|
الهجّاء
عبدالكريم الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 5612 - 2017 / 8 / 17 - 22:42
المحور:
الادب والفن
الهجّاء لوحة باهتة اللون، مؤطّرة بالذهول، نعش يحمله رجلان، تبدو عليهما علامات التذمّر، لا مشيّعين سوى جارية تعيسة، تلهث خلفهما، تولول عليه، المارة يتنحّون جانباً، ألسنتهم تنال منه، عيناي يطأهما الاستغراب، يد الفضول تدفعني، أندسّ بينهم، تجرفني رغبة جامحة للتساؤل: - من قتله؟ - لسانه. تلتفت الجارية، تنفض غبار الصمت: - أراكم كحطابين تكاثروا على شجرة سامقة، مثمرة، لو كان حياً لما تطاولتم عليه. - يرحمكِ الله، أيّ ثمر كان يحمله هذا الزنديق؟ تردّ على سخريتهم كما ردّ صاحبها بالأمس: يُزري علينا رِجالٌ لا نِصابَ لَهُم ... کانُوا عِباداً وکنَّا غَيرَ عُبَّادِ تنصرف غاضبة، محتجبة بالأسف والدموع عن لعنات تلاحق مثواه الأخير. أحدّق في اللوحة، يخرج من عتمتها رجل أعمى، ضخم الجسم، مجدور الوجه، حدقتا عينيه يغشاهما لحم أحمر، يتوكّأ على عصا لسانه، يسوق حاسة سمعه إلى مرافئ الجمال ومنار العشق، يتملكني الخوف، ألوذ بشجرة يابسة، يكوّر ذاكرته، يدحرجها، تدور، و تدور، و تدور، تقف على رصيف طفولته البائسة، طفولة منبثقة من رحم نابض بالألم والغربة، يعانق ظلّها، يفيق على سخرية وازدراء أقرانه، يزيح لثام الأمس؛ لا ضوء، ولا لعب ولا من يأخذ بيده، لا شيء سوى ظلام دامس؛ وفي لجة خوفي قرع سمعي صداه: - سأنحت من أذني قنديلاً، وأصنع من لساني سيفاً؛ لأرتقي سلالم الوجود. يحدّق في العتمة، يتحسّس مرارة عاهته، لم يرث سوى الفقر واليتم وتبرمه من الناس، يشهق بتساؤل موشّى بالشكوى: - لِمَ تبعثرني الأقدار؛ فأتيه بين العتمة والوهم؟ يغادر عزلته بعدما أدركه استهزاء الآخرين، يتنفس قوافي الشعر، يمتطي صهوة الهجاء، يطارد أصواتاً تنعته بالقبيح، الأعمى، ابن الطيّان، وتطعنه في نسبه، حتى إذا ما قرعت شكوى الناس أذن أبيه، يضربه ضرباً شديداً: - أما ترحم صبياً ضريراً؟ قالت أمه. - بلى، ولكنّه يتعرّض للناس فيشكونه. وكلّما أعادوا الشكوى كان يرد على استغراب أبيه: - يا أبتِ، أما تعلم، أنّه (ليس علی الأعمى حَرَجٌ )؟ يركل ذاكرته؛ فإذا بها سوط يجلده، يوجعه: - يا بنَ بردٍ إخسَأ إليك فمثلُ الـ ...ـکلب في الناس أنت لا الإنسان يلوي ذراع الخيبة والإحباط، يعلو على أنين الجراح: - لو عيّرني الأعدَاءُ والعيب فيهمُ ... وليس بعارٍ أن يُقال ضَريرُ يلتفت نحوي، أجفل، ترتجف أوصالي، يبتسم: - لا تخشَ شيئاً، فأنا لست قرداً أعمى كما قال اللئيم، " رأيتُ العمَى أجراً وذخراً وعِصمة ... وإنّي إلی تلك الثلاث فقير " - ولكن، لو صنت لسانك لما أدركك القتل. - ومن قال إنّ لساني قتلني؟ - هكذا سمعتُ، أنك سليط اللسان، جسور على القول الجارح، الخادش للحياء. - لا يا بني، لقد اغتالتني يد الأقدار؛ تفضل معي، سأروي ظمأ فضولك. أفكر مع نفسي، أتساءل، أيّ رجل معتوه يتبع أعمى إلى متاهات الدروب؟. أكسر قيد الخوف، أطرق سمعه: - لماذا اخترت الهجاء، حتى أصبحت عبداً له؟ - كي أخرج من دائرة الضياع، وأكون غيري. يتشابك صمتنا، يتأوه، يخفق قلبه شوقاً لعُبيدَة، لتلك المرأة البصرية، - ما الذي شدّك إليها، وأنت لم ترها؟ - صوتها، سمعتها تغني مرة؛ فتعلّق قلبي بها، قلت حين شفّني الوجد: يا قومُ أذُني لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ ... والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانَا يثمله حنين الذكرى، يشدو كطير شائه: هَوَی صاحبي ريحُ الشَّمالِ إذا جَرَت ... وأهوى لقلبي أن تَهُبّ جَنُوبُ وما ذاك إلّا أنّها حين تَنتَهي ............. تَناهَی وفيها من عُبيدَةَ طِيبُ يرسو على مرفأ اللهو والغناء، يهتزّ طرباً: اسقِنِي يَا بنَ أسعَدَا ... قَبلَ أن يَنزِلَ الرّدَی بشربة تَذهِبُ الهُمُو...