لن نحاول هنا ان نتحدث عمن يعارض الهجوم المدمر الذي تنوي الولايات المتحدة شنه على العراق بل عن هؤلاء الذين ينوون التصفيق والترحيب بالحرب المدمرة. وهنا يدور التساؤل: من هي تلك الفئآت السياسية العراقية التي تساند وتدعم الهجوم العسكري الامريكي الذي يزعم انه سيكون ماحقاً وسريعاً؟ من "ينتشي طربا"ً لسماع قصص القصف والتهجير وسيناريوهات الاحتلال وطرق القتل ووسائل تدمير البنى التحتية والجسور ومنشآت تنقية المياه والكهرباء والطرق السريعة ووسائل النقل؟ من يقول: " لتدمر بغداد عن بكرة ابيها, المهم زوال صدام!!" ومن يقول:" الى جهنم, حتى لو يموت نصف مليون انسان"؟
من هؤلاء؟ ولم هم وحشيون الى هذه الدرجة الفظيعة؟ ماالذي يخرجهم عن آدميتهم ياترى؟ هل هو فعلاً "معاناتهم" من صدام ونظام البعث الى الدرجة التي يودوا معها رمي مئات الالاف من البشر تحت مرمى الصواريخ الامريكية ليتخلصوا من "الطاغية"؟ ام ان هناك اسباب اخرى حقيقية كامنة وراء تلك المواقف اليمينية؟ ماهي تلك الاسباب؟ ماهي دوافع هؤلاء؟
قبل الجواب على هذا التساؤل علينا ان نتذكر ان الحرب المقررة على العراق لا تمتلك بعداً محليا او اقليمياً شرق اوسطياً ولا حتى قارياً فحسب, بل انها تمتلك بعداً عالمياً شاملاً. وهي تقترن كما هو معروف بمجمل سياسية الولايات المتحدة الخارجية المعروفة بـ" النظام العالمي الجديد" والتي بدأت تمارس فعلياً مع انهيار القطب الآخر" المعسكر الشرقي" اوائل تسعينات القرن المنصرم. وما سياسية "الضربة الوقائية" او "الحرب على الارهاب" او "محور الشر" وغيرها من المقولات الا تجسيدات موضعية لتلك الاستراتيجية. وعليه, فان هذه الحرب التي يتوقع ان تكون اكبر كارثة يحدثها الجيش الامريكي في التاريخ على الاطلاق, لن تقتصر نتائجها وآثارها على جماهير العراق وحدهم كما ولن تقتصر على سكان الشرق الاوسط بل ستشمل العالم برمته. هذا ما كان واضحاً كل الوضوح اثر العمليات الارهابية للاسلام السياسي في 11 ايلول وما جرت من مواجهات دموية رجعية بين" الوحوش" السياسية عديمي الرحمة, حبست انفاس مليارات البشر في كل قارات الارض. ومن هنا يمكن ان نفهم بان السياسية الامريكية اليمينية المتطرفة تجد " انعكاسات اقليمية" لها على قوى سياسية متعددة. ففي حين بات واضحاً جداً وبلا ادنى شك ان البشرية المتحضرة في كل انحاء العالم وخصوصاً في اوربا والغرب ترفض هذه الحرب الامريكية رفضا قاطعاً معربةً ضمناً عن رفضها لمجمل منهج الهيمنة الامريكي, الا ان اليمين المتطرف الرجعي يؤيد هذه الحرب ليس في امريكا فقط, بل في العديد من الدول. ذلك يشمل بالطبع القوى السياسية البرجوازية العراقية المعارضة كما يشمل الحكومة الاسرائيلية مثلاً والعديد من الحكومات الاوربية بخلاف شعوبها. ان شعوب العالم بشكل عام تميل الآن نحو اليسار اكثر من اي وقت مضى وتمضي جبهتها في التصلب والتماسك مع تصلب مواقف اليمين الحاكم ومؤسساته الرجعية وتزايد مظاهر الاستعراضية العسكرية والتهديد بالدمار الماحق. وقد عبرت جماهير العالم عن ذلك الميل, ليس السلمي فقط, وانما " اليساري" بجلاء بخروجها المدوي بالملايين معلنة رفضها القاطع واستنكارها لهذه الحرب.
