أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبد السلام أديب - الاستثمارات الأجنبية الخاصة عامل تنمية أم استعمار جديد؟















المزيد.....



الاستثمارات الأجنبية الخاصة عامل تنمية أم استعمار جديد؟


عبد السلام أديب

الحوار المتمدن-العدد: 405 - 2003 / 2 / 22 - 03:32
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


 

يشعر كافة المواطنون اليوم بأن   الاستثمارات الأجنبية الخاصة أصبحت تحيط بهم من كل جانب، فالمستثمرون الأجانب من أمثال ليديك وريضال أصبحوا بفضل الخوصصة وتحويل المديونية الخارجية الى استثمارات هم المكلفون  الآن بإنارة بيوتنا  وإرواء   عطشنا، بل هم من أصبح ينظف حتى مجارينا المتعلقة بقنوات التطهير وهم من أصبحوا مسؤولون عن رفع أسعار فواتيرنا  بمعدلات خيالية.

كما  تسرب   المستثمرون الأجانب عبر  اتصالات المغرب وميديتيل،  حتى يتمكنوا من  الإشراف  على  مكالماتنا وأنماط  اتصالاتنا، شعارهم في ذلك هاتف نقال لكل مواطن، في الوقت لا زال نصف أطفالنا تقريبا محرومون من التعليم والصحة والماء الشروب.

لقد أصبح   المستثمرون الأجانب يكتسحون كل يوم مختلف القطاعات، سواء  تعلق الأمر بصناعة السيارات أو السياحة أو التجارة أو الأبناك أو  المناجم أو الفلاحة أو الصيد البحري،  بل أصبحوا يمتلكون حتى  مواقف السيارات بمدننا. ورغم كل ذلك لا زال الكثير منا يعتقد بأن مستوى إقبال المستثمرين الأجانب على بلادنا لا زال ضعيفا.

ومن دون شك  أن هامش تغلغل الاستثمارات الأجنبية الخاصة سيتزايد في المستقبل القريب، بفضل الوثيرة المتسارعة لخوصصة المرافق العمومية الحساسة مثل قطاعات التعليم بأنواعه والصحة وسكك الحديد والخطوط الجوية ... الخ. فنحن نعيش الآن عصر الاختراق الكاسح للمستثمرين الأجانب.

- لكن ما مدى  مساهمة  هذه الاستثمارات في  تنمية بلادنا التي لا زالت تصنف بعد 44 سنة من الاستقلال   في المرتبة 126 في سلم  التنمية البشرية وتنطوي على أعلى نسب الأمية في العالم (بحوالي 70 %)؟.

- ألا تشكل  هذه الاستثمارات مظهرا آخر من مظاهر الاستعمار المتجدد،  خصوصا وأننا نعيش وضعا شبيها بالفترة التي سبقت احتلال المغرب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من حيث ارتفاع حجم المديونية وهشاشة البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإفلاس تدبير الشؤون العامة؟

من المعلوم أنه قبل فرض  الحماية  الفرنسية كان  المغرب  يتخبط في  ازمة مالية خطيرة نتيجة تفاقم حجم المديونية الخارجية وإفلاس السياسة العامة.  مما   اضطر المغرب آنذاك،، فيما  يشبه تحويل مديونيته الخارجية الى استثمارات أجنبية،  الى فتح حدوده على مصراعيها أمام الاستثمارات الأجنبية الخاصة التي سيطرت  آنذاك على المراسي، والمناجم والاستغلالات الفلاحية وتم توسيع أنشطة المستثمرين الأجانب من أمثال بنك باريس والأراضي المنخفضة و كونسرتيوم مكون من الأبناك الفرنسية وشركتا شنايدر وروتشيلد ومناجم الريف والشمال الإفريقي.

لقد سهلت هذه الاستثمارات الأجنبية فرض معاهدة الحماية على المغرب،  من جهة  لصيانة  تلك الاستثمارات ومن جهة أخرى لردع انتفاضة بعض المغاربة الغيورين على استقلال بلادهم .  لقد قيل آنذاك أن اختراق الرأسمال الأجنبي لبلادنا كان بستهدف تحديث البلاد وعصرنتها، لكن الذي وقع هو  أنه بعد 44 سنة من الحماية لم يحدث سوى تطوير  للتخلف وتحديث لمظاهر الاستعباد وتوزيع لأشكال الفقر.

نشكر جمعية أطاك المغرب التي أتاحت لنا من خلال هذه المائدة المستديرة أن نفتح  المجال للتأمل والمناقشة وتبادل الرأي حول حقيقة الطابع البريء الذي يسنده الكثير منا  للاستثمارات الأجنبية الخاصة،   والاعتقاد  بأن هذه الاستثمارات تشكل  المفتاح السحري للتنمية. فلنعمل جميعا على فضح حقيقة هذه الاستثمارات ودينامية عملها بكل موضوعية.

لماذا كل هذا الاهتمام الذي تبديه دول العالم الثالث حاليا بالاستثمارات الأجنبية الخاصة؟ وهل هذه الاستثمارات كفيلة بالفعل بالمساهمة في تنمية بلاد العالم الثالث؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تنمي هذه الاستثمارات المستعمرات السابقة حينما كانت كل الظروف متاحة للمستثمرين الأجانب، من انفتاح كامل للحدود وخضوع مطلق  لإرادة المستعمر؟ ثم ما هي الانعكاسات الحقيقية للاستثمارات الأجنبية الخاصة على البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لدول العالم الثالث؟ وهل هناك من تشابه بين الاستثمارات الأجنبية التي تتم بين الدول المتقدمة والاستثمار الأجنبي في البلدان  المتخلفة؟ ثم أخيرا هل الاستثمارات الأجنبية الخاصة عامل تنمية أم استعمار جديد مقنع غير طبيعته وإيديولوجيته ؟

سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات  من خلال  ثلاث محاور حيث سيتم التطرق  أولا لدوافع تصدير الاستثمارات الأجنبية الخاصة  وثانيا لدوافع تعطش دول العالم الثالث إلى استقدام الاستثمارات الأجنبية الخاصة. ثم ثالثا لانعكاسات  الاستثمارات الأجنبية الخاصة على بلاد العالم الثالث.

تتكون  أطراف علاقات  الاستثمارات الأجنبية الخاصة من  أصحاب رؤوس الأموال الأجانب المستثمرين الذين يشكلون  الطرف المصدر لرؤوس الأموال ثم من  مستقبلي هذه الاستثمارات، سواء كانت  دولا  متقدمة أو متخلفة. فماهي الدوافع التي تدفع كل طرف للبحث عن  الآخر؟

دوافع تصدير رؤوس الأموال للاستثمار بالخارج

قبل الحديث عن دوافع تصدير رؤوس الأموال للاستثمار في الخارج علينا أن نتساءل أولا عن طبيعة  المستثمرين الأجانب؟ وعن المجالات  التي يسعون إلى الاستثمار فيها؟

المستثمرون الأجانب هم  بكل بساطة أصحاب رؤوس الأموال المتراكمة عبر السنين لدى عدد من الأفراد والشركات متعددة الاستيطان ولدى الأبناك دولية النشاط. ويحمل   أغلب هؤلاء المستثمرين جنسيات أمريكية وألمانية وبريطانية وفرنسية ويابانية ....  ويوجد هؤلاء المستثمرون  في وضعية تنافسية  على الصعيد الدولي من أجل توظيف أموالهم وتحقيق تراكم رأسمالي يتزايد باستمرار في ظل منظومة رأسمالية يتحكمون في أطرافها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويحقق  هذا التحكم بطبيعة الحال كل من  مجموعة الدول السبعة  الأكثر تصنعا وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومجلس الأمن والحلف الأطلسي....  الخ.

ويمكن التمييز هنا   بين نوعين من المستثمرين، فهناك مجموعة أولى  تهتم بالاستثمار في ما يسمى  بالمحفظة المالية، بينما تهتم  المجموعة الثانية بالاستثمار في مختلف الأنشطة الاقتصادية من فلاحة وصناعة وخدمات... الخ.

فالمستثمرون في المحفظة المالية ينتظمون في عدة أشكال مؤسسية كالمؤسسات البنكية التجارية والمؤسسات المالية غير البنكية مثل  شركات التأمين وصناديق التأمينات الاجتماعية وصناديق المعاشات. وتعمل هذه المؤسسات في  أنشطة  الخدمات المالية المتنوعة كتعبئة المدخرات المالية  واعادة إقراضها وادارة الأصول المالية  .... وقد خفت حدة المنافسة بين هذه المؤسسات منذ  أوائل عقد الثمانينات  نظرا للجوئها الى  تكوين ما يسمى بصناديق الاستثمار. وهي صناديق لا يزيد عدد المشتركين فيها عادة عن مائة مشترك ولا تقل حصة العضو فيها عن حد معين (عدة ملايين من الدولارات). وتقوم بتوظيف ما يتجمع لديها من أموال في عمليات هائلة للاستثمار  والمضاربة المالية، كالمضاربة على الأوراق المالية، وعلى العملات الأجنبية، وعلى المشتقات المالية، وقد أصبحت هذه الصناديق بفضل ما تجمع لديها من أرصدة مالية هائلة المستودع الحقيقي لرأس المال في العالم.

ويكفي في هذا الإطار، أن نشير الى أن الصناديق الأمريكية للاستثمار أصبحت تدير بمفردها مدخرات وأموال مؤسسات المعاشات والتقاعد تزيد عن 8 ترليون دولار.(تعلمون أن ترليون واحد من الدولارات  يبلغ ألف بليون دولار أو ما يعادل  مليار من المليارات من الدولارات) وقد استطاعت هذه الصناديق بفضل ما تملكه من مهارات وفنون وأساليب في المضاربة من تحقيق معدلات ربح من رقمين، تصل في بعض الأحيان الى 90 % .

وقد مكنت السياسات الليبرالية الجديدة وعمليات التحرر من القوانين والضوابط الحكومية والخوصصة وتحرير الأسواق المالية وعولمتها، هذه المؤسسات  من اختراق أي سوق تراه مؤهلا لجني الأرباح السريعة منه. وقد ساعدها على ذلك بالطبع التكنولوجيات الحديثة وثورة الاتصالات والابتكارات المالية المتسارعة.

فصناديق الاستثمار التابعة للولايات المتحدة الأمريكية استطاعت أن تتحكم بمفردها في نصف الرأسمال المالي الدولي، بينما تتحكم الشركات اليابانية في 14 % والشركات البريطانية في 9 %، والشركات الفرنسية في 6 % والشركات الألمانية في 5 % من كل ذلك.

والملاحظ أن  كل تغيير في سياسة توظيف المبالغ الهائلة التي تتحكم فيها  صناديق الاستثمار ولو كان طفيفا  يقود حتما الى عواقب غير مسبوقة  في الأسواق الأجنبية. فتحويل 1 % من عائدات استثمارات هذه الشركات  لبلدان مجموعة السبعة " يشكل مبلغا يساوي 27 % من رسملة جميع أسواق دول النمور الآسيوية وجزءا من أكثر من 66 % من رسملة جميع الأسواق المالية الناشئة في أمريكا اللاتينية".

