|
شوارد الفكر -1-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5571 - 2017 / 7 / 4 - 02:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
شوارد الفكر -1- قد ينجب فقدان الذاكرة في جبة الدين التطرف، ومن جب السياسة التزلف، وينحدر من اجتماعهما غول الصراع المبدد للعلاقات البشرية، والروابط الإنسانية. لأن الدين في فقد ثوابته التي تكوِّن نظرية مقاصده المثالية، ينشئ الطرف، والحواشي، والسياسة في طمس خصوصيتها التي تعبد السبل إلى غاياتها الأخلاقية، وعناوينها الاجتماعية، تتنتج الضد، والنقيض. هذه حتمية دلت عليها التنظيمات الإنسانية، ومعادلة جرت عليها التجارب التاريخية، سنمر عليها هنا مرور الكرام، لأن ما نراه في المرآة الواجفة، لا نعتبره إلا ومضة عابرة، وخفقة هاربة، لن تجد لها مهدا سالما للولادة، إلا إذا تأسس ناموس منطقها من نضوج المعرفة، وصارت الأضداد معروفة بصلاتها، لا موقوفة على خلافاتها، إذ ما يقتضيه الضد عند التنازع، والتصارع، هو ما ينتجه من جنس غريب في الخارج عن الذوات المتعاركة، لأنه منفصل عنها في القضية المتعارك حولها، ومنفعل بما يوجده الصراع من آثار غير مرغوب فيها، ومتأثر بما يحدثه الخلاف من مساحات قابلة لزراعة طفيليات الحقد، والكراهية. وهو الذي يعبر عن النتيجة التي تصنعها التراكمات المتفاعلة في وعاء الزمان، والمكان، والمتناسلة بين العقول المتحاربة بعقد الخلد، واللذة، لا ما تتدعيه الشعارات المحددة لطريق القصد بما تفترضه من مهاد، وما تختاره من وهاد. وهنا نكون أمام قانون قائم في الأشياء التي نظن قدرتنا على امتلاك حقيقتها، والالتحام مع طبيعتها، يعلمنا كيف تنشأ مركباتها المتفاعلة فوق الطبيعة، لأن ما يُبنى فينا من مفاهيم مسيطرة على نمط فكرنا، وسياق وجودنا، يفند سيطرتنا على دلالات اللغة، ومفاهيم اللعبة، إذ ما تزفر به الأحداث من صراع دموي بين الأفكار التي اتسمت بالشمولية، أو الكونية، هو الذي يصنع حقيقة الألفاظ في المعنى، ويضع الأشياء في منبتها، ومحضنها. وما لم نستوعب ما تدل عليه الألفاظ من تواصل بين الكليات المؤسسة للمعاني، والمفاهيم، وتجاور بين الحقائق العينية والجرمية الجامعة لأسس التشارك فيما نعبر عنه بالقصدية، فإنه لن يحق لنا أن نصنع ما نخاله مهدا للمناعة، أو موئلا للحماية، لأن بتر الصلات بين ما يوحد المشتركات في قاعدة المواضعة، ونمط الاتفاق، وهو كل الكليات التي تآلفت عليها العقول لسبك ماهية النظام في الوجود البشري، لن يحدث استقرارا في فحوى السلم بين الأكوان، والأعيان، ولن يبني استحبابا لما يموج في الواقع من أحداث متعبة، ومقلقة، إذ ما يترجاه كل موتور يرغب في متعة السكينة، ويبحث في سبيله عن عين حقيقتها، وعن نبع شربها، هو ما يبرز من جنس المعاني عند انتهاء صراع المصالح، وعلاقات المفاسد، وفناء المنتصر، واجتثاث المنهزم. فسواء من هتف باسم الإله، واعتبر ذاته ناطقا باسم السماء، أو من ناصر مغابن عمقه، واستل من لؤمه سيف أنانيته، وزعم أنه الجنس الأقدس في نوع الإنسان، والأصل المستحوذ على فروعه بالضرورة، والعلة، لأن عودة ما تعاركت عليه