أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكوابيس تأتي في حزيرا ن 23 / 24 / 25















المزيد.....


الكوابيس تأتي في حزيرا ن 23 / 24 / 25


محمد أيوب

الحوار المتمدن-العدد: 1451 - 2006 / 2 / 4 - 07:06
المحور: الادب والفن
    


لكوابيس تأتي في حزيران
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
خاتمة الرواية

الفصل الثالث واعشرون

ـ 23 ـ

نادى شاويش المردوان بأعلى صوته :
ـ أحمد الفايز .
مد أحمد الفايز يده من بين قضبان الغرفة حتى يحدد السجان مكانه ، جاء السجان وناوله ورقة صفراء فتناولها ، كان ينتظر هذه الورقة منذ وقت طويل ، قرأ في الورقة اسمه وتهمته ، اتهموه بالتستر على مطلوب لقوات الأمن وعدم التبليغ عنه ، كان تاريخ المحاكمة المحدد في لائحة الاتهام هو الخامس من حزيران ، الذكرى الأولى للهزيمة العربية ، تلك الهزيمة التي وأدت أحلامه في مهدها ، كان يأمل أن يقضي شهر العسل في مصر وكان يأمل أن يدخل أبيب مع القوات العربية المنتصرة ، وها هو الآن يقبع مهزوما ينتظر موعد المحاكمة في إحدى غرف الطابق الثالث من سجن غزة المركزي مع الموقوفين الآخرين ، بدأ يعد الأيام التي تفصل بينه وبين موعد المحاكمة ، تمر الأيام بطيئة متثاقلة كأنها تتعمد إقلاقه ، ما أطول أيام الانتظار عليه ، كان السجانون يتعمدون استفزاز المعتقلين بتوجيه الإهانات إليهم دون مبرر ، تحولت أيام السجن إلى كوابيس ثقيلة الظل ، ومع ذلك كان السجناء يتصرفون بطريقة تغيظ سجانيهم ، يؤدون صلواتهم ويقرءون القرآن ، الكتاب الوحيد الذي كانت إدارة السجن تسمح بدخوله إلى غرف السجن ، كانت نسخة القرآن الموجودة لديهم تشتمل على دعاء جميل ، قال له الدكتور المتخصص في علم الجيولوجيا الذي جاءوا به من سيناء : بذمتك يا سي محمد ، الدعاء ده ممكن يكتبه واحد مش معمر الطاسة ؟ يكتفي أحمد الفايز بالابتسام دون تعليق ، فهو لم يفكر مجرد تفكير في التدخين فكيف يفكر في تعاطي المخدرات ؟ كان بعض السجناء يشيعون أن الدكتور رسم خريطة جيولوجية لسيناء وأن إدارة السجن قد حصلت عليها ، كان الدكتور دمثا طيب المعشر حلو اللسان ، لم يصدق أحمد الفايز ما يقال ، وذات يوم ، أثناء الفسحة نادى السجانون عليهم وطلبوا من نزلاء الغرفة أن يعودوا إليها ، لم يسمع أحمد الفايز النداء ، كان يقضي حاجته ، وبعد انتهائه خرج متمهلا ، نادى عليه المسئول :
ـ اجر يا حمار .
لم يجر بل قال : أنا لست حماراً .
صفعه المسئول على وجهه، أحس أحمد الفايز أن شرارة ضوئية انبعثت من عينه اليسرى، نظر إلى المسئول باحتقار ، اغتاظ المسئول ، لكمه في معدته بعنف : اجر يا ابن الشرموطة ، نادى المسئول الدرزي الآخر : مسبيك حمزة ، زه موريه . " كفاية يا حمزة، إنه معلم "
أجاب حمزة ، الشاويش الذي كان ضابطا سنة 1956 وخفضت رتبته إلى جندي لأنه قتل سجينا عربياً في ذلك العام وهو الآن يحمل رتبة شاويش : معلم في بيتهم ، هسه هو سجين ، وشتم شتيمة مقذعة واندفع كالثور الهائج نحو أحمد الفايز يريد أن يلكمه في بطنه ، اندفع نحوه المسئول الآخر وطوقه بذراعيه شالاً قدرته على الحركة وطلب من أحمد الفايز أن يذهب إلى غرفته ، وفي الغرفة طلبوا من كل المعتقلين أن يصطفوا على الجدران وأن يخلعوا ملابسهم ، كل ملابسهم ، بدأ السجناء يخلعون ملابسهم ببطء ، خلعوا الملابس العلوية أولا ، ثم خلعوا سراويلهم ولم يبق عليهم إلا مايستر عوراتهم ، طلبوا منهم أن يخلعوا آخر قطعة من ملابسهم ، صاح الدكتور متشبثا بما يستر عورته : عشان خاطر ربنا يا شاويش ، بس الكلسون .
صاح الشاويش : اخلع الكلسون ، وابتسم بسخرية .
