|
أمين جياد .. قراءة في ديوان (إن نسيتُ .. فَذكّروني)
حسين عجيل الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 5563 - 2017 / 6 / 26 - 04:09
المحور:
الادب والفن
أمـين جيـاد .. قـراءة فـي ديـوان (إن نسيـتُ .. فَـذكّـرونـي) بقلم / حسـين عجيل السـاعـدي
(إن نسيـتُ .. فَـذكّـرونـي) ، مجموعة الشاعر "أمين جياد" الشعرية ، الصادرة من "دار أمل الجديد" في سوريا ، التي أحتوت على (64) نص . الشاعر "أمين جياد" شاعر سبعيني صدرت له مجموعتان شعريتان وله عدة مجاميع قيد الطبع . عنوان المجموعة الشعرية ، هو العتبة الذي يكشف عوالم النص . حتى اعتبره البعض نص مستقل بذاته لا ينتمي الى محتوى القصيدة ، نعم ، أرى ذلك وهو مجتزء من حديث نبوي شريف يروى للرسول (ص) ، ولذلك نرى الشاعر "أمين جياد" أولى أهمية بالغة لعناوين نصوصه ، من حيث فنية البناء ودقة اللغة التعبيرية فيه ، بدءً بالكيفية الذي شكل بها الشاعر خطابه من أول عتبة النص المتمثلة بعنوان مجموعته الشعرية (إن نسيـتُ .. فَـذكّـرونـي) ، الذي شكل الخصائص الشكلية ، والوظائف الدلالية لخطابه الشعري ، وأنتهاءً بعناوين نصوصه الفرعية . خاصة إن أغلب شعراء قصيدة النثر أعتمد على الرمزية بشكل مفرط الى حد الغموض في قصائدهم من خلال إستخدام اللغة والدلالة والإيقاع والصورة والعبارات المرموزة غير المرتبطة بالواقع ، وهذه الرمزية أصبحت وليدة الحداثة خاصة إذا كانت صادرة (من أعماق تجربة ذاتية تحافظ على عمق الرؤية الفنية والخيالية الشعرية ) . لذلك نرى الشعراء التي تتسم نصوصهم بالرمزية ، أرادوا أن يعبروا عن أفكارهم ومشاعرهم ، وعن طبيعة المعاناة الشعرية لديهم ، بإستخدام الرموز . الديوان (إن نسيـتُ .. فَـذكّـرونـي) في نظر "أمين جياد" ينصب على عدة تجارب إلا أنه يتجه الى مصب واحد وهو الرؤية الفلسفية إتجاه ما هو قريب الى روحه و من ثم التوغل الى حالة التصوف صورة و تركيباً . السمة التعبيرية عند"أمين جياد" أعتمدت على التمييز بين التعبير والتجريد، فهي ذات بعد واسع غطت مساحات قصائده . فكل قصيدة لـها سيناريو خاص بها ، ولها بنيتها الدلالية المكتملة وتكوينها النفسي . فهو في نصوصه الشعرية يناغم بين الإحساس اللغوي والإيقاع الشعري . وكذلك بين الرؤية الصوفية والتأمل الفلسفي ، واذا أردنا أن نستقرء ديوان الشاعر "أمين جياد" لايمكن أن نحيط به من جانب واحد فقط ، بل يتعدى إلى عدة جوانب بما تضمنته من مضامين شكلت أتجاهات متعددة في الرؤية الى الديوان ، ويمكن أن نتناول هذه الرؤى بمباحث متعددة من أجل إعطاء صورة مكتملة عما أحتواه من موضوعات .