السماء والأرض إلى نقطة خصوصيته، ومولد هويته، هو الذي يجعل للأشياء مراتب في القبول، ومناحي في الرفض، إذ الرضى عن القتل هو رفض للحرية الكاملة في لسان الطبيعة، وهدم للوئام الرابط بين الأفراد، والجماعات، لأن صناعة الحياة، وحماية ناموسها، ورعاية مجالها، هو الغاية السامية لكل فكر قادر على الاستثمار في دنيا الإنسان، وفي سعادة حياته، وفي تحريره من القيود المكبلة لعقله، وحواسه. كلا، بل الحياة ليست إلا شعورا بالوجود، ورغبة في السكينة، وسعيا إلى الوحدة، وارتباطا بالطبيعة، وإذا فقدت ذلك الترياق الذي تخفف به من وعثاء سفرها بين المنازل المتشاكسة، والمراحل المتعاندة، صارت فوضى عارمة، وعبثا ينفخ سعيَره عديم المعنى، وسفيه الجدوى. وهنا يكون الصراع حقيرا، وقصده خطيرا، لأنه يبدد ما يرفعه من وظائف المباني، وينسف كل ما التحم من الآراء المتعاضدة على القيمة المشتركة. فلا غرابة إذا استأسد بالدين فئام، وتنمر به أقوام، لأن خلوده في وقدة ذهن المنافح عنه، وعنفوانه في حمية المنتمي إليه، لا يأتي إلا من باب الإكراه عليه بقوة الناموس المستحدَث لحماية طلاب التصريف بلغة السماء. إذ مجرد النظر في مقتضى كل ما اختزنه الكون من أفكار، وما انطوى عليه الوجود من أسرار، يحمي الإنسان من معرة الزوال، ويقيه من الخلود إلى كل معنى تافه، ورديء. وإذا اغتنى الإجبار بقوة القهر، واكتنز في عمقه صوت القسر، وافتقر العقل إلى ملكات الاستقبال، ومؤهلات الإرسال، ارتضى أن لا يكون رسول السلم بين الأكنان، ولا وساطة خير بين الأعيان، لأنه لن يأتي منه إلا فساد الأخلاق، وهجين الأفعال، وإذ ذاك، سيغدو ما تواتر فيها خبره من خصال، وفعال، لا يمتعنا بشرف الانتساب، ولا بوشيجة الانتماء، إذ لم يقابل النفاق الإيمان في التاريخ، ولم يتعانقا على ربوة العشق، لأنهما من طينة متضادة، ونابعان من كبد الإنسان في استجلاء الحقيقة، واستجداء الطبيعة. كلا، بل نازل الإنسان الإجبار بجسارة، والعنت بشطارة، فكان الخوف رديفه في الجلاء، والأمن صنيعه في الخفاء. ولذا، فإن وعاء الشيء لا يكون جوهرا لذاته، إلا إذا حمله بما تضمنه من كليته، ولا يحتويه إلا إذا كان من جنسه، لأنه يدل عليه بالمطابقة، لا بالتضمين، وإلا، فما فائدة الأديان إذا حاربت ذاتها في قهر الإنسان، وغدت حياتها مسكوبة بالموت، وغاياتها ممنوعة بالفوت.؟ وإذا كانت نتيجة متسلق شجرة الأماني متهما بخيانة القداسة، وصارت القصود لا تفي بما اتفق عليه الجمع عند صياغة العهد الذي يربط بيننا بأغلظ مواثيقه، فكيف لطالب المجد أن لا يحتار، ولا أن لا يمتار، وهو يرى الولوغ في حمأة الهوان شرابا سائغا لتمام كسوة الفضيلة.؟ ربما، قد يقول الطفل عندما يرى وصايا الآباء نصا غادره المعنى، ونافره المبنى، يا هذا: صه من جفاء العقل، وتعال نكرع خمرة المرح من دنان اللحظة، ونرقص للنجوم المبتسمة بين الآفاق البعيدة، لعلنا نحيي رميم السعادة بين قبور الآمال الكئيبة. هناك يصير كل ما نستمرئ سبته خلقا سويا في الطبائع الموجوءة، ويغدو ما نحاذر بطشته حرما ممرعا بالرغبات المكتومة، لأن عدم قدرة العقل على معانقة لحظات السمو فينا، ومنازلة همسات العشق بيننا، لا يعني كوننا قد غدونا أهل عفة، أو ذوي مقة، بل يعني تيهنا بين فلوات الشهوات التي اختلفت بعدد أنفاسنا، وغبننا فيما نجنيه بين دروب أذواقنا، إذ لا نعبر في تلك الفوضى إلا عما يحترق بين ذواتنا، ولا نظهر إلا ما يختمر في أذهاننا، لأننا لا نعبر بالإشارات إلا عما أحتبس في أعماقنا، ولا نومئ بالعبارات إلا إلى ما توارى من رموز في ذاكرتنا. فلا غرابة إذا كان الولوغ في الدم البشري جمالا في عقل امتطى صورة الفرس الأبلق بين الأماكن المسعورة بدنس الإثم، ووجع الخطيئة، وكانت السباحة في تهيام العواطف تقديسا لفرح البحر، وسرور الأمواج، لأننا لا نستمع بغموض البحر إلا إذا فقد البر صريح عشقه، وصحيح وده، وصار محلا للتنازع على النصيب في المتعة المدللة، ومجالا للتحارب بين الشعوب المنهكة، إذ البحر في مجهوله، وهو عمقه البعيد عن الرؤية، ولو اختلفنا في أنه قد يكون غرقا، أو قد يصير غطسا، وسواء من عقد عليه صفقة الياقوت، وسر المرجان، أو من تبرد به من سخونة الديار المفجوعة بسؤال اليوم، ونقاش الغد، لا يكون فضاءه معبرا عن جمال غموضه في العقول الحائرة، ما لم يكن مستوطِن السهول منتشيا بشساعة المدى بين عينيه المتوثبتين، ومترنحا برحابة المزار بين الأكنان الباسمة. ولذا، يكون التعبير صافي الدلالة عن ذواتنا، لأننا لا نتباهى إلا بما فقدناه، ولا نتعالى إلا بما مُنِعناه، ولو تملكنا كثيرا مما تدافعنا حول بابه، لانتهينا إلى أن الأشياء المقرورة فينا، لن يستجيب منطقها، ما دامت منفصلة عن عقلها، ووعيها، إذ الفرار من حدة الفعل إلى شرة العبث، لا يأتي منه إلا تضييع الزمن بين متاهات لن نصل فيها إلى نهاية، ولن نجني فيها غاية، لأن ما نستعجمه من اتصال العقل بكلية الإنسان، هو سبب في احتقار الفعل، أو في تفخيمه. وما لم يكن العقل منظما لكيانه، وفي اتصال بقلبه، واستيعاب لحسه، لن يغدو نظامه كتابا تقرأه الأجيال القادمة، لأنه لا يستوعب القانون، ولا يستظهر الناموس، وما لم يبن منطقه على أس ما وضع فيه من حياة، لن يكون أثرا فاعلا في البشرية، ولا رسالة يحملها الزمن بين جوانحه، وأنظاره. وإذا كان الفصل مقصودا للتحريف، ومعلولا بالتزييف، فإن ما يعول به الراهب تحت قبة مجثمه، لن يثير حدة السؤال الحقيقي؛ وهو كيف يمكن لنا أن نمزح في حضارة الإنسان بين وجدان القلب، ولغة العقل.؟ لعل إطفاء شعلة هذا السؤال الذي وجد في الكائن العاقل، وبكل الطرق الدنيئة التي شهدها التاريخ البشري، يؤكد لنا دور الرهبان في صناعة الصراع الذي قادوه بسلاسل الشنق، وسيوف الإبادة، لأنه إن دل على الإله بما يدعي من رسوم النقاء، واحتضن فيه الفعل الخير، والأثر الأصلح، فهل صافح الإنسان السماء، وصدق بأن في كيس الكاهن كنز آماله، ولذة أحلامه.؟ ربما من سوء الحظ في كثير من الحضارات الإنسانية، أنها كانت في موقع إنصات لما يموج في محيط سهومها من أفكار، وأنظار، فاستمعت إلى الإله المفارق للكون في كثير من مجامع المعرفة، ولم تستمع إلى الإنسان الذي دلت صورته على الكمال في عين الخليقة، فكانت حربا للدفاع عن صدى الصوت، لا نفسا ساريا في فضاء الصمت. قد يكون هذا تحليلا بسيطا في عقل بنى مطلق القضية من تدافع الضدان، وتنازع الإرادات حول حصة البقاء، لأنه يتأسس على التقابل بين العالمين المفترقين، والمتنافرين، لكنه عميق في نظر من شهد الإله بين جون الإنسان، وحرده بين المتناقضات، والمتآلفات، وأدرك في انصهارهما صورة الجمال القدسي، لأن ما سمعته بعض الحضارات من ضجيج المعابد، وعويل العبيد، هو ذلك الوخز المنقوش بزوغان عيونها المتوثبة نحو الغد بأحلام مجنونة، وأوضاع ممحونة، بل هو ذلك الشبح الذي يجر ذيل برنسه كالطاووس بين حدائق الأماني المكبوتة، ويتوشح صدرُه سيفا صقيلا تنزف منه دماء البشرية المهدورة، ويترنح بعينيه الحادتين نحو الأفق المتنائي بين الأكوان الغامضة، والعوالم الغائرة. فهل سمعت الإله الحقيقي الذي لا يتحدث في محرابه بالتخويف، والترهيب.؟ لو سمعته بين السباع الجاثمة بين يدي الإله، وهو في زينته التي تباهى بها فسطاطه، لما جعلته منفصلا عن حقيقتها، ولا معاديا لأحلامها، لأنه يسري في الأشياء كالنسيم، ويجري بين المعاني كالرنيم، وهو في دقة دلالته على ذاته رياضي، ومهندس، وفي حدة برهانه على فعله فيزيائي، وفنان، لأنه سريع النفاذ في الأحداث، والوقائع، والآخذ بناصية المعاني، والمباني، لكي يكون لها في النظام الكلي دور، ووظيفة. لعل هذا الإله يشبه العماء، ويكاد من شدة سرياليته أن يكون طيفا جانحا، ولونا خافتا، يتململ بين المدى الغارق في لجة السناء، وبؤرة البهاء. أجل، قد يكون فيه بعض الغموض الذي تنزاح إليه الصورة حين يختلف ظلها، وجرمها، لكنه إله الفلاسفة الذين غرسوا بدماء الشهادة شجرة الدهشة، لأنه في كل ما يتصوره البشر غير موجود، إذ هو الصورة التي انتهت إليها العقول عند ذبح خروف القربان، والمعنى الذي لا يعبر عنه المبنى باللغة، والحقيقة التي يتيه في شدة جلائها كل تصور، وتحديد. فلم لا نقول عنه بأنه النظام الذي يسري ناموسه وراء الأنظار، والصوت الذي يجري نسيمه كالضوء بين مسام الوجود.! لو قلنا بذلك، فقد أقررنا بأننا قطرة في بحره، ولمسة في عطفه، ومسحة في كونه، لأننا حين لا نحده بحد، ولا نرسمه برسم، يكون الموجه لكل الثقافات، والحضارات، إذ لم نجعل له قبة، فيحتاج إلى بخور، وشمعدان، ولم نبن له حديقة، فيحتاج إلى تغريد العصافير، ورقص الغواني، بل لا نحاجج من أجله، ولا نجادل في حقه، إذ رأس مالنا الذي نملكه، هو حضوره في كل المطلقات التي تزرع في الإنسان بسمة الحياة، ونعمة الطبيعة. ربما ما زال في هذا اللحظ عماء، لأنه لا يفهم إلا بالثنائية، وهو كونه جاريا في الوجود، فيكون بذلك وجودا بالواجد، والموجود. لكن قصارى الإدراك الذي يفضي إلى نهاية التصوير للمشهد الفلسفي في القول الألوهي، أنه الأشياء في ماهيتها، والجواهر بكل عناصرها، والصنائع بكل معادنها، والمعاني بكل ما تتكون فيه من جلي الظهور، وخفيه، بل هو الطبيعة عند الطبيعيين، والضمير عند الإنسانيين، والمصادفة عند اللائكيين، والجامع لكل الآلهة عند الإشراقيين، والتوحيد عند الرساليين، لأنه الأجلى فيما أدركه الإنسان بعد إيقانه بحركة القوى الخفية