دار السجانون ينظرون بين ساقي كل سجين ويدققون النظر في عورات السجناء، لم يعرف السجناء سببا لهذا الإجراء إلا بعد فترة ، فقد عرفوا أن أحد السجناء قام بتهريب شفرة " موس حلاقة " حلق بها شعر عانته ، ومع ذلك لم يستطع السجانون أن يتعرفوا عليه ، كانوا يخشون أن تستخدم الشفرة في الاعتداء على أحد السجانين خصوصاً وأنه يوجد في الغرفة متهم بعدة عمليات قتل وسرقة ، كان ذلك الرجل يرتدي زي الجيش الإسرائيلي ويطرق أبواب المنازل التي يريد سرقتها وهو يحمل سلاحاً رشاشاً ، فإذا وجد مقاومة من بعض أهل المنزل قتلهم بدم بارد .
***
صاح الحاجب : بيت مشباط . " محكمة " فوقف جميع الحضور دون استثناء ، بدأ ممثل النيابة في تلاوة لوائح الاتهام بعد المناداة على كل متهم حسب دوره ، كان المتهمون يجلسون في غرفة مجاورة لقاعة المحكمة العسكرية القريبة من مقر المجلس التشريعي بغزة ، كان باب المحكمة يفتح شمالا ويطل على المجلس ، بينما كان باب الغرفة التي يتواجد فيها المعتقلون يفتح إلى الغرب ، كان القاضي يجلس في مواجهة الباب وإلى اليسار منه يجلس ممثل الادعاء ، أما المحامون فكانوا يجلسون في الناحية اليمنى ، وقبل إدخال المعتقل إلى قاعة المحكمة كان الحراس يفكون الكلابشات من يديه ويجلسونه أمام القاضي ، يجلس جندي عن يمينه وآخر عن يساره ، صاح الحاجب :
ـ أحمد محمد الفايز .
حضر السجان وفك وثاقه ، اقتاده جنديان إلى قاعة المحكمة ، أجلساه أمام القاضي وجلسا عن يمينه وعن يساره ، بدأ ممثل الادعاء في تلاوة لائحة الاتهام بينما قام المترجم بترجمة ما يقوله المدعي العسكري إلى اللغة العربية ، اتهمته النيابة بالتستر على ضابط مطلوب لقوات الأمن وإخفاء معلومات مهمة وطالب المدعي العسكري بتوقيع أقسى عقوبة عليه ، وقف محامي أحمد الفايز وأخذ يدحض اتهامات النيابة العسكرية وأوضح للقاضي أن الشخص الذي تدعي النيابة أنه ضابط يعمل مدرساً عادياً في إحدى المدارس الحكومية وأنه سافر إلى عمان بطريق مشروعة وبتصريح رسمي ، وقال : ولو كان المذكور ضابطا حقاً فإن موكلي لا يستطيع أن يقوم بالتبليغ عنه لأن ذلك يخالف العادات والتقاليد المتبعة وأن ذلك سيوقعه في مشاكل لها أول وليس لها آخر وربما تعرضت حياته للخطر، وبعد انتهاء المرافعة بدأ القاضي في تلاوة الحكم ، كان أحمد الفايز يعرف بعض الكلمات العبرية ، لكنه لم يستطع فهم منطوق الحكم إلا بعد أن قام المترجم بترجمته :
حكمت المحكمة العسكرية بغزة على المتهم أحمد محمد الفايز بالسجن مدة ستة أشهر ، وسنة مع وقف التنفيذ تبقى سارية المفعول لمدة سنة ونصف من تاريخ الحكم في حالة ارتكابه لأية مخالفة للقوانين العسكرية.
اقتاده السجان إلى غرفة الانتظار بينما نادى الحاجب على مسجون آخر ، وضع السجان الكلابشات في يدي أحمد الفايز ، بينما حاول أهالي بعض المعتقلين أن يقدموا لهم الطعام والفاكهة ، قدمت له إحدى النساء بضعة أقراص من الفلافل وعدة قرون من الفلفل الأخضر ، تذوق طعم الفلافل بمتعة كبيرة فقد حرم منها طيلة فترة وجوده في السجن ، كان طعم الفلفل الأخضر لذيذاً جدا ، ادخر بعض القرون ليقدمها إلى زملائه في السجن لكنهم صادروها منه عند بوابة السجن بعد عودتهم من المحكمة ، عاد أحمد الفايز من المحكمة مستاءً ، لم يحضر المحاكمة أحد من أهله سوى زوج أخته الذي لم يتمكن من الحديث معه لأنه كان يجلس مع الحضور في قاعة المحكمة ، لم يستطع أن يخمن السبب، لم تحضر زوجته المحكمة ، كان يتوقع أن يراها وأن يطمئن عليها في شهور حملها الأخيرة ، كم هدده المحقق بأن يقوم بإجهاضها إذا لم يعترف ، عاودته تلك الرؤيا التي شاهدها مع الفجر ، ذلك الشيخ المهيب الطلعة الذي أخبره أنه لن يرى ابنه ، ماذا حدث يا ترى ؟ وما الذي منع زوجته من الحضور ؟ هل هي مريضة ؟ هل حدث لها أي مكروه ؟

