|
انتخاب الصورة الواقعية وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض في قصيدة * السماءُ لمْ تَزل زرقاء * للشاعر العراقي شلال عنوز
سعدي عبد الكريم
الحوار المتمدن-العدد: 5587 - 2017 / 7 / 21 - 09:28
المحور:
الادب والفن
انتخاب الصورة الواقعية وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض في قصيدة * السماءُ لمْ تَزل زرقاء * للشاعر العراقي شلال عنوز
سعدي عبد الكريم / ناقد وسينارست
*دراسة نقدية*
يـُعدُ المنتج الأدبي بجلّ تصانيفه المعرفية، من أهم الركائز التي تعتمد عليها شريحة واسعة من المثقفين، والأدباء في عملية الارتقاء بالذائقة الجمالية الجمعية، وهي بالتالي مخاض نجيب يُنجِبُ ولاداته داخل ذاكرة زمكانية التدوين، وببواعث لا تخرج عن قصدية الوعي الإنساني، بمعنى أن حالة التدوين بجل مخاصبها الأديبة، والفنية، والأسلوبية، هي بإجمالها متأتية من الملهمات الواقعية، أو النزعات المخيالية، أو المراصد التاريخية، لتستوطن داخل ذاكرة التلقي، لتحيل بدورها ذلك المنتج الأدبي الى ملاحق الاستقراء، والتفسير، والتحليل، والتأويل باعتبارها مدونة مقروءة، أو مسموعة، أو مرئية، ومرجع هذا يعود لاعتبارات مرجعية فكرية عديدة، ولثوابت متأصلة في جسد النص، وداخل منظومة فحواه القصدية، وعلاقاته المرتبطة بوعي الكاتب أولا، وبأطر الاشتغالات الفنية للنص المرتبطة ارتباطا وثيقا بالواقع المجتمعي المعاش، والوعي الكامن في ذاكرة الأديب، ودائرة التلقي.
ولعل من بين الأجناس الأدبية التي يمكن لها استثارة، وتنشيط ذاكرة المتلقي، هي قصيدة النثر التي بدأنا بالكتابة النقدية عنها منذ أبان أوائل السبعينات من القرن الفائت، لأنها من الأجناس الشعرية التي يمكن معها بث معطيات التحريض بقصدية فاعلة في ذاكرة التلقي، عبر مفردات الصور الشعرية الواقعية، لتُحال الى منصة القراءة التحليلية للنص، للحصول على منافع تحريضية، لفتح نوافذ أستشرافية يوعز لها الشاعر بالولوج الى خبايا الواقع المعاش، وفضح حيثياته المفجعة، للوصول الى المبتغى الأنجع في ملحمة التغيير.
ومن اجل إيضاح تطور المراحل التاريخية لقصيدة النثر التي بدأت مع بدايات القرن العشرين, حيث كان لزاما على الثقافة، والأدب العربي الولوج الى عوالم الأدب العالمي والانصهار داخل بوتقته المعافاة، لإحداث جلّ تلك المتغيرات الحاصلة في معمارية كتابة القصيدة الحديثة، وبالتالي لإيجاد طريقة معرفية سريعة وناجحة لتبادل الخبرات، والمثاقفة بين الأدباء أنفسهم، وبين تجارب الشعوب في ظل تسارع خطى الحركة الأدبية العربية للانخراط في فسحات هذه الثقافات المعرفية الواردة، والتي أسست لذاتها منشئ جديد في تداول الخطاب الشعري، وقد كان للبعثات الدراسية الى أوربا الأثر الكبير في نشر الوعي الذاتي، والجمعي، داخل مفردات التفاعل من خلال تلك المسميات التي تبدو دخيلة على عوالمنا الأدبية رغم أن الشعر العربي القديم كانت له الحظوة الكبرى، والريادة في تعليم البشرية كيف ينظم الشعر، وكيف تكون له هيبته الاستقبالية من خلال المستشرقين، ولكن الحديث هنا عن جملة من المسميات الفنية، والأدبية الحداثوية الواردة على الأدب العربي، وجديدة أيضا على مساحات التلقي، مثل فن المسرح، والفن التشكيلي، والقصة الحديثة، وقصيدة الشعر الحر، وقصيدة النثر، وقد انخرط العديد من الأدباء والفنانين في الاشتغال الأكاديمي ضمن تلك المسميات المعرفية، وأسسوا لهم قاعدة رائدة وحقيقية وتكاد تكون مستقلة بذاتها عن موردها الأوربي، إلا قصيدة النثر، فقد بدت وكأنها الوليد الغير شرعي للشعر، وللثقافة، والأدب العربي، على اعتبار أنها خرجت عن طوق النظام الشعري الخليلي، وأحالت عروضيته للهدم، ولأنها أيضا مثال ثقافي مستورد، ورغم كل ذلك الكم من الانتقاد، فقد نجحت (قصيدة النثر) في شق طريقها عبر أسماء كبار الشعراء العرب منذ العقد الأوسط من القرن المنصرم، لينشئوا لهم مملكتهم الشعرية النثرية الرائدة، التي ابتعدت عن نهج القصيدة الأوربية، وصاغت لذاتها معمارية داخلية، وخارجية عبر اللغة، والصورة، والموسيقى، والإيقاع، وجملة من القواعد التي التزمت بها ومن ثم أضافت لجسدها المؤسساتي معالم استثمارها للتراث، والتاريخ، والأسطورة، وغيرها من المحاذيات الجمالية الأخرى، حتى أخذت لها شكلا معماريا حداثويا، تنافس فيها القصيدة الأوربية، لأنها تربت ومنذ نشأتها الأولى بين أحضان أمنية، ومع عقول كبيرة لمجموعة من كبار الشعراء العرب.
لقد حاولت قصيدة النثر العربية ومنذ نشأتها أن تشتغل على مواطن ومعالم معرفية، وجمالية، وفنية ذات أصول عربية، وإنتمائية للواقع العربي، وتجسيد ميلها الثابت والمنحاز الى الشعوب المعدمة، والمظلومة، ولقد بان ذلك جليّا في معظم قصائد جيل الرواد، والجيل الثاني الى إثبات نسبها الأصيل في نصرة الشعوب المضطهدة، وبث مقاصد التحريض عبر النص الشعري للحصول على اكبر قدر ممكن من التفاعل الجماهيري مع النص الشعري، وصولا لعتبات التغيير.
ولو تابعنا زمكانية ولادة مصطلح قصيدة النثر وخصائصها الفنية في الأدب العربي، لوجدنا بأنها ولدت كنص شعري في أواسط الخمسينات، وعُرفت حينها على أنها جنس فني أدبي يأخذ على عاتقه التعبير الشعري عبر اللغة النثرية، لإعادة الروح الى الغايات السامية للتعبير، ويأتي هذا المتغير المواقفي من خلال جملة من التجارب الذاتية، والجمعية، والواقعية، والخيالية للشعراء، وبالتالي هي مشروع دائم للتعبير عن هواجس الشاعر، وارتياباته، وخوفه مما يحصل من دمار من حوله من جراء الحروب الطاحنة المتتالية، والوضع الكلي المأزوم، ومن اجل إيجاد لغة شعرية تستطيع كسر الحواجز القديمة، لتدلف الى عقل المتلقي، والولوج الى حاضرة النزف اليومي، لسرد الحقائق الواقعية بلغة مشفرة تارة، وصادمة تارة، وتارة بلغة تحريضية قصدية ابتغاء الوصول الى معنى التغيير الحقيقي في العقل الجمعي.
