بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 5559 - 2017 / 6 / 22 - 16:11
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (72)
الارهاب العلني
بشير الوندي
-----------
مدخل
-----------
توصف الاستخبارات بالعين , لانها تشاهد وترصد الاشياء , وعندما تعجز عن المشاهدة فهذا اخفاق استخباري , ولكن المشكلة بعض الاحيان لا تكمن في عجز الاستخبارات وانما في ان العدو المنوط بها رصده غير مرئي تصعب مشاهدته.
لذا من السهل على الاستخبارات مقاتلة الدول والعصابات والارهاب المتمظهر , وتصعب عليها الحالة الشبحية والسرية في التنظيمات الارهابية لانها لا تظهر على الارض وانما تعمل تحت الارض في الظلام.
فمثلما تسعى الاجهزة الاستخبارية لتطوير قابلياتها ومعالجاتها , كذلك يسعى الارهاب الى تطوير اساليبه وطرق عمله وتنظيمه , والمنتصر هو الاذكى والاقوى وهو من يفكر بحرفية ودقة ويبحث كل التفاصيل ويدرس كل الخيارات ويقرر بعد دراسة مستفيضة للواقع ويفكر في جميع الفرضيات.
وكنا قد تناولنا في مبحث سابق الارهاب السري (راجع مبحث رقم 28 الارهاب السري)وسنتناول هنا الارهاب العلني لنثبت ان تحول التنظيم السري الى تنظيم على الارض قد يبدو للوهلة الاولى انتصاراً للارهاب لكنه يحمل في طياته عوامل انهيار التنظيم.
------------------------------------
من السرية الى العلنية (الفخ)
------------------------------------
كثر الحديث على ان من هي الجهة التي انتجت داعش وكيف اصبحت داعش هكذا, ولا توجد لدينا ادلة بانها عملت ضمن مشروع او جائت بالصدفة , ولكن بما ان اجهزة الاستخبارات لاتقول بالصدفة , فان الموضوع يجب ان ينظر له بأنه انتاج استخباري.
كان بن لادن قائد الارهاب السري والذي كان لا يستعدي الجميع ويتجنب الدخول في معارك جانبية ويركز على اهداف واضحة , حتى انه امتنع عن الذوبان في حكومه طالبان بعد عام 1996 , واحتفظ بتنظيمه سرياً رغم التناغم الكبير بينه وبين حكومة وامارة طالبان على افغانستان.
وكانت الاستخبارات العالمية والامريكية بالذات تبحث عن بيئه تمكَّنها من انتاج ارهاب علني لتتمكن من التحشيد ضده دولياً , وكانت بيئة افغانستان غير قادره على انتاج هكذا ارهاب عالمي كبير وعلني , فتم تأجيل المهمة وفتح صفحة ثانية تمثلت بالعراق.
في عام 1990 عندما اجتاح العراق دولة الكويت اعتبر تهديداً للامن العالمي واستطاعت امريكا ان تحشد العالم ومنظماته الدولية ومجلس الامن لمواجهة هذا الخطر , وهو ذات ما حصل على حشد مهاجمة امارة طالبان بعد ضرب القاعدة لابراج نيويورك .
لكن المشكلة في افغانستان تمثلت في ان من استهدف الابراج لم تكن طالبان بل كانت القاعدة الشبحية التي لا يمكن حشد العالم عليها لانها غير ظاهرة للعلن كدولة او تجمع علني , فهي تمثل الارهاب السري.
وفي حالة حكومة العراق عام 2003 , كان تهديدا محليا لم تستطع امريكا وبريطانيا بكل انتاجها للتهديد ان ترفعا قيمته ليكون عالمياً , ولهذا جائتا للعراق بلا اجماع دولي واعتبرت امريكا قوة احتلال.
لقد كانت امريكا تسعى لانتاج خطر عالمي كبير تتمكن من خلاله الى السيطرة على العالم بحجة الزعامة الدولية لحشد دولي لمكافحة ومحاربة التهديد , فكان لابد من انتاج مسلسل ايقاع القاعدة في فخ الاستخبارات الذكية, لكي ينتج منها تهديد عالمي واضح المعالم يسهل التحشيد له.