وراء كل جوهر موجود. ومن هنا تكون الحضارة في استماعها إلى هذا الصوت إنسانية، وتغدو قريبة في الإدراك، والاستفهام، والاستمتاع، لأنها اعتبرت فيه تلك الصورة النهائية التي ارتضتها البشرية في كدها الجسيم، واشتاقتها الجوانح الشفافة في مرحها العميم، إذ الإنسانية كملخص للقيمة التي هتفت به الديانات، والحضارات، لا تعني ما استوحته اللحظة في عقول المترفين من معنى موءود، فتصير مظاهر في العطف، ومعالم في الحدب، لا كمالات في النفس البشرية، ومقامات في التجربة الأخلاقية. كلا، بل هي المعنى الذي يضم تاريخ الإنسان، وحضارته التي أحس فيها بالسعادة الهنيئة، وعمرانه الذي سمع صوته من روح نمنمات عشقه الرخيمة، وترنيمات ولهه الشفيفة، لأن ما تواتر من خبر ذلك بين الكراريس، ومنذ أن اكتشف الإنسان التمييز بين الخير، والشر، هو الذي يعلمنا كيف نبني أساس الغد على المشتركات التي تآلفنا على أنظارها بالمواثيق الغليظة، وكيف نرفع لواء الكرامة بين أحلامنا الوديعة، وكيف نغشى موارد الجمال بصفي أذواقنا السليمة. وإلا، ستكون الإنسانية شعارا يتدثره كل من ابتغى في حظوته أن يكون خطيب الجماهير، وهو يعلمهم كيف سكر بخمرة نشوته حين أذرف دموع المحرومين بين مقابر البايئسين، وكيف أهدى قصيدته لدمعة الأطفال التائهين. أجل، إن ما يثير البكاء في الغوغاء جميل، وهو في عمقه دليل على قيمة جوهرة العقل العليل، لأنهم يبكون ذواتهم من غير أن يشعروا بحرج في الدموع، ويجترون غصتهم من غير أن يدركوا سبة لما يفعلونه بالخضوع، إذ البائس لا يسكن صخبه صوت الحق، وهو هدير يمور من لسان مرصعة أسنانُه بالذهب الوميض، أو بكاء من حلق مدسم بأطايب الطعام العريض، وهو يخبر عن الزهد المكنون في مسافحة الشهوة بجماع، والعفة المكتومة في عب عقار اللذة بخداع، لأن صوتها لا ينزف إلا من عمقها، ولا يهطل إلا على قلاعها، إذ لا تكاد تسمع إلا صداها، ولا ترى إلا ظلالها، وما لم يكن وصفنا دالا على موصوفها، فإن ما يأتي منهم لا يصد عدوا، ولا يمرع صديقا. كلا، لن يسكت صوت الجوع حكايات مفجوعة بالصبر، ومغبونة بالقناعة، لأنها ولو أثارت العقل في نسبة الحوادث إلى عالم السماء، واستفزت السؤال بين حدود الإمكان، فإنها في هجوم الرغبة عند هيجان العاطفة، تحس بتعاقب الحدثان على ظهر الأرض، إذ هي لا تعيش الاستثناء، ولا تحيى الألم، لأنها ما طلبت تفسيرا إلا في الموجود، وما رغبت إلا في كشف المحدود، إذ لو كانت غايتها السؤال، لانتفى عندها الحد، والرسوم. فإلى أيهما ستميل في الطلب، والجلب.؟ وإذا كان المثال الأفلاطوني ينتج وعيا أرستقراطيا، وحسا نخبويا، لكونه تتشكل ظلاله في الخارج، وتنتمي حقيقة صورته إلى عالم غير متناه الحدود، فإنه قد أخذ منحى آخر مع بيكون، إذ بدأ ينحو نحو الذات التي اغتالتها طلاسم الكهان، وسياط الملاك، لكي تكون هي التي تهب الإنسان وعيه، وتمنحه أهلية صناعة مهد السعادة على بساط الأرض، لأنه قد أنتقل مما أفرزه صراع الدين مع العلم إلى حياض أخرى، ينتجع فيها مراحل غضة بالسؤال، ومنازل بضة بالاندهاش. لكنه وعلى الرغم مما تفجر في تلك اللحظات من