|
العقل العربي بين الامتداد والانكماش -إسهام في تفنيد طرح القطيعة المعرفية بين المغرب والمشرق العربيين-
طريق لمقدمي
الحوار المتمدن-العدد: 5608 - 2017 / 8 / 13 - 21:09
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
العقل العربي بين الامتداد والانكماش -إسهام في نقد أطروحة القطيعة المعرفية بين المغرب والمشرق العربيين-
إن المتتبع الفاحص والناقد للقضايا الحياتية والمعرفية على امتداد الجغرافية المغربية والمشرقية. لا تخفى عليه التناقضات والتباينات الواضحة والمتمثلة في نمط التفكير والتحليل،خاصة عندما يتعلق الأمر بالعقل البشري. حيث نلحظ إشكاليات كثيرات متعلقات بالفكر والمعرفة، نهلت وتشربت من نفس المنبع المعرفي والعلمي، سواء التراث الفكري الحضاري اليوناني والفارسي والجاهلي العربي، والإسلامي... إلا أن الكيفية التي يتعاطى بها المثقف متباينة ومتناقضة في آن، من عدة مناحي ابستمولوجية وإيديولوجية ومنهجية...وكل هذا التعاطي، يكون إما شعوريا متعمدا، أو لا شعوريا يفصح عن ذاته أثناء الفعل المعرفي أي كتابة. والضحية في آخر المطاف هو الإنسان العربي.
على صلب هذه الأرضية الابستمولوجية انطلقت في هذا الموضوع، محاولا سبر أغوار العقل الإنساني بكل تجلياته ومكوناته المعرفية والعلمية. وذلك، بغية الرصد والتقصي لمكنوناته وكذلك فك شفراته وكشف تناقضاته عبر الزمان وفي المكان. ولم أكتف بالتفسير والتحليل والتركيب فقط، بقدر ما حاولت جاهدا إعطاء بعض الحلول المتعلقة بإشكاليات العقل البشري عامة والعقل الممتد عبر المجال المغربي المشرقي على وجه التحديد. وهذا في حد ذاته هو إشكالية البحث والمتمثلة في السؤال الكبير التالي. هل العقل العربي متصل في الزمان والمكان أم منفصل؟
بادئ ذي بدء قبل الحديث عن العقل العربي بين الإمتداد الجغرافي المعرفي، وبين التقلص الجغرافي المعرفي. لا بد من الإشارة إلى أن العقل وما يحمله من دلالات معرفية وعلمية، يحيل بالدرجة الاولى على المعرفة الكونية البشرية. إذ المعرفة سواء كانت مبنية ومؤسسة على قوانين تجريبية خاضعة وقابلة في آن إلى الملاحظة والقياس ومن ثم التجريب، أو كانت معرفة ميتافيزيقية، أي ما بعد عملية الملاحظة الكائنة الموجودة والمحسوسة والملموسة. والمعرفة الميتافيزيقية بطبيعتها مجردة، أي تبحث في اللاملموس أو لما فوق أرضي أو الخارج عن حدود العقل... فعندما أقول أن المعرفة بكل أشكالها وأنواعها، فإن المعنى يحيلنا إلى ما ذكرت. وهذا ما جعلني اعتبر أن المعرفة البشرية مثلها كالنهر الجاري، تتبدل مياهه دوما وهكذا فالمعرفة بصفة عامة تتبدل وكل نظرية تنفي النظرية التي سبقتها بشكل نسبي في علاقة جدلية متصلة إلى ما لا نهاية وهذا ما يحدث في نهاية كل عصر أو بداية عصر جديد عندما تتبدل الحضارة الإنسانية المؤسسة في الأصل على المعرفة بشكل عام. وتنفي كل حضارة جديدة الحضارة البالية، بعد أن تقطف منها ثمارها وكل ما يتناسب مع عجلة التطور الحضاري. من هذا المدخل يمكن أن ينطرح السؤال التالي: هل المعرفة الإنسانية كونية تشمل كل الأمم، أم أن لكل أمة خصوصيتها وبالتالي، مجالها الجغرافي الخاص؟