ونعتقد بأن ظهور قصيدة النثر جاء للدلالة على إمكان ظهور نسق شعري تعبيري جديد وكبديل أيضا لإشكال شعرية ظهرت في أوائل الخمسينات، كالنثر الشعري، والشعر المنثور، وقصيدة الشعر الحر التي نعتبرها وعلى ضوء رؤيتنا النقدية، بأنها الشرارة الأولى التي أُعلن فيها عن التمرد على قصيدة القريض، أو العمود القديمة، والخروج عن قواعد العروض الخليلية، وما تبعه من ظهور أشكال حداثوية شعرية جديدة كقصيدة النثر، ولهذا الجنس الشعري الحديث مزايا، ومعايير، وعناصر، ومعطيات، وضوابط عديدة يمكن لنا إجمالها بالتالي:-
1- غلق الفواصل، وتقريب المسافات بين الشعر بعمومه، وقصيدة النثر، بعد تحررها من نظام الخليلي المقيد لحريتها في تأثيث مشهدها الشعري، وتشكيل صورتها الشعرية الجديدة. 2- التماس الفحوى في الانفصال عن الموروث، والبحث الجديّ عنما هو جديد، لما يتم تجاوزه من نظم شعرية قديمة، وإنعاش أجواء القصيدة بنفس شعري نثري. 3- التوائم بين الحداثة الشعرية العربية، والغربية عبر ترجمة أعمال العديد من الشعراء العرب الى العديد من اللغات العالمية. 4- الخروج عن حالات السكون، والانطلاق صوب صياغة نص نثري حداثوي منسجم مع عوالمه الواقعية، والتاريخية، والمُنتجة من خلال مرايا الحلم في التغيير، ذلك الحلم الأزلي المنعكسة صورته بجدلية وعيوية عالية على مشاهد الفوضى العامة، التي تحيط بالواقع، وبذات الشاعر. 5- اعتماد قصيدة النثر على جملة من المعطيات الإنسانية، الوجدانية منها، والخيالية، والواقعية التي يخوض غمراها الشاعر، لذلك فهي، منهج شكلي، ووظيفة وصفية، تعبيرية سردية تأخذ على عاتقها المثول أمام التأمل، والمناجاة، وتنشيط المنحى الانفعالي والتحريضي. إن قصيدة النثر ووفق هذه الضوابط لا يجوز لها الاختباء، أو العزلة خلف مصنفات الأشكال الشعرية الأخرى، بل على العكس، فهي تبحث لها عن شكل جديد لها، ومستقل بها، لتشكل الهيمنة الحيوية المعنى على اللفظة، والجملة، والصورة الشعرية المستقاة من الواقع اليومي المعاش، لإحالة النص الشعري النثري لـ(منصات التلقي).
ولا بد لنا هنا، من الوقوف بعناية إزاء المصطلح الحديث (نظرية التلقي) (Reception theory) هذه النظرية التي استمدت أصولها الأولية من الفلسفة الظاهراتية، وأصبح المنظور الذاتي هو المنطلق في التحديد الموضوعي، ولا سبيل إلى الإدراك والتصور الموضوعي خارج نطاق الذات المدركة، ولا وجود للظاهرة خارج الذات المدركة لها.
وتطورت نظرية التلقي على يد منظرين مثل (هانز روبرت جوس) و(لفنجانج أيزر) وكلاهما أستاذ بجامعة كونستانس في ألمانيا.
إن ثمة خط متوازي يمكن أن يتوافر بين نظرية المنفعة، والبهجة، ونظرية التلقي بصيرورتها التنظيرية، حيث طور بعض مُنظري وسائل الإعلام مفهوم المنفعة والبهجة، والذي لا يركز بالكلية على تأثير وسائل الإعلام على الأفراد بل أيضاً على طريقة الاستخدام لهذه الوسائل وعلى المتعة التي يحصلون عليها من هذه الوسائل الإعلامية.
لقد سعت نظرية التلقي في مجمل أهدافها، إلى إشراك واسع وفعلي للمتلقي بغية تطوير ذائقته الجمالية، من خلال التواصل الحثيث مع النصوص، لأن حضور (المتلقي) أصبح واقعيا، وفاعلا في جسد النص، فانتقل من دور المستهلك للنص، إلى مرتبة الراصد، والشريك، والمحاور، والمُفسر الذي يحق له إسقاط الحشو والتركيبات اللغوية الفائضة عن سياق النص، وأنا شخصياً منحاز بدرجة عالية الى هذه الظاهرة، واعتبرها حالة صحية، ومعافاة بين النص الشعري النثري، وبين ذاكرة الإنصات لدى المتلقي، والتي طالما انحازت إليها مظاهر الاستجابة، لغرض المفاضلة بين جودة النص من حيث، تركيباته اللغوية، وأشكاله الصورية، ومعاييره الفنية، وأطروحات ثيمته، لفزر مناطق الجمال، والقبح من النص، وبذلك يكون المتلقي عنصراً مشاركا، وفاعلا في نقد النص، وإحالته الى مناطق القراءة المجاورة، باعتباره المُتسيد على خارطة الاستقبال التفاضلية لإثبات هويته النقدية.
وبذات الصدد يقول (نورمان هولاند فيرى) :-
*إن قراءة القارئ للنص إنما هي قراءة لهويته هو، أن القارئ يضم خيوط هويته فينسجها خلال استجابته للعناصر التي يتكون منها النص، فالنص إذن .. يعيش تحت سلطة القارئ، ووعيه أكثر مما ينعم بالحياة والراحة لدى كاتبه*.
ونستشف من خلال هذا التبيان التنظيري، بأن المتلقي هو عين الكاتب الفاحصة، لإثبات هويته التحليلية، والتفسيرية للنص، وبالتالي فهو الطرف الثالث الأهم من بين العناصر التي تقوم عليها نظرية التلقي (المرسل+الرسالة+المتلقي) ومن خلال هذه الثلاثية المهمة التي تتناوب على انتقال النص، من حالة الركود المكتوب، الى حالة الإرسال البثي، المتحرك، الى حالة التلقي الفاحص للنص، وبذا تكون عملية التلقي هي المعين الأمثل، والصائب، في تحقيق الاستجابة الفضلى للنص الشعري من قبل شريحة عريضة من المتلقين.
إن العلاقة المتوائمة بين الشاعر، وبين ملاحق التلقي، هي علاقة ذات منافع تبادلية، لاستحضار قصدية التحريض عبر حضور الصور المنقولة من الواقع هي امتداد علامات علائقية وشيجة، وفاعلة في جسد البث الشعري، باتجاه التغيير، ولعل الشعر العربي المعاصر اهتم كثيرا بقضايا الثورة، والتحريض عليها من خلال استعراض صور الفواجع الواقعية اليومية التي تتعرض لها البشرية.
وعلينا التأكيد هنا بأن الشعر هو نتاج معرفي، وأدبي، وأنساني، وأخلاقي يفصح عن مديات اتصاله بذاكرة التلقي الجمعية، ليوصلها الى مشارف اليقظة من خلال نقل الصور الواقعية الصادقة، واستثمار قصدية التحريض على السائد، والمألوف، لإمتحان تلك الذاكرة على مدى تخليها عن ضعفها، وسباتها، للنهوض، واعتلاء ناصية التغيير، والثورة على الظلم، والاستبداد المهيمن على العقل العربي، وعلى المجسات الفكرية، والوعيوية، والإنسانية، وبذات زمن البوح الشعري، لكن النص الشعري من خلال بوح الشاعر لا يدعو الى العنف، والدموية، بل هو مناصر لقضية التغيير عبر ملاحق التحريض السلمية وفق معايير فهمية، ووعيوية، وفكرية عالية، فالشاعر موقف، وهو ثائر بطبعه الناشئ من تراكمات الواقع المعاش المرير، ويذكرنا هذا النمط التحريضي بالشاعر محمود درويش بقصيدته الخالدة (خطاب الدكتاتور الأخير) وما أنتج البيت المشهور لأبي القاسم الشابي من تحريض على الثورة التونسية في تاريخنا العربي المعاصر حيث يقول:- إذا الشعب يوماً أراد الحياة * فلا بد ان يستجيب القدر
وثمة العديد من الشعراء العرب أسسوا لهذا النهج التحريضي بقصائدهم الموزعة على خارطة الهم، والفجع، والأسى العربي، أمثال شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، وحافظ إبراهيم، واحمد شوقي وغيرهم من الشعراء المعاصرين.
