|
سوانح البيان (1-2)
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5565 - 2017 / 6 / 28 - 19:59
المحور:
الادب والفن
-1- تبدو اللعبة بسيطة لمن خال ما يأتي به طلوع الشمس من لواعج مملوكةٍ مبهرا، ومغريا، لأنه لم يقرأ من الغروب سطر الغد المجهول، فكيف له أن يمرح بوهج الإشراق في يومه.؟ قد يكون هذا متلألئا في عين تعانق عطر اللحظة في تناقضها، وتعاركها، لأنه إن لم يسعد بما يفوح فيها من عرق، لن يكون مفتونا ببهرجها السافر، وزخرفها الكاسر. لكن هل ما تواتر عندنا خبره، وتوارد علينا أثره، هو الشيء الذي ندنيه إلى إحساسنا، وهو المعنى الذي نحيي به شعورنا.؟ شيء من الغربة يقلق ذواتنا، ويربك سيرنا، ويشقي غايتنا، فلا ندري إلى أين المسير، وإلى أين المصير.؟ ربما لم يفتنا الورد الذي نشمه بين رياض حدائقنا، لأنه لم يسق بعشق أرواحنا، فأنى له أن يزهو بألوانه، وهي لا تنزع إلا من سويداء أفئدتنا.؟ لعل ما يغمغم به الأمل بين الألقاب الخادعة، والعناوين الباهرة، هو ما نداري سعيره بين الصدور، ونجاري عواصفه بين السطور، لأن المداد إن جف بما أيبس اللعاب، لن يكون إلا رمزا غامضا يشدو على أوتار الأحزان، إذ لم يكن حقيقة نعتقد فيها كمالها، وتمامها، إلا لأننا نختار ما يتخمر فيها من أفكار، وما يتبرم فينا من أنظار، إذ ومهما حاورتنا الأرصفة بما يسري عليها من غموض، والتباس، فإننا لن نشرب من ثقوب المأساة إلا كمدا يدب في أعماقنا، وينط بين أعيننا، وكأنه وعاء نتن نحمله على رؤوسنا، ونار موقدة تصطلي بين أيدينا. فإلى أي نظر سينتمي تأملنا.؟ لا أكاد أصدق ما أشهده في قلبي، وأراه بعيني، لأنه وإن بدا لنا البستان مكانا يمكن لنا أن نجد فيه زمنا نلتحف فراغه، ونلتوي تحت بساطه، فإنه قد يطويه ما يدهمنا تحت سقف القضية من آلام ضخام، وآثام جسام، إذ ما نراه بلون البهاء، ما هو إلا حدة نار مشتعلة بالفناء. فالوضع الذي نُغتال بحزنه في كل لحظة نعيشها بين أتون الوجوه الشاحبة، والأنظار الساهمة، ليس سهلا في التحليل الذي نستنبط به مناط ما يتحقق معنا وجعه، ويتكون فينا ألمه، ولا لينا في لمس ما انطوى عليه من تلافيف خادعة، وتلاوين ماكرة، تدل على خلو المعنى من فحواه، وضمور القصد عن جدواه، لأن ما يعترينا من شهوة، أو ما يضعفنا من شبهة، لم يكن إلا إمعانا في الاختباء وراء جبة نسجنا لحمتها من حرير الأمل، وسداها من وبر الألم، فكانت وقاء نستظل به حين نخشى ذواتنا، ونخاف أن تتعرى أوراقنا، وتنهار أغصاننا، فنسقط في بركة النشاز، والنفور. فما أبعد المسافة بينهما في التحصيل، وهي لا تفصل إلا بين لحظين، يرى كل واحد منهما ما يحدث بعين الارتياب، أو الاغتياب.! إذ الرحلة التي نقطعها بأنجب الرواحل المجرولة بين مورديهما، هي المساحة التي تحتوي على أجسادنا في بحر الوجود، والمسافة التي نطويها بين وهاد لغز الحياة، وطلسم الطبيعة، لأن غموض القضية في درس الجبر، هو الذي فتق من المعرفة كسرا لنقائص العقل، وهو الذي أغلق الباب على ذوات تعيش حُمى الصراع، والنزاع، وتحيى على عبادة أصنام الوجاهة، وأسطورة الريادة. فإلى أي اتجاه سنتجه في انتظارنا.؟ شيء من ذا وذاك يقع مضرجا بدماء الأمانة، أو بمداد الخيانة، لكنه لا يوحي بأرب مديد، ولا بأمد بعيد، لأنه ومهما خلناه جديرا بالبقاء بين ملكوت ذواتنا النازفة باليأس، فإنه يهب من بين أنقاضنا منتفضا، ومنتحبا، لكي يرسم لنا علامات أخرى، تحوطنا بين مدارات عيوننا، وتخط لنا طريقا شاقا بين الغيل المواجهة لنا، فلا نكاد نخطو بخطوات على رماده إلا مقيدين، ومكبلين. فالأمر لا يبدو ساهما في الفراغ، ولا واجما في الدماغ، بل يقتضي أن يتحايل من أجل دركه، وأن نتغافل في سبيل فهمه، لأنه لم يكن واضحا فيما رضعناه بارتعاش، حتى نكتشف ما يريده غوره من تعنيفنا، وما يرجوه نظره في تعذيبنا، إذ لو برز لنا بالتأمل الخاص، ونحن على ربوة الأمل، والهمم تسمو بتيجان الكرامة، لكانت لنا قدرة على كسب الود مع جبروته، ورغبة في السير بين شرايين شموخه، لأنه سيعبر في تلك الصلة عن شعوره الجماعي، وهو المرجو من المناجاة في محرابه. وحينئذ سنحبر في رحابه أجرأ ألفاظ مدحنا له، لأننا سننسى ما أحدثه النزاع على ماء الحياة من آسن الموارد. وإذا أطاق الإفصاح عن مخزون حبه، أو مكنون كرهه، أو أفاض كأس الصفاء بين ندمانه، وعشاقه، فلا محالة، سنكون أشد حرصا على نفي السؤال الذي يقلق الموارد المترعة بالضجيج، والعجيج، لأن إطالة ذيل السبب في الأسباب التي تواجهنا بمكرها، لا يؤدي إلا إلى تقديس لغة العناد، والبعاد.لكن ما يقطع دابرنا، ويفصلنا عن اقتفاء الأثر في اكتشاف كنهه، هو ما نتصف به من أوصاف ساحرة، نتحارب عليها، ونتصارع حولها، لكي يكتسب كل واحد منا حظه في حدودها، لأنها هي التي تمنحنا الغرة، وتهبنا ما لا نطيق حمله من عزة، إذ كثير من الخمائل التي تهفو بشذاها، لم تسق إلا من مروج الرداءة، وخلجان الدناءة. لكن سيرة المتأمل لما تمتد إليه الأيدي من سؤر، أو ماتناله الحلاقيم من لعاب، لن يشهد إلا ما يشوش النظر إلى قبة حلمه التي مرعها بنجيع ضجره، ورجيع نكده، لأنه ولو تسامى بما يحبره من مزيج العبارات المتطاولة بصحة نسبتها إلى معبد نقائه، وموئل جلائه، لن يجد إلا انفصاما يباغته بالهزيمة بين يم مطلقه، ومقيده، إذ ما قيمة الحجل المخذول على الجباه الشقية، إذا كان الاستهتار قربانا تُستهدى به عناوين الكمال.؟ إذ لا تكون صفة الكمال على المحيا جميلة، إلا إذا كانت مهرا غاليا لما هو في نخوة الذات أصيل، وأثيل. وإلا، فإن الغانية إذا ماست برقة الأعطاف في ضحل البرك، لن يكون رسم رقصها إلا شبقا في أسحار الشطار، والنظار، إذ لا تكون حفحفة النحل عربونا على نقاء الوردة، إلا إذا رفرفت على مرمر عاشق الشهد بالوجدان. فلا غرابة، فالمنكسر الذي اعتاد المراوغة، وانتضى المحاربة، وإن شعر بغصة تلك الحروب التي تفصل بين تواريخه، وعوالمه، لن يسجد عنقه الموشح بقيده بين رسيم خطاه، لأنه لم يكن مقرورا في ذرى العناء، لكي يقرأ أسطر مجده مما أردى أجداده، وأفنى آباءه. وهنا يصير بلا هوية، ويغدو متروكا لسبيله بلا جهة، لا يسوقه نبل، ولا يقوده فضل، بل تناضل في هذا القِرنان، فكان التكافؤ حربا، وكان التميز نارا، إذ هو في دركه لضرورة عقابه بالنكران، لا يلوم إلا السبب في وجوده، ولا ينعى إلا العلة التي طردته من حياض الشوق، لكي يتوه بين أعين مستوفزة مما ينساب في عمقه، إذ هي لا تكاد ترى بسمتها إلا إذا فرحت بالشماتة، أو تشفت بالوضاعة. قد يحير هذا طالب العنفوان من الأشياء التي وصفها العقل بالجمال، وأحيانا رماها بالوبال، فكانت سببا في خيانة نشوته بأصائل ربيع قلبه الباذخ المعاني، أو جريا خلف الخيول التي تتبارى على حواف الأماني، وربما من جبر اللحظة التي تخلقنا بين مهاد لا تغرينا، أو تصنعنا بين دروب لا تناسبنا، لا نكاد نشهد الأعيان كما هي محصَّلة في عين الماهية، بل تلفنا غمامة قاتمة، تفسد تجريد الصورة في أذهاننا، وتبلبل إحساسنا بالرسم الظاهر على أبداننا، لأنها لم تكن دانية، فنقطفها بحرد، ولم تكن مشهورة، فنعشقها بكمد، بل انفجر منها ما يُبعد التأويلُ مدارَه، ويفسد الخلافُ مقامَه، إذ رقة النظر في خشونة الطباع، ورداءة المناخ، ووعورة المجال، لا يأتي منها إلا ما يغير شروط الفكر، ويلبس الحق بالباطل في باطن المعرفة. وإذ ذاك، تفسد الرؤية، وتختفي الفكرة، وتموت الهمم بصبابة العهود المخذولة. فلا غرابة إذا شقي بالعلم مُدرِكه، وسعد ببهرجه من حسبه جبة، أو ظنه هيبة، لأنه هو الأسعد به من غيره، والأوفر به حظا مما عداه، لا لأنه بنى حياته على رسوم التوق لعهد الرياحين، بل لأنه يحارب ما يُتوقع في خيال طالبِ الحقيقة من معدن السؤال عن علة الدهشة، ويعادي ما ينكشف عواره بلا رضى القديس من سر الخليقة، إذ ما ألجمت الخيول عند عرينه بين النفوس، وما أرخي له البساط على اختيار العقول، إلا ليكون وسيلة الوصول إلى مرقاة السماء، وعلم الحق في بستان الطبيعة. فأي حقيقة يمكن أن يدعيها فاقد نعمة الاستبصار بين أفلاك الحكمة المتألمة في أكباد البشرية.؟ سيكون هذا مجتهدا في فك اللغز عن صلة الفصل بالوصل، وعلاقة النفي بالإثبات، وسيكون ذاك مبدعا في وصف السر بالدقيق، والعميق، وبينهما فئام لا تفقه لغة القصة، وفدام لا تنطوي إلا على الموجدة، لكن هل تحقق المراد في الأشباح، لكي تعتز الذوات بما فيها من أرواح.؟ أجل، لا مرمى للنظر في مجلى الفكر الذي نستكين له، إلا إلى ما سُمي اعتباطا بفردوس الحقيقة الخالدة، وهي نفس أسنتنا المرهفة، وحرابنا المزينة، لأنها سبب لما نتوقعه في الغد من منفعة، أو من مضرة. ولذا لا يجوز للخيال أن يبني أس الغد، ولا أن يرفع لواء الكد، لأنه سيفسد ما تتهلل الأسارير له، وتنبطح لبرقه الهمم العاتية. وإذ ذاك، فأي ناموس سيحكم على صراعنا فوق الطبيعة.؟ قد نطيق أن نزيل إكليل الصفاء عن أقواس قزح، لكي نتوج به فاقد الكرامة، لكن، هل سيكون تاجا للبهاء على الهوادج الفارغة.؟ ربما سيغدو الرقص مفيدا في فحولة العيون المحترقة، لكن لو لم يبهر المشهد بما لمع من سناء على خدوده الأسيلة، لما صغت بلابلنا لترانيمه المسكوب عطرها على أعماقنا المنتحبة. فكيف سنجعله دليلا على ذاته، وهو لم يوهب نصاعته إلا فينا.؟ فلا غرو إذا كان الدور وظيفيا، لأنه لا يجسد كمال الفكرة في تمام القصة، بل يعني جبر تلك الأجساد على التعب، وقهر تلك الأرواح على الطرب. وهنا نكون بين خيارين في رفض ما ينزف بين ظلمات الماخور من ألوان، وأحضان، لأننا إما أن نتعالى بعرق الأجساد المتلظية بالشهوة الغامضة، وإما أن نتدانى بالصمت من بؤر الاغتراب الطافحة، إذ لا قيمة للفعل بين رحم الأرض، إلا إذا كانت مهجة الروح منتشية بقدس الطبيعة، وأي شبر فيها، لن ينتج الروائع، إلا إذا كانت إعجازا تفصح به الحرية. -2- *** إذا نصح الأب ابنه، وكان حريصا على الحب له، والوفاء لذمته، وقال: يا بني، إن ما مر على الديار من مجاعة، لم يترك للقناص ما يصطاده من طريدة، فلا تغامر بالبحث عن الطرائد بين الغابات المفقرة، فما أفلح من ابتغى في اليبس رياحين باسمة، وهي في فقد العشق شاحبة، وقالت الأم لابنتها: يا فلذة كبدي، قد ضاعت الهامة، فلا تبحثي عن شريد بين دروب الشقاوة، فالزمن لم يبق منه إلا ما يُحمي جمرة الوحشة، وغصة الغربة، فلا تقامري بعقود جواهرك في لهو من لا يتوجك بعرش الطهارة الطافحة، ولا تبتاعي قدك الأهيف من مرآة فاقد سر ما غرس في جِنانك من أنوثة طازجة، فأي حلم سيطرزه هذا الوليد على حصيرة الأماني، وهو متيم بما تخفيه الأوتار من ألحان الآمال الندية.؟ لو قيل بأننا لا نلبس إلا فستان أسرنا، فكيف سنكرع من شحوب كدَّر طلعة الأسحار الساحرة.؟ سيغدو هذا بداية لجغرافيا الحلم، وهي أوسع ما يملكه الإنسان بين وهاد الأرض، ونهاية لما نزرعه بين تضاريسها من أوهام، وما نغرم به من أعلام، لأننا لم تشرد منا بين كبد الأرض النظرات الكليلة، إلا لأننا نُوَرِّي عما تخفيه الذات من عبارات عليلة، وتبطش به الأقدار من رغبات ذليلة. فاللفظ ما زال متولها بالصمت الذي يحرك جوهره الدفين، لأنه لم يألف عقله أن يمزج بين الأهواء في حضن عشقه الكمين، بل ما فتئ ينفض عنه الغبار الذي تسربل لؤمه عند الجهر به، لعله يتمدد على شاطئ السفور، ويتململ بين أزهار السرور، فيصير وعيا حاذقا، وفكرا ثاقبا، يستر ما انغرز بين الأوصال من ضجر المناكب، وقحط المجالب، لأننا ومهما سئمنا هذه المفاصلة بين الحلم، والوهم، وبين مدارات جريانه بين محيط الدائرة، والمركز، فإن ما نحس به من مفاضلة متجبرة، وممايزة متوحشة، لا