------------------------------------
خطوات الى الفخ الثلاثي
-------------------------------------
كانت الخطوة الاولى في العراق ان تعمد القوات الامريكية لاهمال متعمد للرقابة على الحدود وغض الطرف عن تسلل مقاتلي القاعدة للعراق , وتزامنت تلك الخطوة بأخرى لاتقل اهمية عنها وهي حل حزب البعث والجيش والاجهزه الامنية.
فكان ان ابتلعت بعض قيادات القاعدة الطعم , وهم كانوا اساسا في العراق امثال ابو مصعب الزرقاوي, وذهبوا لتاسيس تنظيم مسلح ينتهج الجهاد المسلح ولكن باسلوب اعنف من القاعدة وبدأ مسلسل التفجيرات والقتل على ساحة العراق.
كما ان جيشاً كاملاً من الضباط وعناصر الامن وكبار البعثيين المنهزمين من نقمة الشعب وفاقدي الامل والمنصب والرتبة والامتيازات سرعان ما وجدوا طريقهم لتنظيم سري مسلح سرعان ما تم استيعابهم فيه , فدخل عشرات بل مئات ضباط الجيش والاجهزة الامنية الصدامية للتنظيم.
وادى هذا الضخ الكبير في جسم التنظيم ليتحول الى جسم كبير غير قادر ان يكون سرياً , لاسيما وان الضابط يميل للعمل السلطوي الحكومي الظاهر , ومع خبرة عمل سنوات في دولة العراق سابقا فهو لايستطيع العمل بالخفاء لاسيما مع الحجم التنظيمي الكبير.
فما ان تم مقتل الزرقاوي , جاء عراقي ضابط يدعى ابو عمر البغدادي ليعلن مباشرة مسمى الدولة الاسلامية , في مسعى حتمي للتحول من الارهاب السري الى الارهاب العلني , وهو امر سيصيب التنظيم الارهابي في مقتل لاحقاً , ففعل القوة خاضع لفاعلية القيمة وحسب المساحة الفاعلة فيها , فكلما كان الارهاب علنيا وظاهرا وعالميا كان التحشيد ضده اكبر واوسع وافضل.
فحركات محلية مثل طالبان في افغانستان وبوكو حرام في نيجيريا و حركة الشباب في الصومال وجبهة النصره في سوريا , لا يمكن ان تأخذ طابعاً دولياً , وكانت الاستخبارات الدولية بحاجة الى ارهاب علني عالمي يهدد الجميع ويخيف الجميع, ويحشر الجميع في تحالف دولي يفرض الزعامة الامريكية باعتبارها القوة الوحيدة التي تقود العالم وتخلصه من المخاطر .
وعندما حل الجيش والاجهزة الامنية هلل العراقيون للقرار باعتباره انتقاماً لهم من الدولة البوليسية دون ان يدرك احد ابعاد اللعبة ,هل ان تلك القرارات كانت لسواد عيوننا ام لدفع هؤلاء الضباط كالدمى ليكونوا الاداة التي ينفخ من خلالها في صورة تنظيم القاعدة السري ليكبر ويصبح خطرا عالميا وفزاعة تخيف بها امريكا العالم ليخضع لها في اجراءآته وفي تحشيدها تحت قيادته.
ولاندعي هنا ان الاستخبارات الامريكية قد اسست داعش لاحقاً , لكنها هيأت الارضية والعناصر والارهاب , فذهبت العناصر المتطرفة لتقع في الفخ وتصبح كياناً ظاهرا, وبالفعل استطاعت الاستخبارات الامريكية بين عام 2003 الى 2012 ان تدفع الارهاب في شرك الظهور العلني وجعله ارهابا عالميا مهددا للعالم.
فكان ان اوقعت الاستخبارات الامريكية الارهابيين في فخ الارهاب العلني , كي توقع بعد ذلك العالم في فخ تهديد ذلك الارهاب العلني على العالم ليتم تحشيد الجميع تحت راية امريكا .