كما يؤدي   الطابع المتفجر لهذه المبالغ المالية الهائلة  الى اختلالات حتى في الدول المتقدمة مثل أزمة  سنة 1993 حينما انفجرت  أزمة الفرنك الفرنسي والجنيه الاسترليني والتي كان من ورائها كبار المضاربيين من أمثال جورج سوروس. وبدلا من  أن تقوم المؤسسات المالية الدولية،   باتخاذ اجراءات  للوقاية من مخاطر السوق في مواجهة قرارات مجموعة صغيرة من المضاربيين العابثين بمبالغ ضخمة، فإن كل الضغوطات تمارس في اتجاه تحرير أكبر لحركة رؤوس الأموال..

أما بالنسبة للمجموعة الثانية من المستثمرين الأجانب  في الأنشطة الاقتصادية "الكلاسيكية"، المنتجة للسلع والخدمات. فيتمثل أغلبها في المقاولات متعددة الاستيطان والتي يصل عددها حاليا حسب الأمم المتحدة حوالي 44.000 وحدة وتتحكم في 280.000 شركة فرعية عبر العالم.

وقد بلغ حجم استثمارات الشركات متعددة الاستيطان خلال سنة 1997 ما قدره 3.500 مليار دولار، وهو ما يشكل  17 % من مجموع رأس المال المالي العالمي. وتعتبر هذه الاستثمارات الأجنبية المباشرة هي أقل تبخرا كما تعرف  تطورا  متواصلا، سواء تعلق الأمر برؤوس الأموال المتأتية من الخارج (الدخول) أو الموظفة في الخارج (الخروج).

توزيع حركة الإستثمارات الأجنبية المباشرة

الدخول والخروج

بالمليون دولار

نسبة النمو

1985-1997

1997

1990

1985

حجم

الاستثمارات

الجهة

+363

3.455.509

1.726.199

754.171

الدخول

العالم

+413

3.541.384

1.690.080

690.423

الخروج

 

+290

720.793

394.911

184.615

الدخول

الولايات المتحدة

+261

907.497

435.219

251.034

الخروج

الأمريكية

+328

274.369

218.213

64.028

الدخول

بريطانيا

+312

413.229

230.825

100.313

الخروج

 

+600

33.164

9.850

4.740

الدخول

اليابان

+543

284.605

204.659

44.296

الخروج

 

+273

137.731

111.231

36.926

الدخول

المانيا

+444

326.028

151.581

59.909

الخروج

 

+422

174.152

86.514

33.392

الدخول

فرنسا

+512

226.799

101.126

37.077

الخروج

 

Source: Nation Unies, World Investment Report 1997 et 1998

 

  
 
Source: Nation Unies, World Investment Report 1997 et 1998
 

 

يتيح  هذا الجدول ملاحظة المكانة المهيمنة للولايات المتحدة الأمريكية في نفس الوقت كمصدر للاستثمارات الأجنبية الخاصة وكهدف  لهذه الأستثمارات (21 % من الاستثمارات الداخلة و26 % من الاستثمارات الخارجة). نلاحظ كذلك بالأرقام الحقيقية  كيف ضلت اليابان مغلقة في وجه الاستثمارات الأجنبية الخاصة رغم النمو الذي عرفته خلال 11 سنة ( 600 %)

وقد كانت الشركات متعددة الاستيطان  في اطار التقسيم الدولي التقليدي للعمل،  أي التقسيم الذي ساد قبل عقد السبعينات،  تركز من جهة  على  الاستثمار في  المواد المنجمية والنفطية والغذائية في دول العالم الثالث، بينما  كانت تركز استثماراتها في الدول المتقدمة وشبه المتقدمة على الاستثمار في  الصناعات  الحديثة. لكن مع دخول عقد السبعينات وتزايد وتيرة الاحتكار على الصعيد الدولي، أصبحت طبيعة استثمارات هذه الشركات  في بلاد العالم الثالث  تتحول نحو  الاستثمار في مجال الصناعات التحويلية وقطاع الخدمات والمضاربة المالية، وذلك من خلال تقسيم دولي جديد للعمل يتسم باحتكار مطلق لمناطق الانتاج ولأسواق التصريف على المستوى العالمي.

وأشير هنا الى أن  الاستثمار في الدول المتقدمة يختلف عن الاستثمار في بلاد العالم الثالث لكون  الاستثمار بين الدول المتقدمة يتم  بين دول متكافئة في النمو والقوة ويحدث بدون شروط مسبقة  اللهم شروط الدولة المستقبلة. أما استثمارات  الدول الرأسمالية المتقدمة  في دول العالم الثالث فيتم بدون ضوابط اللهم ضوابط الطرف الأقوى وشروط المستثمرين الأجانب ونادرا ما يكون لهذه الاستثمارات  وقع تنموي حقيقي على الدول المستقبلة لتلك الاستثمارات إن لم يكن يؤدي الى  تحويل الفائض الاقتصادي المحلي نحو دول الشمال.

تلك إذن هي باختصار شديد الصورة الاجمالية  للمستثمرين الأجانب،  فما هي الآن الدوافع التي تدفع  هؤلاء  المستثمرين الى تصدير  رؤوس اموالهم للاستثمار بالخارج؟ ولماذا لا يتم الاكتفاء  باستثمار هذه الأموال في مواطنها الأصلية؟.

هناك الكثير  من الاقتصاديين الذين تحدثوا عن هذه القضية، ويتفق أغلبهم  على ارجاع هذه الدوافع الى دافع رئيسي يتمثل في الأزمة الهيكلية الداخلية  للنظام الرأسمالي ومحاولات الخروج منها، وتشكل  العلاقة الجدلية القائمة بين الأزمة وسبل تدبيرها  المحور  المحرك لدينامية النظام الرأسمالي وتطوره.

إذن ما هي حقيقة الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي؟ وما هي سبل تدبيرها؟ وكيف شكل ذلك مصدرا لتطور النظام بدلا من أن يشكل سببا في انهياره؟

1 - الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي وسبل تدبيرها:

هناك حقيقة أكدتها مختلف المدارس الاقتصادية، كالمدرسة  الكلاسيكية والمدرسة الماركسية والمدرسة الكينيزية على الرغم من اختلاف منطلقاتها وتوجهاتها، وتتمثل هذه الحقيقة في أن   معدل الربح يتجه في النظام الرأسمالي  في الأجل الطويل  نحو التدهور[2].

وتؤكد هذه الظاهرة ما يعرف بنظرية الدورة الاقتصادية،  سواء القصيرة الأمد  المكونة من  ثلاث سنوات (مثل دورة كيتشن)  أو المتوسطة المكونة من عشر سنوات (مثل دورة جاجلر )  أو الطويلة المكونة من خمسين أو ستين سنة (مثل دورة كوندراتيف)،  فنظرية الدورة الاقتصادية تفسر باتجاه معدل الربح نحو التناقص، حيث تبدأ الدورة الاقتصادية عموما  بمرحلة قصيرة نسبيا من الإزدهار تم يليها  بعد ذلك مرحلة طويلة نسبيا من الأزمة. من هنا صيغت المقولة الشهيرة التي تؤكد على أن  تاريخ الرأسمالية عبارة عن سلسلة من الأزمات الدورية.

وعلى العموم فإن  اتجاه معدل الربح نحو التناقص على المدى الطويل يحدث نتيجة التفاوت بين قدرة النظام الرأسمالي الكبيرة  على الانتاج والتراكم المالي من جهة // وبين التدهور الكبير في القدرة على التصريف والاستهلاك  نتيجة سوء توزيع الدخل الوطني وتدهور القدرة الشرائية لدى العمال الذين يشكلون القوة الاستهلاكية الرئيسية للنظام من جهة أخرى. وتتجسد  الأزمة في انتشار الكساد وتجميد الاجور وتسريح المئات من  العمال وتفاقم حدة البطالة وتراجع مستوى الاستثمار وتفاقم معدلات التضخم. من هنا  يشرع  النظام في البحث عن سبل تدبير أزمته بدلا من علاجها، حيث يكون الهدف هو انتاج نفس الشروط السابقة للإنتاج والتراكم على الصعيدين الداخلي والخارجي ثم السقوط بعد ذلك في ازمة جديدة.

ويشكل التفاوت الدائم بين القدرة  الهائلة على زيادة حجم الانتاج وبين القدرة المحدودة على تصريف المنتجات،  تناقضا أساسيا يهدد النظام الرأسمالي بعدم التوازن وبصعوبات تكرار الانتاج الموسع واندلاع الأزمات، لذلك يصبح  تصريف فائض الانتاج داخل الاقتصاد الرأسمالي مع مرور الوقت مستحيلا.  لذا فإن حل هذا التناقض يصبح بالاساس خارجيا، أي خارج دائرة الاقتصاد الوطني، وفي بيئات غير رأسمالية، أي في مناطق وبلاد لم تتحول بعد الى النظام الرأسمالي، لأنه لو تمت محاولة التصريف في بيئات رأسمالية مماثلة ، فإن المشكلة تستفحل أكثر.

من هنا يمكن ملاحظة أن  توسع النظام الرأسمالي خارجيا وسيطرته وإخضاعه للبلاد الأقل تقدما في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية قد أضعف، الى حد بعيد، من الميل المتأصل في الرأسمالية نحو الركود والبطالة والأزمات. لذلك فإن الازدهار والاستقرار الإقتصاديين الذي عاشته الدول الرأسمالية الكبرى خلال الحقبة الاستعمارية كان رهينا بمدى توسعها وسيطرتها على شعوب أخرى.

فغزو المناطق غير الرأسمالية وجعلها تقوم بدور المنافذ المعوضة، وتكييفها  لكي تحد من ميل معدل الربح نحو التدهور في العواصم الاستعمارية تطلب جعل أسواق هذه المناطق تبادلية. ولهذا عملت الرأسمالية الاستعمارية  على تحطيم الاقتصاد الطبيعي في تلك المناطق وتدعيم علاقات الملكية الخاصة، واجبار سكانها على استعمال النقود وتوسيع العلاقات السلعية النقدية، وإغراقها في الديون الخارجية لإخضاعها.

ومن دون الدخول في التفاصيل فإن الشواهد التاريخية تؤكد على مدى تطرف الحلول التي لجأت اليها الرأسمالية، للتخفيف من تناقضاتها وتخفيف أزماتها الهيكلية الداخلية، فالاستعمار والحروب شكلت الحلول الأكثر تطرفا حيث  كانت تؤدي الى تهجير أعداد ضخمة من الموارد البشرية للتخفف من حدة الانفجارات الاجتماعية كما كانت البلاد المستعمرة مجالا حيويا لاستيراد المواد الأولية وأسواقا لتصريف المخزون من الانتاج السلعي الفائض ومجالا لاستثمار  رؤوس الأموال الفائضة.