ولو تتبعنا خطى النص النثري العربي من خلال رصده للصورة الواقعية، وامتزاجها بالملهم الشعري التحريضي القصدي المؤثر في وجدان ذاكرة التلقي، لوجدنا العديد من الأصوات الشعرية التي نهجت ذات النهج للوصول الى حالات التغيير المجتمعية الفضلى، ومن شعراء قصيدة النثر الذين احتلوا موقعا مائزا في التصدي لهذه المهمة التحريضية المنتقاة عبر تصوير الواقع والتي أخذت قصائدهم الحيز الكبير في تأثيث ذلك الجهد التحريضي المنعش لذاكرة التلقي، وصولا لملامح التغيير، أمثال أمل دنقل، وعبد الوهاب البياتي، واحمد مطر، ومظفر النواب، ونزار قباني الذي يقول في إحدى قصائده:-
مواطنون دونما وطن مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن مسافرون دون أوراق .... وموتى دونما كفن نحن بغايا العصر كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن. والذي ذهب إليه محمد الماغوط في قصيدته الموسومة (مسافر عربي في محطات الفضاء) حيث يقول فيها:- أيها العلماء والفنيون أعطوني بطاقة سفر إلى السماء فأنا موفد من قبل بلادي الحزينة باسم أراملها وشيوخها وأطفالها كي تعطوني بطاقة مجانية إلى السماء ففي راحتي بدل النقود ..."دموع" لا مكان لي ؟ ضعوني في مؤخرة العربة على ظهرها فأنا قروي ومعتاد على ذلك لن اؤذي نجمة ولن اسيء الى سحابة كل ما أريده هو الوصول بأقصى سرعة الى السماء لأضع السوط في قبضة الله لعله يحرضنا على الثورة ! وهذا الأنموذج (الماغوطي) الذي نرى من خلاله النتاج الشعري التحريضي في قصيدة النثر العربية التي امتازت ببث الملامح التحريضية الثورية عبر رصد صورة الواقع المرير، والتي تعبر وبامتياز عن الحالة الكلية المتردية، فالشاعر منطقة فائرة، وهو عصارة مخاض أمته، ومجتمعه، فهو المبصر، والمصور البيلوغرافي للحدث اليومي الواقعي، للزمن، والمكان، والتاريخ، لرصد حركة التمايل الحاصل بين الطبقة المسحوقة من جهة، وبين طبقة النبلاء، والحكام من جهة ثالثة، وهو الذي يعبر عن المكبوتات في الضمير الجمعي.
ومن بواعث التحريض في الشعر العربي القديم، روى أبو العباس المبرد في الكامل، قال دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي (ابو العباس السفاح) وقد أجلس ثمانين من بني أمية على سمط الطعام فأنشده قائلاً:-
أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس طلبوا وتر هاشم و شفوها بعد ميل من الزمان و يأس لا تقيلن عبد شمس عثارا و اقطعن كل رقلة و أواسي ذلها أظهر التودد منها و بها منكم كحز المواسي و لقد غاظني و غاظ سوائي قربها من نمارق و كراسي أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهوان و الإنعاس و اذكرا مصرع الحسين و زيد و قتلا بجانب المهراس
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد وبسطت البسط عليهم و جلس عليها ودعا، وفي رواية لأبي الفرج الأصفهاني انه لما سمع هذه القصيدة تغير لون أبي العباس، وأخذه زمع، ورعدة، فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى آخر فيهم كان إلى جانبه فقال (قتلنا والله العبد) فأقبل أبو العباس عليهم فقال يا بني الزواني، لا أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا وأنتم أحياء تتلذذون في الدنيا، خذوهم، فأخذتهم الخراسانية فأهمدوا، إلا ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فإنه استجار بداود بن علي وقال إن أبي لم يكن كآبائهم.
ومرجعية استهلالنا النقدي هذا، يعطينا الجواز بالمرور للحديث عن موسوم دراستنا النقدية (انتخاب الصورة الواقعية .. وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض) التي اخترنا عنوانها وفق رؤيتنا النقدية التي تحاور مستترات النص، ومخبوءاته الواقعية، والرمزية، لأننا نجد بان مواعيد انتخاب الصورة الشعرية الواقعية، وتحميلها مهمات وعيوية، تدعو للتحريض، باعتباره المهماز النسقي التراتبي الذي يهدف للوصل لحالات التغيير الجذري.
ونحن نعتقد بأن الشاعر العراقي (شلال عنوز) من بين أفضل الشعراء العراقيين، والعرب، الذين اشتغلوا على هذه المنطقة المعارضاتية، والوجدانية، والإنسانية، والأخلاقية، والإنتمائية، الحساسة والمفعمة بالحياة، والوعي الذاتي، والمتوازنة مع تلك التراتبية الزمكانية المفجعة، التي استطاع أن يحولها (الشاعر) الى مرجع استدراجي للعقل الجمعي، ليستقي منه الامتثال الى حيازات التحريض عبر انتخاب صوره الشعرية الواقعية المؤلمة، ولغته الفائقة الجودة، وإيقاعه الموزون، وموسيقاه الداخلية الراقية، وفحولة تصويره الحقيقي لفواجعية واقعه المؤلم، والاشتغال على منطقة التحريض، للوصول الى حالة التطهير الجمعي، وابتغاء حالة التغيير.
إن النص الشعري النثري في خارطة الشاعر العراقي الملهم (شلال عنوز) الوجدانية، يعتمد على جملة من المحفزات الذهنية التثويرة، التي تستطيع أن تخلق حالة من التهيب لاستقبال ما تجود به قريحته التصويرية الشعرية، حيث يتماهى (الدايوك الشعري) في نصه الشعري ليشعرنا بأننا إزاء ملحمة شعرية مأساوية تأخذنا حيث الجانب الأخر لمصب النهر، لكي نقف إزاء نصه (السماء لم تزل زرقاء) بإجلال، ومن اجل أن نخوض معه حيثيات تلك الفواجع كمتلقين، لنختار من خلالها وسيلة للخلاص من هذا الدمار البشري، والخراب الوعيوي.
إن جلّ التثويرات التي استثمرها (الشاعر) في قصيدته، هي مُستلة من الصورة الواقعية اليومية، فهو يبحث في نصه النثري الشعري الباذخ التصوير، عن مخبوءاته التثويرية، ومحفزاته الوجدانية العالية التي تضمر في داخلها ذلك الألم المرير، وتلك المأساة القاتلة، وفواجعية تلك المشاهد الواقعية، والمعالم المتردية في رصده للمشهد اليومي المجتمعي المعاش، لينسج من خلالها نصه النثري الذي يُعول عليه كثيرا في تنشيط ذاكرة الإنصات بقصدية الاشتغال على منطقة التحريض بفعالية مثالية، وطرائزية متجددة، لتتفاعل مع حاضرة دائرة التلقي، ليحليها بجملتها الى بواتق ذات مجسات نفعية، وتغيرية مستقبلية، فـالشاعر (معارض كبير) لما يحدث من حوله من خيبات أمل، ليشير عبر قصيدته الفائقة البنائية اللغوية، والتأثيث الشعري، والصورة الواقعية، وجمالية بثها، التي تحمل بين طياتها ذلك الألم، والحزن الذي يعيشه الشاعر، ويُكنه في ذاته المستنفرة، من خلال محيطه الخارجي، ويبرهن بقوة على أن للقصيدة فعل التحاور مع العقل الجمعي ليصار الى موائمة ناشطة بين النص، وبين محاور التلقي، لذا نجده يلجأ الى رصد الظاهرة الصورية الواقعية بعناية مجردة من الإملاء عليه من الخيال، لكنه يرصدها من الخارج، ويصورها من الداخل، حيث نجد في عملية تطور سرده الشعري ذلك النزف المبطن يصدح بصوت عراقي نبيل، ونجيب، ليكون الفعل الشعري البثي المتساوق من خلالها مؤثرا في تشكيل مترادفات الصورة الواقعية الشعرية لتوصيل فكرته التحريضية القصدية لأوسع شريحة نخبوية، وشعبية، من اجل نشر الوعي اللّحظي، والمستقبلي عبر صوره الشعرية الواقعية اللامعة، والموجعة في آن واحد.
ولعل من أهم الخصائص الذي امتاز بها الشاعر العراقي (شلال عنوز) في قصيدته الباذخة الجمال الموسومة ( السماء لم تزل زرقاء) هو ما يترتب على (ما بعد النص) من إجراءات استقبالية، وإجراءات نوعية، للوصول الى عنصر التأكيد على مراده التحريضي في إنعاش الفحوى البنائية للنص، وبالتالي لتحويله الى إيقونة مضيئة يستظل بها من يعيش داخل منطقة العتمة، ليأخذ ببصيرتهم صوب توهج الفكرة، من خلال لغته الفحولية، وانتخاب صوره الواقعية المبنية بعانية تركيبية باهرة، وكأننا نشاهد فيلما وثائقياً يشير الى مدى الخرائبية التي يزخ تحت نيرها المجتمع العراقي،من حروب طاحنه، وخرائبية مشتعلة، ودمار في النفوس، وتهديم للإنسانية ، وانعدام الأخلاق، وفساد الذمم.