قبل الاجابة لا مناص من عرض بعض الآراء التي ناقشت هذا الأمر حيث نجد من يذهب إلى اعتبار« أن الكونية لا تفيد معنى "الاشتمال على كل الأمم" بالضرورة، إذ معنى "الاشتمال على كل الأمم" هو الانطباق على جميع الأمم بالتساوي كما إذا اشتركت الأمم كلها بنفس القدر في وضع نفس القوانين التي تجري بنفس الوجه على كل واحدة منها،والواقع أن كثيرا مما يوصف بالكونية لا ينطبق على الأمم كلها بهذا المعنى، فضلا عن أن تتساوى في هذا الانطباق، إذ حقيقة أمره أنه عبارة عن خصوصية أمة بعينها عممت على الأمم الأخرى، طوعا أو كرها، والتعميم الطوعي يحصل في حال التكافؤ الثقافي أو الفكري بين الأمتين المنقول منها والمنقول إليها، بينما التعميم الكرهي يحصل في حال تفاوتهما الثقافي أو الفكري، وهذا الصنف الثاني من التعميم قد يكون ناتجا عن اضطرار الأمة إلى غيرها لسد حاجاتها الثقافية أو الفكرية، وهو أمر لا ينازع أحد في مشروعيته، ولكنه قد يكون ناتجا،أيضا عن إكراه تمارسه إحدى الأمتين على الأخرى، وهو أمر غير مشروع ولا معقول، والحال أن الامة المسلمة، في سياق أنواع الاستعمار التي ما فتئت تتوالى عليها،تظل مكرهة على الأخذ بخصوصية المستعمِر وعلى النظر إليها على أنها كونية تلزم الامم قاطبة» .
مما سلف يتضح أن صاحب الرأي يرى بأن كل كوني بشري سواء تعلق الامر بالثقافي أو الفكري وبالتالي العقلي، لا انفصام بين ما هو خصوصي معرفي وما هو مشترك أممي. بكلمات أخرى، أن لكل أمة خصوصيتها المتمثلة في العادات والتقاليد وما إلى ذلك لكن في ما هو فكري وعلمي لا غنى، أمة عن أخرى، في عملية تلاقحية فكرية. وهذا ما أكد عليه صاحب الرأي التالي عندما قال: «إن العلاقة بين الكونية والخصوصية ليست بالضرورة علاقة تضاد أو تباين، بل قد تكون علاقة تداخل أو تكامل وبيان ذلك من وجهتين اثنين: أحدهما، أن الخصوصية عنصر في الكونية، ها هنا تصبح الكونية، لا خصوصية واحدة متسلطة على ما عداها، وإنما حصيلة تأليف صريح بين الخصوصيات المختلفة.. والوجه الثاني، أن الخصوصية جسد الكونية، ها هنا يجب التنبيه على أنه لا توجد كونية مجردة من كل لباس خصوصي حتى ولو كانت كونية القوانين العلمية.. فالكوني، كائنا ما كان، عينيا أو ذهنيا،لا ينفك عن الخصوصي.» وهناك رأي آخر يعتبر أنه «في كل لحظة تتقابل فيها حضارتان، حضارة ناشئة، كما كان الحال في حضارتنا القديمة، وحضارة غازية، كما كان الحال بالنسبة للحضارة اليونانية بعد عصر الترجمة، يحدث بسرعة فائقة أن تأخذ الحضارة الناشئة موقفا بالنسبة للحضارة الغازية. ويحدث الجدل بين القديم والجديد، وتنشأ ظواهر حضارية عديدة، يمكن تتبعها في تراثنا القديم،أو في كل الحضارات في طور النشوء والالتقاء بحضارات أخرى عتيدة. قد يختلف الموقف بالنسبة للعلم عنه بالنسبة للفلسفة أو الدين، ولكن بالرغم من هذا الاختلاف النوعي في المواقف (مثلا: رفض حضارتنا القديمة الأدب اليوناني وقبولها للفلسفة، ورفضها ميتافيزيقيا أرسطو وقبولها طبيعته ورفضها مثل أفلاطون وقبولها جمهوريته) فإن هناك موقفا أهم، أخذه الفلاسفة، يتضح في فلسفتهم التي أنشأوها في مقابل الفلسفة اليونانية، وفي التراث الفلسفي الذي خلفوه وراءهم.». يتبين أن هذا الرأي هو الآخر يعتبر أن العلاقات الجدلية الحضارية التي تنشأ منذ القدم هي من تخلف الجديد المعرفي والحضاري، بالتالي فالمعرفة هي في نهاية الأمر