على الرغم من الاتساع والعمق الذي شهدته الحركة المناهضة للعولمة على الصعيد العالمي فإن حضور هذه الحركة على الساحة السورية ظل غائباً، سواء علىصعيد ظهور وعي وثقافة مناهضة للعولمة أو على صعيد بناء آليات تنظيمية تسمح بمواجهة الهجوم المتوحش لرأس المال المنطلق تحت الاسم المنمق «العولمة».
قد يبدو الأمر مفهوماً حتى نهاية القرن الماضي إذ أن هجوم الليبرالية الجديدة قد انطلق منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي تحت يافطات من مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وتوج عام 1990 بخطاب الرئيس الأمريكي بوش الأب عن "النظام العالمي الجديد"(1) الذي كثر الحديث عنه بعد سقوط جدار برلين. هذا الخطاب الذي لقي الترحيب به ليس من قبل حكومات عديدة فحسب بل من قبل مفكرين ومثقفين وحتى قادة سياسيين كانوا حتى وقت قريب معروفين بعدائهم للسياسة الإمبريالية بشكل عام والسياسة الأمريكية بشكل خاص. فالدعوة لعالم جديد عنوانه الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعاون بين الأمم والشعوب لحل المشكلات التي تواجه البشرية -وما أكثرها على الصعيد العالمي- كانت لابد أن تجد آذاناً صاغية في جميع أنحاء المعمورة.
قلة قليلة منذ البداية ـ على الصعيد العالمي استطاعت أن تدرك حجم التضليل الذي يمارسه زعيم إمبراطورية رأس المال فقلما كان هناك"خطاب دعاوى مضللاً إلى هذا الحد.دشن به هكذا عصر النفاق الأقصى، العصر الذي سيتضاعف فيه استخدام اردافات خلفيه[اجتماع لفظتين متناقضتين] مثل «الحــرب الإنسانية» أو «العدالة العسكرية» أو «الحرب النظيفة»(2).. الخ، وقلة قليلة استطاعت أن تدرك منذ البداية ماذا يعني هجوم الليبرالية الجديدة المنطلقة تحت اسم «العولمة».
نقول قد يبدو الأمر مفهوماً في البداية لأننا كنا نعتقد أن الأمر يحتاج إلى أكثر من عقد من السنين حتى تكتشف الشعوب والأمم حجم المأساة التي ستولدها انطلاقة الليبرالية الجديدة تحت اسم «العولمة». وكنا نعتقد أن الوجه القبيح لليبرالية الجديدة سيحتاج بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى أكثر من عقـد من السنين حتى يظهر على حقيقته. وإن ربع قرن يمكن أن يمضي قبل أن تصعد حركـة جماهيرية عالمية لمواجهته. ولكن «آونة فريدة واستثنائية»، تحدث عنها الرئيس الأمريكي والتي يجب استغلالها بأسرع ما يمكن من قبل امبرطورية رأس المال. ولاسيما أن «نهاية التاريخ» وقفت عنـد قدمي تمثال الحرية في نيويورك، غذت العنجهية والصلف الأمريكي فكان شعار «إما معنا أو مع الإرهاب».
ولكن الذي لم يعد مفهوماً بالنسبة لساحتنا السورية هذا الموقف من ظاهرة العولمة بعد أن كانت نتائجها على الساحة العربية الأشد ضرراً وبعد أن بلغت الحركة المناهضة للعولمة بدءاً من سياتل مروراً ببراغ وواشنطن ولندن وطوكيو وصولاً إلى المنتدى الاجتماعي الذي عقد في بورتو اليغري في عامي2001 و 2002وتتويجاً بمئات الآلاف من المتظاهرين الذين حضروا في فلورنسا بايطاليا.و لاسيما انه في جميع نشاطات هذه الحركة كانت القضايا العربية حاضرة دوماً من فلسطين إلى العراق مروراً بمسألة إلغاء الديون.
نحن ندرك أن الأوضاع والظروف التي مر بها المجتمع السوري وقواه الحية في العقود الماضية وحالة التحطيم والتذرير التي وصل إليها بفعل عقود من تغييب الديمقراطية والحريات(والتي أدت إلى إبعاد أجيال عن أي نشاط مستقل له علاقة بالشأن العام)(3) هي من العوامل الثابتة والتي ستكون حاضرة دائماً كلما حاولنا إلقاء الضوء على مشاكل المجتمع السوري وبشكل خاص منها مشاكل الحراك والنشاط خارج أطر الدولة أياً يكن محتوى هذا الحراك والنشاط ( سياسي، ثقافي، اجتماعي ، ..الخ).ولكن السؤال، كيف يمكن إخراج المجتمع من هذه الحالة..؟؟؟
مع إقرارنا بقوة العوامل الموضوعية التي تعوق بناء حركة مناهضة للعولمة على ساحتنا فإننا نعتقد أن هناك عامل آخر ساهم ويساهم في كبح إمكانية تشكيل مثل هذه الحركة. إنه الموقف من العولمة والحركة المناهضة للعولمة الذي ينتشر على الساحة السورية.