فكان الفخ ثلاثيا ومتسعاً للجميع , فالارهابيون ارضوا غرورهم بالظهور العلني , والعراقيون هللوا لحل الجيش , والعالم تحشد بقيادة امريكا لقتال الخطر العالمي , وكنا نحن العراقيون قطعة الجبنة الشهية في الفخ (المصيدة).
-----------------------------------
نحن من ندفع الفاتورة
------------------------------------
ان نكون جزء من مشروع محاربة الارهاب هو امر جيد , ولكن يجب ان لانكون نحن الطعم الذي يستجلب به الارهاب ليعلن دولته ويتمظهر على ارض العراق ومن ثم تاتي الجيوش لتتفضل علينا بمساعدتنا للخلاص منه .
لقد خسرت داعش في الاعوام التي تلت اعلان دولتها مالم تخسره القاعدة في 25 عام , فحتى في هجوم التحالف الدولي على امارة طالبان لم تخسر فيه القاعدة اعدادا من رجالها مثلما خسرت في غرب العراق والاراضي السورية , وللاسف فاننا كعراقيين دفعنا ثمن حيلة الاستخبارات العالمية في تضخيم داعش , وكان بالامكان دفع هذا الشر قبل عام 2014 لو كانت لدينا استخبارات تراقب الاحداث في سوريا وتفهم ما يحدث واين سوف تصل الاحداث.
نعم , لقد استنزفت داعش , في ثلاث اعوام , الاف الرجال وكشفت الاف المتورطين والمناصرين والداعمين وحتى تورط دول كان لا يمكن كشف تورطها بالمستوى السري للارهاب , وهنا يكمن الذكاء في التخطيط الذي يجبر العدو على الظهور غرورا او تضخما او اتساع القوة او البيئة المناسبة , فكلها عوامل سرعت في انتحار الارهاب , فهنا نجحت الاستخبارات العالمية المحترفة ان تنتج الارهاب بشكله الظاهر او ان تدعه يخرج الى العلن لكي تحاربه وتحشد العالم لقتاله.
وان كنا عراقيا دفعنا الثمن باهضاً , ويبدو انها فاتوره الخلاص من النظام الصدامي بان يأتي المحتل ليخلص الشعب من نظام ارهابي ويهيء الارضية والبيئة المناسبة لتفقيس الارهاب العلني بعد مخاضات وحروب ودماء مع الارهاب السري , فقد دمرت ارض العراق وقدراته الاقتصادية واستبيحت حدوده وقتل شبابه وعاش فترتين مظلمتين مابعد الدكتاتور , الاولى من 2003 الى 2013 تمثلت بالارهاب السري , والثانية من 2014 الى الان بالارهاب العلني .
وحصد العراق نتاجات غفلة استخباراته في لعبة الكبار وكيف انها اخفقت في الفرضيات والاستنتاجات والخطط ودراسة التهديد والخطر وحجم المخطط وكيف اخفقت في على الاقل درء الخطر عن حدودنا الى الارض السوريه ومقاتلة الارهاب في بدء اعلان دولته المزعومه على الاراضي السورية.
وكل ذلك بسبب الفساد والروتين والصراعات السياسية , حتى وصلت النار الى ارض العراق فيما كانت السلطه غارقة في غرورها ,لا ترى ولاتسمع ما يخطط وما يجري حتى وقعت الكارثة.
-----------------------------------
سهولة محاربة الارهاب العلني
-----------------------------------
الارهاب العلني هو الاسهل للاستخبارات من السري , ونلاحظ ذلك عمليا من خلال العراق , فبرغم ان اجهزة الاستخبارات العراقية غير متشكلة ومبعثرة وفوضوية وغيرمحترفة , ولكنها تمكنت من التهديف والعمل على الارهاب العلني بشكله الظاهر وهي تحقق نجاحا ولو جزئياً.
ان القوات المسلحة العراقية الان اكثر فاعلية ونتاجاً وانتصاراً في المعركة منذ ثلاث سنوات لان الارهاب علني فوق الارض , ولو كان الارهاب سريا , كما حصل في العراق منذ 2003 الى 2013 , لما امكن تحقيق الانتصار عليه .