أنه (نص شعري) بالغ الأهمية في تشييد مملكة من الاعتراض، على ما هو سائد في حاضرة اللحظة، وهي أيضا يافطة ذات منافع تحريضية تلامس شغف التغيير في العقل الجمعي
لقد اعتمد الشاعر العراقي (شلال عنوز) في بنائية قصيدته الموسومة (السماء لم تزل زرقاء) على جملة من المعايير المنضبطة لتأسيس ملحمته الشعرية، وعلى النحو التالي:-
1- انتخاب الصورة الواقعية وتجسيدها بفاعلية تلامس ذاكرة التلقي، والوعي الجمعي. 2- قصدية الاشتغال على مناطق التحريض. 3- استثمار المعنى، للانفتاح على مكامن الثيمة. 4- بث روح التعاطف الجمعي مع النص. 5- سبر أغوار الواقع المزري. 6- الاستفادة القصوى من تصوير المشهد الفواجعي. 7- الإحاطة بالمسببات، وصولا للسبب. 8- تعيين الشريحة المستهدفة في النص. 9- الاعتناء بالبنية الصورية الذاتية، والجمعية. 10- إحداث عملية التوازن بين النص، والواقع المعاش. 11- استثمار الأنموذج الخيالي. 12- مدّ جسور التلاقي بين التحريض في النص، وبين المتلقي. 13- المعارضة الشعرية الجلّية، الفاضحة للزيف السياسي، والديني في حيثيات ثيمة النص. 14- إظهار الذات المأزومة من خلال البث الشعري. 15- الاعتماد على الخزين المشاهداتي اليومي في رصد الظواهر المبثوثة في النص. 16- خلق الصورة الشعرية المبتكرة. 17- الوصول الى حالة الإبهار في تأثيث الصورة الشعرية. 18- استخدام لغة سلسلة تستطيع الوصول الى قدر كبير من الشرائح الاجتماعية المتلقية. 19- التنفيس عن غضب، واعتراض، واحتجاج الشاعر عبر النص الشعري، على الحالة المزرية التي يعيشها كإنسان داخل وطنه. والحالة العامة المتردية لوطنه. 20- الاعتناء في اختيار اللفظة، والجملة الشعرية، ورصانة لغة النص بالكلية جاءت متطابقة مع الحس الوجداني الشاعر.
ومن خلال ما تقدم من المعايير التي اعتمدها الشاعر (شلال عنوز) في تأثيث قصيدته (السماء لم تزل زرقاء) علينا هنا الولوج الى متداخلات النص، وسبر أغوار بنائية الصورة الواقعية، للوقوف على ذلك التفاعل الوجداني الحاصل بين النص الشعري النثري، باعتباره الأداة الباثة لذلك الهّم الجمعي، وبين المتلقي، باعتباره المستقبل الأثير لتفسير تلك المحفزات، التي يكتنز به النص.
وكان لزاما علينا ومن وجهة النظر النقدية، أن نجزأ النص بكليته، الى مقاطع من اجل صياغة ملاحق التحليل، والتفسير وإحالتها بالجملة الى مناطق التأويل، من اجل انتفاع المتلقي من جدولة مراصد النص وحيثياته، وللولوج الى منصاته الاستقبالية، لقد استهل الشاعر الملهم (شلال عنوز) من قصيدته بالمقطع التالي:-
الريح مُتخمة بالوباء تراود الفرح عن سرّه تستبيح عفافه قدّت قميصه من وجعٍ من قحط ٍ شهد شاهدٌ من محنتها فقدَ عُذريته صبيحة يومٍ ثملٍ برذاذ النوائب الفرح العاهر مازال مدنّساً بخطايا التشتّت أكاذيبِ مشعوذي (الدين( هو فاسقٌ ايضا نام ليلَهُ بحضنِ زُناة الوطن
ولو امسكنا بتلابيب الخيط الأول من المقطع الاستهلالي للقصيدة، لوجدنا بأن (الشاعر) ومنذ بداية ولوجه لخبايا النص أسس لذاته منفذا خرائبيا للولوج الى وجعه اليومي فـ(الريح مُتخمة بالوباء) وهذا الاستهلال ينبئ الى ما ستؤول إليه الأحداث عبر القصيدة، وهذا الوباء الذي تنقله الريح ينتقل بضرورة فعل العدوى الى كل ما هو جميل، فالريح التي تحمل الوباء (تراود الفرح عن سرّه) و(تستبيح عفافه).
إذن (الوباء) لم يكن مرضا سلوكيا عارضاً فقط، بل هو عدوى استفحلت في الفكر، والوعي الجمعي، فهي تستبيح عفاف الفرح، وتراوده عن نفسه، هي أبشع صور الوباء الفكري الذي يتمكن من العقول، وطقوس الفرح اليومي، ليحليها الى عهر فاضح يستبيح مظاهر الجمال، ويذهب (الشاعر) في استلاله من الموروث المقدس عن قصة يوسف وكيف قدت زليخة قميصه من دبرٍ، لكن استعارة الشاعر هنا تميل الى إحداث مُتغاير في المعنى التحريضي القصدي، حيث يقول:-
قدّت قميصه من وجعٍ من قحط ٍ
وتأتي عملية القدّ هنا للقميص من خلال الوجع، والقحط اليومي الذي يعيش في حاضرته الآنية الإنسان، والمجتمع برمته، وهذا تأثيث صوري رائع، وتداعي مشفر لمعنى التحويل في رمزية النص، لإدخاله الى حيز التحريض، واستمالته الى فسحة التغيير، ويعود (الشاعر) تارة ثانية للاقتباس من المقدس في سورة يوسف الآية 26.
• وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *
حيث يصرح قائلاً:-
شهد شاهدٌ من محنتها
وهو تعبير توكيدي وإثباتي في المعنى مقتبس من القرآن الكريم، وقد اُستُثمرَ هذا الاستلال لإضفاء الشرعية الإلهية في إحقاق الحق، وإرجاعه لأصحابه والتأكيد على أحقية حجة جانب واحد محق على جوانب الصراع المتخاصمة، وإعلاء أهمية الشهادة الشرعية في إثبات الحق.
ويقتبس الشاعر هذه الجملة حيث يقول:-
شهد شاهدٌ من محنتها فقدَ عُذريته صبيحة يومٍ ثملٍ برذاذ النوائب الفرح العاهر مازال مدنّساً بخطايا التشتّت أكاذيبِ مشعوذي (الدين(
ويذهب (الشاعر) بحدود هذه الجملة، وشهد شاهد، ليحليها الى ظرفية المعنى المراد في نصه، ليتمكن من إيراده في تعزيز موقفه الثابت من تلك المحنة التي تراوده عن نفسه، وها هو الفرح يعود ثانية، ليشهد شاهد قد فقد عذريته .. صبيحة يوم ثمل برذاذ النوائب .. انه تمثيل عميق لتلك الأزمة التي جاءت فيها الريح لتسرق الفرح من الأفكار، والأجساد، فالفرح ما زال مدنسا .. بخطايا التشتت.. ولهذا التشتت في الأمة معنى ملغز في أعماق الشاعر المستلبة وهو يخوض معتركه مع تلك الريح المتخمة بالوباء، وفي آخر المقطع يصرخ الشاعر بان هذا التشتت قادم من آفة أكاذيب الدين حيث ينهي المقطع بقوله:-
بخطايا التشتّت أكاذيبِ مشعوذي (الدين(
وهذه دلالة واضحة ع ثبات موقف (الشاعر) من بعض رجال الدين المشعوذين، الأفاقين، الذين سفّهوا الدين في عقول المجتمع، وأطاحوا بتعاليمه المقدسة، من خلال ضلالهم، وتعنتهم، وفقرهم الوعيوي بالدين أولا، وبالمعرفة ثانيا، وسطحوا المقدس بأكاذيبهم المفترية على الله، وعلى وعي الناس، وعلى أنفسهم.
وفي نهاية هذا المقطع يصرح (الشاعر) بقولة جاهرا:-
هو فاسقٌ أيضا نام ليلَهُ بحضنِ زُناة الوطن
وهنا تشديد على أن (الفرح) هو فاسق أيضا، لأنه ( نام ليله .. بحضن زناة الوطن) وهذه إشارة فاضحة على ان الأمل في الفرح لم يعد متوافرا وفق نظرة الشاعر، والمجتمع لأنه سقط في هوته العميقة، ونزقه المترف، وهذيانه المفجع، ومنافعه المخزية، وخيانته العظمى، حتى (نام ليله .. بحضن زناة الوطن).