تشيب فينا إلا ناصية الأمل الذي نداريه، ونجامله، إذ هو الخيط الذي يربطنا بعالم النوارس، والسير الذي يعبد طريقنا نحو اللحظة الساهمة. وإذا كانت هذه هي البدايات التي صُنعت لنا بين أكمام العناء، والمنطلقات التي التبس فيها النصح بالخوف من المجهولات الكأداء، فإن النهايات التي نصنعها بمعانقة العطر الذي يخدعنا بالوفاء، لم ننفخ فيها إلا سؤر خمرة شربناها على موائد وجود مكتظ بالإرادات المتصارعة، والعزائم المتسارعة، لأننا لم نكن نعتبر التاريخ إلا حدثا تائها بين عماء النسيان، ولا الحضارة إلا أريجا شممناه بين هجوع البنيان، إذ لو درينا أن ما نفرزه فيما بيننا من اختلاف، هو الذي يمنحنا اللون القابل للانصهار، لكنا أقدر على تركيب نص التآلف بلا تجديف، لكن اختيار الوسط عند موفور ا لحظ بسفوح الطرف، لن يكون إلا تحريفا لأصل القضية، لأن الحقيقة لا تتألف إلا من الأصوات الفانية بلا حدود، ولا قيود، إذ هي خلاصة صراع الأطراف، والوسط الذي نؤوب إليه عند التصالح، والتسامح. فلا حرج إذا طردهما الحيسوب من قاع حدسه الذي يفصل القول في أعقد مسائل الرياضات البحثة، لأنهما لا يفيدان بشيء يقيِّد ما شرد من أسرار الحياة الطرية، ما دام الإصرار على نقل التجربة بأعراضها المنبوذة، هو الحضن الذي نتقي به غلواء الأماكن المبللة بأدران الجهالة، إذ لو كان الطفل الذي نربيه برسائل العشق، أو الكهل الذي بمعاني المجهول، يحمل بين كهوف المأساة وردة السلام، لكان ربيعنا منتجعا نتقي به رمض الديار المحترقة، لأننا لا ننزف إلا بما يجرفنا من أسرار، أو ما يحمينا من أدوار، إذ لو كنا متفقين على اجتياز هذا الجسر الذي نثق بقوته، لما غرقت في كسوف عقولنا أحلام، وأقوام، لأننا لا تتناجى إلا بما نحرص على بقاء صورته غامضة، إذ هي سر تربيتنا على الكتمان، ولغز إحجامنا عن البيان. لكنْ لم يدل ما قدمناه من شغاف القلوب على الغباء، بل دل بين مراحل التاريخ على بعد دوالي الياسمين عن اليد الممدودة في فراغ، وعماء، لأن عصافير العشق لا تغرد إلا على أفنان القلوب السليمة، ولا تحفحف إلا على المياه الهادئة. فلم لا يبوح خافق الأمل برهافة حسه التي عادى الدهر صفاءها.؟ هل كتب عليه أن يولد في غير كنه، ويوصف بما لم ينبجس من نعوت بين عمقه.؟ ألم يكن هذا إجحافا بحقه، وهو لم يختر الوجود، لكي يسمى باسم لا يدل عليه.؟ إنه قد وجد، ولم يختر وجوده، ولن يأمل في بقائه، فكيف يستنير بمصباحه السحري، وهو لم يدرك بؤبؤ نار ذبالته، لكي يكون أعلم بنبع النور في بؤرة ذاته.؟ كلا، بل ما وجد إلا ليقاد بقيده، ويساق بغله، لأنه ما تعرى برعشات خوفه، إلا لأنه يجاهر باستعلائه عند دنوه، ويعادي باستقوائه عند ضعفه. فلا عليه إذا ترك هوس هذا السؤال المضني، وانتضى هزيمته بين حقويه، لعله ينجو بما تبقى من أوصاف لم تنلها فيه عيون المتربصين، والمرجفين. قد يكون هذا واضح الدلالة على طفل زرعت فيه بذرة السلف، وغرست فيه فسيلة الخلف، لأنه حين استهل صارخا، لم يبك إلا خروجه المباغت من عالم المتناهي، لكي يسجن وهم خلوده بين عالم الجزئيات غير المتناهي، إذ لم يكن قادرا على الرفض، ولا راغبا في النبض، لكنه مجبر على الاحتماء من الغرق، وإلا، فمن سيسعفه بقارب النجاة، وهو لا يريد من أنفاسه إلا أن تكتب على كفوف الزمن أسمى نشواته الخاشعة، لأنها بيته القديم الذي هجره بالظهور، ومخدعه الذي ينشد براءته، وحريته. لو تواتر في حكايتنا خبر ذلك، ولو سهوا من فزع الأسى، لدل ذلك على أننا أحرار في أصل القضية، لأنها ستربط الحاضر بالماضي، لكي يكون الزقاق جذلان بالعناق. وإذ ذاك لن يبرح أحد منا ما هيئ له من همود الأكنان، ما دام الزمن قصيرا، والموت قريبا، لأن عصارة الحاضر الذي أبكى الحناجر قبل الآماق، لم تكن إلا خللا في الماضي الذي نذرف على جدثه دمعة الفراق، إذ فيه تجذر الوهم، لكي يذود عن حياضه بغبننا، وغصبنا، لأنه لم يحس إلا بما نزف منا من صدود، وهجران، إذ لو أدرك غربة حلمنا بين مفازات المحن، لما قلب لنا ظهر المجن، لأنه لم يصدر منا إلا صراعا، ولم يلد فينا إلا ألما، وشقاء. فأي جرم ارتكبه الطفل الغرير إذا سبح بين أمواج الافتراضات.؟ ربما لا يعتبر هذا جناية على وجنتي طفل غرد فوق فنن الأمل، ثم ناله طيش صبي عابث، فغدا من دقة الرمي جريح الجناح، وطريد النجاح، لأنه لم يعصر من شفاهه إلا ما شربه من قراب أبويه، فهل نلومه إذا انهمرت في قاعه مزن الحنان.؟ أم نلوم ذا حين اتهمناه على شرب ما ألفه من صاب، وعلقم.؟ لو لمنا ذا في عرسه، وذاك في مأتمه، فإننا قد فقدنا مقامات بناء الأحكام، إذ لم يهتف بالكره إلا فاقد رحيق الحب، ولم يعول بالنحيب إلا ضائع حياته، لأن الدموع لا تدل إلا على ما خلب الفؤاد من معنى، إذ هي التعبير عن الألم، والأمل، لكن من سيقر بارتكاب الدرس الذي تعلمه من دُورٍ يبس عود أفقها لأقسى مظاهر تبئيسه، وتيئيسه.؟ عجيب أن يملك الورة فاقد الشم، وأن يملك السلاح فاقد البصر، إذ لا تسقى الوردة إلا بروح غارسها، ولا يهاب السيف إلا بالقضية التي تسمو بعدلها. وهل الوردة إلا ذلك المعدن البريء.؟ وهل فاسد الشم إلا تلك اليد الصانعة لآمال السلم الهنيء.؟ وهل السيف إلا ما تآلفنا عليه من عهود، وحدود.؟ وهل الأعمى إلا الراهب الذي يعيش الشرود.؟ كلا، بل هو الطفل في يد آبائه البيولوجيين، والمعنويين، والوعي في يد النصوص، والقديسين. لو أقررنا بمتعلقات النتيجة في القضية، فإننا نُضمِّن قولنا سمو رهافة حس هذا الطفل الذي أبقت عصافيره من شباك الأكوار، وفخاخ الأطوار، لأنه ما امتشق إلا سيف تاريخه، وما انتضى إلا قوس آبائه، لكنه سقى الأشجان بالأحزان، فكان قيثارة عذبة الأنغام، والألحان، إذ لم يرس بسفينه عند الأمل المسحور، إلا لأنه يغسل أدرانه بما أينع بين دوح المعاني من نظرات، وعبرات، لأنه لا ينظر إلى وهج المعنى المتقد في جبة الصوفي المتأمل لهدوء الحدائق الونانة، إلا إذا أدركنا موطن تآلف الأزمنة بين مجاهل العقول الباهرة، إذ هي المراح الذي تسكن إليه النفوس، وهو اللحن الذي ينساب على خصلات الأرض بلا امتنان. فهل نريده جديرا بالتفكير، لكي يكون أحق من غيره بمركز التدوير.؟ أم نحجز حلمه بين المراعي اليابسة، لكي يسود ورق الحياة فبين أحداقه الفاترة، فلا يرى على وجه الملاك إلا طفولة يغتصبها شيطان الضعة، والخسة.؟ سيكون هذا سبة تلحق الطفل الذي نهديه وردة الأمل، وهو شاحب النظر إلى ما يخيفه، ويعيفه، لأنه لن يزغرد باللحن البهي، ولن يغرد بالشعر الندي، ما دامت جفونه لم تشهد طلعة الشفق الباهر. تلك البسمة على خديه، لا ترسم صورة البراءة، لأن ما يلتبس على وجهه من ألوان مختلطة، لم يدل بصريح المقال على لحظة الحنان، إذ لو أُدرك منه ذلك بالعيان، وأيقن بأن علمنا به وطيد، لما ضج صخب صراخه بين السكك المتشابكة الدروب، لأنه لم يصرخ بالعتاب لتاريخه، والعقاب لأصوله، إلا لأنه عثر على باب الكهف الذي ولجه قهرا، وقسرا، لكنه لم يملك مرآة تعكس عليه معاني ما يراه من أطياف، وأكناف. فلا غرو إذا احتضن دفاتره الدسمة، واحتوى أقلامه الدنفة، لعله يخط سطرا أولا في البداية، وربما من شدة التباطؤ، وحدة التأخر، لن يتممه إلا بنوح الثكلى على قبره، وهو ينوح بأنين، الفقيد، والشهيد. هنا يصَّعد الإنسان بنظره نحو أطراف العوالي، لكي يجني ما نضج من ثمارٍ على الدوالي، لأنه إن لم يعش زمنه بين أمداء الخيال المترع بالغرابة، لن يكون حفيا بما يرد عليه من أحكام الخارج الغازية، إذ هو لم يجنح إلى ما توارى عنه من نسيم الهضاب، إلا لأنه يتعبه، أو يريحه، بل لأنه أدرك بقاءه في فنائه، وأيقن بأن مراسيم احتضاره تستل من أنفاسه، وزفراته، وإذ ذاك اختلطت المعاني في جرابه، فصار ما يدل على سكونه هو المطلوب بالكد، والسعاية. فهما سواء في الاعتبار، لأنها في النفي والإثبات صنوان، إذ لا يشتاق إلا ما فيه قربه، أو ما ينأى به عن بعده. وكل مفاصلة بينهما في المحاورة، ما هو إلا جلبة الصبيان بين ملاعب الكبار، وصرخة الأوغاد بين مجامع النجباء، إذ ما وهَب الحنان إلا فاقده، وما فقده إلا طالبه، لأنه الأوفر فيه حظا، ونصيبا، لأنه في العمق دقيق، ولكنه لا ينال إلا بالعهد العتيق. ومن درى من ذاته فيضا، فقد أغرى اللئام بجيفة المذلة، لأن استقامة الميزان في تآلف الموْزونين، لا في ظهور القصد بإخفاء السبب، إذ هما خطان متصلان، ولا يفصل بينهما إلا من لغى باللحن بين معاهد البلغاء. فالأمر إذن لا يجود بمظهره، ولو تبدى لنا سافر الخاصرة، لأننا لا نتقدم بخطوة وئيدة، إلا لكي نضع لجوهره ماهية عتيدة. كلا، بل ما يعتريه من كدورة، وما ينتابه من حموضة، يحول صورته إلى قشة عائمة على بحار مصمتة الظلمة، فيراها