الفصل الرابع والعشرون

ـ 24 ـ

ضربت زوجته كفاً بكف بعد أن قالوا لها إنه سيمضي في السجن خمس سنوات، كانوا يريدون أن تفقد الأمل في البقاء في القطاع وأن تغادر إلى عمان ، وعندما يخرج بعد أقل من شهر يجدها وقد غادرت القطاع ولم تنتظره فيكون أمام أحد أمرين ، إما أن يغادر إلى عمان أو أن يطلقها ويبقى في القطاع ، وفي كلتا الحالتين يكون قد تعرض إلى شرخ صعب يهز كيانه من الداخل ويدخله في دوامة يصعب عليه الخروج منها ، لكن حساب السرايا لم يتطابق مع حساب القرايا ، فقد قررت زوجته الانتظار حتى لو مكث في السجن خمسين عاماً ، ورغم اشتداد الخلافات بين أمه وشقيقته من جهة وزوجته من جهة أخرى فقد قررت زوجته البقاء في المنزل ولم تغادر إلى بيت أهلها ، وطلبت من زوج شقيقته أن يتأكد إن كان ما نقل إليها عن الحكم الذي صدر ضده صحيحاً ، وعندما جاء موعد الزيارة توجه زوج أخته إلى السجن ، وعندما نودي على اسمه هرول مسرعاً آملاً أن يرى زوجته وأن يطمئن منها على أحوالها ، ومن خلال الكوة شاهد زوج أخته ، حاذر أن تبدو على وجهه علامات الامتعاض فاغتصب ابتسامة باهتة ومد إصبعه السبابة من فتحة الشبك الذي يفصل بينهما ليصافح به يد زوج أخته ، سأله عن أحواله وأحوال الأهل ، حاول أن يطمئن على صحة زوجته وصحة الجنين في أحشائها ، فقد ظلت تلك الرؤيا التي رآها في فجر أحد الأيام قبل أن يعتقل تلاحقه ، كان يعتقد أن تلك الرؤيا سوف تتحقق ، لكنه لم يتصور كيف يمكن لتلك الرؤيا أن تتحقق ، كان يتوقع أن يسمع من زوج أخته أخباراً مزعجة ولكنه طمأنه أن كل شيء على ما يرام ، سأله زوج أخته عن الحكم الذي صدر ضده فأخبره أن سيخرج بعد بضعة أيام ، بانت الدهشة على وجه زوج أخته فقال :
ـ ولكنهم يقولون أنك ستمضي في السجن مدة خمسة أعوام .
أصابه الذهول فتساءل : من الذي قال لك ذلك .
ـ لا أدري من الذي نقل الخبر إلى أختك وزوجتك ، وقد كلفتني زوجتك أن أتأكد من صحة الخبر منك .
ساوره الشك واعتقد أنه سمع الحكم بشكل مغلوط ، ومن المحتمل أنه لم يفهم الحكم الذي نطقه القاضي بالعبرية ، ولكنه متأكد مما قاله المترجم عندما ترجم قرار القاضي إلى العربية ، نادى على أحد زملائه من عمال النظافة الذين يعملون في تنظيف مكاتب إدارة السجن وطلب منه أن يتأكد له من طبيعة الحكم الذي صدر ضده ، وبعد لحظات عاد وأكد له أنه سيخرج بعد بضعة أيام ، أطلت نظرات قلقة من عيني زوج أخته إلا أنه لم يواصل الكلام فقد أخبرهما السجان أن مدة الزيارة قد انتهت .