أشـكاليـة أستنطـاق الحجـر
يمكن أن نطلق على الشاعر "أمين جياد" شاعر (الحجر) لكثرة إستخدامه مفردة الحجر بشكل ملفت للنظر . يتكلم الشاعر عن إشكالية الأحجار في نصوصه الشعرية بقوله:(فلسفتي الشعرية منذ السبعينات ..وفي قصائدي تتضح أبعاد هذه الإشكالية . نعم هي الحكمة والفلسفة الشعرية وقدسية المعاني ودلالاتها) ، وقد بين "أمين جياد" المضامين الفلسفية والإيحائية للحجر في نصه الشعري الذي يحمل عنوان (للحجر معنى) . الأحجار تعلم الإنسان "الحكمة" الأحجار "تخلخل الزمن الضائع" الأحجار "ضياء الروح" الأحجار "كيان امرأة" الأحجار "مرايا الحب" أضافة الى ما حملته نصوصه الاخرى من معاني للحجر والأحجار . ففي أحدى تعليقاته عن ديوانه يقول: (هو الأنطلاقة الحقيقية لترسيخ عالمي الخاص في الشعر و تميزي عن أصدقائي الشعراء من خلال الهم الإبداعي و ألالم الموضوعي الذي تشكل عندي في المعاني الجليلة و الإنسانية لموضوعة الأحجار) . ذكر الشعراء العرب قديماً وحديثاً (الأحجار) في تشبيهاتهم ، فهذا ذو الرمة يقول:(عشيَّةَ ما لي حيلةٌ غيرَ أنَّني - بِلَقْطِ الْحَصى وَالخَطِّ فِي التُّرْبِ مُولَعُ)، وقال تميم بن مقبل:(ما أطيبَ العيشَ لو أن الفتى حجرٌ تنبو الحوادثُ عنهُ وهو ملمومُ)، وقال المتنبي: (أصخرة أنا مالي لا تحرّكني - هذي المدام ولا هذي الأغاريد)، وقال عمرو بن براق:(فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى - وبالريح لم يُسمع لهنَّ هُبوبُ) ، وقال أبو نؤاس:(صَفْراءُ لا تَنْزِلُ الأحزان ُساحتها - لـوْ مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ) وغيرهم من الشعراء . حتى أن شعراء الحداثة لم يتخلصوا من هذه التشبيهات على الرغم من تغير الأنساق الشعرية في القصيدة ، وصولا إلى القصيدة النثرية ، وظل الحجر معتمد من قبل الشعراء كنسق شعري في (التشبيه) في شعرهم لمقاربة خصائصه بالموجودات ، بما يحتويه من غموض وسيطرة على الحكمة ، التي ربطت الأحجار بالأفكار ، كونها رموزاً لطاقة متمركزة فيها ، وهذه الطاقة (تنبع من داخل الفكر لتتحول إلى طاقة تنتقل إلى الحجر، يساعدها في ذلك بريقها وكينونتها الجمالية التي هي نتاج عضوي لمخاض وولادة الطبيعة ، إنها روح الطبيعة) ، وتشير إلى (الكينونة الأسمى بمعنى أنها بعيدة لايمكن فهم كينونتها لكونها تفوق الوصف، بسبب غموضها وتجريدها) . يقول علي الإمارة:(صمت الحجر بليغ ذو لغة ساحرة حين تستنطقه قوة شعرية تقترب بصياغتها من بلاغة الصمت .. فتجعل منه نصاً يـُقرأ ويـُسمع أي أنها تدخله معها في فضاء التلقي والتاويل) . صاغ الشاعر "أمين جياد" أفكاره الفلسفية حول الحجر من خلال نصوصه الشعرية ، فشكل -الحجر- بؤرة دلالية أتشحت به نصوصه . فالبحث في "ماهية" الحجر يكمن في الرؤية الشعرية لطبيعة الأشياء وأشكال الموجودات وتنوعها ، الممتدة على مساحة الكون . وهذه "الماهية" شكلت فضاءات ذاتية للحجر والإنسان ، أستلهمها الشاعر ، فأسقطها في نصوصه . فـ(الحجر هو الإنسان الذي يستعد لجنازته منذ لحظة الولادة. والإنسان هو الحجر الذي يرتدي خلوده منذ أن يوجد ) . فهو -الحجر- يحمل دلالات شعرية شتى تستدعي التأمل والتأويل . فدلالة صلابته تتفتت عند الشاعر حين يستكشف مكامن الجمال فيه ومايمتلكه