ذا بعين، وذاك بعين، وهي لا تتعدد إلا في القدر، ولا تتنوع إلا في النظر، لأنها برهان على الطريق الموصل إلى النهاية، وعنوان على الوصال بأنسام الحقيقة، إذ بدون الحزم في طي ما انبسط عليها من مهاد، ووهاد،لن نصير سعداء بالمشي بين أضداد المعاني، وأكدار الأماني. قد يتجاوز الحلم الخيال في كثير من القضايا التي نركبها بارتياب، أو احتراب، فيغدو من شدة سيلانه كدودة قز ناعمة، تنسج مُنية منيتها بإسبال رداء العطية، فلا تدري في أي كفن ستدفن بين قبور المواجيد الحارقة.؟ ربما سيزول الكمد ببعض الانتظار الذي يذيب وهجة زمننا في الحوارات البائسة، أو في المغازلات الفاحشة، أو ربما سنرتاد تلك الأسواق الراسخة بين القرى النائية، والجبال الهادئة، لكي نشتري جبتنا التي نسجتها أنامل الجدات، ومزقتها غلمة الشباب بين لواعج الشتات. لكن هل يجوز لذلك النائم أن يحلم بما يتمخض في غور اليقظان.؟ أو كيف يمكن لهذا المحترق بالشوق أن يهيل التراب على نقش صورته السنية.؟ لعل حرارة المكان الذي يعصف بلوعة المشتاق، وينسف لهجة المتعفف، لم تختر لهذا دفئا، ولكنها اختارت لذاك مهدا باردا، لا يأتيه في صمته إلا ما هو مقرور الحظ بين عينيه، لأن الاختيار الذي ننتظر هبوب لطفه، لم يكن سبيلا يجري عليه الحلم في القديم، فكيف به أن يعاند نص الحقيقة في القضية، لكي يثبت عكس ما هو منغمس فيه من كدر الفكر، ووضر النظر.؟ إذ لو أقمنا البرهان على صدق حجته، وأثبنا أن ما يؤكده الدليل في النص المؤول، أو المحرف، هو ما يجري بالطحالب إلى بؤرة الموت بين ديار العناء، لكُنا قد أنهينا برفض القوة شوقا لا يدنيه إلا الفناء، والزوال. فلا غرابة إذا التبس الحال بين النظرين، وامتطى كل واحد صهوة الاختلاف في حده، وقيده، لأن لكل واحد منهما مهيع في التصور، ومآل للعودة، إذ التفاف الصورة على مادة الشقاء في الفكر، وفي النظر، لا تفرز إلا ما يقض مضجع الكسير، ويقط ما تبقى من بسمة في عمق الحسير، لأن القضية معكوسة، ما دامت الألفاظ لا تدل على معناها، وما دامت النظرات لا تستكنه جوهر المطلوب من المنبوذ، والمكروه.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موارد العنف -8-
-
موارد العنف -7-
-
موارد العنف -6-
-
موارد العنف -5-
-
موارد العنف -4-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله)-2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق أبي رحمه الله) -2-
-
موارد العنف -3-
-
موارد العنف -2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله) -1-
-
موارد العنف -1-
-
عقيدة التسويغ -11-
-
عقيدة التسويغ -10-
-
عقيدة التسويغ -9-
-
عقيدة التسويغ -8-
-
عقيدة التسويغ -7-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
-
عقيدة التسويغ -6-
-
عقيدة التسويغ -5-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|