مَ وتَشفِي المُصَرَّدَا يتّخذ الليل مركباً للّذة، يشرب ما تيسّر من خمرتها، يرتدي جلباب العبث، الشعر ينزف حرائق الهوى، يصير أغنية، والهمس أرجوحة لنبض القلب، يحتضنه الخدر على موسيقى ناعسة، وصوت يحلّق به إلى عوالم الحلم حتى انبلاج الفجر: - لا تستغرب ما ترى؛ الخمرة تضيء العتمة، والنساء يسقينَ الروح ماء العشق؛ وما الحياة إلّا متعة ولا شيء بعدها. - أ لا تخشى الموت؟ - لقد عشته مراراً. كان يحلم بصرخة تُطفئ دموع احتضاره، يرسم وهج الأنا، يقرع أجراساً توسّدها النسيان، يحتسي وميض الشمع، يتدثّر بحرف يثير اضطراباً: - الأرض مُظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ ... والنارُ معبودةٌ مذْ كانت النارُ المسافة الممتدّة بينه وبين الآخرين تترصّد آثار خطاه المرصّعة بالعبث، تمدّ عقيرتها، تتشكّل سيفاً قاطعاً: - " أما لهذا الأعمى الملحد المُشنِّف الـمُكنَّى بأبي معاذ من يقتله؟ " يسري به حتفه، يدخل عشّ الدبابير بنزق شعري عدائي، ينتابه خوف لم يعرفه من قبل لمّا رأى الشفاه تردّد أصداء صوته في حضرة الخليفة: - خَليفةٌ يَزْني بعمّاتِهِ ... يَلْعَبُ بالدّبُّوقِ والصَّولجَانْ يلزم غيبته، يلوذ بآخر كأس، يفيض قلقاً، يحلّق في فضاء أعماقه، يتلاشى، " هي ذات العتمة، لا تأخذ منّي شيئاً، فلماذا يزورني القلق؟ " يتنفس صدى أغنية، وهمس قينة، يغافل صحوه، يهرب إلى مرفأ الأماني، ينشد عبير الانعتاق، ينهل من نبع الرغبة نشوة الخلاص، يغرق في موج الهذيان، يصيبه الدوار، يتلمّس عريه، يرفع الآذان ضحى، يصحو على وقع غضب الخليفة: - يا زنديق، أتلهو بالآذان في غير وقت الصلاة وأنت سكران؟ يُحمل على ظهر الجلاد، يطرح أرضاً، يلثم نهد الدهشة: - أ تجلدون شيخاً تجاوز أبواب السبعين، ولم ير غير الظلمة؟ - وأنّى لك أن تهجو الخليفة؟ ترتسم على شفتيه ابتسامة لاذعة. - يا لوقاحتك! - ليس من حقكم مصادرة حزني ولساني. ينهمك الحاضرون بالضحك، يبرق سوط الانتقام، يلهو بالجسد الواهن، يرسم خطوطاً حمراء متقاطعة، تتشكّل لوحة مدمّاة، مضمخة بالأنين واللوعة، حتى إذا ما بلغ العدّ سبعيناً، مات الشاعر من أثر الضرب المبرح. أغمضُ عينيّ، أشهق أسفاً بعدما غاب أثر الجِنازة في عرض الصحراء.
#عبدالكريم_الساعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(أحمر حانة... حكاية مدينة إن لم تدخلها، كأنّك لم ترَ الدنيا)
-
جمالية الخطاب القصصي الحديث: -كوميديا العالم السفلي- للمبدع
...
-
غزوة الحرمان
-
عادة علنية / قصة قصيرة
-
بيكادون
-
صوت اللسان
-
( تكوين ) نص أدبي يتقاطع و يلامس أكثر من نظرية فلسفية و فكرة
...
-
تكوين
-
أمل
-
القاص الذي جعل حوادث قصصه قريبة من العقل والمنطق... قراءة /
...
-
تأملات في لوحة مرمرية أيديولوجيا الوجع في القص العراقي -33 أ
...
-
جماليات اللغة في [ ولادة ] للقاص عبد الكريم الساعدي
-
الغريب
-
السفير / قصة قصيرة
-
دراسة نقدية بقلم الأستاذة سامية البحري: - أحلام وذباب-
...
-
بين الانتظار والاحتضار/ سامية البحري - تونس
-
عيناك للعراق / الأستاذة سامية البحري / تونس
-
دراسة نقدية لقصة ( طقس عبثي ) للقاص عبدالكريم الساعدي، بقلم
...
-
قراءة نقدية للأستاذة/ زهرة خصخوصي لنصّ “الرّفيق ديونيسوس” لل
...
-
- الكلام على الكلام صعب -
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|