من خصائص مؤثرة في الجانب الروحي . نلاحظ الشاعر "أمين جياد" يستخرج المعاني من الحجر ، فتكون مفتتحاً للقصيدة ، حتى صار الحجر عنواناً لأكثر من نص شعري في مجموعته (أحجار الجسد الملونة/ أحجار المجنون/للحجر معنى/أحجار مريم/أحجار الشاعر/أمسك لون الأحجار) . فهو أعتمد على فضاء الدلالة للحجر والقدرة الشعرية وهي (أشبه بالأزميل) الذي يوسع من دلالة الحجر . فالحجر رمزاً لغوياً مليئاً بالدلالات والإيحاءات ، وهذا ما دفع الشاعر الى إستخدمه في نصوصه الشعرية من خلال الإستعارات والتشبيهات الشعرية للأحجار الكريمة (الياقوت/الزمرد/العقيق/الماس ..) . فبرع في تضمين أصناف من الأحجار الكريمة في نصوصه الشعرية . وهذا يذكرنا بالشاعر الروسي الشهير "بوشكين" حين كتب قصائد مخصصة للحجارة المفضلة لديه (كان متذوق كبير للحجر الكريم ، ويعتقد أنها سوف تجلب له السعادة ، كتمائم ) . إذن علينا أن نقرأ ديوان الشاعر "أمين جياد" مرات لأستنطاق أحجاره . لأنه جعل من الحجر الجامد ، كينونة حسية ، العين "فيروز" في إشعاعها و"ياقوت" في لمعانها ، الشال "ياقوتي" ، الصوت "ياقوتي" ، العشق "لازوردي" ، الزمان "لؤلؤ" ، النهدان "حجران" يضيئان ، وغيرها من الأستعارات ، التي شكلت تكوينات لونية وتعبيرية وجمالية عبر أستنطاق (الصيرورة الخفية لطبيعة الأشياء) . يقول الفيلسوف "غاستون باشلار": (عندما يضرب الحزن الحجارة سوف يكون الكون كله أخرساً)، وإذا أردنا معرفة كنه هذه الأحجار التي ذكرها الشاعر "أمين جياد" في ديوانه ، من خلال ما تحتويه من كينونة . فقد ذكر (الياقوت) وهو يغذي النفس بأحاسيس الصدق والوفاء والاخلاص ، و(الفيروز) وهو يحث على تحقيق الذات ، و (اللازورد) في رمزيته للعفة ، و (العقيق) وأرتباطه بالنقاء والإخلاص والصدق ، و(الماس) وهو يعزز قوة العقل والروح ، و(الزمرد) في رمزيته للأمل والإخلاص . كذلك وردت "الأحجار" في الديوان ، بصيغ المفرد والجمع (70) مرة ، منها في حالة الجمع (43) مرة ، وفي حالة المفرد (27) مرة . وردت في (37) نص من مجموع النصوص البالغ عددها (64) نص . وجاءت كعناوين في (7) نصوص . ورد الحجر بمسميات الأحجار الكريمة بما تحمله من خصائص نفسية وجمالية وروحية لها الأثر على أنفعالات الإنسان : 1- الياقوت/ ورد (22) مرة . (عيناك أتحدتا بين الموج وصايا لمعت كالياقوت على وجهي)،(يسيل الحجر الياقوتي على كفيها)،(تسمع صوتاً ياقوتياً من بين الأحجار)،(الأبواب كيان أمرأة من ياقوت)،(الغربة باب من ياقوت على موج البحر)،(حدقت اليها .. وكأني الياقوت على قامتها)،(وأراك كنور الياقوت على تيجاني) ...وغيرها 2-الماس/ ورد (6) مرة . (وتضعين البرقع الماسي على شعشعتي)،(أريد أن أفرك روحك بين دمي كالماس) ... 3-العقيق/ ورد (7) مرة . (عقيقك منفرط)،(شفة مسجرة يلفحها العقيق)،(بين خاصرتك العقيقتين) ... 4-اللازورد/ ورد (2) مرة . (عينيك الآسرتين اللازورديتين)،(ملاك يتغطى بالعشق اللازوردي) ... 5-الزمرد/ ورد (7) مرة . (أفتح كل زمردة تقبع فيها)،(هنا امرأة تقبع في زمردة)،(أقرأ في الأوراق زمردة تتشظى ) ... 6-الفيروز/ ورد (2) مرة . (عيناك الفيروزيتان تشعان) .. 7-اللؤلؤ/ ورد (4) مرة . (علقت على صدري لؤلؤة)،(وزماني يتشظى في معبدها كاللؤلؤ) ... فيكون مجموع هذه المسميات (48) وأما إذا أضفنا هذا العدد الى عدد ما ذكر بلفظ حجر أو أحجار فيكون المجموع (118) مرة . الوقـوف علـى حافـة الحـرف