في هذه المقالة سنحاول استعراض ومناقشة بعض الآراء التي تنتشر على ساحتنا بهذا الخصوص:
• "نحن ضد العولمة ولكن النظام أيضا ضد العولمة ولذلك فإن أي نشاط مناهض للعولمـة سيصب في طاحونة النظام" ....
- إن هذا الموقف لا يستطيع التفريق بين موقف النظام( وهو موقف غير موحد) من العولمة وموقف الحركة العالمية المناهضة للعولمة والتي يجب أن نكون جزءاً منها هذا من جهة أما من جهة ثانية فإن القوى الاجتماعية والسياسية المناهضة للعولمة ذات طيف واسع وهو يتوسع يوماً بعد يوم بفعل السياسة الصلفة والمتعجرفة للولايات المتحدة الأمريكية ـ لنتذكر إن ثمانية وزراء فرنسيين حضروا لقاء المنتدى الاجتماعي في بورتو اليغري عام 2002 ـ وهـذا شيء في مصلحةالحركة لا ضدها ولاسيماإذا ما أمكن للقوى الجذرية في الحركة المناهضة"للعولمة" أن تستثمره .
• "إن المهمة المركزية للنشاط في سورية هي الديمقراطية والحريات، وبالتالي فإن أي نشاط مناهض للعولمة سيضر بقضية الحريات والديمقراطية ولاسيما أن احد شعارات العولمة هو الديمقراطية والحريات"… ...
- لاشك في أن حاجة مجتمعنا إلى الديمقراطية والحريات تقع في سلم الأولويات ،كما أن أي نشاط لمناهضة العولمة لايمكن أن يحقق فعالية حقيقية الا في مناخ من الديمقراطية والحريات. ولكن هل العولمة حاملة فعلاً لمشروع ديمقراطي أم لمشروع ليبرالي جديد...؟؟؟؟.
في بداية هجوم الليبرالية الجديدة وتحديداً في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي ساد اعتقاد بأن العولمة ستحمل إلى البشرية المن والسلوى كما صورها دعاتها ومنظروها ولكن "ربيع العولمة" انتهى بسرعة فاجأت الجميع ومن يعمل اليوم ليكون شرطي رأس المال العالمي(الولايات المتحدة) بحاجة إلى شرطي محلي في كل بلد لحماية مصالح رأس المال وليس للديمقراطية والحريات. لذلك فإن من ينتظر الديمقراطية من العولمة ـولاسيما في منطقتنا العربية في ظل وجود النفط والكيان العنصري الصهيوني في فلسطين ـ فإنه كمن ينتظر غودو.
• "إن مناهضة العولمة هي فعل رجعي يسير في عكس اتجاه التاريخ وهو يشبه مناهضة التطورالتقني الذي حملته البرجوازية في فترة صعودها ،إن مناهضي العولمة يشبهون إلى حد كبير العمال الذين كانوا يحطمون الآلات في القرنين السابع عشر والثامن عشر"…..
- إن البرجوازية في فترة صعودها حملت إلى البشرية مشروعاً تقدمياً هدف إلى تحطيم المجتمع الإقطاعي بعلاقاته وقيمه ومفاهيمه وبناه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فأي قيم هذه التي تنشرها العولمة غير تسليع الإنسان إلى الحدود القصوى ونشر الحروب وإفلاس الدول وزيادة عدد الفقراء في العالم وزيادة عدد جيش العاطلين عن العمل ونشر الأفكار العنصرية وتقزيم الديمقراطية والحريات وفي النهاية جعل العالم يقع في قبضة حفنة من الرأسماليين الذين لا يخضعون إلى أية رقابة ولا تحركهم أية قيمة سوى قيمة زيادة الربح .ناهيك عن أن أصحاب هذا الرأي يخلطون عمداً بين التطور التقني الذي حصل في الربع الأخير من القرن العشرين ولاسيما في مجال تطور وسائط الاتصال السمعي والبصري والذي مهد وساعد على هجوم السياسة الليبرالية الجديدة وبين هذه السياسة.. إننا لسنا بصدد تحطيم الكمبيوتر والأنترنت والصحون الفضائية بل بصدد استخدامها للمساعدة على مناهضة السياسة الليبرالية الجديدة وبناء عالم أفضل للإنسانية جمعاء رسمت ملامحه الأولى في( بورتو اليغري) ومازال بحاجة إلى جهود جبارة من الأمم والشعوب كلها والأفراد الذين يهدد أمنهم طغم رأس المال المنطلقين تحت اسم "العولمة" .