والسؤال هنا .. تُرى من هم (زناة الوطن) هل شريحة من الشعب، المعنى هنا تام، والوضوح في الجملة الشعرية صريح، وغير قابل للتأويل، وكأنما نقول (والليل سابق النهار) فهذه مسلمة إلهية تكوينية، والجملة الشعرية اللاذعة، مسلمة شعرية صريحة، والمقصود بها أن الزناة الذين دخلوا الى هذه البقعة الشريفة من الأرض من خلال أبوابها المشرعة، دون إذن من شعبها، وباحتلال غادر، ليفضوا بكارته، ولينهبوا خيراته، ويستحلوا فيه ما حرمت السماء عليهم، بل سرقوه في وضح نهار غادر، هم (الساسة) الذي دلفوا خلسة الى مراتع الوطن، ليحولوه الى خراب، بعد أن كان مهدا للحضارة الكونية برمتها.
وفي مقطع أخر من القصيدة يقول فيها الشاعر:-
فرح الليل النافخ في حانات ملذّات الّلصوص لا جدوى... عندما تعانقهُ نفوسٌ دبّت فيها شراهة الطاعون
يعود بنا الشاعر (شلال عنوز) الى همّه الأول (الفرح) ليؤطر ذلك الأرق الذي يلازمه، والامتثال إلا إرادي لخيبة الأمل في انتشار ظاهرة (الفرح) التي أحالته خرائب الحروب، ونزق الساسة الى سرادق عزاء تتوزع ما بين المدن، والأزقة، والحارات، لتنهي تلك المُسلمة الإنسانية المتجذرة في الوجدان البشري على مدى العصور، لتحوله الى جحيم مستعر، فالفرح عند (الشاعر) عبارة عن تصورات واقعية للإحزان المتواشجة بقصدية تحريضية عالية.
فرح الليل النافخ في حانات ملذّات الّلصوص وهذا التصوير الشعري البارع يشيده (عنوز) بدقة عالية، وإتقان صوري موجع، من خلال ملاحظاته الحياتية اليومية، التي راح فيها اللصوص وبزهو مقيت، بذبحون الفرح من القفا، وبسكين اعمى، في حانات يرتادها اللصوص، وقطاع الطرق، والسارقين، والمارقين، لأنهم نصبوا أنفسهم الدعاة المبعوثون من السماء لنشر الظلامية، وسيادة الفرد على الجمع، ولوأد الفرح في مهده، واعتبار تلك الحانات الليلة، هي مزار لصوص الليل الماجن، ليتقاسموا فيه ما نهبوه في وضح نهار، وهي بالتالي تعبير فاضح عن ملذاتهم الغرائزية، والطبائعية، والممنهجة، ليخططوا فيها لمشاهد القتل المجاني اليومي، ومشاهد الذبح الهمجي العشوائي، ولينتشوا فيها بخمر الأموال السحت، وليثملوا فيها، بسكرة الدم المراق على إسفلت الشارع.
وترتقي فعالية (الشاعر) على تأسيس هذه المعادلة الصعبة بين المطحونين، من جهة، وبين اللصوص الذين يثملوا في حانات الليل الموبوءة بالعهر، لذلك يعود مستدركا ليختم المقطع بقوله:-
لا جدوى... عندما تعانقهُ نفوسٌ دبّت فيها شراهة الطاعون
ومعنى (اللا جدوى) هنا اعتراض بائن، داخل هيمنة الفحوى التحريضية للوعي الجمعي، لأن مشاهدة منظر الفرح، وهو يجثو على ركبتيه أمام هزال النفوس المريضة، وحينما تعانقه ذات النفوس التي (دبت فيها شراهة الطاعون) وهذا التصوير اللافت يأخذنا الى حيث عوارض استفحال هذا المرض الخبيث القاتل، الذي يستشري حيثما حلت الحروب، وحلَّ الخراب، وحلَّ الفقر، والجهل، لأنه يبحث له عن مأوى في الأجساد، وفي العقول، ويفعل فعلته العدائية في إصابة الجميع بحمى الموت المباغت، أو الاحتضار البطيء.
لقد دأب الشاعر (شلال عنوز) في هذا المقطع العالي التأثير في ذهن المتلقي باعتباره من أوقع التثويرات الشعرية الواقعية التي أثثها الشاعر برمزية معافاة، لبث ملاحق التحريض القصدي بنوازع المتلقي اليومية المغلفة بالأسى، والحزن، وإعلان معارضته المعلنة على هذا المشهد اليومي الذي يبعث على الغثيان، لعله يستطيع أن يرسم لنا كمتلقين صورة لمأساتنا الحاضرة، الحالكة الظلمة.
ويأخذنا (الشاعر) في مقطع آخر من القصيدة الى مديات متساوقة مع الفعل الدينامكي للمأساة المبثوثة في صيرورة انتخاب الصورة الواقعية، وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض.
حيث يقول في المقطع التالي:-
صدى صوت (بروتاغوراس( والمدى غلّفته دجنّةُ المَنافي شَربهُ عطشُ دم الأضاحي نام فيه رُقادُ الخُذلان يوم أمس كان العيد باكيا منصّات صَلبه يوميءُ لصخب السكارى أن يهدأ ليموت بصمت
إن المعنى المخبوء خلف هذا الإتيان الأنموذجي لصدى صوت (بروتاغوراس( فهو في الحقيقة استدراج لملحق التلقي، حيث مراد الشاعر التحريضي، ليؤثر على ملامح إنصاته الواعية الواقعية، والسفسطائية في أن واحد، فالمعروف أن (بروتاغوراس) الذي عاش ما بين أعوام (487 ق.م - 420 ق.م) هو صاحب الفكر، أو المنهج السفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد، وتُعتبر أفكاره هي أساس أفكار السفسطائيين، حيث كان يعتقد، بأن الإنسان هو مقياس كل شيء، أي أن الخير والشر، كلها يجب أن تُحدد بحسب حاجات الكائن البشري، ويعتمد منهجه أيضا على الجدل القائم على المغالطة، والتلاعب بالألفاظ، وهي خلاصة فكر السفسطة، لأن المغالطة تكون غير إرادية، أما السفسطة فتكون إرادية لقلب الحق إلى باطل، أو بالعكس.
وفي إحدى مقولاته الشهيرة يصرح (بروتاغوراس)
*(الإنسان مقياس كل شيء ما يوجد، وما لا يوجد *(
وعلى أساس هذه القاعدة (البروتاغوراسية) السفسطائية يكون معيار الحقيقة ثابتاً، فما تراه حق، فهو حق بالنسبة لك، وما أراه باطلاً، فهو باطل بالنسبة لك.
واستثمر الشاعر (شلال عنوز) هذا الإسقاط الرمزي بين (صدى صوت بروتاغوراس) ومنهجه السفسطائي وجدلية قلب الحق الى باطل، أو العكس، وهو هنا ينتخب ذات المناخ الواقعي الذي يعيشه الشاعر، والمجتمع برمته، من خلال اختلاط الخير، بالشر، الحق مع الباطل في وضع مجتمعي سادته العشوائية السياسية، والسفسطة الجدلية، والمغالطة العقيمة، والتلاعب بالألفاظ، لإبعاد الحقيقة عن ثوابتها المستقرة الواضحة، لإدخالها حيز التشويش، والضبابية، والعتمة من اجل مآرب شخصية، ومكاسب سياسية، وارتقاء مناصب زائلة، لينتج عن ذلك كله هذا الخراب، كما يذهب إليه الشاعر بقوله:-
صدى صوت (بروتاغوراس( والمدى غلّفته دجنّةُ المَنافي شَربهُ عطشُ دم الأضاحي نام فيه رُقادُ الخُذلان
لقد استخدم (الشاعر) مفردة المدى، لأنها الوحيدة القادرة على نشر اتساع صدى الصوت، لذا نجده يركز على هذا المعنى (والمدى غلفته دجنة المنافي) وهذا الغلاف المعتم وفق المنهجية السفسطائية هي التي ذهبت بالشعب بعامته، ونخبته حيث (المنافي) و(المدى) عبارة عن مفازة قاحلة، وشربة ماء لإطفاء الظمأ فيه مستخلصة من (دم الأضاحي) البشرية التي تذبح كل يوم في الحروب، أو تتناثر أشلاءها بأحزمة ناسفة على إسفلت الشارع، انه تصوير بالغ الوجع لتلك المأساة الواقعية التي أدلفنا في جوفها (الشاعر) ليقودنا الى نتائج ذات معاني مخيبة، ليسحبنا الى منطقة ذات منافع تحريضية عالية، بمعنى أن دم الأضاحي البشرية قد (نام فيه .. رقاد الخذلان) ليصور هذا الخذلان بطريقته الفواجعية، ورصده الببليوغرافيا الماهر للواقع اليومي البائس، الذي تذبح فيه الأضاحي البشرية، قربانا للأفكار الظلامية الهمجية، وللسياسات العقيمة التي أدخلتنا الى مستنقع الموت المبكر.