ورغم انتهاء فترة الاستعمار المباشر ضل تصدير رؤوس الأموال الى الخارج بمثابة الحل السحري للحفاظ على توازن النظام الرأسمالي وحمايته من الانهيار لذلك يتركز كامل اهتمام الدول الصناعية الكبرى اليوم على الدفاع عن استراتيجية اقتصادية تضمن من خلالها انفتاح جميع دول العالم أمام رؤوس أموالها وسلعها التي تشرف عليها شركاتها متعددة الاستيطان. ويقف اليوم وراء بلورة وتطبيق واستمرارية  هذه الاستراتيجية كل من  مجموعة  الدول السبعة الأكثر تصنعا والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة الدولية للتجارة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وكذا المؤسسات الأمنية والعسكرية كمجلس الأمن والحلف الأطلسي.

إن شروط تحقيق التراكم الرأسمالي تتطلب كما هو الشأن في اطار حدود الدولة الأمة وجود مناخ ملائم لاستغلال اليد العاملة والموارد الطبيعية والاراضي اللازمة، نفس الشيئ أصبح يتحقق تدريجيا على الصعيد العالمي عبر تكييف مختلف البلاد المتخلفة مع هذه الشروط في ظل ما يعرف بسياسات التقويم الهيكلي. لذلك تحرص المراكز الرأسمالية الكبرى على اقناع بلدان العالم الثالث باتاحة الامتيازات والضمانات والحوافز الكافية لاستقبال استثماراتها الخارجية.

وبالفعل فقد شكل تزايد  المزايا والضمانات والحوافز المخولة للاستثمارات الأجنبية الخاصة في البلاد المتخلفة منذ أواخر عقد الثمانينات، -كامكانية  تحويل الأرباح الى الخارج والمزايا الجبائية المتعددة ورخص اليد العاملة والأراضي والمواد الأولية ..الخ-، وسيلة ناجعة لإيجاد مخرج لأزمة تراكم رأس المال في الحدودالاقليمية للدول الرأسمالية الكبرى. فبعد أزمة النظام التي عاشتها هذه المراكز  منذ بداية عقد السبعينات والتي كانت وراء تردي معدلات الأرباح في مختلف فروع الأنشطة  الاقتصادية، بدأت مظاهر الانتعاش تعود اليها  مع بداية عقد التسعينات كما بدأ هذا الانتعاش يتكرس أكثر في النصف الثاني من هذا العقد. فقد  لعب تصدير رؤوس الأموال دورا مركزيا في تراجع ظاهرة تدهور معدلات الربح.

وتتمتع الاستثمارات الأجنبية الخاصة بدعم كبير من طرف المؤسسات المالية  الدولية وبالذات من طرف  البنك الدولي ومجموعته، حيث لوحظ أن البلاد التي تطبق سياسة الترحيب بالاستثمارات الأجنبية الخاصة، أصبحت من أكثر الدول استفادة من قروض تلك الهيئات. وهي قروض تتوجه عادة لإقامة وتنمية مشروعات البنيات  الأساسية كمشروعات توليد الطاقة ومحطات المياه والمواصلات والطرق والمجاري والري والصرف والموانئ ...الخ، وهي مشروعات ترفع من انتاجية النشاط الاستثماري عموما، محليا كان أم أجنبيا. وهذا الى جانب دور قروض التقويم الهيكلي التي يقدمها البنك الدولي ودورها  الهام في خلق البيئة الملائمة لنشاط القطاع الخاص بصفة عامة.

كما تتدخل المؤسسات المالية الدولية في الكثير من الأحيان  لإحباط اتجاهات بعض حكومات البلدان النامية لوضع معايير أداء غير اقتصادية أو قيود أخرى على الشركات الأجنبية، حيث تعتبر أن هذه التدابير قد تقلل من فوائد المشروع. وقد أصبح حاليا  لتلك المؤسسات دور نشيط وفاعل في اجتذاب المستثمرين الأجانب الى الدول المدينة من خلال المشاركة معهم.

و تجب الاشارة أيضا الى الدور الذي تقوم به الوكالة المتعدد الأطراف لضمان الاستثمار التي عمل البنك الدولي على تكوينها عام 1985   لتشجيع تصدير الاستثمارات الأجنبية الخاصة  الى البلاد المدينة. فهدف هذه  الوكالة هو تنشيط انسياب رأس المال الأجنبي الخاص الى تلك البلاد من خلال:

1 - اصدار ضمانات للاستثمار ضد المخاطر المختلفة، مثل:

*  مخاطر القيود التي تفرضها الحكومات المستضيفة على تحويل العملة ونقلها الى الخارج؛

* مخاطر فسخ العقود الحكومية؛

* المخاطر الناجمة عن ظهور التشريعات أو الاجراءات التي تصدرها حكومات تلك البلدان والتي تؤدي الى حرمان المستثمرين من ملكية استثماراتهم أو التحكم في ارباحهم، أو تقليل هذه الأرباح.

2 - دعم وتعزيز البنك الدولي والمؤسسة المالية الدولية لهذه الاستثمارات من خلال نشر وتوزيع البحوث وتوفير المعلومات وتقديم المعونة الفنية.

ولكن أيا كانت طبيعة الجهود المبذولة، لتشجيع انسياب الاستثمارات الأجنبية  الخاصة الى البلاد المدينة، فإن الهدف من تلك الجهود  هو حماية وضمان تلك الاستثمارات وتوفير الشروط الملائمة لها، لتمكينها من تحديد الحد الأقصى للأرباح، مع اهمال تام لمصالح الدول المدينة المستضيفة لها. فهي لا تقدم لها أي ضمان أو تأمين على أنها ستكون مفيدة لاقتصادياتها.

 

دوافع استقبال الاستثمارات الأجنبية الخاصة

بعد حصول دول العالم الثالث على استقلالاتها خلال عقد الخمسينات، كان هناك نفور شبه تام اتجاه الاستثمارات الأجنبية الخاصة نظرا للذكريات الأليمة التي كانت تحتفظ بها الحركات الوطنية اتجاه هذه الاستثمارات والدور الذي كانت تلعبه خلال الحقبة الاستعمارية في تحويل الفائض الاقتصادي نحو الدول الاستعمارية وحرمان الشعوب الأهلية من وسائل تنميتها.

وقد تجسد هذا  النفور بتراجع نسب الاستثمار الأجنبي في البلاد النامية واتجاه الكثير من نظم الحكم الوطنية الى معاداة الاستثمارات الأجنبية الخاصة  وتأميمها وتقييد حرية نشاطها. وقد استمرت هذه الفترة الى غاية سنة 1967، حيث بدأت تدريجيا منذ ذلك التاريخ مظاهر عودة تدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة اليها.

وتؤكد بيانات الأمم المتحدة على أن الاستثمارات الأجنبية الخاصة عرفت ما بين 1961 و1967 نموا بطيئا حيث لم  يتعد متوسط الزيادة السنوية معدل 4,1 %. لكن إنطلاقا من سنة 1968 بدأت الاستثمارات الأجنبية الخاصة تتدفق من جديد نحو البلاد النامية. حيث قفز متوسط الانسياب السنوي لهذه الاستثمارات الى 13 % دفعة واحدة.

من هنا يمكننا أن نتساءل عن  خلفيات عودة الاستثمارات الأجنبية الخاصة الى البلاد النامية؟ وهل كانت هذه العودة بارادة الوطنيين أو بارادة القوى الرأسمالية الكبرى؟

هناك  عدة عوامل وقفت وراء  هذه العودة الجديدة ، والتي نجد من بينها:

* انتشار ايديولوجية  تتحدث عن مزايا الاستثمارات الأجنبية الخاصة انطلاقا من تقرير ليستر بيرسون لعام 1968؛

* تراجع قدرة الدولة على تحمل مسؤولياتها الداخلية؛

* هيمنة الثقافة الاقتصادية الجديدة والتحول الذي طرأ على مفاهيم التنمية؛

* انتشار ايديولوجية خوصصة  المرافق العمومية ووضعها تحت تصرف  المستثمرين الأجانب.

ويمكن القاء اطلالة سريعة على هذه العوامل فيما يلي:

 

أولا:  انتشار  ايديولوجية مزايا الاستثمارات الأجنبية الخاصة مع  صدور تقرير ليستر بيرسون سنة 1968

تزامنت عودة الخطاب المدافع عن الاستثمارات الأجنبية الخاصة في البلاد النامية مع النقاش الذي بدأ يثور  حول  أزمة المديونية الخارجية التي بدأت تخيم بضلالها على البلاد المتخلفة منذ أواخر عقد الستينات.

والواقع أن الأمر لم يكن يقتصر على أزمة المديونية في دول العالم الثالث فقط ، بل كان هناك دافع أكثر الحاحا من جانب الدول الرأسمالية الصناعية.  فقد تظافرت  عدة عوامل بدأت تؤشر على تباطئ اقتصاديات البلدان الصناعية،  إذا لم تسرع بوضع استراتيجية لاعتمادها في عقد السبعينات لتوفير أسواق جديدة ومجالات حيوية لتصدير الفائض من رؤوس أموالها الباحثة عن الاستثمار خوفا من خطر تبخيسها. وبالفعل فإن اكتمال اعادة بناء الاقتصاديات الاوروبية والاقتصاد الياباني  المحطمة بفعل الحرب العالمية الثانية ودخولها في تنافس مع الاقتصاد الأمريكي الذي يتحمل مجهودات الحرب الباردة والحرب الفتنامية، اضافة الى ما أضافه استقلال دول العالم الثالث من ارتفاع كلفة المواد الأولية، فرض على هذه الدول وضع استراتيجيات تضمن لها توسعا مريحا لاقتصادياتها ومجالات حيوية لتصريف رؤوس أموالها.

أما بالنسبة لبلاد العالم الثالث التي انخدعت باسلوب التنمية الغربي، فقد أخطأت الطريق على واجهتين، الواجهة الأولى تمثلت في اعتبار الاستثمار مرادف للتنمية. حيث اعتقدت أن تسريع ومضاعفة وثيرة الاستثمار كفيل بحد ذاته لتحقيق التنمية المنشودة  غير ملتفتة الى العوامل  الرئيسية الأخرى  للتنمية مثل التنمية البشرية . أما الواجهة الثانية فتمثلت في الاعتماد على التمويل الخارجي بدل تعبئة الموارد الداخلية. فكانت النتيجة هي الوقوع  في أزمة المالية  هددت مشاريعها التنمية بسبب تفاعل مطلب زيادة الاستثمار مع اتساع حجم الاستدانة الخارجية. لذلك كانت هذه البلاد على استعداد للقبول بالحلول التي تقترحها عليها  الدول الغربية الدائنة.

