أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم العبيدي - قصة قصيرة.. صدمات مرحة















المزيد.....

قصة قصيرة.. صدمات مرحة


عبدالكريم العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5549 - 2017 / 6 / 12 - 16:16
المحور: الادب والفن
    


تم سوقي الى الجيش بصفة "متخلف"! * هكذا فجأة، صرتُ متخلفا بنظر المؤسسة العسكرية. صدمة بدت مرحة لوهلة، قرأتُ "كتاب تخلفها" مرة واحدة: الى مركز تدريب مشاة الحلة.. العنوان: قائمة بأسماء المتخلفين عن السوق. كان اسمي في أعلى القائمة، كنت أول المتخلفين. مضغتُ الصدمة ومضيت!
سيق معي عدد من المتخلفين أيضا: ستةٌ شباب غرباء، وكنتُ سابعهم. أرغمتنا عائلاتنا على الالتحاق خوفا من مداهمات أجهزة النظام، وما قد يترتب على ارتكابنا لـ "جريمة التخلف" من عقوبات واجراءات وحشية. لم نعد مواطنين صالحين بنظر الحكومة، صرنا متخلفين خطرين، وتلك صدمة أخرى.
وصلنا الى محطة قطار البصرة قبل الغروب، بدت أشبه بثكنة عسكرية مليئة بالفوضى. فشلنا، كما خمَّنا، في العثور على مقاعد. وجدنا كل عربات القطار مكتظة بالجنود، لم نر مسافرين مدنيين، ولم نشاهد امرأة واحدة، بدا القطار ذكوريا صرفا. ردد أحدنا ساخرا:"قطارات الحروب تفترس المتخلفين". كانت صدمة مربكة.
عثر أثنان منّا على فراغ بين عشرات الجنود المستلقين على رفوف الحقائب فحشرا جسديهما فيه، بينما استلقى بقية المتخلفين تحت المقاعد، بين بساطيل الجنود وعفونة جواربهم. أما أنا، سابعهم في التخلُّف، فلم أجد مكانا، لا على الرفوف، ولا بين البساطيل. تحاملتُ على نفسي، واضطررتُ الى المبيت واقفا في مرحاض. قضيت أكثر من سبع ساعات مع رائحة البول والخراء، ومع ودموعي. كانت صدمة مُهينة.
داهمنا البرد حالما نزلنا من القطار فجرا. صدمة قاسية أخرى، قررنا على اثرها الانقسام الى مجموعتين، سارعت كل مجموعة إلى استئجار سيارة تاكسي. كان هدفنا هو العثور المبكر على فندق لمبيت ليلة واحدة، وقد نجحنا في ذلك بعد ساعات مضنية التهمتْ نصف ذلك النهار. صُدمنا بقلة الفنادق في مدينة الحِلة، وباكتظاظها بالعمال المصريين، فاضطررنا الى الانقسام مرة أخرى. سكن أربعة منّا في فندق شعبي رخيص، يطل على شارع فرعي مليء بالنفايات، بينما عثرنا، نحن الثلاثة المتخلفين على غرفة بائسة، في فندق آخر قريب منه. استفسر أحدنا من ادارة الفندق عن موعد اغلاقه ليلا، فردَّ عليه شاب نحيف:"زي منته عاوز، هوه انته فاكر تسكن فين؟ الفندق ده ، زي ما بيقولوا بالعراقي، شَلِّه وأْعبر"! *
عند حلول الغروب، اجتمعنا ثانية. تندَّر بعضنا على رداءة الفندقين، ثم تسكعنا في شوارع الحلَّة قرابة ساعتين، ظللنا نطوف فيها بلا قصد، وظلَّ بؤس كتاب التخلف هو الذي يُسيِّرنا بين جنبات الأسواق. كانت صدمتنا عقيمة.
في المساء، عثرنا على بار شعبي يدعى "سولاف"، يقع في شارع الديوانية، كان يعج بالكثير من الشباب والعجائز الحرفيين العراقيين، ومعهم الكثير من العمال المصريين. اضطررنا الى الانقسام مرة ثالثة، شغل نصفنا طاولة بائسة تقع قريبا من المرحاض. المرحاض أيضا! بينما توزع الباقون على طاولات السكارى. شعرتُ بالضيق، لم تعجبني الحانة، بدت صاخبة، عفنة، مليئة بدخان السجائر، وتضج بهذر السكارى. كانت صدمتنا شائكة.
أشار النادل المصري الى كرسي فارغ، ودعاني لمشاركة ثلاثة شبان ثملين. كانوا يحتسون العرق، وغير آبهين بما يجري. حالما جلست، رفعَ أحدهم الكأس ودفعَ بالشراب إلى فمه جرعة واحدة، بينما التفتَ لي آخر بعدَ أن شربَ نصف الكأس وسألني:"لطفا.. هلـ... تؤمن بنظرية... تناسخ الأر...واح"؟ أومأت برأسي مع ابتسامة صغيرة، لكنه لم يكف عن فضولية أسئلته، حتى أخبرته بقصة تخلفنا فأصيب بدهشة. ظل يضحك كثيرا، ويعلَّق بجمل ممطوطة ومبتورة، ثم تعاطف معي في النهاية، وانتابه الحزن.
كنتُ على يقين أن من يلتحق متأخرا بشبّان ثملين، توغلوا كثيرا في المنطقة الزرقاء، سيعاني كثيرا. كنتُ متخلفا فعلا!
بدأ أحدهم يثرثر بأقاصيص وحوادث شخصية مبهمة، هذرَ بكلام طويل لا يُفهم. بينما باشر الثاني في تقيئ احباطاته. أخذ يتساءل ويسب ويجدف، ثم قال بنبرة مخمورة:
" هذا وطن لو... بَلَهْ
كل يوم... بيه كربلا
جبناهه من... حرمله
لحيّاك يا بو حلا "! *
الشاب الثالث الذي أبدى تعاطفه وحزنه، فاجأني بلصق رأسه برأسي، ثم همس لي بصوت مخمور وسألني ثانية:" هل... تؤمن بنظرية... تناسخ الأر... واح "؟
في النهاية قرر الشبّان الثلاثة مغادرة الحانة ووداعي. حصل ذلك على مراحل متعاقبة تُكرِّرُ نفسها. سبع مراحل أو أكثر، تجتر أطوار الوداع، بذات العبارات المرتخية، المطرزة بالقبلات والعناق، والتأكيد الممل على موعد لقاء مزعوم معي في مساء الغد، بينما ظل المتعاطف يكرر سؤاله مرارا مع القبلات:"هل تؤمـ... ن بنظرية تنـ... اسخ الأرو... اح "؟
في آخر مرة، قبَّلني كل منهم وسار مترنحا باتجاه الباب، لكنَّ ثالثهم الذي دُهش بقصة تخلفنا، عاد وعانقني مرة أخرى، ثم أخذ يتساءل بصعوبة:"أ... تـَ...عرف لماذا ضـ... حكت وانــدهشت من قـصة التخلـُ... ف؟ لأنـنا أيضا متخلـ... فون مثلكم. كلنا متـ... خلفون في هذا البلد.... العـ... ظيم ".
انهال على خدَّي بالقبلات، ثم ابتعد مترنحا، لكنه توقف فجأة وعاد باتجاهي، مسكني من كفيَّ وسألني مرة أخرى:" بود...ي أن أسألك لآخر... مرة: هل تؤمن بنظ... رية تناسـ...خ الأر... واح"!
ظللتُ وحدي أحتسي كأسي على مضض، لم أحظ بصديق أتعاطى معه الأنخاب في تلك الليلة، تمنيتُ لو أن الليل ينتصف سريعا، كانت الليلة بائسة من أولها، فلم تمض ساعتان منها حتى داهم الزنابير الحانة، * وطالبوا الزبائن ببطاقات هوياتهم، وسرعان ما اكتشفوا أن سبعة زبائن متخلفين يشتركون بهوية واحدة. "كتاب التخلف"! بدت الصدمة مخيفة.
أخرجونا بالصفعات والركلات. اقتادونا الى ضابط شاب برتبة ملازم ثاني. سلَّمه أحد الزنابير كتابنا بلهفة قائلا:"سيدي، هؤلاء السرسريه متخلفين وگاعدين يشربون عرگ".
قرأ الضابط الكتاب، ثم أغدق علينا بشتائم ثقيلة، وبعدها سألنا ساخرا:"ومتى تتكرمون، جنابكم، وتلتحقون بالمعسكر"؟ لم نرد عليه، كنا مرعوبين. شرح له أحدنا فصول الصدمات بجمل متشنجة وسريعة. أخبره إننا جئنا في قطار البصرة وقوفا، ونبيت في فندق بائس، وسنلتحق صباحا الى...
رمى الضابط كتاب تخلفنا في وجهه، ثم هزَّ سبابته متوعدا:"اذا وجدتكم غدا دايحين بالبارات بملابس مدنية، ألعن والديكم يا كلاب.. يا أولاد الزنا".
بدت الصدمة سهلة جدا، مجرد كلاب وأولاد زنا!

