|
مبروك الراتب
عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)
الحوار المتمدن-العدد: 5555 - 2017 / 6 / 18 - 13:24
المحور:
الادب والفن
(نظراتهم وهمساتهم تكشف شدّة حقدهم علينا وسوف لا تدع لنا بركة بالراتب!) هكذا وصف زميليّ الضابطان المجندان اللذان رافقاني فترة التدريب والأعداد الأساس بكلية الضباط الأحتياط وعينا معي بمعمل القاعدة الألكتروني بمعسكر الرشيد في مستهل عام 1982 بعدما لاحظا أن بقية الضباط يوجهون سهامهم الصفراء نحونا، كان زميليّ على حق في ذلك حيث لحسد عيون الضباط المتطوعون وقد وجدوا بأننا نحن الضباط الأحتياط الجدد من المهندسون سنتقاضى أكثر من رواتبهم فال النحس علينا، والحسد الذي أقصده ليس بمعناه المتداول بل بإحساسنا بأننا سوف لن نهنأ بالراتب. كان النقيب ضابط الرواتب قد أستلم لتوه السيارة السوبر (المكرمة) وتعوّد على ركنها داخل السقيفة التي أصبحتُ مسؤولاً عنها وكان يأمر جنوده بالعناية بها بأستمرار، لكنني وجدت في ذلك أستخفافاً بي فطردهم وطلبتُ منه أخلائها بالحال فأجابني بالإيجاب وأخرجها، بعد دقائق بعث الآمر بطلبني ليقول بأن جنود المقر شكوني لأنني أمرتهم بغسل سيارتي داخل السقيفة، قلت له كيف ينقلب الأمر بدقائق فأنا من طردهم والجميع يعلم بانني أركن سيارتي في المرآب، قال ما عليك سوى الألتزام بالأمر. كانت هذه الحادثة البسيطة بداية لعلاقة متشنجة مع ضابط الرواتب، وما زاد الطين بلّة أنه حينما جمع مرتبي الشهري وأضاف له المخصصات الهندسية ووجده أعلى مما يستلمه هو، لم يخفِ أمتعاضه وأستمر هو وبقية (الزملاء) الضباط المطوعون يولولون في العلن وفي الخفاء. حينما جاءت قوائم الرواتب كانت قد خلت أسمائنا نحن الثلاثة ولم نستلم فلساً واحداً نهاية كانون، حسابات المديرية قالوا بأن الكشوفات قد تأخرت وأنه سوف يتاح لنا الراتب بنهاية شباط، فحمدنا الله أن شباط أقصر الأشهر فأنتظرنا نهايته على الجمر لأن الراتب كان قبل كل شيء يعني لنا الإستقلالية المادية لأول مرة بحياتنا. أخيراً وعند أستلامي الراتب قمتُ بدعوة أصدقائي المقربين لعزومة جميلة في صالة مطعم فندق (الصخرة) بساحة عقبة بن نافع حيث كان والد أحد جنودي صاحب الفندق. أهتم بنا (ستاف) الفندق كثيراً فكانت جلسة جميلة أكلنا وشربنا وضحكنا، كان عليّ بطريق العودة أيصال أحد الأصدقاء لدارهم بشارع حيفا والعودة لبيت أهلي بحي القادسية، لكنه صمم أن أقله لبيت أقرباءه بالسيدية وهو ما جعلني أتذمر لأن البيت ليس بطريقي، بعد أن وصل كان علي أن أتبع شارع البياع الرئيسي الذي كان لا يزال يرتبط بشارع الحلة العام قبل أنشاء تقاطع طريق القادسية الحالي، كان مساءاً مظلماً سماءه ممطرة، بهذه الأثناء شاهدت أطلاق كثيف للنار بالهواء يوحي بأنه نوع من أحتفال العراقيين بأمرٍ يبدو أنه هام، فتحت الراديو لأجده قد أعلن عن زيارة مفاجئة للملك حسين ملك الأردن ولقاءه بالرئيس صدام حسين وأعلانه التطوع بالجيش العراقي. لم يكن هذا الأعلان بذات قيمة وقدر ليدفع الجميع أطلاق الرصاص بالسماء وكأن العراق قد أنتصر بالحرب أو أن سعيرها على الأقل قد أنطفأ. تحت تلك السماء الملتهبة ولهيب الطلق الناري الذي يصعد حمماً للسماء ثم ما يلبث أن ينزل وهو يحمل الألم والوجع لمن يظفر به وقد وضعه حظه العائر تحت رحمته كان صوت الرصاص يغلب على صوت العقل والمنطق بينما الأرض كانت مبتلة موشحة بأطيان عجلات السيارات، أسرعتُ العودة