فقد أخذت الدول الرأسمالية والمؤسسات المالية الدولية الخاضعة لها وعدد من الاقتصاديين الليبراليين،  تأكد لقادة دول العالم الثالث المبهورين بالتقدم المادي للغرب  على  أن الاستثمار الأجنبي المباشر هو السبيل الرئيسي لتنمية البلاد النامية نظرا لما ينقله من  موارد حقيقية وخبرات وتكنولوجيات جديدة. وتتمثل أهم المزايا التي يشيرون اليها  في هذا المجال والتي اصبحت بمثابة ايديولوجية مخدرة للبلاد النامية  تبعدها شيئا فشيئا عن سلوك طريق التنمية المستقلة وتدفعها للوقوع في المزيد من  التبعية في:

1 -  توفير كمية من النقد الأجنبي الذي يعوض نقص  تدفقات القروض الخارجية؛

2 - توفير التكنولوجيا المتقدمة والمعارف والخبرات والإدارة الرفيعة للاقتصاد؛

3 - زيادة استخدام الموارد المحلية ونمو الناتج الداخلي الاجمالي وتوفير فرص التشغيل للمواطنين؛

4 - انجاح عمليات التقويم الهيكلي، عن طريق دخول الاستثمارات الأجنبية  في القطاعات الإنتاجية الموجهة للتصدير، أو في الصناعات البديلة  للواردات، مما يدعم جهود تثبيت موازين المدفوعات ويوفر القدرة على  سداد الديون الخارجية المتراكمة.

وتضيف هذه الإيديولوجيا  الى كل ذلك أن البلاد المدينة ليست في حاجة الى كل هذا القدر الذي تطلبه من الأموال والقروض الخارجية العامة، وأن رأس المال الخاص، لا العمومي، هو الذي تحتاج اليه لايقاف نمو عبء الديون الخارجية . وتبنى هذه المزاعم على أن الاستثمارات الأجنبية الخاصة لا تتطلب مدفوعات خدمة  من جانب الدولة إذا لم تحقق مداخيل. بينما  في حالة القروض الخارجية، فإن الأمر يتطلب تخصيص رسوم خدمة، حتى وإن لم تحقق المشروعات التي مولتها أية مداخيل.

وقد  تزامن انتشار هذه الإيديولوجية  مع صدور تقرير لستربيرسون  (رئيس وزراء كندا السابق) سنة 1968، والذي كتب بايعاز من ماكنامارا رئيس البنك الدولي السابق  أساسا لتحديد المناخ الإستثماري المطلوب تحقيقه بالبــلاد المتخلفـــة  -من وجهة نظر المستثمرين الأجانب طبعا- حتى يتم تشجيع تدفق الإستثمارات الأجنبية الخاصة الى تلك البلدان.

ويحاول  هذا التقرير ، التأكيد على أن ضعف تدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة يعود الى كون الدول المتخلفة تتبع سياسات غير مرغوب فيها من وجهة نظر المستثمرين الأجانب، وأن الاستفادة من هذه الاستثمارات يتطلب توفير المناخ المناسب والظروف الملائمة لنشاط رأس المال الأجنبي. مع ما يتطلبه ذلك من الاتجاه نحو الاقتصاد الذي يسمونه بالحر، والابتعاد عن التخطيط الاقتصادي، وتقليص نطاق القطاع العمومي، وتشجيع القطاع الخاص، واطلاق قوى السوق في توزيع الموارد بين الاستخدامات المختلفة، وعدم المغالاة في التشريعات المالية والاجتماعية، والتخفيف من القيود الواردة على النقد الاجنبي وعلى الأخص ماكان منها متعلقا باعادة تصدير الأرباح الى الخارج، وإعفاء هذه الأرباح من الضرائب، وحماية المشروعات الأجنبية من التأميم والمصادرة.

وعموما تتمثل  العقبات التي يشتكي منها  الرأسمال الدولي ويطالب  بازالتها من داخل البلدان النامية حتى تعود تدفقاته الى سابق عهدها خلال الحقبة الاستعمارية، فيما يلي:

1 - الضرائب المرتفعة التي تفرض على أرباح ودخول رأس المال الأجنبي؛

2 - اشتراط بقاء الموارد المالية  الأجنبية  المستثمرة بالبلاد المستضيفة لفترة زمنية معينة  قبل أن تصفى ويعاد تحويلها الى الخارج؛

3 - التمييز في المعاملة بين المستثمرين المحليين والمستثمرين الأجانب؛

4 - القيود المفروضة على النقد الأجنبي وتحويلات الأرباح الى الخارج؛

5 - المغالاة في سياسات المحافظة على سعر الصرف؛

6 - ترسانة القوانين المفروضة في مجال اليد العاملة والأجور والرعاية الاجتماعية وعدم توفر امكانية الفصل التعسفي للعاملين؛

7 - السياسات السعرية المطبقة؛

8 - القيود الواردة على نشاط القطاع الخاص المحلي.

9 - ويضاف الى تلك العقبات التي يشتكى منها الرأسمال الأجنبي، احتمالات التأميم وفرض الحراسة، والمخاطر السياسية، أو حدوث تمرد، أو ثورة مسلحة، أو قيام حرب .. الى آخره. ولهذا يطالب المستثمرون الأجانب الدول المتخلفة المدينة بالقضاء على تلك السياسات والعقبات، على النحو الذي يرفع من احتمالات زيادة العائد أو تخفيض التكاليف، وهو الأمر الذي يتطلب ما يلي:

1 - تعديل السياسات الداخلية السالفة الذكر؛

2 - تأمين وإعطاء ضمانات  للإستثمار الأجنبي  الخاص ضد المخاطر السياسية وغيرها.

وقد تخصصت بعض الهيئات الدولية في تصنيف مخاطر البلدان ومدى جدارتها الائتمانية وقابليتها لإستقبال الاستثمارات الأجنبية الخاصة. ومن بين هذه الهيئات هناك  مجلة المستثمر  المؤسسي ومجلة الأموال الأوروبية وكذلك وحدة معلومات الإيكونوميست التي تنشر تقارير عن حالة الأعمال ودوائرها. وتقوم التصنيفات على تقييم عدد من متغيرات الاقتصاد الكلي، والمتغيرات المالية والسياسية،  وتشمل معدل النمو الاقتصادي للبلد، ونسبة رصيد حسابه الجاري الى الناتج الداخلي الاجمالي، وعددا من النسب الأخرى: كنسبة الادخار الى الاستثمار، ونسبة الدين الخارجي الى الناتج الداخلي الاجمالي، ونسبة مدفوعات خدمة الدين الى الناتج الداخلي الاجمالي، ونسبة مدفوعات الفوائد الى الناتج الداخلي الاجمالي.

كما وضعت مقاييس ليقاس استعداد البلد لخدمة التزاماته المالية عن طريق كل من المتغيرات المالية - مثل: المتأخرات على القروض المصرفية الدولية، واعادة جدولة الديون والقدرة على الوصول الى أسواق السندات، وتكلفة مختلف أشكال الائتمانات التجارية - والاعتبارات السياسية، التي تشمل عادة السياسات المتبعة تجاه الدائنين الأجانب، والسياسات المحتملة لأحزاب المعارضة. وقدرة الحكومة على تطبيق التدابير المطلوبة لتحقيق استقرار الاقتصاد، وللوفاء بالمدفوعات الخارجية، ومدى احتمال عدم الاستقرار السياسي، وآثاره المحتملة.

إن مفهوم المخاطر الخاصة ببلدان معينة، ومفهوم الجدارة الائتمانية تجعل العديد من المستثمرين من البلدان الصناعية لا يسمح لهم بالاستثمار الا في صكوك تفي بحد معين من الجدارة الائتمانية أو تزيد عليه. ولهذا فإن الجدارة الائتمانية تتراوح بين قدرة بلد ما على الحصول على قروض بتكلفة معتدلة و قدرة ذلك البلد على جذب أنواع أخرى من رأس المال ومنها بطبيعة الحال الاستثمارات الأجنبية الخاصة.

ثانيا:  تراجع قدرة الدولة عن تحمل مسؤولياتها الداخلية

جاء الخطاب الداعي الى  جذب الاستثمارات الأجنبية الخاصة، متزامنا مع تراجع الدور التقليدي للدولة واعتماد ما يسمى بسياسات التقويم الهيكلي واعادة جدولة الديون الخارجية وتفويض مهام التنمية للقطاع الخاص وقوانين السوق.

فمعلوم أن المرحلة اللاحقة للاستقلال شهدت اعتماد بلاد العالم الثالث على جهاز الدولة كأداة لتسريع وثيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير شروط تقدم وارتقاء شعوبها،  ولم يكن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي في ذلك الحين يثير أية مشاكل نظرا لأن الدول الرأسمالية نفسها كانت في ذلك الحين تعيش في ظل ما يسمى بالسياسات الكينيزية التي اعتمدت عقب أزمة الثلاثينات والتي كانت تسمح بتدخل الدولة الواسع عبر القطاع العام لخلق دينامية اقتصادية تنقد النظام الرأسمالي من الانهيار الذي اشرف عليه سنة 1929. فكان مبدأ تدخل الدولة أمرا عاديا سواء لدى دول الشمال أو دول الجنوب.

وبدلا من أن تعتمد دول العالم الثالث على تنمية امكانياتها المالية والاقتصادية الذاتية، انساقت وراء الفكر التنموي التقليدي الذي كان سائدا آنذاك والذي يعطى للاستثمار دورا رئيسيا في التنمية، حيث كان  مفهوم التنمية يعتبر مرادفا لتزايد معدل الاستثمار، رغم أن هذا المعدل ليس سوى عامل من بين عوامل أخرى للتنمية أبرزها التنمية البشرية. كما ساعدت سهولة الحصول على الاقتراضات الخارجية بأسعار ميسرة في اهمال تنمية الموارد المالية الذاتية.

وفي ظل تجاذب هذين العاملين أي الرغبة في الرفع من معدلات الاستثمار الى أعلى مستوياته والحاجة المتزايدة الى تعبئة قروض خارجية ضخمة لتأمين تمويل هذه الاستثمارات، بدأت معالم أزمة المديونية الخارجية تتفاقم وتنعكس سلبا على جهود التنمية المبدولة وعلى دور الدولة التقليدي في مجال تدبير شؤونها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وقد بلغت أزمة المديونية الخارجية دروتها في بداية عقد الثمانينات حينما عجزت العديد من الدول عن الوفاء بالتزاماتها الخارجية مثل المغرب والمكسيك سنة 1982. وقد نجم عن هذه الأزمة:

1 - تخوف كبير لدى الدائنين من عجز البلدان النامية عن الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها مما دفع الى مراجعة السياسة الاقراضية المتبعة الى ذلك الحين؛

2 -تكثل الدائنين في اطار نادي باريز ونادي لندن لايجاد حلول لأزمة المديونية الخارجية بمعية صندوق النقد الدولي الذي يشرف على تثبيت اقتصاديات الدول المدينة؛

3 -  وكذا قيام صندوق النقد الدولي بابرام اتقاقيات التثبيت والتقويم الهيكلي مع الدول المدينة والتي تتضمن شروط قاسية على البلاد المدينة لاعادة جدولة ديونها؛

4 - وقد تمثلت شروط صندوق النقد الدولي في اعتماد ما يسمى بسياسات التقويم الهيكلي التي يؤدي تطبيقها الى تراجع حاد للدولة عن كل تدخل لها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية؛

5 - وكذلك توفير المناخ اللازم لحلول القطاع الخاص الوطني والأجنبي محل الدولة في تدبير الشؤون الاقتصادية والاجتماعية؛

6 - ثم تصفية القطاع العام عبر بيعه الى القطاع الخاص الأجنبي على الخصوص بحجة تهيئة البنيات الاستقبالية التي تضمن التوافد المكثف للاستثمارات الاجنبية الخاصة.