أستخدم الشعراء الحرف شكلاً من أشكال التعبير الرمزي في نصوصهم الشعرية ، من أجل أن تستقيم البنية الدلالية للحرف ، وعند تناول الحرف ينبغي أن نستحضر المعاني اللغوية والرمزية المتعددة له . وقد أعطتنا المعاجم اللغوية جملة من التعريفات عن الحرف ، منها : "الحرف هو الجزء الدال على الكل" ، وورد في بعض المعاجم "الحرف يجري على الكلمة والقصيدة والخطبة برمتها " أما المتصوفة ، فيعتبرون "الحرف هو اللغة، أو ما يخاطبك به الحق من عبارات" ، ووفق هذه المعاني المختلفة المتعدّدة وغيرها تستقيم البنية الدلالية لموضوعة "الحرف" وقد أشار "ميشيل فوكو" على أنه "أنعكاساً لبنية العالَم وتوضيباً له وفق رؤية معرفية تحاكي تمثلنا للأشياء وما تقيمه من علاقات تترادف حيناً وتتباين حينا آخر" . ذكر حرف (الكاف) أكثر من (890) مرة في نصوص الشاعر "أمين جياد" ، ذكر كحرف "تشبيه" ( 109) ، و "ضمير" أكثر من (400) ، وضمن بنية الكلمة أكثر من (380) . نحن نعرف أن حرف (الكاف) في اللغة من الأصوات الأنفجارية ، جهورية الصوت ، وهذا قد يتناسب مع نفسية الشاعر القلقة . أما في الأصطلاح الصوفي فالكاف عند الدكتور عبد الحميد صالح حمدان "حرف نوراني ، وسر كمالي" ، وذكرت بعض خصائصه الصوفية عند أبن عربي أنه "من عالم الغيب والجبروت" .(موسوعة الكسنزان للشيخ محمد عبد الكريم الكسنزان) لذلك هو "حرف كمي ساري في الكليات ، له ثابت عقلاني في نشأة المقاصد" . الحالة الاخرى هي ، ليس بالشيء الغريب أن يكون حرف (الكاف) حرفاً للتشبيه حاضراً في النصوص الشعرية العربية ، إلا أن ما يميزه عند الشاعر (أمين جياد) هو الكثافة العالية ، فهو علاوة على قيمته في الإيضاح والشرح فأن له قيمته الشعرية في نصوصه التي أحتواها ديوانه ، هذه الأداة لازمت شعر (أمين جياد) ولم تفارقه ، يمكن أن تكون هذه الأداة مثالاً عن توظيف الشاعر للغة نحوياً لمصلحة الصورة الشعرية ،وذلك من حيث طريقة الأستخدام والدلالة . يقال عن "ابن المعتز" الشاعر العباسي في تشبيهاته:(إذا رأيت كاف التشبيه في شعر أبن المعتز فقد جاءك الحسن والإحسان) ، حتى أخذ القول مثلاً يضرب به في الجودة والحسن . لم يقتصر الأمر على علماء البلاغة في بيان منزلة التشبيه ، فقد عده النقاد باباً من أبواب البلاغة الكبرى ، يقول "قدامة بن جعفر البغدادي" ، أحد أعلام النقد من القُدماء : (التشبيه من أشرف كلام العرب فيه تكون الفطنة والبراعة، وكلّما كان المشبّه منهم في تشبيهه ألطف، كان بالشعر أعرف وكلّما كان بالمعنى أسبق،كان بالحذف أليق) . فالصورة التشبيهية هي صورة موجزة ، لأنّها أنعكاس للفكرة في كلماتٍ . وهذا ما قاله أرسطو : "إن الصورة في التشبيه تجري في النثر كما تجري في الشعر ، ولكنها بالشعر ألصق" . فالتشبيه يأخذ شكلاً بيانياً أدبياً مميزاً ، وبلاغةً ووضوحاً ، أضافة الى دلالته الرمزية ، فالإمام عبدالقاهر الجرجاني ، في نظريته النقدية للتشبيه يقول: (المعنى الجامع في سبب الغرابة أن يكون الشبه المقصود من الشيء مما لا يتسرع إليه الخاطر، ولا يقع في الوهم عند بديهة