اقتاده الحارس إلى غرفته في السجن العمومي ، كانت الأفكار والهواجس تتلاطم في رأسه، من الذي نقل لهم ذلك الخبر المغلوط ، ولماذا هذا القلق الذي تشي به عينا زوج أخته ، سأله الرفاق عن الزيارة وعما إذا كان قد استمتع بها وشاهد الأهل وأنس بهم ، هز رأسه بأسى ولم يجب ، كانت نظراته توحي بالتعاسة التي يشعر بها ، فهو لم ير زوجته ولم يطمئن عليها ، هناك من يحاول تنغيص حياته حتى وهو داخل السجن ، ورغم أنه تأكد أن مدة الحكم أوشكت على الانتهاء إلا أنه لم يكن مطمئنا كأن الكابوس القديم ما زال يلاحقه، وفجأة سمع اسمه عبر مكبر الصوت ، مد يده من بين قضبان الباب حتى يراها السجان فيحدد مكانه ، جاءه السجان تسبقه أصوات رنين المفاتيح ، فتح قفل الغرفة وطلب منه أن يتبعه ، أوصله السجان إلى غرف التحقيق وطلب منه أن يدير وجهه إلى الجدار ودخل إحدى الغرف ، وبعد قليل خرج السجان ليدخله إلى الغرفة ، وجد الضابط الذي حقق معه سابقاً ، ابتسم الضابط وقال :
ـ مش عيب عليك تكذب علينا وفي النهاية نكتشف أنك قمت بتنظيم بعض الأشخاص .
ـ بهت أحمد الفايز فقال دون تفكير : أنا ؟
ـ عامل حالك مسكين ؟ أيوه أنت .
ـ صدقني أنني لم أكذب عليك وأنني أخبرتك بالحقيقة ، أنا غير منظم ولم أنظم أحداً .
رن الضابط جرسا بسبابته فدخل الحارس ووقف منتظراً أوامر الضابط ، كتب الضابط ورقة وطلب منه أن يحضر صاحب الاسم المكتوب في الورقة ، غاب الحارس فترة ثم عاد ومعه أحد الأشخاص ، عرفه أحمد الفايز على الفور ولكنه تظاهر بعدم الاكتراث منتظراً ما سيئول إليه الأمر ، طلب الضابط من الجندي أن يخرج ، سأل الضابط أحمد الفايز : هل تعرف هذا الشخص ؟
أجاب أحمد الفايز : لا . لا أعرفه .
ـ ولكنه يعرفك تماما .
ـ ربما ولكني لا أعرفه .
اتسعت حدقتا الرجل وبانت على وجهه إمارات الدهشة : إذن فقد خدعوه عندما أخبروه أن أحمد الفايز قد اعترف عليه وابتزوا منه اعترافاً مجانياً ، نظر الرجل نحو أحمد الفايز عندما سأله الضابط إن كان يعرفه أم لا؟ أجاب الرجل بالإيجاب ؟ فقال الضابط : ما اسمه؟
ـ أحمد محمد الفايز .
ـ وماذا تعرف عنه ؟
ـ نظمني للحركة .
جن جنون أحمد الفايز وكاد يقفز على الرجل ليقتله ولكنه تمالك أعصابه وحاول أن يتصرف بهدوء ، قال :
ـ أنا نظمتك يا ملعون ,,,,
نهره الضابط وطلب منه أن يسكت ، ولكنه قرر أن لا يدع آماله تتبخر بسهولة ، فقد اقترب موعد الإفراج عنه ولن يسمح لأي كان أن يقضي على هذا الأمل ، وجه نظرة صاعقة تحمل كل معاني التهديد والوعيد نحو الرجل ، قال الضابط : كيف نظمك ؟
ـ أخذني إلى العيادة عند الدكتور ؟
ـ وماذا حدث هناك ؟
ـ طلب مني الدكتور أن أعود للعمل في صفوف الحركة .
قال أحمد الفايز للرجل : لماذا ذهبت أنا للعيادة ؟
قال الرجل : للعلاج .
ـ وهل دخلت معك عند الدكتور ؟
ـ لا .
قال الضابط : أنت قلت أنه نظمك والآن تقول إن الدكتور هو الذي عرض عليك أن تعود إلى صفوف الحركة، تذكر جيداً ، ألم يكن معكما في الغرفة ؟
ـ لا . لم يكن موجوداً . يمكنك أن تسأل الدكتور .
رن الضابط الجرس وطلب من السجان أن يعيد أحمد الفايز إلى غرفته مع المحكومين وأن يعيد الرجل إلى مكانه انتظاراً للمحاكمة فقد كان الضابط يعلم أن الدكتور غادر القطاع إلى الأردن .
