نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث
(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)
الحوار المتمدن-العدد: 5560 - 2017 / 6 / 23 - 11:59
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ديوانية عباس غضبان كرماشة ومجارش الشلب في الهندية
نبيل عبد الأمير الربيعي
تكثر مزارع الاشلاب – وهو انواع الارز – في منطقة الفرات الأوسط ومنها الهندية (طويريج) والديوانية، في نهاية الموسم يدخر المزارعون الأشلاب في مخازن تفرش بالبواري (حصران من القصب) وتسمى (المطبكة) أو (الحلا). ثم تصرف الأشلاب إلى ماكنات الجرش (الدرس) لإفرازها عن قشورها وتنقيتها. وقبل عملية الجرش تفرش الأشلاب تحت أشعة الشمس لتجفيفها تماماً، وذلك في مساحة أرض مطوقة لهذا الغرض تدعى (چرداغ) أو (بنكله).
وقبل استخدام المكائن كانت النساء تجرش المحاصيل برحى عميقة تصنع من الزفت والقار. وكانت النساء تعمل في الجرش طيلة اليوم وقسماً من الليل بصبر ومثابرة وإتقان، وكنّ يستنشقن الغبار والأتربة ومسحوق (السبوس) الذي يتعفر من جراء الجرش. ولترويح النفس وبعث النشاط كان هؤلاء بعض النسوة يتغنين الأغاني الشعبية وخصوصاً تلك الأغاني الرتيبة التي تتلائم وإيقاع الرحى.
ثم يأتي العمال فينقلون المواد المجروشة في أطباق (غرابيل) للذر ولفرز القشور التي تدعى (سبوس). وللسبوس أهمية لصناعة الورق والخشب المضغوط، ولكن لعدم وجود معامل كهذه في العراق كانت هذه المواد تستخدم للوقود أو غسل الأواني المنزلية.
ولهذه الأغاني الشعبية التي تخص العاملات في الجرش خرجت لنا قصيدة رائعة كانت ولادتها منطقة طويريج حيث المجارش هناك كما ذكر ذلك الكاتب والباحث ذياب مهدي غلام في مقالة رائعة ((طويريج ومجرشة ابن غلام وقصيدة المجرشة)) رداً على مقال للباحث محمد علي محيي الدين التي نشرت في جريدة المدى البغدادية, والذي تساءل محيي الدين فيها هل القصيدة حلية فراتية؟ أم كرخية بغدادية؟ لكن الباحث ذياي آل غلام يؤكد على أن القصيدة خرجت من مجارش جده محسن غلام حين يقول Lإن هذه القصيدة كانت نشيد ونشيج في نفس الوقت وخريدة العصر وقصيدة النصر للمرأة المهظومة والمظلومة... وقصيدة المجرشة لسان حال المرأة العاملة :
ما ينسمع صوت ارحاي بس أديّة أديّر
اطحن بگاية الروح موش اطحن شعير
وقد نشرت جريدة (صدى الحقائق) بعددها الصادر في 3/4/1927 قصيدة للشاعر المشهور حسين الحلي العذاري وقدمته على أنه صاحب قصيدة المجرشة المشهورة. كما نسب السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه الأغاني الشعبية الصادر عام 1929 القصيدة إلى الملا نور الحاج شبيب, كما نشر الأب أنستاس ماري الكرملي في كتابه (مجموعة الأغاني العامية العراقية) سنة 1933, ونسب قصيدة المجرشة إلى نور الحاج شبيب. لكن الملا عبود الكرخي نشر قصيدة المجرشة مرات متعددة, فقد نشرها في جريدة (الكرخ) بتاريخ 21/7/1927 بـ(26) مقطعاً, ثم أعاد نشرها في الجريدة نفسها بتاريخ 3/6/1929 بعد أن اضاف إليها وجعلها بـ(51) مقطعاً, ثم نشرها في ديوانه بـ(74) مقطعاً, ويؤكد الباحث محمد علي محيي الدين قال : (توجد الكثير من الاختلافات بين الطبعات المتعددة بعدد المقاطع والنصوص, مما يدل على أنه يعاود التغيير والتبدير والإضافة عندما ينشرها مجدداً).
ويعقب ذياب غلام في مقاله : (هذه روايتي وكما رويّ لي من نسب القصيدة الخريدة المجرشة لشاعرها الأصل هو من أهل طويريج / الحلة الفيحاء وعلى نسقها نظم الكرخي وأدخل بعض الأبيات في قصيدته وهي لا تتماشى مع نفسه ومفرداته البغدادية, فإن نفس واسلوب شاعر الفرات الأوسط (الحسجة) لا يمكن لأي شاعر آخر أن يجاريه لكن نرى أن الكرخي بارى شاعرها وأخذ منهُ بعض الأبيات ونشرها باسمه وهذا ما أراده الكرخي...).