من هنا ندرك بان ما يسمى بالمعارضة العراقية والتي تؤيد علناً الحرب الامريكية ضد العراق مستعملة نفس الذرائع الامريكية, تشترك في الواقع مع " اليمين الامريكي الحاكم" في مشروعه الستراتيجي: اي الهيمنة السياسية والعسكرية المطلقة للولايات المتحدة على مقدرات العالم, والمنع الحازم لاي اعادة تشكل جديد " لعالم ثنائي" او " متعدد الاقطاب". وهذه ليست مفارقة. ففي خضم المواجهة السياسية الدائرة حالياً بين القطبين الاكثر رجعية في العالم: الولايات المتحدة والاسلام " العالمي" السياسي, ساد الاتجاه اليميني الرجعي و"صعدت" الى سدة الحكم في العديد من دول العالم هيئآت حاكمة مغرقة في الرجعية وموالاةً للسياسة الامريكية. هنا نجد موضع البرجوازية العراقية اليمينية والتي كمنت طويلاً لتجد في الاجواء السياسية لعالم ما بعد 11 ايلول بوادر توحي بتجدد آمالها في احتمال "صعودها" هي الاخرى واعتلائها سدة الحكم في العراق. ان المعارضة البرجوازية العراقية , وبكل فصائلها الرجعية من قومية: عربية وكردية وتركمانية وآثورية الى الاسلامية وبكل مللها, تؤيد, وبقوة تنافس رغبة جورج بوش نفسه, الهجوم على العراق وتحويله الى ركام. هذه القوى هي " التموضع" العراقي لليمين السياسي الامريكي-الكوني. ولان هؤلاء اليمينيون العراقيون يجدون ضالتهم المناسبة في رغبتهم بتهديم واحداً من اهم اعمدة الهيكل القومي العروبي (نظام صدام حسين الدموي) الآيلة للسقوط والذي بدا يتصدع وبقوة بعد زلزال انهيار" القطب الشرقي", فان مشروعهم باسقاط صدام لا علاقة حقيقية له بما يحدث الآن حول العراق. ان موقفهم من " تحرير العراق" و"انهاء الدكتاتورية البغيضة" و" بناء الديمقراطية" وغيرها.. من الدعايات, يصب حقيقةً في خدمة جهازالدعاية الحربية للولايات المتحدة ولا علاقة له بما سيجري فعلياً على ارض الواقع. انهم يقومون بــ"بروباكاندا مجانية" للادارة الامريكية في حملتها العسكرية للتدمير ولتحدي الجماهير المتحضرة في العالم اجمع. وان صادف ان المستهدف من التهديدات الحالية هو نفسه "مشروعهم السياسي" اي السلطة في العراق, الا ان من المرجح انهم كانوا سيقومون بذات الشئ في كل الاحوال حتى وان كانت الحملة الامريكية موجهة ضد دولة اخرى. اذن, ان من يؤيد الحرب على العراق هم " اصحاب المشروع السياسي البرجوازي اليميني العراقي", ومن بداهة القول ان جماهير العراق ومصالحها ورفاهها ومعاناتها وخوفها وعذاباتها وآلامها هي " مفردات اجنبية" عليهم لانها لغة "الناس" وليست لغة بوش والادارة الامريكية. بل الاكثر من ذلك انها لغة " اليســار" الذي يمقتونه اكثر من اي قوة اخرى لانه الوحيد القادر على فضحهم لا " لعمالتهم للامريكان" فذلك لم يعد مهماً لديهم بعد الآن, بل فضح يمينيتهم السياسية المعادية للجماهير والتصدي لها, وهو ما سيقضي حتماً على مشروعهم.
أن الحرب التي تنوي امريكا شنها سترجع هذه المرة, ليس العراق فقط , (كما صرح جيمس بيكر قبيل عاصفة الصحراء) الى العصر ما قبل الصناعي, بل سترجع العالم برمته الى تلك الفترات المظلمة. واذا شنت تلك الحرب ودمر العراق ستكون الولايات المتحدة هي الدولة التي لن يكون بمقدور احد بعدها التنفس دون موافقتها, ستحقق هذه الحرب لامريكا السيادة المطلقة على البشرية مطيحة بآمال سكان الارض بتحقيق عالم افضل واكثر انسانية.
يجب ان نوقف هذه الحرب باي ثمن.
يجب انقاذ البشرية من انياب الراسمالية الامريكية.
يجب انقاذ جماهير العراق من الدمار والموت.
يجب منع هيروشيما وناكازاكي اخرى في العراق.