 

ثالثا:  الثقافة الاقتصادية الجديدة وتحول مفاهيم التنمية

من المعلوم أن  التطور الذي شهدته دول العالم الثالث منذ الاستقلال اتسم بغياب الممارسة الديموقراطية في مجال الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة. فقد كان تخطيط  السياسات العامة يتم  من منظور فوقي  يخدم بالدرجة الأولى مصالح  الطبقات السائدة التي خلفها الاستعمار مكانه وبتعاون مع  أقطاب الرأسمالية العالمية.  لكن بعد  انفجار أزمة المديونية الخارجية وتطبيق ما يسمى بسياسات التقويم الهيكلي أصبح جليا أن المؤسسات المالية الدولية ونادي باريز ولندن بدأت تسحب من الطبقات السائدة كل امكانية لاتخاذ قرارات مستقلة بشأن تخطيط  سياساتها الوطنية. بينما  انتقل دور الطبقات السياسية والاقتصادية  الوطنية الى دور التابع أو المتفرج والذي لا حيلة له أمام التدهور السريع الذي تعيشه مجتمعاتها.

وقد تبلورت تبعية قادة العالم الثالث للرأسمال العالمي عبر تبنيها السريع للثقافة الاقتصادية الجديدة التي لم تكن تلائمها، وهي مفاهيم تستند على الايديولوجية الليبرالية الجديدة التي دشنها  كل من رونالد ريغان وماركريت تاتشر في بداية عقد الثمانينات.  فهذه المفاهيم تدعوا الى  خفض العجز في الميزانية  العامة للدولة، وبضبط معدلات نمو عرض النقود وإبعاد الدولة عن النشاط الاقتصادي، وتقليص والغاء  الضرائب على أصحاب الثروات والمداخيل الكبرى. وكلها اجراءات تساهم في ابعاد مختلف  العراقيل التي تواجه استكمال هيمنة الشركات متعددة الاستيطان.

ومن خلال هذه الثقافة الليبرالية الجديدة صيغت سياسات اقتصادية كلية، تختلف تماما عن السياسات التي تبنتها الحركات الوطنية عقب  استقلالات دول العالم الثالث. وتتمثل أهم ملامح هذه السياسات في:

1 - تخفيض عجز الميزانية العامة من خلال تخفيض الإنفاق العمومي، الموجه على الخصوص للضمان الاجتماعي والخدمات الاجتماعية، والذي يستفيد منه الفقراء ومحدودي الدخل ومن خلال زيادة أسعار الخدمات العامة . ويرمي هذا الاجراء الى تحقيق فائض الميزانية لتوجيهه نحو خدمة المديونية الخارجية؛

2 - إجراء تخفيضات هائلة في الضرائب المفروضة على الدخول المرتفعة وأرباح الشركات ورؤوس الأموال، قصد جذب الاستثمارات الأجنبية الخاصة؛

3 - تقييد معدلات نمو كمية النقود من خلال زيادة أسعار الفائدة وتقييد حجم الائتمان الممنوح للحكومات والمشروعات العمومية.

4 - الاعتماد المتزايد على القطاع الخاص وقوى السوق، والذي يخصص مكانة بارزة للقطاع الخاص الأجنبي؛

5 - خفض ما يسمى بالحجم الكبير للدولة من خلال تقليل التوظيف العمومي وتجميد الأجور، ونقل كثير من الوظائف والمهام التي كانت تضطلع بها الإدارات العمومية إلى الهيئات المحلية، وبيع مؤسسات القطاع العام، ونقل كثير من الخدمات التي كانت تؤديها الإدارات المركزية والمقاولات العمومية إلى القطاع الخاص مثل خدمات التعليم والصحة والإسكان، ومرافق المياه والكهرباء والنقل ......إلى آخره.

إذن ففي ظل هذه السياسات التي عرفت بسياسات التقويم الهيكلي أصبحت الدولة عاجزة كليا عن القيام بالادوار التقليدية التي كانت تقوم بها وهو ما يمكن نعته بأزمة الدولة. وبدلا من معالجة الأزمة عبر دمقرطة الحياة العامة لتفجير الطاقات الوطنية الكفيلة بمقاومة التدهور وقع التشبت بتدبير الأزمة عبر افساح المجال أمام القطاع الخاص الأجنبي  لإحتلال الفراغ  الذي كانت تشغله الدولة في ظل ضعف وهشاشة البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الوطنية.

رابعا:   الخوصصة أو تحويل ملكية المرافق العمومية لفائدة المستثمرين الأجانب

 

 

 

تعتبر خوصصة المرافق العمومية الحيوية ووضعها تحت رحمة المستثمرين الأجانب أبرز دليل على افلاس الدولة في العالم الثالث. فقد أصبحت   الخوصصة مجالا تتسابق نحوه دول العالم الثالث  لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية الخاصة. وقد أدى ذلك الى أن تصبح  الخوصصة أكثر من مجرد تصفية لبعض المقاولات العمومية التي تعاني من العجز وتكلف ميزانية الدولة مبالغ مالية هائلة. فالخوصصة   تستهدف  الآن مختلف أنواع المقاولات العمومية، سواء تلك التي تعرف العجز أو الفائض، مما جعلها  تصبح  عملية انتزاع خطيرة لملكية  المواطنين لمرافقهم  العمومية التي كانت تساهم في السابق  في إقامة التوازن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدولة. ففي هذا الاطار يتم تمليك المقاولات العمومية الى القطاع الخاص الأجنبي إما عبر البيع أو عبر تحويل المديونية الخارجية الى استثمارات.

وتساهم  إيديولوجية الخوصصة  في تفكيك مصادر قوة الدول النامية، فهي تأتي بعد تقليص النفقات والموارد العمومية التي كانت توظف من قبل في خدمة التنمية الوطنية المستقلة، وتحويل ما يتبقى منها لخدمة المديونية الخارجية المتزايدة.  حيث تجهز على  مختلف الهياكل الاقتصادية العمومية لهذه الدول تمهيدا للسيطرة عليها من طرف بضعة شركات متعددة الجنسيات يتمركز أغلبها في دول الشمال، فتصبح أداة لاعادة تقسيم دولي جديد للعمل في إطار ما يسمى حاليا  بالعولمة الليبرالية.

إن فروع الشركات متعددة الاستيطان تغزو حاليا مختلف أنحاء العالم وتسيطر تدريجيا على المصادر الاقتصادية للشعوب المختلفة متحالفة  في ذلك مع الطبقات السائدة وفارضة على الجميع ديكتاتورية السوق ومحققة فوائض مالية غير مسبوقة. وفي ظل الانتشار الواسع للاستثمارات الأجنبية الخاصة تترتب عدة  آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية نشير الى بعضها فيما يلي:

 

أولا: الآثار الاقتصادية والمالية

1 - أرباح المستثمرين الأجانب وظاهرة النقل العكسي للموارد
تؤكد العديد من الدراسات على أن  معدلات الربح التي تحققها الاستثمارات الأجنبية الخاصة في الدول المتخلفة تفوق بكثير الاستثمارات التي تتم  بين الدول الرأسمالية الصناعية. ويستند  معدل الربح المرتفع الذي تحققه الاستثمارات الأجنبية الخاصة الى  عوامل لا علاقة لها بالقيمة الإسمية للرأسمال المستثمر.  وتتمثل هذه العوامل في مختلف المزايا التي  توفرها  سياسة الباب المفتوح  المفروضة على البلدان النامية لخلق المناخ الاستثماري المناسب للاستثمار الأجنبي. وبينما تغترف هذه الاستثمارات الكثير من الأرباح وتعمل على تحويلها نحو مناطق أخرى، فإن البلاد المضيفة تتعرض للعديد من الصعوبات الاقتصادية والمالية.

فمن بين الاختلالات  التي تحدثها  هذه الاستثمارات هناك ما يسمى بالنقل العكسي للموارد. بمعنى أن هذه الاستثمارات تؤدي الى اخراج  موارد حقيقية تفوق بأضعاف الموارد التي تستثمر عند اقامتها . فبعد ترسيخ أقدام الاستثمارات الأجنبية، وانطلاق نشاطها الانتاجي والتسويقي، يصبح حجم ما تدفعه هذه الدول لخدمة تحويلات أرباح ودخول تلك الاستثمارات يزيد عما يدخل اليها سنويا من استثمارات أجنبية جديدة. فإذا أضفنا الى ذلك أعباء الديون الخارجية، فسيظهر لنا واضحا  حجم نزيف الموارد من تلك الدول. فبدلا من أن يكون اتجاه التدفقات المالية من الدول الغنية نحو الدول الفقيرة يصبح العكس هو الصحيح.

تشير احدى الدراسات الى أن   مجموع  الدول المدينة اقترضت سنة 1984حوالي 37,5 بليون دولار  ثم توصلت بهبات رسمية بحوالي 10 بليون دولار، بمعنى  أن حجم ما توصلت به من هذين المصدرين بلغ 47,5 بليون دولار. لكن هذه الدول، دفعت في هذه السنة فوائد على ديونها الخارجية تقدر بحوالي 50,5 بليون دولار. وتؤكد هذه النتيجة أن   الانتقال كان سالبا في هذه السنة، لأن البلاد الدائنة حصلت بشكل صاف على موارد حقيقية منقولة من البلاد المدينة لهـا تقـــدر بحوالـي 3 بليون دولار.

في نفس الفترة تلقت  هذه الدول تدفقات صافية من  الاستثمارات الأجنبية الخاصة تقدر بحوالي 8 بليون دولار. لكن الدول المدينة دفعت في نفس هذه السنة حوالي 11,5 بليون دولار نظير التحويلات  التي حولتها تلك الاستثمارات نحو الخارج. وتؤكد هذه النتيجة، أن صافي الموارد المحولة عن طريق الاستثمارات الأجنبية  الخاصة كان سالبا في هذه السنة، بمعنى أن نقلا عكسيا للموارد قد حصل عبر هذا الأنبوب بحوالي 3,5 بليون دولار.

إذن فقد  صدرت  الدول النامية خلال سنة 1984 رأسمال صافي الى الدول الدائنة ومواطن  الشركات الأجنبية العاملة فيها بلغ حوالي 6,5 بليون دولار. من هنا يمكن التساؤل  حول من الذي يساعد الآخر؟ هل الدول الصناعية المتقدمة هي التي تساعد البلاد المتخلفة أم العكس هو الصحيح؟

فالنقل العكسي للموارد، أصبح يتم حاليا  عبر أنبوبي  الديون  الخارجية و الاستثمارات الأجنبية الخاصة. وهذا ما يجعلنا نميل الى اعتبار  أننا أمام ظاهرة استعمارية جديدة أفضع أشكالها  السابقة نظرا لكونها تحرم شعوب العالم الثالث من خيراتها وفوائضها الاقتصادية والمالية مع تشديد استغلال قوتها العاملة وتعريضها للفقر والبطالة.