النظر) أسرار البلاغة - الامام عبدالقاهر الجرجاني ، الجزء الثاني . ولغرض الوقوف على كيفية أستخدام (كاف) التشبيه في نصوص الشاعر "أمين جياد" لنلق نظرة على بعض المقاطع المتنوعة التي أحتوته مجموعته الشعرية . *وأعيدُ سهامي كالورد الى روحي *فينشق البحر على كفيك كحصان يصهل في الرمل *هو ألف يتكور كالمسك على ساريتي *كهلال ممطر على وسني وغير هذه الكثير حتى بلغ هذا الحرف في التشبيهات والأستعارات أكثر من ( 109) مرة . فالتشبيه يعطي القدرة على التشكيل الصوري بشكل محسوس ، وينقل أنفعالات الشاعر الى المتلقي ، وهذا نسق أعتمد عليه الشاعر في شعره لمقاربة خصائص الأحجار الكريمة بالموجودات . كذلك نلاحظ تكرار الضمير(الكاف) بمعدل (400) مرة يثير الأنتباه لدى المتلقي، عن حالة شعورية معينة، جاءت لتوكيد الذات للشاعر ، فتكرار الضمائر يعكس أنفعالات الشاعر النفسية . خاصة وأن ( شعراء الرمز قرروا أن يتخذوا الحرف"علامة تعبيرية جسدية "علاوة على كونه "علامة تعبيرية لغوية") . ولكن هل توقف نزف الحرف عند "أمين جياد" وهو يكتب نصوصه ؟ الأجابة يملكها "أمين جياد" حين يقول:(يتكون عالم الشاعر ورؤاه من كينونة الأحرف ، التي شكلت التكوين الفكري والثقافي عبر تاريخه . فمن رحم الحرف تولد الكلمة ومنها ، وما بين الأحرف والكلمات ، أنطلقت مغامرة العقل الأولى فأينعت ثمار أول حضارة) .
ظاهـرة التكـرار فـي شـعر أمــين جــياد
ظاهرة التكرار من الظواهر والأساليب البلاغية والأسلوبية في الشعر العربي ولم تكن هذه الظاهرة حديثة عهد ، بل هي الأكثر شيوعاً وأنتشاراً في الشعر العربي ، وقد أهتم الباحثون القدامى بالتوكيد اللفظى ، وتناولوه في الدرس البلاغى والنحوي لانه مرتبط (بإرادة التوكيد والإفهام) كما ذكر "أبن قتيبة" . ورأى "أبن جنى" أن التكرار يأتى (إرادة تمكين المعنى والأحتياط له) . وظاهر التكرار (تقتضي الإتيان بلفظ متعلق بمعنى ، ثم إعادة اللفظ مع معنى آخر في نفس الكلام) . فظاهرة التكرار تعمل على تكوين (إيقاع صوتي موسيقي يسهم في تماسك بنية النص الدلالية ويزيد في كثافة النص) . مما عُد من أبرز التقنيات التى تشكل قوام النص الشعرى ، لأن له دلالات إيقاعية كثيرة ، أفادة النص الشعري في خلق إيقاع موسيقي داخله ، فـ"الإيقاع الصوتي الذي يخلقه تكرار جرس الحروف والكلمات ، تظهر القيمة الفكرية والنفسية التي يعبر عنها من خلال العناية بتكرار لفظة معينة أو مقطع معين " التكرير بين المثير والتأثر/ عز الدين علي السيد . وقد لاحظنا ذلك في وجود الرؤية الدلالية في بنية النص عند الشاعر "أمين جياد" فكان له الأثر الدلالي في تأكيد المعنى ، فمن خلال التكرار عبر الشاعر عن رؤاه وتصوير إحساسه ومشاعره ، أضافة الى أنه يحقق الوظيفة الصوتية والدلالية في النص . فهو إلحاح يأخذ بعداً نفسياً ، له علاقة بنفسية الشاعر ، فيكشف الجوانب النفسية والدلالية والحالة الشعورية لدى الشاعر . ذهبت الـدراسات النقدية العربية الحديثة في تناولها ظاهرة التكرار الى تعريفات وتفرعات شتى ، وتناولت هذه الظاهرة الشاعرة "نازك الملائكة " في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) ، وذهبت فيه إلى أن الشعر الحديث يحوي ثلاث صور للتكرار هي : 1- التكرار البياني : وهو التكرار الذي يلجا إلى التأكيد على الكلمة المكررة أو العبارة . 