للبيت وإذا بسيارة عاطلة وقد أطفأ سائقها أنوارها على أمل أن يتم تشغيلها بعدما نجح بتحشيد عدد من أولاد حي البياع ليقوموا متطوعين بدفعها، خلال ثوانٍ وجدتها تغلق الشارع الرئيسي أمامي، فرملت سيارتي لكن كان الشارع زلق فأنحرفت سيارتي وضربت زاويتها الأمامية خلفية السيارة العاطلة فتشتت الأولاد بين من أنتبه ونجى وبين من لم ينتبه فصار بين كفي كماشة... أفاق الجميع على صوت الحادثة وتمدد شابان على الأرض أحدهما كسر أنفه بحافة الرصيف حينما رمى بنفسه يميناً بالوقت المناسب بينما تأوى الشاب الآخر حيث أصيبت ساقه. أخذتُ الشابين مع رجلاً متطوعاً لمستشفى اليرموك بسيارتي التي كانت صالحة بما فيه الكفاية رغم الحادث بينما ناولني صاحب السيارة المتضررة رقم هاتفه وطلب أن أتصل به في وقت لاحق. كانت طوارئ مستشفى اليرموك مليئة بعدد كبير من جرحى الأطلاقات النارية بعضهم مصاباً برأسه وبحالة خطرة وآخرون لا يزالون ممددين على الأرض ينتظرون أسعافهم، حين ذاك أقتربتْ مني المعينة وقالت بأنه من حسن حظي أن الحابل قد أختلط بالنابل بهذا المساء وسوف لن يسألني أحد عما حدث. خرج الشاب الأول مباشرة بعد تضميد أنفه وكان مبتسماً ليقول لي بأنه يلعب الملاكمة وأن أنفه قد تعود على هكذا ضرر وهو ليس بصدد مقاضاتي، أخذت له سيارة أجرة ليعود للبياع مع الرجل الآخر الذي تكفل بالأتصال بأهل الشاب المصاب الذي رقد بأنتظار تجبيس رجله، بعد ساعة جاء والده وطلب أن يقوم هو شخصياً بالأعتناء بولده. في صباح اليوم التالي أخذتُ رخصة من الوحدة العسكرية وعدت للمستشفى محملاً بكل ما لذ وطاب، كعك وبرتقال وحلويات، وجدتُ الشاب بحالة جيدة لكن لم تقُم المستشفى بتجبيس ساقه بطلب من أخيه الذي أخبروني بأنه سيكون بأنتظاري في فندق (ميليا المنصور) الذي كان قد أفتتح منذ وقت قريب. التقيته هناك وجلسنا قليلاً وكان بعجلة من أمره لأنه ضمن فريق يعمل بالصف الثاني لحماية الرئيس صدام حسين وتواجده ورفاقه بالفندق هو تحوطاً فيما لو قام الرئيس بزيارة مفاجئة، كان شاباً ممتلئ حيوية ونشاط ويرغب بأن يترفع ليكون ضمن حلقة الحماية الأولى بعدما أختاره الرئيس ليحمل (حلا) نيابة عنه عند أبواب الأسواق المركزية حينما كان بزيارة لشارع الرشيد حينما ألتف الناس وأحتشدوا حوله. لم يطلب مني سوى دفع مصاريف رقاد أخيه وعلاج ساقه بمستشفى (الجيبة جي) الخاص بالحارثية ليطمأن أهله عليه أكثر، قبلتُ ووعدته بذلك. أجري له تجبيس مثلما شاءوا وخرج بعد يومين، كنتُ أتردد لبيته بالبياع في سبيل زيارته والأطمأنان على صحته ومرافقته للمستشفى لأخذ صور لساقه التي تماثل كلياً للشفاء، مرت بضعة أسابيع والشاب كان لا يزال يتكأ على عكازاً، فقلتُ له بأنني أجد أنه لم يعد بحاجة لذلك، ففاجأني بقوله... (أنت صاحب فضل عليّ لن أنسَه، إن الله بتلك الحادثة أراد أن ينقذني من الألتحاق بوحدتي بالمحمرة وأن مصير رفاقي هناك أما شهيداً أو أسير)*. أما صاحب السيارة المتضررة والتي كانت (فيات أيطالي 125 حمراء اللون) فقد أخبرني بأنه وبتلك الليلة كان يريد تهيئتها كي يبيعها باليوم التالي ويذهب لأستلام سيارة (ميتسوبيشي) مكرمة الرئيس لنواب ضباطه وقال بأنه قد باعها على حالها، كان سعيداً جداً بسيارته الجديدة ولم يطالبني بأي تعويض. حينما زرتهم للمرة الأخيرة وأنا محمّلاً كالعادة بالهدايا، تشكر أخيه مني وأخبرني بأنه سعيد لدخوله دورة أعداد كوادر الصف الأول بالحماية