وفي مقطع أوسط من القصيدة يستمر الشاعر (شلال عنوز) في تصويره لهذه المأساة حيث يقول:-
الأطفال في مساءات مدن الخشخاش يلتحفون نيبان الفاقة أسنّة القهر يفترشون أزيز ذُباب المزابل يرتّقون أسمال أحلامهم الممزقة بخيوط من عراء النكبات
ووهنا لا بد لنا من التصريح بأن من أهم أسباب اختيارنا لهذا المقطع من القصيدة، هو عملية تبيان مدى صلاحية المعنى العملي الفاعل في مخبوءات النص، وفي رصد (الشاعر) للواقع اليومي المعاش، واشتغاله القصدي على منطقة التحريض، فهو يختزل هذه المأساة بلغة باهرة، وتصوير شعري بارع، وإيقاع مُسارع، وموسيقى مأساوية منغمة، لتنسجم كل هذه الموارد الفنية بكليتها مع فداحة تلك الفواجعية اليومية، والأحزان الدائمة، والمشاهد الدموية المرعبة، ليطرح سؤاله الأزلي الذي أرقه كثيرا، وليتوخى من خلاله الإجابة عن كل تلك الخرائبية التي تحدث من حوله، حيث يقول في هذا المقطع:-
الاطفال في مساءات مدن الخشخاش يلتحفون نيبان الفاقة أسنّة القهر يفترشون أزيز ذُباب المزابل يرتّقون أسمال أحلامهم الممزقة بخيوط من عراء النكبات
وفي هذا المقطع يصور (الشاعر) الذي ينتمي الى مدرسة تنظيم مشاهده المفجعة، وتحويلها الى حقائق واقعية إنسانية صرفة، استلها من بوتقة التلاقي بين الحقيقة في تصوراتها المأساوية، وبين نضجه المخيالي الفطن ليخلق منها فيلما مدهشا للواقعية المأساوية، ونوازعه الاشتغالية في منطقة التحريض، فهو يصور (الأطفال في مساءات) (مدن الخشخاش) والمعروف عن (الخشخاش) بأنه جنْسُ من أجناس النَباتات العُشبيَّة المُعمِّرة، والتي تَتميَّز بعُصارتها اللَّبَنيَّة المُخَدِّرة، أَوراقُها حاضِنة مُتقابلة، أَزْهارُها كبيرةُ القَدّ، ثمارُها سمراءَ اللَّون، ومنها النَّوع الّذي يُسْتَخْرَجُ الأَفْيُون.
إذن فـ(الشاعر) هنا يصور لنا بدقة قصدية فاعلة في إدانة المجتمع الذي ينجب أطفالا يعيشون في مدن خربة، تعتاش على أفيون الخدر اليومي، وتحت ظلال نزق الساسة، والمحتلين القادمين من خلف الأسوار، لينهشوا جسد هذا الوطن، بأطفاله، ونساءه، وشيوخه ليحولوهم لمجرد أشباح، ولتجدرهم من إنسانيتهم، وبخاصة (الأطفال) تلك الشريحة التي لا ذنب لها، سوى أنها ولدت في مدن مخدرة، نائمة فوق مساحات شاسعة من نبات الخشخاش الافيوني.
وفي المقطع الأخير الذي يصور في الشاعر (شلال عنوز) الأطفال وهم في حالات يرثى لها، مجردة من أية حياة تليق بالطفولة، والإنسانية، أو واعظات أخلاقية، ولا حتى منافع آدمية، فيصرح بقوله:-
يلتحفون نيبان الفاقة أسنّة القهر يفترشون أزيز ذُباب المزابل يرتّقون أسمال أحلامهم الممزقة بخيوط من عراء النكبات
يؤثث الشاعر مشهده المأساوي الحافل بالفجيعة، فينشئ مشهدا خطيرا لحياة (الأطفال) وهم (يلتحفون .. نيبان الفاقة) أنها صرخة شعرية مدوية راح صداها يملأ أرجاء الخلجات الإنسانية، والعالم المتحضر، الذي يدعي المدنية، ويدافع عن حقوق الإنسان، والذي يزعم بأن من أولى مهامه الاعتناء، والاهتمام بالطفولة، ورعايتها، بل وبزعم (الشاعر) هو مشارك فعلي في قتلهم، وفي إبادتهم، وفي تشريدهم، ليعيشوا تحت وطأة الفقر، والجوع، والعوز، والحرمان من ابسط حقوق الطفولة في وطنهم الذين يعيشون فيه غرباء، فهم يعيشون تحت (أسنّة القهر) الذي فرضه عليهم نظام متعسف جاء ليبيد ذاكرة الطفولة من خارطة الوطن، وهم كما يصورهم الشاعر بمشهد محزن، وبليغ الوجع (يفترشون أزيز .. ذباب المزابل) أية طفولة هذه التي تعتاش على المزابل، وازيز الذباب يعرش فوق رؤوسهم، وهم كما ينعتهم الشاعر صادقاً، غير مبالغ.
يرتّقون أسمال أحلامهم الممزقة بخيوط من عراء النكبات
وهذه الصورة الواقعية تقع في منطقة أعلى قمة المأساة التي تعيشها الطفولة في وطن (تمخضت الحروب فيها، فولدت موتا) انه الوطن الذي لم يعرف طعم الفرح، ولا شهية الانطلاق صوب مفاتن الحياة، والعيش تحت ظلال الأمن، والأمان، والسلام، بل عاش وخلال فترة طويلة من عمره العتيد تحت نير الاستبداد، والسياسات الطاغوتية الظالمة.
لقد صور لنا الشاعر (شلال عنوز) هذا المشهد المفجع ببلاغة شاعر مهيب، وعين مخرج سينمائي مجتهد، وفطنة صحفي حاذق، ومحامي لامع ينتمي لتربة هذا الوطن المعطاء، ليقف وبصلابة رجل، وشاعر فوق منصة الدفاع عن حقوق أطفال وطنه الضائعة، والمهدرة ما بين نزق الساسة من جهة، وما بين الظلم، والفقر، والعوز، والجوع من جهة، وما بين خرائب الحروب من جهة ثالثة قاتلة.
ووفق نظرتنا النقدية في موسوم الدراسة في انتخاب الصورة الواقعية، وقصدية الاشتغال على منطقة التحريض، فالشاعر (شلال عنوز) يزاول في تأسيس فضاء مشهده الشعري مهنة المحاماة، إضافة لكونه شاعرا نجيبا، ليأخذ على عاتقه الدفاع عن حقوق أبناء جبلته، وعن موكله الذي هو (الشعب) لتبرئته من التهم الموجهة إليه من قبل العالم، والتي تنحسر بإظهار ظلاميته التي أوقعها في فخها العقيم ثلة من العقليات المتخلفة، والتي لا يصل حد وعيها الفكري، والسياسي الى أرنبة أنفها، وهو الذي يقف بشاعريته العالية ليعلن بأنه (محامي الشعب) الذي اخذ على عاتقه الدفاع عن حقوقه المسلوبة، في وطن يطفو فوق بحر من نفط، وهو لا يستطيع إيجاد قوت يومه.