***
ـ سأقطع جهازك التناسلي وسأجهض زوجتك .
قالها الضابط ذو الوجه الأصفر الشاحب شحوب الأموات ، وأردف :
ـ أنت الآن في إسرائيل والصليب الأحمر لا يعرف عنك شيئاً ، سأقتلك وأدفنك هنا إذا لم تعترف بكل شيء .
لا يدري أحمد الفايز لماذا طافت بذهنه صورة ذلك الضابط أو لماذا تذكر كلماته عندما أطلت زوجته بوجهها الشاحب كالأموات ، نظر إلي بطنها الهامدة وتنقلت نظراته بين بطنها وبين وجهها الشاحب ، ترى هل وضعت حملها قبل الأوان أم أن حساباته كانت خاطئة ؟ ولما لا تبتسم زوجته ؟ لماذا لا تبدو عليها علامات الفرحة كما كان يتوقع ؟ وما سر هذا الحزن الدفين الذي تشي به عيناها ، صافحته وقبلت يده قائلة :
ـ الحمد لله على سلامتك . وصمتت .
قبلها بين عينيها وضغط على راحة يدها برفق : الله يسلمك .
ظل الكلام يقفز من عينيه إلى عينيها لكنها تظاهرت بأنها لم تلحظ نظراته وتهربت من علامات التساؤل التي تطل من عينيه ، لاحظت أمه تململه فقالت :
ـ لقد تحققت الرؤيا التي رأيتها عند الفجر في ذلك اليوم المنحوس قبل أن تعتقل ببضعة أيام . رنا ببصره نحو الأفق البعيد ، رأى الشيخ ذا الجلباب الأبيض واللحية البيضاء والعمامة البيضاء ، هزه برفق ، فتح عينيه وكأنه يستيقظ من نومه ، قال له الشيخ : لن أدعك ترى ابنك .
اعتقد يومها أنه لا بد ملاقٍ ربه ومع ذلك شعر بالارتياح ما دام سينجب ابناً ، من خلف ما مات ، هكذا كان الكبار يرددون ، من خلف ما مات ، رددها بارتياح وهو يعلق على إنذار الشيخ في تلك الليلة قبل اعتقاله ببضعة أيام ، لم يتوقع أن يصمد في التحقيق وأن ينجو من حكم بالسجن المؤبد ، لقد استطاع أن يخدعهم على الرغم من كل محاولاتهم توريطه ومحاصرته بضعف البعض من رفاقه ، لم يكن أقوى منهم جسداً ولا أكثر جلداً ولكنه كان يجيد استخدام عقله ، يحبك الحكاية فلا تنفذ منها قطرة ماء ، وهكذا اقتنع المحققون بصدق أقواله واقتنعوا أنه أضعف من أن يسمع صوت إطلاق الرصاص ، وعلى الرغم من نصبهم الشباك حول البعض من رفاقه بإقناعهم أنه اعترف عليهم إلا أنهم لم يحصلوا من أي منهم على أدنى اعتراف، فمن شاركه العمل كان مقتنعاً بأنه لم يعترف لأن اعترافه يعني أن يواجههم المحقق بما قاموا به من أعمال ، أما الآخرون فلم يكونوا يعلمون شيئاً عن دوره في العمل المسلح ويعتقدون أنه ترك العمل بعد الحرب .
مرت يد زوجته على بطنها بحركة لا إرادية ففهم ما حدث ، لقد أجهضت زوجته ، كأنه كشف عنه الحجاب فرأى المستقبل رأي العيان ، لم ير ابنه ولن يراه كما أنذره ذلك الشيخ الجليل ، " عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم " ، تنهدت زوجته بأسى فقال : العوض على الله ، ما دمنا أحياء فسنبدأ من جديد .
قالت أمه : هواية تخطي الرأس سليمة .
ابتسم مؤمناً على كلام أمه : أحمد الله أن رأسي ما زالت سليمة ، واللي بيعيش بيخلف .