فالارهاب العلني برغم خطورته الدولية لكنه يحمل في طياته نقاط ترهل تؤدي الى الانتصار عليه (راجع مبحث رقم 28 الارهاب السري) فالارهاب العلني يستخدم تقنيات الاتصال والتكنلوجيا مما يسهل رصده ,ويستنزف الكثير من طاقاته في الادارة والسلطة ويفقد زمام المبادرة والمباغتة ويفقد السرية ويمتلك جيش وجغرافيا ومعسكرات واسلحة ومراكز قيادة وسيطرة واكداس عتاد ويمكن مقاتلته عسكريا من خلال الجيوش ويمكن استخدام جميع الاسلحة ضده من طائرات ودبابات ومدافع , كما انه يستنزف الكثير من موارده المالية والبشرية لانه يكون مسؤولاً عن السكان الواقعين تحت سيطرته , ويتعرض للخرق الاستخباري وتتبين خسارته وتراجعه في الحرب ويصبح كدولة دكتاتورية .
------------------------------
خطر العودة الى السرية
------------------------------
كلما تطور التهديد يتطور اسلوب معالجه التهديد , وقد يظهر لدينا ارهاب سري (وهذا مؤكد) او بقايا ارهاب سري , ولكن سوف يبحث عن اساليب جديدة تجعله قادر على العمل في البيئة المتغلبة عليه وتجعله قادرا على التكيف مره اخرى.
فبعد مرحلة القضاء على دولة الارهاب الظاهرة العلنية , باذن الله , سوف يعود الارهاب ليفكر باساليب جديدة قد تكون اكثر تعقيدا وخطورة , وطبعا بالتاكيد سوف يعود للعمل السري الخفي.
علينا استغلال فتره انهيار الدولة المزعومة , لانها الفترة الافضل والمثلى لكي تقوم الاستخبارات بنشر نفوذها ضمن فلول وعناصر الارهاب المنتشرة , ويجب ان تتبنى الاستخبارات عملية خرق واسعة النطاق في كل مفاصل الارهاب وكل مستوياته , من خلال العناصر التي اصيبت بالخوف والاحباط والانهزام , فنقوم بملئ جميع الفراغات بدقة وكثافة , وزج اكبر عده ممكن من العناصر الذكية وتجنيد اكبر عدد اخر من عناصر الارهاب والتهيؤ للمرحلة التي سوف تلي انهيار دولة داعش, حتى تكون للاستخبارات اليد الطولى لاحقا لتفتيت البقايا الباقية من هذا المرض.
فيجب ان يبدأ الجهد الحقيقي للاستخبارات من الان ومن لحظة سكوت المدافع والبنادق لبناء استراتيجيه تدميرية لاجتثاث البقايا والخلايا.
-------------
خلاصة
-------------
الارهاب العلني هو خطر مستفز يظهر فوق الارض , ولكنه من وجهة النظر الاستخبارية والعسكرية بمثابة الجائزة , لان الارهاب السري معقد ولايمكن محاربته تقليديا , وقد ادركت الاستخبارات المحترفة فائدة استراتيجية تجنيها من علنية الارهاب لانه سيكون مبررا لها لحشد العالم بقيادتها بحجة الخلاص من تهديد عالمي ومن ثم تقود العالم من خلال دورها القيادي في الحشد , ومن هنا سعت الى دفع الارهابيين الى اعلان دولتهم العلنية من خلال جرهم الى العراق وحل الجيش والمؤسسات الامنية وهؤلاء بدورهم اضطروا الى الانضمام الى تنظيمات الارهاب وقيادة تلك التنظيمات باسلوب عسكري نظامي علني . فكانت لعبة امريكية دفعنا كعراقيين ثمنها , ولكننا في ذات الوقت استفدنا من علنية الارهاب لزج قواتنا العسكرية للمعركة النظامية وتحقيق النصر الذي هو في طور الاكتمال باذن الله , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