المجرشة قصيدة تبين مطالبة المرأة العاملة بحقوقها, فكانت تلك العاملات يعملن في مجارش محسن غلام في الهندية, ولدى غلام إضافة للمجارش بساتين عامرة لحد الآن, وكانت لقاءات الحاج محسن وعباس غلام في ديوانية الحاج عباس غضبان كرماشة, وهو بمثابة وكيل آل غلام في املاكهم, ويعقب الباحث ذياب آل غلام في مقاله إذ قال Lفي جلسة اتذكرها جيداً وكان معانا الحاج حضيري وآخر من بيت الليثي وآخر من بيت الهنداوي وآخرين, كان حديثهم عن طويريج وعن ذكرياتهم عن المجارش, ثم عرجوا على قصيدة المجرشة ومن قائلها.. قال عباس غضبان إن محسن غلام صاحب أحد معامل الجرش قد تناسب مع حمولة الملالي من الجبور, وتزوج بنت ملا محمد الجبوري وأحد اقاربه ملا شبيب أو ابن ملا شبيب وهو شاعر معروف يكتب شعراً حسينياً وغزلاً احياناً, ولقد غنى الراحل عبد الأمير الطويرجاوي بعض من اشعاره, وكانت جلسات السمر تكون في الغالب عند الحاج محسن غلام في ديوانيته القريبة من نهر الفرات والملاصقة لمعمل الجرش, حيث من الممكن سماع بعض اصوات العاملات حين يطربنّ مع حركة المجرشة اليدوية... إن عاملات الجرش وخاصة (الشفت) الليلي – وهذه ميزة وخاصية عند نساء الفرات الأوسط والجنوب العراقي – هي الموهبة الشعرية والصوت الجميل الفطري, فهنّ ينظمنّ الشعر اثناء الغناء, والآخرين يسمعون هذه الأصوات والأطوار المختلفة, وقد تذكر عباس غضبان أحد الأبيات الغنائية :
بمجرشة ابن غلام لزرعلي خوخة
فيّ للگظاه الشوگ وهم دوه الدوخة
وقد زار الشاعر الشعبي المرحوم ملا عبود الكرخي چرادغ الجرش فتأثر مما شهده, والتقى بالملا شبيب وسمع منه بعض الأبيات عن قصيدة المجرشة ولقد جاراه الكرخي ونظم على منوالها ابياتاً فنظم قصيدة زجلية مطولة. ثم يعقب ذياب آل غلام قائلاً :(وهنا عقب عباس غلام وقال . وكان في القصيدة بيتين تخص محسن غلام, فطلب حاج محسن أن يحذف ما يخصه من مديح فيها على أن يعوضه (وزنة شلب) وهكذا تمت الصفقة, وحين اخذ عطائه الكرخي وذهب إلى بغداد, هناك نشرها كاملة وتحت اسمه, ولذا نرى في بعض الأبيات نفس واسلوب ومفردة ليس من صنع أو نظم الكرخي... وحين جمعتنا الأيام في منتصف التسعينات مع الحاج حضيري الطويرجاوي.. كان من جملة الحديث عن قصيدة المجرشة وناظمها ملا شبيب, وكذلك في لقاء شخصي مع كل من اللواء الركن المتقاعد خضير عباس غضبان وهو يحفظ الكثير الكثر من شعر تلك الأيام لعاملات مجرشة ابن غلام).
كما يؤكد الباحث محمد علي محيي الدين في مقاله المنشور في جريدة المدى حين قال : (مما يؤكد أن الكرخي قد نظم على غرار القصيدة الأم, وتابعه الآخرون في هذا النظم, ولو تتبعنا ما نشر على غرار المجرشة لتوفر لدينا ديوان كبير... وخلاصة ما أريد الوصول إليه أن قصيدة المجرشة فراتية بحته إن لم تكن (حلية) خالصة, وأن الشعراء الذين جاروها أو باروها ومنهم الكرخي لم يكونوا مبتكرين لها, لأنها نابعة عن معاناة حقيقية لم يكن الكرخي قد عاناها في حياته المترفة الاهبة)(1).