الفصل الخامس والعشرون

ـ 25 ـ

أخبرته أمه أن الأرنب حضر إلى البيت وطمأنهم عليه ، قال لي إنه رآك وأنك أوصيته أن ينقل لنا سلامك وأن يطمئنا عليك ، لم يكن أحمد الفايز قد رأى الأرنب ولم يره الأرنب ، لقد أمضى الأرنب أكثر من ثلاثة أشهر في زنازين الكلاب ( السنوك ) ومع ذلك لم يعترف ، وبعد نقله إلى السجن العمومي سمع اسم أحمد الفايز يتردد عبر مكبر الصوت في السجن ، قال له صديقه :
ـ أرنب . هل تذكر أحمد الفايز ؟
قطب الأرنب ما بين حاجبيه ، بانت علامات الدهشة على وجهه ، قال محاولا التذكر :
ـ أحمد الفايز .. أحمدالفايز .. لا أذكر .
أسعفه صديقه : هل نسيت الأستاذ الذي نظمنا للعمل العسكري ؟
ارتعدت فرائص الأرنب ، قال : وإذا اعترف علينا ماذا نفعل ؟
ـ لا تخف . لو اعترف علينا لطلبونا للتحقيق .
ـ وهل تعتقد أنه سيصمد دون أن يعترف علينا ؟
ـ أعتقد ذلك .
ـ ربك يستر . قال الأرنب .
وبعد خروجه من السجن دون محاكمة توجه الأرنب إلى بيت الأستاذ ليطمئن أمه وزوجته قبل أن يتوجه إلى بيته ، وعندما خرج أحمد الفايز من السجن كان الأرنب أول من حضر لزيارته وتهنئته بالسلامة، همس في أذن أحمد الفايز :
ـ مش طلعوا جماعتنا فولصو ، ولا دوروا علينا بعد ما طلعنا من السجن .
ابتسم أحمد الفايز : ولا عليّ .
ـ لكن محسوبك ما رمهاش في بير خارب ، اشتغلت مع قوات التحرير الشعبية .
نظر إليه أحمد الفايز متسائلاً : قوات التحرير الشعبية ؟
واصل الأرنب حديثه وكأنه لم يسمع سؤال أحمد الفايز : يدفعون لنا مرتبات أفضل ، وكل عملية بنعملها بناخد عليها ترقية ، ونفسنا تشتغل معانا ، إحنا بنعتبرك مسئولنا وما بنفرط فيك ، صحيح أنا كنت في الجيش وقوات التحرير الشعبية أصلها من الجيش ، لكن أنت طلعت أجدع من أجدع عسكري ، واللي ما بعرف الصقر بيشويه .
ابتسم أحمد الفايز : خليني أفكر وبعدين برد عليك ، لابد نعمل إشي ، لكن الموضوع بده دراسة متأنية حتى لا نقع في الخطأ مرة ثانية ، مقاتل العصابات لازم يحافظ على حياته وعلى جسده دون ضرر وعليه أن يوقع الخسائر في العدو دون أن يمكنه من نفسه ، الشهادة ليست هدفا في حد ذاتها إنها جسر يعبر عليه الوطن نحو الحرية والكرامة ، وكذلك فالسجن ليس هدفاً ووجودنا داخل أربعة جدران لن يحقق أهدافنا بل سيشل قدرتنا على فعل شيء لمصلحة الوطن ، أنا أحييك ولن أتخلى عنك ، ولكني سأكون جنديا بسيطا مثل كل البسطاء من أبناء شعبنا ، القيادة ليست امتيازا ، سأبدأ من جديد وأعتقد أنني سأفعل شيئا ، لكني أعتقد أن العمل المسلح وحده لا يكفي ، لا بد من ذراع أخرى وربما أذرع أخرى ترفد العمل المسلح حتى نحقق من ورائه ما نريد، دعني أفكر وأعدك خيراً إن شاء الله
***
تسلم أحمد الفايز إخطاراً من المحامي يبلغه فيه أن عليه أن يدفع مبلغ مائة ليرة إسرائيلية باقي أتعاب محاماة ، لم يكن أحمد الفايز يملك من المبلغ المطلوب شيئا ، كان يتسلح بليرة يتيمة ضحى بها في صالون الحلاق ، ناداه الحلاق أثناء مروره في شارع البحر وقد لاحظ طول شعره ، أصر الحلاق أن يصلح له شعره، تمنع أحمد الفايز لأنه يدرك أنه سيخسر ليرته اليتيمة ولكنه ما لبث أن استسلم أما إصرار الحلاق فضاعت الليرة منه، أحس كأنه خسر جزءاً من كيانه ، كان يحس أن معه نقوداً حين كانت الليرة تستقر في جيبه وهاهي الليرة تطير وتترك جيبه خاوياً ، ما أسهل أن تفر النقود من بين أصابع اليد وما أصعب أن تلتقط