2- تكرار التقسيم: وهو تكرار كلمة أو عبارة في ختام كل مقطوعة من القصيدة . 3- التكرار اللاشعوري: تعرف نازك الملائكة هذا النوع بالقول:(التكرار الذي يجيء في سياق شعري كثيف يبلغ أحيانا درجة المأساة ، ومن ثّمّ فإن العبارة المكررة تؤدي إلى رفع مستوى الشعور في القصيدة إلى درجة غير عادية) . يتحقق التكرار بأنواعه في ديوان (إن نسيـتُ .. فَـذكّـرونـي) من خلال: 1ـ تكرار الحرف: يعد أبسط أنواع التكرار ، لان الحرف يحمل قليلاً من المعاني ويكون أقل تأثيراً من الأفعال والأسماء . وقد أعتمد شعراء الحداثة على تكرار الحرف بوصفه (قيمة "إيقاعية/صوتية" تغذي الناحية النغمية في القصيدة ،وقد تدخل في صلب الدلالة، أو تفخيم الرؤية الشعرية التي تتضمنها) . وهذا تكلمنا عليه في المبحث الثاني من القراءة عندما تناولنا حرف (الكاف) بأشكاله المتعددة . 2ـ تكرار اللفظ : قد يكون تكرار مفردة معينة ناتج عن أهمية هذه المفردة وأثرها في إيصال المعنى أو توكيدها ، وإكسابها قوة تأثيرية ، أضافة الى الإيقاع الصوتي الموسيقي والإيقاع الدلالي لها داخل النص الشعري . وهذا ما نلاحظه في تكرار لفظة (حجر وأحجار) في نص (للحجر معنى) ، و(كوكب) في نص (سورة كبرياء) وفي نص (رؤياي) ، و(الأبواب) في نص (الأبواب) ، و(لا أحد) في نص (صراخ الملاك) ، و(وصايا) في نص(جدار البرق) ... وغيرها . 3ـ تكرار الجملة: وهو تكرار يعكس أهمية الجملة المكررة لفهم مضمونها ، (يسحبن شالك الياقوتي على الماء) ذكرت مرتين في نصين ، و(هب أني أعطيتك) ذكرت ثلاثة عشر مرة في نص واحد (أنتِ شجوني) ، ذكر هذا النص مرتين في نص واحد في(سورة كبرياء) . ماذا؟ أني أحلم ، قد أولد في النار ، قد أولد في الماء ، وقد قدّ جبيني ، قدماي الأرض ، ووجهي صار الضوء الأكبر ، ويدي الأسماء الحسنى ،
كذلك جملة (حتى لا أستطيع أن أكرهك) تكررت مرتين في نص (صورتان) ... وغيرها من الجمل .
اما أغراض التكرار ووظائفه فهي: (1ـ الوظيفة التأكيدية في إثارة التوقع لدى التلقي ، وتأكيد المعاني في ذهنه. 2ـ الوظيفة الإيقاعية في بناء إيقاع داخلي يحقق أنسجاماً موسيقياً خاصاً . 3ـ الوظيفة التزينية من خلال تكرار ألفاظ مختلفة في المعنى ومتفقة في البنية الصوتية) . كذلك هناك أغراض أخرى متعددة للتكرار أضافة الى التوكيد منها: (تناسق الـــكلام والإستيعاب ، والترغيب في شيء ، وأستمالة المخاطب ، وتنويه المخاطب ، والترديد والحث على شيء أو أجتنابه ، أو لإثارة الحزن ، أو الإرشاد إلى الخير ، أو للتهويل) . وقد عد التكرار مظهراً من مظاهر البلاغة ، فهو مثار جدل عند البلاغيين فتشعبت الأراء فيه فمنهم من نفاه جملةً وتفصيلاً ومنهم من أثبت بلاغته . أن تكرار اللفظ يعد سمة بارزة في ديوان الشاعر "أمين جياد" ، وفي قراءتي أخذت بالمنهج التحليلي في تتبع صور التكرار المتنوعة في ديوان (إن نسيت .. فذكروني) ، فهو يعد أنموذجاً معبراً عن ظاهرة التكرار اللفظي بصورة واضحة . ومحاولة الكشف عن بواعثه الموضوعية والفنية والإيقاعية . ودلالته النفسية " حيث يفرغ الشاعر حاجاته ومشاعره المكبوتة ليعيد التوازن إلى حالته الطبيعية " نازك الملائكة/ قضايا الشعر المعاصر .