وهمس بأن أخيه هو الوحيد الذي لم يفلح دراسياً بين أخوته وأخواته وقد حصل الآن على أعفاء من الجيش وأن والدته تحمد الله لأنه قد كتب له بالحادثة عمر جديد وفرصة أخرى بالحياة، أمتدت علاقتي به وأستمرت صداقة بيننا كان يزورني خلالها لوحدتي العسكرية بسيارات أفواج الحماية. أستمر هذا الحال عدة أشهر كنتُ وكلما أستلم راتبي أقوم بأصطحاب الشاب لينتقي ما يحلو له من الهدايا والملابس من الساعة والعوينات وخواتم الفضة إلى الأحذية والجوارب. هكذا تبعثرت أول رواتب تقاضيتها من الجيش بين مصاريف أصلاح سيارتي وعلاج الشاب و(دلاله) في داخلي حسرة وتساؤل... متى يأتي اليوم الذي أتمتع براتبي وأنفقه كاملاً على نفسي، أنظر بمرارة تجاه ضابط الرواتب الذي كان يبتسم لي بكل حقد وكراهية وهو يناولني الدنانير الزرق التي أعلم بأنها ستذهبُ هباءاً منثوراً، نظراته الخبيثة توحي لي وكأنه إنما يدفع لي مرتبي من جيبه الخاص! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ × حينما أمتدت فترة الحرب العراقية الإيرانية أنتشرت بعض المبادرات الفردية من قبل الجنود اليائسون حيث قاموا ببتر أصابعهم أو أحداث أعاقة الغرض منها الأعفاء من الجيش أو العودة للخطوط والمقرات الخلفية كجنود غير مسلحين، كان يتطلب ذلك جرأة ومهارة لتصوير الحادث بأنه عرضي وأقناع اللجنة المختصة بعد تقديم تقريراً طبياً يدعم وضعهم الجديد ويؤكد عدم أمكانيتهم أستخدام السلاح، لكن لاحقاً كانت الفحوصات الطبية بالمستشفيات العسكرية والروايات التي قدمها الضحايا لم تدعم أدعاءاتهموكشفت أن الأصابات كانت متعمدة مما فتح الباب على الجنود للتقديم لمجالس تحقيقية. × يقسم نهر (الكارون) الذي (كان) يصب بشط العرب مدينة المحمرة لصوبين يربطهما جسرين قديمين، أحتلت القوات العراقية الصوب الشمالي للمدينة عند بداية الحرب خريف عام ثمانين، وقد أدعى العراق بأن كل أرض عربستان إنما أمتداداً للأرض العربية، مكث الجيش هناك عام ونصف وحاول (تعريق) صوب المدينة الذي بقي ساقط عسكرياً بحكم تعرضه للنيران، أستعادها الجيش الإيراني بين نيسان ومايس عام 1982 بعد معارك شرسة ألحقت هزيمة بالجيش العراقي، فقد أبتلعت مياه شط العرب أعداداً من جنود المشاة العراقيين الذين عبروه حتى بقزائن (قدور) الطبخ ليجدوا فرق الأعدامات على الضفة العراقية بأنتظارهم، وأسر عدد آخر وسط صدمة كانت الأولى للعراق بتلك الحرب التي شهدت سجالاً وكراً وفراً دام ثمانية أعوام. اليوم حولت إيران مجرى نهر الكارون عن مدينة المحمرة ليجري بداخل الأراضي الإيرانية مسافة أطول وهو ما أضر بنقاوة مياه شط العرب أكثر فأكثر، غيّر الإيرانيون أسم مدينة المحمرة من (خرم شهر) إلى (خونن شهر) أي مدينة الدم بالفارسية وذلك بعد أن كلفهم تحريرها المزيد من الدماء.
#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)
Emad_Hayawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرابح الخسران
-
كومر
-
وداعاً شارع النهر
-
سفرتي إلى مقدونيا Macedonia
-
تاريخ الصوت
-
قمة الهرم العراقي
-
نساء من الفرات ومن النيل
-
حزب الفراشات... بين قلعة الباستيل والمنطقة الخضراء
-
صنف
-
أتيكيت
-
الملموس والاملموس
-
همسٌ وهشيم
-
تطرف... تطرف
-
لفظ الجلالة
-
شاهد عيان
-
عم توفيق
-
سكسون
-
الثلاثة... سعدي
-
فاز باللذات...
-
ماذا لو تشرق الشمس من الغرب؟
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|