كشوفات، واختراعات، لم يبرح دائرة ما قد تولد عن الصراع من عاهات في سيرة العقل البشري. وهو ما حدث من حروب بين اللاهوت، والسياسة، لأنهما في غياب الإنسان عن دائرة اهتمام كل واحد منهما، لن يكونا إلا تسلطا على الرقاب، وتجبرا بين الهضاب، إذ سيف اللاهوت لا يمتشق إلا حيث يعلو صوت الباطن بالخوف، ويبرز سلوك الظاهر في العنف، وسوط السياسة لا يجرد إلا حيث يكون نظاما يسوغ صراع الوجود، وعناد المواقع. ومن هنا تنافرت الآراء في الميتافيزيقا، فمن قائل بضرورتها، واكتفى بالتهذيب، والتشذيب، وقائل بانتهاء الدين للعلم، واقتضاء دورة الحياة لنظام أرضي يصنعه الإنسان، ويخضع لعهده، ويمتنع بعقده، لأن حقائق الميتافيزيقا غيبية، وخفية، بينما حقائق العلم مرئية، ومشهودة. ولذا كانت الميتافيزيقا في وئام مع السياسة، لأنها تحاذران الزوال في استقوائهما بالمال، والجاه، إذ لولا ما وقع من اتحاد على توقي الفوت، والوحشة، لكانت السياسة عدوة للميتافيزيقا، وصديقة للمادة. وإذا كانتا في عداء، وشجار، كان للقتل مجال خصيب على ظهر البسيطة. وإذ ذاك، سيرتبط الخطاب بالأرض، لأنها المهد الذي يجمعنا لإشباع غرائزنا، وإغذاق لذاتنا. وإذا تآلفت القضايا في الاجتماع على هذا النص المألوف بلغتنا، كان العقد الاجتماعي مخاطبا بلساننا، ومناديا بندائنا، لأنه لن يصير متحدثا عنا، إلا إذا كانت روحه نازفة من أعماقنا، وما لم نوقن بأنه نحن في الطبيعة، كانت الاستقامة عليه مداجاة، ومماراة. لكن ما حدث في ثورة العلم، أَنْ كانت آلة الطباعة مسيحا مخلصا، لأنها أخرجت الكتاب المقدس من تابوت الرهبان، وأوقعته في يد طلاب الحقيقة من همود نجوم الفضاء، إذ ما حصل من سَجن صوت الإله بين دياجير الدير، لم يكن إلا وأدا للإنسان، وتعطيلا لدوره، لكي يكون جديرا لخدمة حق السماء، لأن استفراد الكهنة بفك رموز المعبد، لم يجعل الكون إلا حطاما، وهشيما، إذ بجعل نزيف الكراهية سلما للوصول إلى الصفاء، صارت الملاحم تقودها حماسة سدنة هياكل الإله بغرة، وسفاهة. ولذا، لو لم يبدع الإنسان بدعة حسنة أجمل من الطباعة، لكانت له ضمانة على السمو في قدس الحقيقة، لأنها دفعت بالإنسان إلى سبر معالم الممنوع، وغمرات المجهول، فكانت سببا في قراءة التاريخ البشري، وعلة في بناء ناموس الجماعة من تجارب الإنسان على الطبيعة المفتوحة.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوانح البيان (3-4)
-
سوانح البيان (1-2)
-
موارد العنف -8-
-
موارد العنف -7-
-
موارد العنف -6-
-
موارد العنف -5-
-
موارد العنف -4-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله)-2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق أبي رحمه الله) -2-
-
موارد العنف -3-
-
موارد العنف -2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله) -1-
-
موارد العنف -1-
-
عقيدة التسويغ -11-
-
عقيدة التسويغ -10-
-
عقيدة التسويغ -9-
-
عقيدة التسويغ -8-
-
عقيدة التسويغ -7-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
-
عقيدة التسويغ -6-
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|