الأتساع الدلالي للمرأة عند الشاعر أمين جياد
تميز الشاعر "أمين جياد" في كتاباته بالرمزية والتكثيف والتنوع في تناول الموضوعات ، مما أحدث هذا التنوع الدهشة والأتساع الدلالي في نصوصه . وهذا ناتج عما يمتلكه من جذوة شعرية متقدة ، وتجربة حياتية محملة بأوجاع الماضي والحاضر ، فهو يمنح المتلقي الخيارات المتعددة لتأويل النص . نحن نعرف أن المرأة شكلت محور أهتمام الشعراء وإبداعهم الشعري ، هي المثل الأعلى للجمال الأنثوي ، الأخذ المساحة الكبرى والحيز الأكبر في الشعر العربي بكل أجناسه . وفي ديوان الشاعر "أمين جياد" كانت المرأة ، المحور الذي يرتكز عليه في أغلب نصوصه الشعرية ، حتى يظن المتلقي أن "أمين جياد" وصل بالمرأة إلى حد أستباح جغرافية جسدها وأبراز تضاريسه ، ولكن الذي يعنيه الشاعر في سياقه الشعري عن المرأة ليس الإباحة ، بل أنوثة الشكل ورمزية الجسد ، فالمرأة رمزاً للجمال الكوني والسمو والرفعة ، تتحول بين يديه من تكوين مادي الى رمز روحي ، بنى على ضوئه فلسفته عن المرأة ، فلم تكن موضوعاً جنسياً خاضعاً لمقاييس الأستمتاع واللذة ، كما عند البعض في نثرهم أو شعرهم ، بل فيها قداسة كقداسة الصوفي للمرأة حين يسمو بها الى أعلى مستويات الروحية والصوفية . فالصوفي "محيي الدين ابن عربي" يعبر عن الجمال الكوني من خلال عشق المرأة ، يذكر في (فصوص الحكم):(لا يفنى الإنسان في شيء يعشقه إلا إذا كان هذا الشيء شبيهًا به، فإذا وقع التجلي الإلهي في عين الصورة التي خلق آدم عليها طابق المعنى، ووقع الالتذاذ بالكل وسرت الشهوة في جميع أجزاء الإنسان ظاهرًا...، ولذلك فمن عرف قدر النساء وسرهن لم يزهد فيهن وفي حبهن بل إن حبهن هو من كمال العارف ذلك أنه ميراث نبوي...، وهو في ذلك حب إلهي، لأن حبنا للمرأة يقربنا من الله) محيي الدين ابن عربي/فصوص الحكم . فينظر لها أبن عربي كتجسيد للجمال الكوني وليس مجرد متعة جنسية . حين يقول:(وليس في العالم المخلوق أعظم قوة من المرأة لسر لا يعرفه إلا من عرف فيم وجد العالم وبأي حركة أوجده الحق تعالى) الفتوحات المكية، ج2، ص466. الشاعر "أمين جياد" ، يمتلك كوناً شعرياً متمثل في جزئيات إبداعه الشعري ، فنراه يستغرق في جغرافية الجسد الأنثوي ودلالاته الرمزية ، من خلال التناسق الجسدي للصورة الشعرية للمرأة ومصادر جمالها المتنوع ، ففي هذا التناسق الجسدي تجاوز حدود العالم الحسي ، فالشاعر أي شاعر هو رجل (تشع رؤياه إلى ما وراء أفق الإنسان العادي فتذهله ضخامة الكون وجماله.) أدونيس:أغاني مهيار الدمشقي، ص131. في ضوء أشكالية جسد المرأة ومايريده الرجل ، قد يساء فهم الصورة الشعرية للمرأة عند "أمين جياد" ، وينظر اليها الأخر على أنه مستحوذ عليها جنسياً من خلال توصيفاته ، ولكن تأمله في تضاريس المرأة ليس جسدياً وانما روحياً . فلا يقصد بألفاظه المعنى الظاهر ، وإنما يريد معناً خاصاً به . .. وفحيح الريح يسابقني والشباك جناحان ، كنهديها ، ينفتحان على كفيه ، يطل البرق الآسر في عينيه نص (أحجار الجسد الملونة) فلا يختزل المرأة في جغرافية جسدها البايولوجي ، حين شكل "النهد" أحد عناصره ، فالجسد لديه بمثابة الجوهر و"النهد" مركز هذا الجوهر ، ولم يأخذه بمعناه الحرفي ، حتى يغدو كموضوع جنسي ليس إلا ، بل هو دال ومدلوله الأنثى ، وهذا يفهم من خلال السياق بمعاني متعددة وردت بنصوص