فقد أصبح من السذاجة أن نصدق أن جذب الاستثمار الأجنبي الخاص المباشر، من خلال منحه الحوافز والمزايا والضمانات التي يرغب بها، من شأنه أن يساعد على حل مشكلة المديونية الخارجية في بلادنا أو في مجموعة الدول  المدينة. نظرا لما تؤدي اليه  هذه السياسة ، من استنزاف خطير للفائض الاقتصادي الوطني.

فالتيار الذي يدعو  الى هذا الحل يحاول أن ينقل عبء الخروج من أزمة تراكم رأس المال بالبلاد الرأسمالية الصناعية على عاتق البلاد المتخلفة المدينة –والتي يرتفع فيها متوسط معدل الربح- عبر  تشديد استغلالها ونهب مواردها. من هنا، فإن النشاط المكثف للاستثمار الأجنبي الخاص في الدول المتخلفة المدينة، سوف يتفاقم عبر الزمن، مع  تدهور قدرة هذه الدول على خدمة ديونها الخارجية المتراكمة، وسيتحول لكي  يصبح سببا أساسيا في زيادة عجز موازين مدفوعاتها، و سببا في زيادة ميلها للإستدانة في الأجل الطويل.

 

2 - تكريس مديونية دول العالم الثالث

إن الدول المتخلفة ذات المديونية الخارجية الكبيرة، والتي استجابت لمقتضيات سياسة الباب المفتوح مثل المغرب، هي من طائفة الدول التي تتواجد فيها الآن أحجام لا بأس بها من الاستثمارات الأجنبية الخاصة. حيث نستطيع  اضافة حجم أرصدة هذه الاستثمارات في هذه الدول الى اجمالي ديونها  الخارجية، فكما هو معروف فإن  نشاط الاستثمارات الاجنبية الخاصة  يشكل  سببا اضافيا في تزايد الاقتراضات  الخارجية. فهناك الكثير من الشركات متعددة الجنسية )في آسيا وأمريكا اللاتينية( التي  تلجأ  الى الاقتراضات الخارجية من البنوك ومن مصادر الاقراض الخاصة لتمويل استثماراتها وتوسعاتها ودعم نشاطها في البلدان النامية. وفي كثير من الحالات تكون حكومات الدول المستضيفة هي الضامنة لهذه الاقتراضات.

ونظرا لضخامة الأرباح التي تغلها وتنقلها الشركات متعددة الاستيطان )وهي الشكل السائد حاليا لنمط الاستثمار الأجنبي الخاص( في الدول المدينة، فإنها أصبحت تشكل الآن عنصرا  فاعلا ونشيطا في تأزيم مشكلة الديون الخارجية لتلك الدول، وليس عاملا مخففا لها كما يزعم المدافعون عن هذه الاستثمارات.

صحيح أن نشاط هذه الشركات في بعض الدول المتخلفة قد تمخض عن زيادة كبيرة في أحجام ومعدلات نمو التصدير وتحقيق فائض في الميزان التجاري. الا أن هذا الفائض يبدد في الغالب في تمويل خدمة تحويلات أرباح وفوائد ومداخيل  هذه الاستثمارات نحو مواطنها الأم.

فحاجة  الدول النامية  المدينة  الى الإقتراض الخارجي لم يتناقص  ولم يتراجع عبء مديونيتها الخارجية، بدليل أن الدول المصنعة حديثا مثل كوريا الجنوبية، والبرازيل، واندنوسيا، والمكسيك، وهونج كونج، وسانغافورة، وماليزيا .. الى آخره، تعد الآن من الدول ذات المديونية الثقيلة. فبالرغم من الفائض الذي كانت تحققه في ميزانها التجاري، إلا أن حساباتها الجارية كانت تحقق عجزا بسبب تحويلات الأرباح الى الخارج، اضافة الى  تحويلات أعباء الديون، وقد شكل ذلك احد العوامل الرئيسية التي وقفت  وراء انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية التي اعترضت دول النمور الآسيوية ابتداء من سنة 1997.

3 - تصدير الصناعات البائرة نحو البلاد المتخلفة

أدى   التزايد الواضح في قوة تدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة، نحو بعض الدول النامية التي يرتفع فيها معدل الربح، الى   نقل الكثير من الصناعات البائرة، التي تعاني من صعوبات واضحة في تراكم رأس المال بالدول الرأسمالية الصناعية، الى تلك البلدان في ضوء المخططات الجديدة للتقسيم الدولي للعمل، والملاحظ  أن  هذه الصناعات  إما أنها تتسم بكونها  ملوثة للبيئة أو تتطلب استخدام  كثافة  عالية نسبيا من عنصر العمل أو أنها تحتاج الى قدر كبير من  مصادر الطاقة.

وتستغل الدول الرأسمالية المصدرة لرؤوس الأموال الخاصة المزايا والضمانات الكثيرة التي تتقرر لها للقيام بالتصنيع في بعض الدول النامية، حيث تستفيد من رخص اليد العاملة وتوافر المواد الخام والقرب من الأسواق الواسعة لكي تنتج من أجل التصدير الى أسواق البلدان الصناعية.

فمثلا مكنت الاستثمارات المباشرة للشركات  اليابانية للمنسوجات في الدول الآسيوية المتخلفة، من الاحتفاظ بقدرة تنافسية كبيرة في أسواق التصدير. كما تستغل الشركات متعددة الاستيطان  توغلها في ما يسمى بالدول المصنعة حديثا في آسيا(النمور الآسيوية)  وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية، لنقل جزء كبير من أنشطتها الصناعية. ويأتي هذا النقل بعد مواجهة صعوبات شديدة في تراكم رأس المال في البلدان الرأسمالية الصناعية على اثر  تفشي مظاهر الركود الاقتصادي في أسواقها الداخلية.

4 - التقسيم الدولي الجديد للعمل

في اطار التقسيم الدولي الجديد للعمل الذي تساهم  الاستثمارات الأجنبية الخاصة بدور أساسي في  تشكيله لم يعد يقوم  كما كان الشأن سابقا على المواجهة بين الصناعة والزراعة، بل أصبح التقسيم يتم  بين مستويات العمل داخل نفس الشركة المستثمرة متعددة الاستيطان. حيث يتم هذا التقسيم بين  رأس المال والعمل وبين الإدارة وأعمال الإنتاج، وبين الدماغ واليدين. وقد ساعد على هذا النوع من التقسيم منجزات  الثورة العلمية والتكنولوجية الهائلة لهذه الشركات.

ففي ظل العولمة الراهنة أصبحت الشركات متعددة الاستيطان  تعمل على تجزئة مراحل انتاج  السلعة الواحدة عبر  دول مختلفة، حيث تجمع في بعض الدول، وتسوق في بعض الدول الأخرى. فالسلعة الواحدة أصبحت تشارك في إنتاجها شعوب  مختلفة بحسب ما تضيفه الى  إنتاج السلعة. فنحن إذن  اصبحنا أمام  مزايا نسبية مختلفة لبلدان متعددة لإنتاج سلعة واحدة. وليس هناك تخصص أو تقسيم للعمل كامل لبلد ما في إنتاج السلعة، بل تخصصات أو تقسيمات مختلفة للعمل لبلدان متعددة لإنتاج السلعة نفسها. وفي ضوء ذلك يمكن الحديث إذن عن تكامل إنتاج عابر للقوميات تسيطر عليه الشركات متعددة الاستيطان.

إذا كانت  المنظومة  الرأسمالية تعيش حاليا  ثورة صناعية ثالثة تقوم على استخدام الذرة والإلكترونيات والهندسة الوراثية  وذلك مقابل الثورة الصناعية الأولى التي قامت على اكتشاف البخار والفحم وازدهرت فيها صناعات النسيج والحديد والنقل ... الخ. والثورة الصناعية الثانية التي قامت على اكتشاف الكهرباء والنفط وازدهرت فيها صناعة السيارات والطائرات والسلع الاستهلاكية المعمرة ؛     فإن  الاستثمارات الأجنبية الخاصة  تعمل في اطار التقسيم الدولي الجديد للعمل على تصدير  الصناعات التقليدية للثورة الصناعية الأولى نحو البلاد المتخلفة كصناعة المنسوجات والصناعات التعدينية، وبعض صناعات الثورة الصناعية الثانية كتجميع السيارات والسلع الكهربائية مع التصنيع الهامشي لبعض أجزائها من دون تعريض مصالح المراكز الرأسمالية  للخطر. حيث تتميز هذه الصناعات بكثافة عنصر العمل فيها، وبكثافتها في استخدام المواد الخام، واحتياجها للطاقة من نفط وغاز وكهرباء، وتلويثها للبيئة.

إن هذا التصدير  يدفع إلى الاعتقاد بأن التصنيع أخذ ينتشر جنوبا خصوصا مع تجارب البلاد حديثة التصنيع مثل كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسانغفورة والبرازيل ...الخ. وهذا الاتجاه  يوفق بين توجيه الصناعة غير الحيوية للنزوح من الشمال نحو الجنوب ويلبي جزئيا طموحات البلاد النامية للتصنيع والجمع بين مزايا إحلال الواردات وتنمية الصادرات تحت مراقبة وسيطرة الشركات متعددة الاستيطان. ومن شأن كل هذا أن يحول البلاد النامية من مواقع لاستخراج الثروات الطبيعية إلى مواقع للتجميع الصناعي الأولي والهامشي.

لكن  في الوقت الذي يتم فيه نقل بعض الصناعات جنوبا، يحرص  الشمال الرأسمالي على أن يمسك بيده مجمل مفاتيح عملية الإنتاج في صعيدها العالمي كالتمويل والتكنولوجيا والتسويق ... بما فيها مسألة التحكم في الغذاء، وهو أهم عنصر  في عملية إعادة إنتاج قوة العمل. وقد مكنته ثورة الهندسة الوراثية من تخفيف ذلك. ففي الوقت الذي تدهورت فيه أوضاع الغذاء والزراعة بدول العالم الثالث لعدة أسباب، تقوم البلاد الصناعية، حاليا ، بإعادة نشر الزراعة شمالا، وعلى النحو الذي يمكنها من امتلاك فائض غذائي ضخم واحتكار تسويقه، على أن يستمر الجنوب في إنتاج المواد الخام الزراعية المعدة للتصدير.

من هنا إذن تبدو معالم تقسيم عمل دولي جديد داخل القطاع الزراعي، بحيث يصبح الشمال هو المنتج والمصدر الرئيسي للأغذية من قمح وحبوب ولحوم وألبان ومشتقاتها .... بينما يستمر تخصص الجنوب في إنتاج محاصيل التصدير من خامات وغذاء كالقطن والمنتجات الزيتية والفواكه والنباتات الطبية ... لكي تصدر إلى كبريات مصانع إنتاج الغذاء في الشمال ليعاد تصديرها بأسعار احتكارية للجنوب المتخلف.