تلك الأصابع النقود وأن تحصل عليها ، والمحامي غايب فيلة ، يطلب مائة ليرة مرة واحدة ، فكر أن يأخذ مسدسه ويتوجه إلى مكتب المحامي في غزة ويفرغ رصاصاته الستة في رأسه ولكنه عدل عن ذلك وقرر أن يكتفي بصفعه والبصق في وجهه ، انطلق إلى العنوان الذي حدده المحامي في رسالته ، وبالقرب من السرايا سمع صوتاً ينادي عليه باسمه، التفت وراءه ، إنه الصديق الذي كان في الزنزانة المقابلة لزنزانته، كان يترك له حصته من السجائر على حافة جدار المرحاض فيأخذها هذا الصديق عندما يأتي دوره للفسحة ، مال أحمد الفايز جهة الصوت ، تصافحا بحرارة، قال الصديق : على فين العزم إن شاء الله ؟
ـ أريد أن أقابل المحامي الذي ترافع في قضيتي .
ـ هل هناك جديد ؟
ودون أن يتكلم دفع إليه برسالة المحامي ، قرأها الصديق على مهل فأدرك سبب احمرار عيني أحمد الفايز والشرر الذي يطق منهما ، طلب من أحمد الفايز أن ينتظره في المحل وألا يغادره قبل أن يعود إليه ، وبعد أقل من خمس دقائق عاد الصديق ومعه ورقة مخالصة من المحامي يقر فيها أنه قبض مبلغ خمسين ليرة وأنه تنازل عن حقه في الخمسين ليرة الباقية ، تناول أحمد الفايز الورقة ممتناً ووعد صديقه أن يسدد له هذا المبلغ في أقرب فرصة ممكنة ورفض أن يقبل المبلغ هدية من صديقه على الرغم من إلحاحه على ذلك .
طلب منه الصديق أن يتناولا طعام الغداء معاً ولكنه اعتذر عن ذلك فألح عليه أن يتناولا الطعام في الدكان فرفض أيضاً واعتذر بأن عليه بعض المشاوير التي يجب أن ينجزها ، ولما خرج من المحل هام على وجهه في شوارع غزة ، وبعد أن أرهقه المشي قرر الذهاب إلى بيت أحد رفاقه في التنظيم ، كان يخشى من بقاء الأسلحة في بيته فقرر تسليمها إلى الحركة ، وعده الرفيق بأن يرسل من يأخذها ولكنه لم يفعل ، وعندما ناقش بعض الأخوة الآخرين وعدوه خيراً ولم يفعلوا شيئا فقرر التخلص منها بتقديمها إلى الأخوة في قوات التحرير الشعبية، قال للأرنب عندما زاره وسأله عن رده بخصوص ما عرضه: عندي لكم هدية متواضعة ، حوالي عشرة قطع مختلفة من السلاح ، ابتسم الأرنب وقال : هذا يعني أنك موافق على العمل معنا ، سنبدأ أولى عملياتنا الليلة بعد فرض نظام منع التجول مباشرة ، جهز نفسك ، سنخرج معا ، سأنفذ أنا العملية وستقوم أنت بحمايتي ، وفي الموعد المحدد حضر الأرنب وهو يحمل قنبلة ومسدساً محشواً بالرصاص وانطلقا في أزقة المخيم ، وعند مفترق شارع المحكمة مع شارع مدرسة البنات الإعدادية وشارع اللحام ناوله المسدس وطلب منه أن يحميه ، وقف أحمد الفايز عند زاوية أحد الجدران وقد أشهر المسدس ورفع الأمّان وجعل إصبعه السبابة في وضع الاستعداد لإطلاق النار ، سحب الأرنب خدمة القنبلة وقذف بها فوق تراب الشارع واستلقى أرضاً ، انفجرت القنبلة محدثة دوياً عالياً ، وقف الأرنب واتجه نحو أحمد الفايز وابتسامة تعلو شفتيه : لقد نفذنا العملية بنجاح وسيتم الإعلان عنها في إذاعة صوت منظمة التحرير .
اغتصب أحمد الفايز ابتسامة حزينة : ولكنك لم تلق القنبلة على أحد .
ـ ليس مهما ، المهم أننا ألقينا القنبلة وسجلنا عملية .
وفي اليوم التالي صدر بيان بالعملية فلم يذق أحمد الفايز طعم النوم ، ظلت فكرة تطارده، تحولت الفكرة إلىعلامة استفهام كبيرة: هل بدأنا البداية الصحيحة أم أننا لا بد أن نبدأ من جديد ؟ تحولت الفكرة إلى قناعة، لا بد أن نبدأ من جديد، لا بد أن نبدأ من جديد .
تمت

