|
مأساة الفلسفة في العالم العربي
مولود مدي
(Mouloud Meddi)
الحوار المتمدن-العدد: 5606 - 2017 / 8 / 11 - 20:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
التاريخ مليء بالأمثلة التي تبين أن نهضة الأمم وتقدّم الشعوب لا تأتي إلا بعد حدوث ثورة فكرية قبل كل شيء، وأن الفكر والفلسفة بالتحديد عبارة عن محرّك النهضة والتنوير، فلولا فلسفة كانت، وشكّ ديكارت، ومنهج فرانسيس بيكون العلمي لمّا وصلت أوروبا إلى ما وصلت إليه حاليًا من تقدّم في جميع المجالات، وأن الفلسفة ترسم ملامح المنهج العلمي وتضع الأرضية الفكرية ثم تأتي العلوم الأخرى لكي تكمل مهمّتها في الشق التطبيقي، فتقدّم الشعوب ليس مرتبطًا فقط بعوامل اقتصادية وسياسية، بل ومرتبط أيضًا بمكانة الفلسفة في هذه الشعوب، فإن الدارس لتاريخ الأمم الحالية المتطوّرة يجد أن ما من عالم ساهم في نهضة هذه الأمم إلا وكان فيلسوفًا، لكن معضلة الشعوب العربية الحالية الغارقة في التخلّف من أعلى الرأس إلى أسفل القدمين، ترى أن الفلسفة عبارة عن علم لا ينفع وجدالات عقيمة لا فائدة منها، ولذلك يتم مقارنة الثرثرة والكلام الفارغ في هذه المجتمعات بالتفلسف، فيكفي فقط إلقاء نظرة على حال «أم العلوم» في المجتمعات العربية لنجد أن مادة الفلسفة أصبحت مادة ثانوية للحفظ فقط وهي آخر مادة يمكن للطالب العربي أن يفكّر فيها عوضًا من أن تكون الأداة التي تمنحه الحس النقدي وطريقة التفكير.
إن فقدان الفلسفة لقيمتها في العالم العربي منذ عصر الخليفة العبّاسي المأمون الذي تزامن حكمه مع صعود المعتزلة، كانت من أهم عوامل الانحطاط الحضاري العربي، فبعد أفول نجم المعتزلة ونهاية تأثير أفكارهم، أصبح الوعّاظ والقصّاصين هم أصحاب اليد العليا ومن هنا جاء الخلل، فغياب الفكر الفلسفي حرم العرب من توظيفه في تصحيح الكثير من الأفكار حول مسائل عديدة مثل الحكم وقضية الحريّة وغيرها، كما حرمهم من عملية نقد الموروث الديني الإسلامي الذي أصبحت الكثير من أفكاره البالية تشكّل واقعًا لا يتجزأ من حياة المسلم، وهذا ما سمح بفتح الأبواب على مصراعيها ليتقاتل العرب حول السلطة وليستعملوها لأغراضهم الشخصية، وبغياب الفكر الفلسفي النقدي تم تقوية شوكة الفقهاء الذين يبررون الاستبداد ويجعلون النقد رمزًا للكفر، وبعد ذلك غرق العالم العربي في مستنقع الطّائفية والإرهاب والتكالب الخارجي على ثرواته، وعندما غاب النشاط الفكري في المجتمعات العربية جاءت العشائرية والقبلية لتملأ الفراغ، فأصبح الإنسان العربي لا يرى نفسه مواطنًا ينتمي إلى الأرض التي نشأ فيها، و إنما أصبح يرى نفسه ممثّلًا كطائفة، ولهذا نشأت عقلية التصنيف والتقسيم على أسس طائفية دينية في هذه البلدان، فكانت النتيجة أن العربي أصبح يعادي نفسه أكثر من معاداته لغيره، ومن ثم تم إلغاء الفردية لتنتشر معها ثقافة القطيع التي لا همّ لها إلا اتباع القائد حتى وإن جرهم إلى الهاوية.
إن الفلسفة ضد التكرار والاجترار ولذلك عندما نجد إجابة لكل مشكلة فلسفية يظهر سؤال جديد ومشكلة فلسفية جديدة، ولهذا يقال إن في الفلسفة: الأسئلة أهمّ من الإجابات، لكن من معضلات العقل العربي أنه نشأ على الخوف من الأفكار الجديدة والمغايرة بل ومن السؤال، والتاريخ يؤكد ما نقوله، فتمّ تحريم الاشتغال بالفلسفة في العصر العبّاسي وبالضبط في عصر الخليفة العبّاسي «المتوكّل» الذي يرادف اسمه التخلّف واضمحلال الحضارة الإسلامية، وكذلك غلق باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي، وأن العربي نشأ على رؤية أحادية للأمور، وتربّى في أحضان الخوف من النقد، وكبر في ظل تكفير الرأي المخالف وعدم الاعتراف بالمخالف فكريًا ودينيًا، ولعل الكثيرون يتسائلون لماذا وصل الإنسان الأوروبي إلى هذا المستوى الحضاري المتقدم، ولم يصله الإنسان العربي بالرغم من الأفكار التنويرية التي يزخر بها مروروثه الفكري من المعتزلة إلى ابن رشد و ابن سينا وغيرهم؟، الجواب هو أن عصر التنوير الأوروبي الذي بدأ مع مقولة ديكارت المشهورة (أنا أفكّر إذن أنا موجود)، بدأ عندما تحرر العقل الأوروبي من المكبّلات الكهنوتية، ثم بدأ إنتاج هذا العقل البشري بالتواصل مع شرق الأرض ومغربها، عكس الواقع العربي الذي يسيطر عليه الكهنوت في جميع مناحي الحياة، فالكهنوت على عكس التفكير الفلسفي يرفض الجدال والتشكيك، ويقبل بالتسليم الجازم والثقة بالأشخاص عوضًا عن النظر في هل انطبق فكرهم على الواقع أم لا؟، كما يسارع إلى تقديم الإجابات السهلة والمعلّبة و يكثر من التفسيرات الغيبية على التفسيرات العلمية ويعشق ثقافة التقليد، كما يرفض هذا الكهنوت أي تواصل ثقافي مع الآخر ملغيًا مبدأ نسبية الأفكار وقابليتها للمناقشة،فأصبح النقاش عند الإنسان العربي مؤامرة بحدّ ذاتها.