وسواء تعلق الأمر بما يصدره الجنوب أو يستورده من مواد زراعية من خامات ومواد غذائية ومنتجات معدنية، فإن الشركات الاحتكارية الدولية تتحكم في التجارة الدولية لهذه السلع، إذ تتحكم بضع شركات في النسبة الكبرى من التجارة العالمية للمواد الأولية.

يمكن هنا طرح تساؤل حول  مصلحة المراكز الرأسمالية الكبرى  عبر نشاط شركاتها متعددة الاستيطان  في السماح بنقل وتركيز بعض عمليات الإنتاج في دول العالم الثالث؟ هل تنطلق من  رغبة هذه المراكز في تنمية البلاد النامية وتسريع  مراحل نموها  الاقتصادي من خلال اكتشاف واستغلال المزايا النسبية التي تتوفر عليها؟

إن الواقع  لا يؤكد  هذا الاتجاه ، فالشركات متعددة الاستيطان   لا تبحث سوى عن تحقيق أعلى معدلات للربح للمساهمين فيها. وهو هدف تجده الآن سهلا في بعض الدول النامية المدينة مثل بلادنا والتي اضطرتها الأزمة المالية والاقتصادية الى فتح أبوابها للاستثمارات الأجنبية المباشرة، بعد أن أخضعت  اقتصادها لما يسمى بسياسات التقويم الهيكلي،  المتوجهة نحو الخارج والتي تضع القطاع الخاص الوطني والأجنبي وآليات السوق كبديل للقطاع العمومي ولتدخل الدولة.

 

ثانيا: الآثار الاجتماعية والسياسية

1 - تقويض السيادة الوطنية

إن كثافة الاستثمارات الأجنبية الخاصة التي تقودها الشركات متعددة الاستيطان أصبحت تهدد سيادة الدول وسلامة المواطنين. حيث تؤدي متطلبات هذه الاستثمارات وشروطها الى  مركزة السلطة الاقتصادية بين أيدي الشركات متعددة الاستيطان  وبالتالي الى تعريض  سيادة الدول للخطر. فهذه السيطرة  تشكل تهديدا  لمبادئ الديموقراطية على الصعيدين الوطني والدولي. وغير خاف ما تمارسه الشركات الكبرى من افساد للانتخابات العمومية وافساد للمسؤولين الحكوميين بل قد تصل حدة تدخل هذه الشركات  في الشؤون الداخلية للدول الى حد تنظيم الاغتيالات والانقلابات وتمويل الأحزاب التي تخدم مصالحها.

2 - إقبار مبادئ الديموقراطية:

في سبيل تعظيم ارباحها تتجاهل الشركات متعددة الجنسية والأقليات المالية القوية ، المسيطرة فعليا على دينامية العولمة الليبرالية، ما تحدثه من تفاقم في حجم  البطالة، ومن الغاء لمكتسبات العمال والموظفين والطبقة الوسطى والشعوب، ومن تنكر لمصالح الأغلبية متوسطة ومحدودة الدخل، دون أن يكون لهؤلاء الخاسرين آليات فاعلة تسمح لهم بالدفاع عن مصالحهم.

ويبدو أن سيطرة الأقلية أصبح قاعدة سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي، حيث أن خمس سكان العالم  فقط هم من يستطيعون العمل والانتاج والاستهلاك، أما الأغلبية الباقية التي تشكل80 % من سكان العالم فيعتبرون زائدين عن الحاجة، وأن  مصيرهم هو  التهميش والإهمال التام.

وتعمل الأقلية المهيمنة عالميا على  اخضاع مجمل  العملية السياسية الى آليات السوق مما يؤدي الى سيادة الفساد السياسي والارتشاء بين قادة الدول و الى تراجع الديموقراطية، كما لا يصل الى البرلمانات سوى ممثلي القوى الرأسمالية المهيمنة المحلية والدولية. فتعمل من موقعها ذلك على  اخضاع الطبقات والشرائح الاجتماعية الى سياساتها اللاشعبية.

وفي ظل ضعف تمثيلية القوى الشعبية الكادحة في المؤسسات الديموقراطية وغلبة التوجهات الانتهازية،  تتغلب المصالح الرأسمالية على مصالح  العمال كما يتم ترجيح التراكم الرأسمالي على مبدأ اعادة توزيع الدخل. وفي هذا الاطار تسود ديكتاتورية السوق دون أن تكون هناك مؤسسات ديموقراطية قوية موازنة.

3 - إقبار الدور الايجابي للدولة:

تتناقض مصالح المستثمرين الأجانب  مع الدولة، فهم يعملون عبر المؤسسات المالية الدولية  على تفكيك أجهزتها الديموقراطية والحفاظ فقط على جهازها القمعي دون أن يوفرو اطارا عالميا بديلا، من شأنه القيام بما كانت تقوم به الدولة في تسيير وضبط الرأسمالية الوطنية. ولا يخفى على أحد أهمية الدور الذي كانت تقوم به الدولة في هذا المجال، فبالاضافة الى الدور  المحوري الذي لعبته في نشأة وحماية النظام الرأسمالي في مراحله الأولى، فإنها كانت تلعب دورا هاما في علاج الأزمات التي تعترض النظام الرأسمالي عبر مراحله المختلفة. لكن الدولة تتعرض حاليا  من جانب الرأسمالية المعولمة، لعمليات اضعاف شديدة ومتعمدة، مما سيؤدي الى صعوبات شديدة للرأسمالية في المستقبل.

فقد كانت الدولة في البلدان الصناعية الرأسمالية في عالم ما بعد الحرب تعمل على تنشيط الاقتصاد الوطني، وزيادة فرص تشغيل اليد العاملة المحلية من خلال جرعة منشطة من الانفاق العمومي أو بضخ كمية اضافية من رؤوس الأموال في السوق المحلي، وهو ما كان يؤدي الى ارتفاع حجم الطلب الكلي وزيادة العمالة وتشغيل الطاقات العاطلة. أما الآن وفي ظل العولمة التي أصبحت تعني الحرية المطلقة لحركة انتقال السلع ورؤوس الأموال عبر الحدود الوطنية دونما عوائق، فإن ضخ النقود في السوق المحلي يمكن أن يؤدي، ببساطة، الى تسربها الى دول أخرى لاستيراد السلع الرخيصة المنافسة للسلع المحلية أو للاستثمار في الخارج. كما أنه في ظل ما يسمى بعمليات تحرير القطاع المالي وقطاع التجارة الخارجية حدثت فوضى هائلة في السوق المالي، تمثلت في استفحال المضاربات وانهيار البورصات المالية، وتدهور العملات والتقلبات الشديدة في أسعار الصرف، وتفاقم علاقات العجز والفائض بين الدول، واستفحال أزمة المديونية الخارجية ... الخ. فكيف يمكن التوفيق بين استمرار العولمة بما تحمله من امكانات هائلة لنمو حجم الانتاج العالمي، وبين تلك البيئة المضطربة للاقتصاد العالمي، وهي البيئة التي ترفع يوما بعد الآخر من درجات المخاطرة واللايقين في المعاملات الدولية.

4 - تقويض المرافق العمومية

تدفع الشروط التي تدخل عبرها الاستثمارات الأجنبية الخاصة  الى السيطرة على  مختلف  المرافق العمومية الحساسة كمرافق الماء والكهرباء والتطهير والمواصلات والصحة والتعليم فتصبح الاستفادة من هذه المرافق نخبوية، بل تحرف أهدافها من مرافق تخدم القضايا الوطنية الى مرافق خاصة تكرس مظاهر الاستغلال.

فقد تعرض مفهوم المرفق العمومي للافلاس  في ظل ايديولوجية الخوصصة مما يؤدي الى  نزع ملكيته من الدولة  ووضعه تحت سيطرة الشركات متعددة الاستيطان. فتفكيك الدولة وتقليص وظائفها والتفويت العشوائي والمبالغ فيه للمرافق العمومية من شأنه أن يؤدي الى افلاس مفهوم الشأن العمومي، وتدهور المضمون الحقيقي لقطاعات التعليم والصحة والسكن  وأخيرا وضع الدولة  تحت وصاية المصالح الرأسمالية الدولية وتشديد استغلال مواطنيها. فانتشار الاستثمارات الأجنبية الخاصة تساهم في  ابعاد الدولة عن المواطنين وتشجع على ا فساد تدبير الشأن العمومي. كما تحول الدولة الى  أداة  قمعية لخدمة أهداف الشركات الأجنبية.

3 - الافلاس الاجتماعي: عولمة الفقر والاستغلال

مع اتساع حرية حركة رؤوس الأموال عبر الحدود دون أية عوائق، عمدت كثير من الشركات المتعددة الجنسية الى نقل مصانعها من بلادها الأصلية -حيث ترتفع أجور العمال وينخفض متوسط معدل الربح- الى البلاد النامية والدول التي كانت اشتراكية حيث تنخفض الأجور وتتوفر المزايا المتعددة التي تزيد من معدل الربح. وكان لذلك لا شك، علاقة واضحة بزيادة بطالة عمال هذه المصانع. كما أن الثورة التكنولوجية الهائلة المرافقة للعولمة أدت الى خلق اتجاه، لا رجعة فيه، للاستغناء المتواصل عن اليد العاملة، والغاء كثير من المهن والوظائف بعد احلال الآلة مكان الانسان، وتطبيق ما سمي بعمليات اعادة هندسة الوظائف في كثير من مواقع التوظيف. فما يميز النمو الهائل الذي حدث في الانتاجية في عصر العولمة جراء الثورة التكنولوجية المعاصرة هو استئثار فئة قليلة جدا من الأفراد به. وينحصر هؤلاء في رجال الادارة العليا وحملة الأسهم وخبراء المعرفة. وهو الأمر الذي أدى الى تعميق التفاوت في توزيع الدخل والثروة الوطنية.

فعلى الرغم من زيادة انتاجية عنصر العمل، الا أن دخل العمل تزايد انخفاضه. فكيف يمكن التوفيق بين اعتبارات التقدم التكنولوجي الذي يعتبر الآن أحد القوى المحركة لتطور البشرية، وبين تهميش ملايين الناس وابعادهم قسرا عن الحياة الاقتصادية؟

 كما لا  يعير المستثمرون الأجانب أهمية لصحة  سكان البلاد المستضيفة وللمستهلكين بحيث لا يترددون في استعمال المواد الملوثة أو الممنوعة في صناعاتهم  ولن  يترددوا  في استيراد المنتوجات الضارة بصحة المواطنين. فالنسبة المرتفعة من  الاصابة بالسرطان داخل البلدان النامية تدفعنا الى التساؤل عن حقيقة أنشطة هذه الشركات.

لقد تزامن مع تزايد حجم الاستثمارات الأجنبية الخاصة خلال  الفترة المتراوحة ما بين عقد السبعينات ونهاية عقد التسعينات تزايد  مظاهر الثراء في دول الشمال وانتشار واسع لمظاهر الفقر في دول الجنوب. فبالرجوع الى التقرير السنوي  الأخير حول التنمية البشرية سنجده يفيدنا  بحجم هذا الاختلال. فبالنسبة  لتمركز  مظاهر الثراء في دول الشمال يشير التقرير الى أن:

- ثلاثة أشخاص الأكثر ثراء في العالم يملكون  ثروات تفوق الناتج الداخلي الاجمالي ل 48 دولة نامية  من الدول الأكثر فقرا.