كونية وعالمية. ونجد رأيا آخر يذهب إلى القول بأنه «من الغريب أن واقعنا الثقافي -وكذلك الاجتماعي والسياسي- يتسع لشعاري "الانفتاح الكامل" و"الاكتفاء الكامل" دون أدنى إحساس بالتعارض الجذري بين الشعارين. إن صيغة "الحوار الجدلي" ليست صيغة تلفيقية تحاول أن تتوسط بين نقيضين، بل هي الأساس الفلسفي لأي معرفة، ومن ثم لأي وعي بصرف النظر عما نرفعه من شعارات أو نتبناه من مقولات ومواقف.. و سواء اخترنا من التراث أم اخترنا من الغرب فإن اختيارنا قائم على الحوار الذي يدعم موقفنا. إن إدراك جدلية الحوار في عملية الاختيار يعمق الوعي ويخلصنا من الفوضى الفكرية التي لا يستطيع أي متأمل لحياتنا الثقافية أن ينكرها.».
يتضح مما سبق أن كل الأراء التي عرضتها وهناك الكثير لم يتسع المجال لذكرها أنها تصب في اتجاه الكونية المعرفية، حتى وإن تبدلت الصيغ المعروضة بها، إلا أن المعنى والجوهر ثابت. وحتى إن تعددت الخصوصيات المعرفية لأمة أو مجموعة من الأمم، إلا أنها تلتقي في ما هو شامل جامع للعقل الإنساني. باعتبار هذا الأخير يسعى ويتطلع إلى ما يسعده ويشبع مكبوتاته المعرفية والاقتصادية والسياسية وغيرها، بشكل لا يتناقض مع الواقع العالمي الإنساني خاصة المعرفي والعلمي. وهذا ما يبرر الطرح القائل المنسوب إلى أرسطو بأن الإنسان كائن تاريخ واجتماعي..،وهذا في حد ذاته إن دل على شيء فهو يدل على كونية بني الإنسان، بالرغم من الفروقات الجغرافية والعرقية واللغوية والتاريخية وغيرها... والعقل العربي من هذا المنظور هو عقل واحد ممتد على جغرافيته سواء مغربية كانت أم مشرقية، شمالية أم جنوبية. والذي يدعي العكس، وهو مستند على ذلك من خلال قراءته لتراث الأولون فلسفي كان أم تاريخي أم غيره ، بصرف النظر عن مجالهم الجغرافي، ففي قراءته لذلك، فهو يزكي طرح وحدة العقل العربي وامتداداته الجغرافية بدون وعي منه أي في لاوعيه. فلو كان العقل العربي منكمش على ذاته ومتقوقع داخل جغرافيته لما أمكننا أن "نتفاعل" معرفيا سواء من خلال قراءتنا لمؤلفات "الآخر" المختلف عنا جزئيا في عاداته وتقاليده... لكن يشبهنا مورفولوجيا أي في شكله وانفعالاته وسيكولوجيته.. أو من خلال احتكاكنا به مباشرة، عند التنقل من جغرافية إلى أخرى، وهذا في حد ذاته نقلا للأفكار وتلاقحها. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فالقوانين العلمية الثابتة المعروفة على امتداد الجغرافية العربية بله والعالمية هي دليل آخر على وحدة العقل ليس العربي وفقط بل غير العربي وإن كان الاختلاف في الخصوصيات إلا أن هذا لا ينفي ولا يلغي الائتلاف على مستوى العقل وبالتالي في إنتاج الأفكار والمعرفة العلمية..
المراجع
1-طه عبد الرحمن، الحق الاسلامي في الاختلاف الفكري،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب- ط1، 2005م. 2-حسن حنفي، في الفكر الغربي المعاصر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، -بيروت- ط4، 1990م 3-نصر حامد أبوزيد ،إشكالية القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء-المغرب- ط7، 2005م
#طريق_لمقدمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رؤية استشرافية للعقل المغربي
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|