عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5613 - 2017 / 8 / 18 - 00:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في وحدة عالم المقدس الغيبي
لعل الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تركز على مفاهيم الوحدانية في عالم المقدس الغيبي وأحديته، بمعنى أن الديانات الأخرى تختلف في فهمها لهذا المقدس الذي هو الله لا من حيث جوهر فكرة الألوهية ذاتها وتنزيها لله من الشبهة أو التشبه مع الخلق، ولكن بما جعلت منه تفرعات وتفريعات خاصة وإن كانت تؤمن قطعا بأن الله واحد، الفرق أن ملة إبراهيم الأولى حسمت الموضوع منذ البدء فيما كان أبناءه وذريته ومن خلال ما عرفوه أو أستنبطوه أن لله المقدس الغيبي إستكمالات وصفية، أراد منها المؤمنون أما أن ينفردوا دون غيرهم بالإنتساب كما في قول اليهود {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}المائدة18، أو من خلال أدعاء أخر أن المقدس الحضوري تحديدا هو إبن الله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ}التوبة30.
والحقيقة أن هذا القول وتحديدا هو أدعاء الأتباع وليس في أصل الدين اليهودي والمسيحي أو من صلب العقيدة ذاتها فالإسلام واحد بشكله ومضامينه وقضايه الأصلية {ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}التوبة30 ، فمن يؤمن بالله واحدا لا بد أن يؤمن بأحديته كون الواحد المطلق هو أحدي في النتيجة، ولو قلنا غير ذلك صار من الممكن أن يكون الممكن عده ممكن تعداده، أي أن يكون هناك أحتمال أن يكون للواحد واحد أخر مناظر مماثل مقابل، وهذه الأحدية بالتالي تنفي عنه صفة أخرى هي صفة التفرع أو التجزء أو التجدد، فهو قديم أزلي أبدي لا مثيل له ولا ممكن حتى تصور أن يكون له فرع أو يتخذ له قرين أو صاحب أو ولد.
هذا الأصل المحمدي هو من أصول الديانات الإبراهمية عامة قبل أن يمسها التغيير والأختلاف والعبث الأعتباطي في كلياته وجزئياته، لذا صار مفهوم الأحديه مفهوم قطعي مطلق لا يمكن المساس به أو النظر فيما لو كان هناك أحتمال ضئيل بإمكانه، وحافظت المحمدية على هذا النهج حتى قدمته وجعلته أصلا أول من أصول المقدس الغيبي لديه وسمي الناس تبعا لذلك موحدين، فجاءت أسماء الله الحسنى وهي الأسماء والتي ذكرها النص الديني عن الله مقرونة بهذه الرؤية (الله، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، الحي، الدائم، الباقي، ....الخ من الأسماء الذاتية تنزيها وتوكيدا وتعميدا وأعتمادا لهذه الوحدانية المطلقة.
ومن المفاهيم المبتكرة التي دخلت دائرة المعارف الديني مفهوم الشرك والمشركين، المشرك هو غير الكافر بالتأكيد، بل يظن البعض أنه المرحلة الـ (بين بين) بين الإيمان والكفر من خلال جعل لله شريك، بأعتبار أن الإيما يقول بالوحدانية، والكفر يناهض المبدأ أصلا أو يقول بالإمكان أن تكون المقدسية الغيبية ليس بالضرورة واحدة، والحقيقة أن الشرك ليس وسطا بين الإيمان والكفر.
الشركية تعني معان متعددة وأشكال متنوعة مثل كون المقدس الغيبي يمكن أن يكون غير كامل القوى أو غير مكتمل القدرة وبحاجة لمن يسدها له، أو أنه غير غني بذاته عن غيره فيحتاج لمن يتم له ما ينقصه، ومن صور الشرط أيضا أن البعض يجعل لله ندا أي خصما معاندا، ولكن في جميع الصور نجد أن الإيمان موجود أصلا بالمقدس الغيبي ولا يستعبده أو ينفيه ولا يوجد جمع بيني بينه وبين الكفر لا بالمسافة ولا بالرؤية، ولكن هناك ما يعرفه البعض نزع (الفرادة التامة المطلقة) عن هذا المقدس وجعلها مباحة لغيره أو ممكنة الحصول مع إيمان أن ذلك أستثنائي للضرورة.