متفرقة . فـ"أمين جياد أعتمد التوصيفات الجمالية الشعرية التحفيزية المثيرة للقارئ ، من خلال ما يمثله الجسد الأنثوي ، من كينونة وجودية ، تعتمد على نظرة شاملة رؤيوية ذات أبعاد جمالية . فالـ"نهد" يعتبر أبرز ما تناوله الشاعر في نصوصه ، بشكله الحقيقي و المجازي ، فهو معجمياً يعني المرتفع من الأرض ، ولكن لم يُأخذ بمعناه الحرفي الدال برمزيته الى الأنثى ، بل بالمعاني الكامنه في الإيحاءات الرمزية الدالة على السمو والتسامي والعلو . وقد وردت لفظة "النهد" (16) مرةً ، بالشكل الصريح في نصوصه(نهداك مرساتي في الليل/ادنو الى قمر نهديك/نهدان حجران يضيئان ، على ضفة يابسة/كي ادخل حجرا او نهدا/الشباك جناحان ، كنهديها ، ينفتحان على كفيه/مسكت حجرا يتدلى كل الوقت على نهديها/توارى البعض ، بسر مكشوف كالنهد) . وأكثر من ذلك بالشكل المجازي لهذه المفردة (هل أنحني لقمريك المكورين / وردتان من عقيق/ يهفهفان كالريش / حجران من الجنة/ أشيل ميزانك على صدري/حجران يضيئان/ أرى هزهزة النوارس تحت قميصك الليلي/ ينفران كموجتين ضد الريح ) . ... ما ابهاك على الموج يتطرز شالك بهفيف الضوء وارى هزهزة النوارس تحت قميصك الليلي ينفران كموجتين ضد الريح وتمدين خيوط اللهفة من حزنك الى قلقي نص (بُراقُ الجسد) هل أنحني لقمريك المكورين كالموج الصاعد الى شفتي وردتان من عقيق هما او حجران من الجنة يهفهفان كالريش على رضابي نص(امرأة من يقطين) أن تجربة "أمين جياد" مع المرأة ونصوصه الغزلية ، ليس نتاج نزوة عابرة من أجل أن تدغدغ غرائزه الجنسية . بل هي وليدة تجربة عشق لزوجته المرحومة (عدوية) حين فقدها في غفلة من الزمن ، فشكلت خصوصية متفردة في حياته . فهي عنده (كل جمال) . هكذا يصفها : هي كل جمال في المرآة تمشط ريحا او نارا وتحدق في عينيها الخضراوين فيخرج من ضوء المرآة حصان يصهل نص (ريشة فوق قبعة القصيدة) كذلك الأهداء في ديوانه الى روحها ، كانت عشقه الاوحد ولما يزل . بل يصفها (امرأة من يقطين) ، وهذه الأستعارة القرآني في الوصف لها بالـ(يقطين) جاء من باب أن تعصمه من مزالق النفس وما تبغيه نفسه من الجنس الأخر ،﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ﴾ [الصافات: 146] يقول الدميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى" عند حديثه عن الذباب:"ولا يقع على شجرة اليقطين. ولذلك أنبتها الله على نبيه يونس عليه الصلاة والسلام، لأنه حين أخرج من بطن الحوت لو وقعت عليه ذبابة لآلمته فمنع الله عنه الذباب بذلك، فلم يزل كذلك حتى تصلب جسمه" . حتى قال عنها في مرثيته (أنت .. لاشيء .. غيرك) والذي نقشها على حجر المرمر فوق قبرها . يقول في بعضها: في الحلم أكون قريبا منك ، أكون أنا الحلم ، وفي السر أكون بعيداً ، ثم يقول في ختام نصه: في الحلم ، أكون الكون على ليل همجي ، وأكون الصمت القاتل ، في حلم مقتول . وفي نص أخرى (أراني صهيلاً يتكسر على مرآتك) ، يقول: ... وأراك في جسدي كالضوء الماسي يسري الى روحي كالموجة تتبعها موجات أراني شعشعة في عينيك وتصهل في الكلمات .....
#حسين_عجيل_الساعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعرة ميسرة هاشم الدليمي إشكالية الجرأة عربدة شفاه أم
...
-
الشاعر فاضل حاتم .. بين عضوية (الألم) ووجوديته
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|