• "إن الحركة المناهضة للعولمة هي حركة شبيبة أوروبية مترفة بفعل ما قدمته لها الرأسمالية من مكاسب ،لذلك فهي لم تجد ما تعارض به حكومات بلدانها على الصعيد المحلي فانطلقت برفع أهداف وشعارات عالمية الطابع من مثل: إلغاء ديون العالم الثالث ووقف الحرب ووقف التسلح الخ......"
- إن هذا القول فيه الكثير من عدم الفهم لطابع الحركة المناهضة للعولمة وفيه دفاع عن حق رأس المال في التضامن والتنسيق على الصعيد العالمي دون إعطاء هذا الحق في التضامن والتنسيق للشعوب التي تقع ضحية الهجوم الذي تقوم به الليبرالية الجديدة تحت اسم "العولمة". فالحركة الاجتماعية في المراكز الرأسمالية تنطلق من الدفاع عن المكاسب التي حققتها بعد الحرب العالمية الثانية بفعل نضالاتها ونتيجة التنازلات التي قدمتها الرأسمالية بفعل وجود الاتحاد السوفييتي على خاصرتها مع ما ترافق من دورة توسع رأسمالي طويل امتد حتى عام 1970 هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن وسائط الاتصال قد سمحت بخلق شكل جديد من التضامن الإنساني بين الشعوب هو النقيض للتضامن بين عمالقة رأس المال الذي يشرف عليه وينظمه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
إن الحركة المناهضة للعولمة في أوروبا حتى وإن لم تكن سوى تعبير عن التضامن مع شعوب العالم الثالث (وهي ليست كذلك فقط) فإن من واجبنا أن نكون جزءاً منها لا أن نقف موقف المتفرج عليها.
إن القوى الاجتماعية التي تحمل مشروع "العولمة" ليست أولئك الذين يملكون رؤوس أموال ما فوق قومية فقط وإنما هناك شريحة اجتماعية ما فوق قومية تتماهى مع نمط الحياة الأمريكية والقيم الأمريكية حتى وان لم تعشها في الواقع. فكل ماهو أمريكي بمنزلة طوطم ينبغي الركوع له. إن هذه الشريحة هي الأكثر تأثيراً في التسويق "للعولمة" كونها تتمركز بشكل رئيسي بين المثقفين والمفكرين وبعض السياسيين المخفقين. وتتوفر لها الإمكانية من خلال وسائل الإعلام لنشر أفكارها.
لذا فإن نشر ثقافة ووعي مناهض للعولمة هو مسألة ضرورية مترافقاً مع طرح البدائل في مواجهة المشروع المتوحش لليبرالية الجديدة سواء على الصعيد العالمي أو على الصعيد المحلي.
************************
(1) قال الرئيس: «نحن اليوم في آونة فريدة واستثنائية. إن الأزمة في الخليج، مهما تكن خطيرة، تقدم أيضاً فرصة للتقدم نحو فترة تعاون تاريخية. فمن هذه الأوقات المضطربة، [ ... ] يمكن أن ينبثق نظام عالمي جديد: عصر جديد أكثر تحرراً من التهديد بالرعب، وأقوى في السعي وراء العدالة، واضمن في البحث عن السلام، عصر يمكن أن تزدهر فيه وتعيش في انسجام أمم العالم جميعها، في الشرق والغرب كما في الشمال والجنوب. مئة جيل بحثت عن طريق السلام هذا المتعذر إيجاده،في حين عاثت ألف حرب فساداً على امتداد المجهود البشري. وهذا العالم الجديد يكافح اليوم لكي يولد، عالم يحل فيه حكم القانون محل شريعة الغاب.عالم تقر فيه الأمم بالمسؤولية المشتركة عن الحرية والعدالة. عالم يحترم فيه الأقوياء الضعفاء» ـ صدام الهمجيات ـ جلبير الأشقر دار الطليعة بيروت ترجمة كميل داغر.
(2) المصدر نفسه.
(3) إن ابتعاد أجيال من الشبيبة عن النشاطات التي لها علاقة بالشأن العام، ظاهرة شبه عالمية، أخذت تتزايد منذ مطلع السبعينات، نتاج مجتمع الاستهلاك الذي أخذ بالاتساع على الصعيد العالمي. ولكنها على ساحتنا ترافقت مع عوامل أخرى، كان من أهمها: تغييب الديمقراطية ومصادرة الحريات.
*********
البديل