إذا الإيمان الكامل به أي بالمقدس الغيبي يتطلب بالضروره أن يكون له وجوده مطلق من حيث الذات ومن الموضوع، وأي مساس بجزئية من جزئيات المطلق هو شرك وإشراك وتشريك بحقيقة المقدس الغيبي كما رأينا في المقدمة {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}البقرة116.
لذا فالشرك بالله ليس نفيا بوحدانية الخالق المعبود عند المشرك ولكن كما قلنا هو كما ورد في النص القرآني من باب (الظلم العظيم) الذي يترتب على القول بالمساس في توصيفه {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}لقمان13، والظلم مموقوت لذاته والله لا يحب الظالمين، وقد قسم القرآن الظلم على نوعين ظلم ذاتي للنفس من النفس، وظلم الأخر الواقع على الفرد أو الجماعة وكلا الظلمين مما يكره الله ولا يريده {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ}غافر31.
من هنا نستخلص أنا الله لا يكره الظالمين له (المشركين) لأنهم يتقصدون المساس به وبصفاته وأسمائه وكلياته أو لذاتهم لأنهم كذلك، بل أن موضوع عدم محبتهم والتشهير بهم يعود لأن هذا الظلم مما يمنع الإنسان من حصول الدعم الرباني له وتوفيقه، أو ما يسمى بالخير والرحمة لأنهم منشغلين عنه بغيره {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}الأنعام22 كما هي القاعدة أصلا في التحريم والتي سندرسها لاحقا.
إن ثانئية الشرك والتوحيد متداخلة في بعض أجزائها ومتباعدة في البعض عكس ثنائية المؤمن والكافر، فالأخيرة قطعية أو تقاطعية في الفهم والسلوك ومتناقضة في التدليل عليها، فالكفر أصلا عدم إيمان بالمقدس بتدرجاته العينية الغيبي والحضوري {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}التوبة84، وإن أمنوا ولو ظاهرا فإنهم لا يمتثلون لهذا الإيمان من خلال تنفيذ شرطه الحسي {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ}التوبة54، كما أنهم ينفون الجزاء لأنهم ينفون الأصل أن الله سيحاسب ويجازي ويشكر لمن أمن أو كفر به معتمدين على أستحالة وجود عوالم أخرى غير الوجود الراهن {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً}الإسراء98.
هذا الكفر ليس مرده أن الكافر هو الذي لا يستطيع أن يدرك أو يعي وجود الخالق أو المقدس الغيبي فقط وبالتالي فهو قادر أن يجدد ويحدث وعيه بما علم أو يجب أن يعلم، فهو قادر على ذلك ويمكنه أن يبحث ويبحث ويجتعد في البحث حتى يتيقن من نتائج عقله فيحاجج المؤمنين بالدلائل العقلية والمنطق الموزون وبذلك يقيم الحجة والبرهان على إيمانه بعد وجود الله، ولكن الكفر في حقيقته ظلم مزدوج من ناحية أنه ظلم ذاتي لأن الكافر لا يريد أصلا أن يبحث الموضوع ويكتفي بالهوى والرأي الأعتباطي، وثانيا ظلم يقع على الله لأنه ينكر بدون دليل مقبول ومعقول {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}الزمر59، فهو أشد ظلما وبذلك يخرج نهائيا من رحمة الله {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}غافر50.
وقد يؤدي الشرك إلى الكفر حينما يتمادي المشرك في غيه مع توفر الحجة والدليل على بطلان شركه، ولكن لا يمكن أن يتطور الكفر إلى شرك إلا إذا كان من باب التورية والنفاق والمكيدة التي توهم الناس وتخدعهم ولا تخدع الله الذي هو يعلم ما في الصدور {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}النساء140.
فالألهوية في الرسالة المحمدية مما لا تنتقص لأنها كذلك مطلقة والمطلق التام لا أستثاء ولا حصر في الذات ولا في الموضوع، جملة الأمر وفي التفصيل وهو ثابت بالدليل العقلي والنص القطعي {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }الأنعام163، وهو ما يسميه البعض بتوحيد الألهوية بأعتبار ذاته بذاته وتفريقا عن توحيد الربوبية ذاته بقوته وأثر وجوده وسلطانه، فالرب هو مالك السلطان والقادر على ما ملك والفاعل بوجوده بما تسلطن عليه، فهو يفعل ما يشاء {قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}آل عمران40، {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}الأنفال59، ويسأل ولا يُسْأَلُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}الأنبياء23، إلى غيرها من الأمور التي يتمتع بها مطلقا في وجوده لا في موجوده الذاتي.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