كما يؤكد الباحث حسين علي الشرع في مقال له (قصيدة المجرشة خرجت من مطحنة أبو دانيال وصاحبتها أم خزعل) حين قال : (وقد أفادني الأستاذ الدكتور عدنان الظاهر في رسالة :أتذكر مرّة قال فيها المرحوم والدي : إن القصيدة كلاً أو جزء منها قالتها امرأة ممكن كنّ يعملن فعلاً بالجرش من أهال الهندية/ طويريج... وقد رأيت بالفعل وكنت ما زلت طفلاً هناك ساحة كبيرة ليست بعيدة عن نهر الفرات, تعمل فيها ليلاً ونهاراً نسوة كثار خلف طواحين الحجر الرصاصية اللون, مجارش وكنّ دفعاً للسأم والملل من العملية المتكررة التي تأكل الروح, يهزجنّ ويغنينّ تماماً كشأن اغلب الحلاقين فهم يدفعون عن نفوسهم الملل بكثرة الكلام مع الزبون تحت ايديهم وتحت رحمة المقص والموس الحاد). ثم يعقب ويقول الباحث الشرع : (المجرشة صرخة مدوية للمرأة العراقية, وفيها صور كثيرة عن معاناتها ما تزال بحاجة إلى نضال دؤوب لتجاوزها عسى أن تعود المرأة لوعيها ذات يوم وتعلنها ثورة عارمة تطيح بكل العقبات التي وضعت في طريقها ومسخت انسانيتها وجعلتها في آخر القائمة من المخلوقات).
ويذكر الوجه عزت ساسون معلم في كتابه ((على ضفاف الفرات ذكريات أيام مضت وانقضت)) نقتطف منها هذه الأبيات(2):
ساعة واكســـر المجرشه والعن أبو راعيـــــــها(1)
عشــــرة يشاركها برجـل وحدة بمطي يخليــــها(2)
والمعنكيـــــة بهل زمـــن شدو اجلال عليـــــــها(3)
مـــــا يصير دوم امغيمة هم ربك ايصحيـــــــها(4)
ساعة واكسر المجرشة وانعل أبو السواهـــــا(5)
اش چـم سفينة البلبحر تمشي بعكسها هواها(6)
ايصير اضلن يــــا خلك متجابلـــه آنـــــــه وياها(7)
كلما ايكيرها النـــــــــذل انــــه بحيلي أبريــــــــها(8)
ذبيت روحي عالجــرش وادري الجرش ياذيــــها(9)
ساعة واكسر المجرشة وانعل أبو راعيـــــــــــها(10)
ساعة واكسر المجرشة وانعل أبو راعي الجرش(11)
كعدت يداده أم البخـــت خلخالها يــــــدوي ويدش(12)
وانا ستاذي لو زعــــل يمعش شعر راسي معش(13)
هم هاي دنيا او تنكضي وحساب أكو تاليــــــــها(14)
1- بمعنى: ستأتي ساعة أكسر فيها الجرن من شدة غضبي والعن صاحبها.
2- أي عشرة عمال يساوون رجل دابة واحدة، وآخر يملك مطياً لنفسه.
3- المعنكية – الخيول الاصلية، اجلال – الخرق البالية التي توضع على ظهر الحمير بينما توضع السروج المزركشة على ظهور الخيول.
4- لا تبقى الدنيا ملبدة بالغيوم، وسيأتي الصحو بعد تلبد الغيوم.
5- أي العن من صنعها.
6- كم من سفينة يجري هواؤها عكس رغبتها.
7- يا خلك – ايها المخلوقات، أيها الناس، متجابله – مقابلة، أي مقابلة المجرشة ومواضبة العمل طوال اليوم.
8- أي ما يسبب النذل – صاحب العمل – من أقذار ازيلها بعرق جبيني.
9- القيت نفسي يائساً على المجرشة رغم معرفتي بما يتسبب من ضرر.
10- العن صاحبها.
11- العن صاحب الغلال.
12- ام البخت – صاحبة الحظ الوافر التي تقعد دون عمل وأساورها تجلجل، والخلخال حلقة جوفاء من الفضة او الذهب تزين بها أرجل النساء.
13- خوفاً من صاحب العمل.
14- تنكفي – ينتهي أمرها، وفي آخرتها الحساب.
هذا ما كان حينذاك، أما الان فيجري العمل بالماكنات الحديثة، حيث تقوم الماكنة خلال ثماني ساعات بعمل ينجزه ثلاثون من العاملات خلال أربع عشرة ساعة، ويدير هذه الماكنة خمسة عمال فقط.
المصادر
1- محمد علي محيي الدين. محطات من التراث الشعبي العراقي. دار الفرات في الحلة. ط1. 2012. ص16/ 19.
2- عزت ساسون معلم. على ضفاف الفرات ذكريات أيام مضت وانقضت. ط1. القدس. رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق. شفا عمرو. 1980. ص108/111.
#نبيل_عبد_الأمير_الربيعي (هاشتاغ)
Nabeel_Abd_Al-_Ameer_Alrubaiy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