- كما أن  15 شخص الأكثر غنى في العالم، تتجاوز ثرواتهم الناتج الداخلي الاجمالي لمجموع الدول الافريقية جنوب الصحراء.

- ثم إن  32 شخص الأكثر غنى في العالم، تتجاوز ثرواتهم  الناتج الداخلي الاجمالي لآسيا الجنوبية.

- كذلك فإن  84 شخص الأكثر غنى في العالم، تتجاوز ثرواتهم الناتج الداخلى الاجمالي للصين، وهي الدولة الأكثر سكانا في العالم.

- ويشير التقرير الى أن  الدول الصناعية تضم  147 شخص من كبار الأثرياء، وتصل  ثرواتهم الى  645 مليار دولار، بينما تضم الدول النامية 78 من كبار الأثرياء بثروات  تبلغ مجتمعة 370 مليار دولار.

- وتضم   الولايات المتحدة الأمريكية وحدها 60  شخص من "كبار الأثرياء"  يملكون  311 مليار دولار.

- أما في ألمانيا  فإن 21 شخص يتوفرون على 111 مليار دولار؛

 

هذا بالنسبة لمظاهر الثراء،  أما بالنسبة لمظاهر انتشار  الفقر  في دول الجنوب فيشير التقرير الىأنه:

- من بين  4,4 مليار شخص من سكان العالم، هناك حوالي ثلاث أخماس لا يتوفرون على البنيات الصحية اللازمة، كما أن الثلث من هؤلاء  محرومين من توفير مياه الشرب، بينما ربع هذا العدد لا يتوفر على سكن لائق وخمسهم لا يتوفر على الخدمات الصحية الحديثة.

- في مجال التغذية، نجد أن خمس سكان العالم  لا يحصلون على ما يكفي من الكالوريات والبروتينات حيث أصبح النقص الكبير في ضروريات الجسم البشري ظاهرة شائعة في بلاد العالم الثالث:  فهناك 3,6 مليار شخص في العالم يعانون من نقص في مادة الحديد، ومن بينهم 2 مليار  شخص مصابون بفقر الدم.

- كما أن   800 مليون من البشر  يعانون من المجاعة عبر العالم.

- تبقى المفارقة أنه بينما يحتاج العالم سنويا الى حوالي 15 مليار دولار للقضاء على الفقر في العالم، تبذر أوروبا الغربية وشمال أمريكا حوالي 40 مليار دولار في اقتناء العطور وتربية الكلاب المنزلية.

 

على سبيل الخاتمة

تؤكد الآثار المترتبة عن نشاط الاستثمارات الأجنبية الخاصة  على أن دول العالم الثالث لم تخرج أبدا عن المنطق الاستعماري السابق، بل أن المستقبل  أصبح يندر  بتعرض هذه الدول  لمتاعب أفضع مما وقع خلال الحقبة الاستعمارية، نظرا لما تؤسسه العولمة الليبرالية والرأسمالية المنفلتة  من سيطرة واسعة للشركات متعددة الاستيطان على موارد وخيارات الشعوب، عبرعزلها في غيتوهات قاحلة، وحرمانها من مواردها ومن فرص العمل والغذاء والصحة والتعليم

وأمام استقالة الدول من مهمة تدبير الشأن العمومي وترك المجال مفتوحا أمام عربدة الشركات الأجنبية، أصبح من اللازم أن يتشبع المواطن في كل مكان بروح مقاومة هذا النوع من الاستعمار الجديد.

في إطار مثل هذه المقاومة  تعمل شبكة أطاك الدولية الى جانب المنظمات غير الحكومية وبعض الهيئات الحزبية والنقابية عبر العالم   على تعبئة واسعة للمواطنين في كل مكان قصد الوقوف في وجه هجوم الليبرالية المتوحشة.

 وقد عملت هذه الحركة العالمية المناهضة للعولمة الليبرالية على صياغة عددا  من البدائل الممكنة و المطالب المستعجلة للحيلولة دون تردي أوضاع الشعوب أكثر مما وصلت اليه لحد الآن. ونذكر من بين هذه المطالب:

-  الوقوف في وجه تراجع دور الدولة في تدبير الشؤون العامة  من خلال دمقرطتها ورفع مستوى أدائها؛

- تضريب  المعاملات المالية الدولية  والاستثمارات الأجنبية الخاصة  نظرا لما تحققه من ارباح فاحشة على حساب الشعوب ؛ ومن ثم توجيه عائدات الضريبة لخدمة متطلبات المواطن الأساسية؛

-  المطالبة بالغاء المديونية الخارجية، وتخصيص عائدات الإلغاء من أجل محاربة الفقر وتنمية المناطق المتخلفة؛

- المطالبة بالغاء سياسات التقويم الهيكلي، نظرا لدورها في اخضاع الشعوب المختلفة لإرادة ومصالح الرأسمال العالمي؛

- ادخال مفهوم المرفق العمومي ضمن بنود الدستور بحيث يمنع منعا مطلقا خوصصة المرافق العمومية؛

- المطالبة بتنظيم استفتاء شعبي قبل طرح أي مشروع للخوصصة لأن المواطن دافع الضريبة هو المالك الحقيقي للمقاولات العمومية وأن السلطات العمومية لا تتوفر على ما يكفي من الصلاحيات لكي تقرر وحدها في مصير هذه المقاولات،  كما أنها  تخضع في  الغالب عند اتخاذ مثل هذه القرارات لأوامر المؤسسات المالية الدولية التي لا تعبر عن ارادة الشعوب؛

- منع  الاجانب من الاستثمار في بعض القطاعات الحيوية للشعوب مثل الاستغلالات الزراعية وحقوق الملكية الفكرية والثقافية والموارد الطبيعية والمرافق الاستراتيجية...

- مطالبة  المستثمر الأجنبي بالاحتفاظ بجزء من رأس المال المستثمر كضمانة لدى البنك المركزي داخل البلاد المضيفة مع اعادة استثمار الأرباح التي تم تحقيقها محليا ؛

-  تحديد مبالغ الأموال التي يقترضها المستثمر الأجنبي محليا  لدى الأبناك الوطنية؛

- تعيين ممثلين عن السلطات العمومية داخل المجلس الاداري للمستثمر الأجنبي؛

- تحديد نسب مائوية من الأرباح التي يعاد استثمارها محليا والتي يجب أن تضل ضمن حدود الدولة المضيفة؛

- تقديم تقارير دورية حول مدى تحويل التكنولوجيا الحديثة الى الدولة المضيفة؛

- تحديد حصة المستثمر الأجنبي من الصادرات؛

- تحديد نسب الماد والخدمات التي يستوردها المستثمر الأجنبي؛

- تحديد نسب تحويل الأرباح الى الخارج خصوصا في حالة تعرض البلاد الى العجز التجاري والى العجز في ميزان الأداءات؛

- أن يفرض على المستثمر الأجنبي الذي يدير امتياز  مرفق عمومي أسعارا محددة للمنتوجات والخدمات التي يقدمها؛

- احتفاظ الدولة المضيفة بحقها في اقفال أي مشروع أجنبي لا يحترم متطلبات المحافظة على البيئة؛

- رفض أي مشروع يستهدف المساس بالمكونات الوراثية للمواد الغذائية والثروات الحيوانية؛

- الاعتراف بالحريات النقابية والتنظيم النقابي والتفاوض الجماعي للعاملين لدى المستثمرين الأجانب ...

 

تلك هي بعض المطالب التي عبرت عنها حركة المنظمات غير الحكومية العالمية منذ تصديها سنة 1998 لمشروع اتفاقية الاستثمار متعددة الأطراف  AMI مرورا عبر التصدي للبنود غير العادلة التي كان مؤتمر سياتيل للمنظمة الدولية للتجارة على مشك تمريرها ووصولا الى صياغة مطالب عالمية لالغاء المديونية الخارجية لدول العالم الثالث والتي أشرفت عليها حركة يوبيلي 2000 وكذا عقد القمة الاجتماعية ببورتو اليغري بالبرازيل والتي أسست في مواجهة منتدى دافوس منتدى عالمي للحركات المقاومة للعولمة الليبرالية.

 

للتعليق أو التعقيب أو اغناء هذا الموضوع الرجاء مكاتبة العنوان الإلكتروني التالي:

[email protected]

 

 


 
--------------------------------------------------------------------------------
 
[1] شكلت هذه الورقة موضوع مداخلة في اطار اليوم الدراسي الذي نظمته جمعية أطاك المغرب، مجموعة الرباط يوم الخميس 12 أبريل 2001.

[2] فطبقا للمدرسة الكلاسيكية يحدث التدهور في معدل الربح على المدى الطويل نتيجة لإتجاه النصيب النسبي للريع من الناتج الداخلي الاجمالي نحو التزايد تحت تأثير قانون النمو السكاني (المالتوسي) وقانون تناقص الغلة وما يرافق ذلك من نمو واضح في نصيب الأجور وتدهور سريع في الفائض الاقتصادي المتبقي لدى الرأسماليين.

أما عند كارل ماركس، فإن اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض في الأجل الطويل إنما يكمن في زيادة التركيب العضوي لرأس المال (أي نسبة رأس المال الثابت الى مجموع رأس المال). 

أما عند جون ماينارد كينز فإن التردي في معدل الربح على المدى الطويل (وقد أسماه كينز معدل الكفاية الحدية لرأس المال) إنما يرجع الى النقص في الطلب الكلي الفعال الناجم عن اتجاه الميل للاستهلاك نحو التناقص مع زيادة الدخل.


 



#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشراكة الأورومتوسطية بين واقع الهيمنة وأحلام التنمية
- المديونية الخارجية والعولمة
- مقاومة العولمة الليبرالية
- فخ المؤسسات المالية الدولية
- أبعاد التنمية المستدامة


المزيد.....




- في يوم استقلال لبنان: حضرت الحرب والأزمة الاقتصادية الخانقة، ...
- دعوى في هولندا لوقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل
- هنغاريا: العقوبات على -غازبروم بنك- ستخلق صعوبات لدول أوروبا ...
- أردوغان: نجحنا بنسبة كبيرة في التخلص من التبعية الخارجية في ...
- بلومبيرغ: تعليق الطيران العالمي يترك إسرائيل في عزلة تجارية ...
- موسكو: سوق النفط متوازنة بفضل -أوبك+-
- سيل الغاز الروسي يبلغ شواطئ شنغهاي جنوب شرقي الصين
- بيسكوف العقوبات الأمريكية على -غازبروم بنك- محاولة لعرقلة إم ...
- نائب وزير الطاقة الروسي من اسطنبول: الغاز يدعم عملية التحول ...
- أسعار -البتكوين-.. ماذا وراء الارتفاع القياسي لـ-الاستثمار ا ...


المزيد.....

- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبد السلام أديب - الاستثمارات الأجنبية الخاصة عامل تنمية أم استعمار جديد؟