها ورسمت نهرا ، تحسست بطنها فرسمت مرجا أخضر .. يومها عرضت أمي لوحتي هذه في إحدى المسابقات ففازت بمركز متقدم .
كانت تحدث جارتنا همسا : "لم تقبل اي مدرسة في البلدة انضمام عصام إليها ! سألقنه المناهج الدراسية بنفسي" .
لتشهق الجارة : "كيف ستفعلين ذلك ؟ ومسؤولياتك الأخرى ؟ وما جدوى العلم عند عصام ؟".
أجابتها بتحد : "عقله حي ويحتاج الغذاء !".
قرأت عبر أمي الكثير من العلوم ، في كل المجالات ، وصلت إلى مرحلة انتقاء الكتب واختيار المراجع ! حتى استحال عقلي إلى خزينة معرفة ...
لا أدري الآن كم عمري على وجه التحديد ، لكن صوت أمي الواهن ينبئني أنها تعدت الستين ، أرى اللون الأصفر قد غلب على صوتها ، كما أن بياضها قد اشتد أكثر...
صوت غريب جدا كنت قد سمعته يوما يعلن نفوره من شكلي، يومها أقنعتني أمي أن أنمّي في ذاتي ملكة الاختيار ، أسمع من الأصوات ما يعجبني فقط ، أضيف لإعاقاتي إعاقة جديدة باختياري ، ولم يعجبني سوى صوت أمي فكان هو كل ما أسمع .. لكن ذلك الصوت البغيض اخترق إعاقتي لينهي حياتي بعبارة : (إنا لله وإنا إليه راجعون ).
#دعبيرخالديحيي
#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