إن التنوير ليس حكرًا على الغرب وفقط، لأن التنوير الأوروبي لم يكن معزولًا عن المجتمعات الأخرى، بل درس فكرها وفلسفتها، فالبداية كانت بإحياء الدراسات اللاتينية القديمة، ثم ترجمة أعمال الفلاسفة المسلمون، لكن العامل الذي صنع الفارق هو محاولة نقد هذه الأفكار ثم الزيادة عليها، ولذلك فشخصيات النهضة الأوروبية ليست من النوع المقلّد بل من النوع المبدع، حيث إنهم يطلقون العنان لعقولهم في قراءة العلوم المختلفة، ووضع التعديلات المناسبة عليها دون قيد أو شرط، وهذه هي سمة المجتمعات المتقدّمة بحيث تكون عندها الأفكار نسبية، فما هو صحيح اليوم قد يكون خاطئ غدًا، لكنها لم تصل إلى هذا المستوى إلا بعد مخاضات عسيرة و تضحيات دموية، والمجتمعات العربية بعيدة كل البعد عن هذا النضج، لأنها لم تمرّ بعد بتلك اللحظات الفكرية العسيرة ولم تدرك بأن هناك صدام بين الكثير من أفكارها والواقع، كما أن الشعوب العربية لا تزال مجتمعات لا تقرأ وليس لها أي إنتاج فكري بارز، كما أنها لا تزال تعشق التعلّق بالأشخاص، فالعربي اعتاد أن يحب أو يكره الأشخاص وليس أن يناقش أفكارهم، فالأصل أن نبحث عن النتيجة التي تؤدي إليها أفكار العلماء وليس البحث عن عيوبهم، أو معتقداتهم.
الإنسان العربي ليس مُلزَمًا أن يعطي للفلسفة أكثر مما تستحق وأن يرفعها فوق جميع العلوم لكي يصبح شخصًا متنوّرًا، فلكل علم قيمته وفائدته، فلولا الرياضيات، لما وصلت التكنولوجيا إلى ما وصلت إليه حاليًا، ولولا الطب لما استطاع الإنسان القضاء على أمراض كان يراها سابقًا مستحيلة العلاج، ولولا الكيمياء لما تقدّمت الصناعة البترولية، أما الفلسفة فهي تعلّم الإنسان كيف يفكّر وتأمره بألا يسلّم عقله للآخر ليفكّر عوضًا عنه، فلن يتمكن العربي من مبارحة هذا الدرك الأسفل من الحضارة إلا بنشر الفكر النقدي الذي يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة والصلاح.
#مولود_مدي (هاشتاغ)
Mouloud_Meddi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما لا تعرفه عن نظرية الانفجار الكبير
-
ملاحظات حول الماركسية
-
ملاحظات حول فكر المعتزلة
-
الاسلام السياسي هو من أدوات الامبريالية
-
هل السنّة هي من الوحي ؟
-
في الفصل بين الدعوة و السياسة .. النبي محمد نموذجاً
-
الجذور الاسلامية للعلمانية
-
تشوّه فكرة تأويل القرأن عند المسلمين
-
فصول من تاريخ الكذب على الرسول
-
قراءة في الأزمة القطرية السعودية
-
خدعة فهْم السلف
-
خطر الأحزاب الاسلاموية
-
الارهاب يكون بالكلمة قبل أن يكون بالسلاح
-
الصراع بين الأصولية و التنوير
-
النظرية العلمية و الأية القرأنية
-
اكذوبة الحديث هو المصدر الثاني للتشريع
-
عوائق تحرير العقل المسلم
-
ثنائية الكهنة و الاستبداد
-
أكذوبة لعن الله قوما حكمته أمرأة
-
الدين و الأخلاق
المزيد.....
-
ثوان فاصلة.. تسلسل زمني يكشف تفاصيل آخر محادثة قبل تصادم طائ
...
-
-مضادة للمدمرات-.. الحرس الثوري الإيراني يكشف عن مدينة صاروخ
...
-
من جنوب لبنان وزير دفاع إسرائيل يحذر خليفة نصرالله: لا تكرر
...
-
تشييع حسن نصر الله في 23 شباط.. ونعيم قاسم: قرارات حزب الله
...
-
نعيم قاسم: الدولة اللبنانية مسؤولة بشكل كامل لتتابع وتضغط من
...
-
العراق: البرلمان يتبنى تعديلا في الموازنة يسهل استئناف تصدير
...
-
ماجد سعيد ىخر مستجدات الوضع في الضفة الغربية
-
الذكريات قد تكون وراء إصابة الشخص بالسمنة
-
صحيفة تركية: إسرائيل تفقد ورقة -الكردستاني- بسوريا وتبحث عن
...
-
القناة 12 الإسرائيلية: نتنياهو أعاد تشكيل فريق المفاوضات لهذ
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|