وفي المقطع الأخير يقودنا الشاعر (شلال عنوز) عبر فخامة شاعريته المهيبة، وعبر مجساته الحسيّة الواقعية، ومشاهداته الراصدة للحقيقية المؤلمة التي عمل على اكتشاف مخبوءاتها حيث يصرح قائلا:_
أشيحُ طرفي صوبَ السّماء حيث القبيلة تكثر الشّخير القمرُ مازال مُبتلعاً والسماء لم تزل زرقاء
ويجيء تأثيث فضاء هذا المشهد الأخير للقصيدة، استكمالا لما بدءه الشاعر حيث يبادر الى القول (أشيحُ طرفي .. صوبَ السّماء) وهذا التصريح الشعري اللافت، يُشعرنا بأنه أراد أن يزيح عن كاهله بعض الهمّ الذي يعتريه من خلال نظره لتلك المشاهد اليومية الخرائبية، لينظر الى السماء مناجيا إياها بأن تلتفت الى وطنه، لتخلصه من محنته هذه، لكنه يفاجئنا تارة أخرى بأنه يشيح بطرفه ثانية الى (حيث القبيلة .. تكثر الشّخير) يرجعنا بهذا المشهد التصوري اللاذع الى نقطة البداية، حيث ذلك التراكم الكمي من الفواجع، والآلام، والإحزان، وسخرية القدر التي ترمي القبيلة، بأحضان النوم العميق و(الشخير) غير مبالية بقدرها القادم، الذي سيقودها الى حتفها الفواجعي المحتوم.
إن هذا النشيج المؤلم، والحزن الدفين المتراكم من خلال الفواجع المتتالية التي صورها لنا (الشاعر) يقودنا الى ثوابت تكاد لا تخلو من الإفراط بالسخرية من واقعنا المؤلم، والتماهي مع الحقيقة المرة، والحياة المحزنة حيث يصرح الشاعر بأن (القمرُ مازال مُبتلعاً) والعجب كل العجب هنا، بأن يجعل (الشاعر) القمر مبتلعا، وهو من مواقيت الدنيا للبشر، فإذا صودر القمر، صودرت الحياة، وتلاشى الزمن، واندح المكان، واختفى الضوء عن الكون، وهنا تكمن قدرة الشاعر المهيبة في مصوغات استثمار معالم الانزياح، ليصدر لنا مشهدا مشفرا راقيا.
يتصدر الشاعر (شلال عنوز) المشهد، ليقدح لنا شرارة ضوء في آخر النفق المظلم، لبشرنا بأن ثمة ثوابت واقعية حقيقية تنتمي الى الظاهرة الكونية، وتخلص الانتماء الى الصفاء، والبهجة، والمتعة، والخلاص من بواعث الفواجع، والخيبة، ليفاجئنا بحتمية إلهية لا فرار من تصديقها بأن (السماء لم تزل زرقاء) وهذه الدلالة الرمزية العالية تلامس شغف المتلقي لأنه خرج من هذه الفواجعية الشعرية المؤلمة، الى حيث مصب النهر في الجهة الثانية للخلاص، وان (السماء لم تزل زرقاء) وهذه الضرورة الخلقية الأزلية، هي ملاذ آمن، وجميل المبنى، ازاء ذلك التداعي الحاصل من جراء خرائبية الحروب، والطغيان، والظلم، والجور، والفقر، والفاقة، والحاجة، والتشرد، والجوع، الى حيث العيش تحت خيمة سماء زرقاء، وارفة الظلال.
صادف وان التقيت مع الشاعر (شلال عنوز) في إحدى المناسبات، حيث أهدى ليَّ ثلاثة من دواوينه الشعرية، وهن، ديوان مرايا الزهور، وديوان الشاعر وسفر الغريب، وديوان وبكى الماء، وأسرني في حينها بأن قصيدة (السماء لم تزل زرقاء) ستكون موسوم ديوانه القادم الذي سيخرج الى النور قريباً.
لقد زاول الشاعر العراقي (شلال عنوز) مهنة المحاماة بعد حصوله على درجة البكالوريوس في الحقوق، وقبلها حصل على درجة البكالوريوس في الآداب، لكنه اعتبر مهنة المحاماة هي الكفيلة بـ(الدفاع شعرياً) عن الشعب لذا أطلقت عليه لقب (محامي الشعب) شعراً، فهو يقف على المنصة في (محكمة الوطن) للدفاع عن المطحونين، والمعدمين، والمسحوقين، والفقراء، والجياع، والمَسروقين من قبل الإخطبوطات التي نهشت ببراثنها السوداء، جسد الشعب، والوطن.
لقد كانت أوراق دفاع الشاعر (شلال عنوز) التي تأبطها تحت ذراعيه، هي شاعريته الباذخة العلّو، لتكون مصدر إلهامه للدفاع عن الشعب، والوطن، وفق ما يرصده من مشاهد واقعية، ليشتغل عليها، ويحليها الى منطقة التحريض، وصولا لهدفه السامي للوصول الى ملاحق التغيير، ليصبح الوطن معافى، سليما، صلّدا، ويكون الوعي هو المعيار السائد في العقل الجمعي للشعب.
لقد تمحورت قصيدة (السماء لم تزل زرقاء) للشاعر العراقي المهيب (شلال عنوز) على جملة من المعطيات الفنية، والتقنية، واللغوية التي يمكن معها في رأينا النقدي .. اعتبار النص من أفضل النصوص التي عالجت الواقع المجتمعي المعاش، بلغة ذات طابع شعري توثيقي بعين شاعر مكلوم بوطنه، وإحاطة النص بخصائص بنائية صورية عالية، وبأدوات شاعر متمكن من أدواته التوصيلية الفخمة.
فقد تحرر النص من التظاهر اللفظي المنمق، والتزويق الشعري الملمع، والمثالية المؤطرة بإطار زائف، بل دخل النص الى قلب الحاضرة اليومية المفجعة، ليصور لنا تلك الخرائبية بعين شاعر من الطراز النبيل، لذلك الكم الهائل من الفواجع، والخراب الذي يعيشه الفرد، والمجتمع يوميا تحت نير الاستبداد، والظلم، وغياب العدالة، ويمعن النظر بمناظر تلك الخرائبية التي أحدثتها الحروب، والغوص عميقا ليكشف لنا غياهب ذلك الرياء المستتر بعباءة الدين، ومعالم مصادرة ذلك الفرح اليومي، والمسروق من قبل الساسة، ويصور تلك الفواجعية اليومية التي تعيش تحت نيرها الذاكرة الجمعية، والإشارة الى سيادة الفقر، والتخلف، والجوع على شرائح اجتماعية واسعة.
إن قصيدة (السماء لم تزل زرقاء) تُعدُ صرخة شعرية مدوية جالت في أرجاء الوطن، من اجل ان يصحو الشعب من سباته العميق، وهي بالتالي دعوة شاملة للتطهير عبر منافع البث الشعري المُحرض، للخلاص من هيمنة العقول المتخلفة على سدة الحكم، التي أورثت الشعب، والوطن كل ذلك الشتات، والحرمان، وقادته صوب الهاوية.
وعلينا الإشارة هنا على أن الشاعر (شلال عنوز) يُعدُ من شعراء قصيدة النثر المهمين، واللامعين، والبارزين على مستوى الساحة الشعرية، وهو احد أهم ابرز من كتب في فضاءها، وفي طليعة شعراءها المائزين من جيله، وهو أحد كتابها الذين ساهموا في إرساء نضوجها التأسيسي بعد جيل الرواد في العراق، والوطن العربي.
لقد أخذ الشاعر (شلال عنوز) على عاتقه الشعري، الكشف عن الحقائق المستترة ليفضح أقزام العصر، الذين حولوا تاريخ هذا الوطن المضيء الى عتمة، واستهانوا بحضارة وطن، امتدت لأكثر من سبعة آلاف عام قبل الميلاد، وعلمت البشرية كيف يكتب الحرف.
أنه نص شعري نثري بالغ الأهمية، حيث استطاع وبحق، تعرية عورات أشباه الرجال من ورقة التوت، ليقفوا أمام الوطن، والشعب، والتاريخ عراة دون أن تغطيهم خياناتهم، وسرقاتهم، وفضائحهم، وان لا يلامسوا شغف الحياة، لأنهم تجاوزا بإطماعهم النتنة، والمقيتة، والعفنة كل عصور الاستلاب، والظلم في العصور المظلمة، لتكشفهم وتُحيلهم الى المرايا التي يخشون النظر الى أنفسهم من خلالها، لكي لا يروا ذواتهم الخائبة، وأشكالهم النتنة.