تمت بحمد الله في الساعةالواحدة وعشر دقائق من صباح الجمعة27 فبراير(شباط )1998 م
الموافق 30 شوال 1418 هـ
بدأت كتابة الفصل الأخير في الساعة العاشرة والنصف من مساء الخميس 26 /2 /1998م.

كتب للمؤلف
1 ـ الوحش مجوعة قصصية 1978 م
2 ـ صور وحكايات مجوعة قصصية 1989 م
3 ـ الكف تناطح المخرز روايـــــة 1990 م
4 ـ الشخصية في الرواية دراسـة نقديـة 1997 م
الفلسطينية المعاصرة



#محمد_أيوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانتخابات الفلسطينية في الميزان
- الكوابيس تأتي في حزيران 21 / / 22
- الكوابيس تأتي في حزيران 19 / 20
- الكوابيس تأتي في حزيران 17 / 18
- الكوابيس تأتي في حزيران 15 / 16
- الكوابيس تأتي في حزيران 13 / 14
- الكوابيس تأتي في حزيران 11 / 12
- التلفزيون الفلسطيني والمصداقية العالية
- حول الديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي
- الكوابيس تاتي في حزيران الفصل التاسع والعاشر
- ظاهرة التسول في المجتمع الفلسطيني
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الثامن
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل السابع
- من المسئول عن إطلاق الرصاص على العمال في محافظة خان يونس
- حين يعطش البحر ويظمأ الغيم
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل السادس
- العريس
- أشتاق إليك - خاطرة ،
- 5-الكوابيس تاتي في حزيران
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الرابع


المزيد.....




- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...
- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكوابيس تأتي في حزيرا ن 23 / 24 / 25