وعلينا هنا .. تبيان مسألة مهمة للغاية، تلامس الحاضرة الفاعلة في جسد المعنى على ضوء موسوم الدراسة، بأن الشاعر (شلال عنوز) استطاع وبامتياز شاعر مقتدر، لامع في تجليات انتخاب الصورة الشعرية الواقعية، واشتعل عليها داخل منطقة التحريض بقصدية فاعلة، ومتفاعلة مع جسد النص، فقد استلهم (الشاعر) صوره الشعرية من الواقع والتي أسست تمظهرات نصه المائز، فهو (الشاعر) الذي يمتلك أدواته الفنية، وخزينه المعرفي، وتداوله الصوري، والتفرد الشعري الذي يؤهله وبامتياز للتصدي لمثل هذه المهمة الشعرية الصعبة، فلقد أثث فضاء بنائية نصه، عبر فحولة لغته العالية، وتشكيل مشهده الشعري عبر صور متاخمة للواقع المعاش، ونزل الى حاضرة الذاكرة (الفردية+الجمعية) بمعنى حاضرة الإنسان العراقي اليومية، ليشكل مفردات نصه المتفرد، فهو المهموم بمأساة مجتمعه، فجاء إيقاع النص منسجما تماما مع تسلسل الأحداث، مع الاحتفاظ اللائق بالموسيقى الداخلية التي وفرت للنص أجواء استقبالية مثالية، مع تواجد تلك الجرسية الأخاذة التي أنعشت جسد النص، وتجانس ملامح التحريض احدث صدمات متتالية في دائرة الإنصات، ولعل من أهم ما أثثه (الشاعر) في نصه الماتع، انه ذهب بذاته الشعرية المحلقة في زمكانية النص ليكتشف عن عوالمه الشعرية، ولم يذهب بخياله الشعري ليؤسس ذلك الفضاء الشعري المؤلم، بل أثث ذلك الإبهار، والتدفق الصوري الجمالي، والفواجعي عبر عينه المبصرة، ورصده الواقعي، ورهافته الشعرية الأخاذة، ولغته الساحرة.
لقد كانت قصيدة (السماء لم تزل زرقاء) ملحمة شاهدة على الحاضرة الجمعية الفواجعية لكي تؤسس للمتلقي فضاءً من التوحد مع المشهد الشعري المؤثث بعناية فائقة، ليقوده الى فسحات الترجمة الآنية، والتحليل اللّحظي، ليخرج بمنفعتين مهمتين، أولهما المتعة، والدهشة، والمفاجأة، وجاءت هذه التراكمات النوعية من خلال الاستقراء الابتدائي للنص، وثانيهما المطابقة الحقيقية للمشاهد اليومية الخرائبية، الحاصلة بين (النص+الواقع) ليكون (المتلقي) العين الفاحصة، والرؤيا الناقدة، والرافضة، لتلك الفواجعية المؤلمة التي أحاطت بالوطن، والشعب، لأن القصيدة وبذات حاضرة المحنة، والخراب، والفواجع، تعلن وبقصدية استشراف الأمل أن (السماء لم تزل زرقاء) وهذه كناية شعرية تعبيرية، وتشفيرية غاية في رقي المعنى، والبناء اللفظي، لأن السماء لما تزل زرقاء، ولن تتحول الى اللون الأحمر، بفعل نزق الساسة، أو بفعل اجتياز العقول البدائية لحدود الوطن، ما دام هناك عرق ينبض في الصدور، وما دام هناك وعي جمعي قادر على الفهم، والدراية، وما دام هناك بصيص ضوء يطلع من تلك العتمة الظلامية الخانقة. فـــ* السماءُ لمْ تَزل زرقاء *
سعدي عبد الكريم / ناقد وسينارست / العراق
نص القصيدة
السماءُ لم تَزل زرقاء
نص / شلال عنوز
الريح مُتخمة بالوباء تراود الفرح عن سرّه تستبيح عفافه قدّت قميصه من وجعٍ من قحط ٍ شهد شاهدٌ من محنتها فقدَ عُذريته صبيحة يومٍ ثملٍ برذاذ النوائب الفرح العاهر مازال مدنّساً بخطايا التشتّت أكاذيبِ مشعوذي (الدين( هو فاسقٌ ايضا نام ليلَهُ بحضنِ زُناة الوطن ودّعنا ... وأدمن مراقصة الغباء موبوءٌ... فرح الليل النافخ في حانات ملذّات الّلصوص لا جدوى... عندما تعانقهُ نفوسٌ دبّت فيها شراهة الطاعون تسمّمَ هواؤه بضحالة قهقهات المجاذيب وقاحة ترّهات الفاشلين كل تلك الحشود التي تهتف للخرافة غادرها نبع ضوء الجمال عشّش فيها عفن خبث الشيطان استبدَّ بها صراخ سرطانات الجهل من أي كارثة يوغل صدى صوت (بروتاغوراس( والمدى غلّفته دجنّةُ المَنافي شَربهُ عطشُ دم الأضاحي نام فيه رُقادُ الخُذلان يوم أمس كان العيد باكيا منصّات صَلبه يوميءُ لصخب السكارى أن يهدأ ليموت بصمت لكن الصَّخبَ الهمجيُّ أكلَ ضحكاتِ الأزقّة انتهك غناء النّدى غرّبَ بضوء الشروق متجبّراً ينثر ضجيج الندم مكروباً كنتُ أُحدّث نفسي مَن ياتُرى المَلوم ؟ أنحنُ .. أم هول مصائبنا المتوالية؟ كيف نعاقبُ همهماتِ الفرح ونحن نرقص في لُبّ رعاف الحزن؟ ننسخُ كلَّ بهجة ننام عراة في أقبية شقوق الظلام لانهتفُ الاّ لتفاهات المجانين في أسواق التشرذم ننسجُ.. دمع أكفاننا بخيوط من شفا حُمرة الدم الاطفال في مساءات مدن الخشخاش يلتحفون نيبان الفاقة أسنّة القهر يفترشون أزيز ذُباب المزابل يرتّقون أسمال أحلامهم الممزقة بخيوط من عراء النكبات تصطرعهم رعونة الأفيون آباؤهم غادروهم في دروب اللاعودة قُتلوا .. حين كان القمر مُصادراً وهو لمّا يزل في فم الحوت فاحتضنتهم القمامة لاجَرمَ انّهم تنفّسوها مرارةً...لوعةً أرأيتم.. كم هي كبيرة محنتي؟ المُتخمون بسُحت دم الأضاحي يزدردون طمأنينتي يحجّون بعُريي يصطافون بفجيعتي مُذ كان القمر مُبتلعا والى حين الموتُ يتسكّعُ في طرقاتي يلتهمني بشغف ظاميءٌ هو لحرارة دمي وأنا أتقلّبُ بين ألم الغربة ورهبة جنون المسالخ التي تستقبل نثار أنين التعساء أبحث عنه في بشاعة متاريس الوجع ندب أقانيم الدعاء بكاء لهفات النازفين أشيحُ طرفي صوبَ السّماء حيث القبيلة تكثر الشّخير القمرُ مازال مُبتلعاً والسماء لم تزل زرقاء
شلال عنوز النجف : 2- 10 -2015
#سعدي_عبد_الكريم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصيدة (جمهورية الفقراء)
-
قصيدة (تكوينات )
-
قصيدة (حمامة مكسورة الجناح)
-
دراسة نقدية * أهمية المنتج الأدبي *
-
* ياسمين * قصيدتي التي لم اكتبها بَعدُ
-
جمهورية الفقراء
-
هاني عقيل .. والسرقة الأدبية الفاضحة
-
قصيدة .. امرأة ٌ استثنائية
-
نبوءات الريح
-
قصدية الانفتاح على الأنساق الميثولوجية والنهل من المقدس في د
...
-
قصيدة الأرصفة تعج بالموتى
-
دراسة نقدية تحليلية
-
قصيدة طيرٌ .. وحصاة
-
قصيدة / الدخان
-
دراسة نقدية / جمالية الاشتغال عبر توظيف الأسطورة في قصيدة (ش
...
-
قصيدة / عليّ ٌ يا قرة عيني .. ويا وجعي / مهداة الى أميرة جوا
...
-
المسلسل التلفزيوني البنفسج الأحمر أيقونة فنية وجمالية مضيئة
...
-
الاشتغالات الانزياحية والدلالية في قصيدة النثر الحداثوية
-
حكومه فياض الانتعاش الموهوم
المزيد.....
-
-الزمن الهش- للإيطالية دوناتيلا دي بيتريانتونيو تفوز بأرفع ا
...
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|