* * *

صعود السلم ليلا، في فندق "شَلِّهْ وأعْبُرْ" لا يشبه نزوله في الصباح. في تلك الليلة، كنا نمنِّي أنفسنا بتحمل قسوة المبيت لا غير، لم نعتاد على النوم في فنادق من ذلك النوع، بدت الليلة موحشة فعلا، أقسى من ليلة القطار، وحين وصلنا الى غرفتنا الواقعة في أقصى ممر ضيق، لم نتفاجأ كثيرا بما كنا نراه من نزلاء مصريين نائمين على الأرض، بين جدران رطبة متآكلة يعلوها السخام. كان جل غايتنا هو تحاشي البرد، لا شيء يعنينا عدا النوم لسويعات قليلة.
في الصباح، بدا للنزول طعم آخر. استيقظنا على ضجة عجيبة في غرف وممرات الفندق ومكتب الادارة، أفزعتنا قعقعة العمال الصاخبة. الكل يتأهب للذهاب الى عمله، تَحايا وحوارات وضحكات وشتائم وشجارات متفرقة أحيانا.
نزلنا درجات السلم بخفة، طمعا في استنشاق هواء نقي، وتعريض أجسادنا الرطبة إلى قدر مناسب من أشعة الشمس، وربما لرؤية حشود المزاد العلني والعتالين والباعة الذين أقلقتنا أصواتهم. بدا الأمر كله محض مفاجآت، لم يكن بوسعنا إزاء ذلك الصخب سوى أن نستيقظ، طالما لم يكن بوسع جدران الغرفة البائسة المليئة بذكريات وشخابيط النزلاء العابرين أن تخفض درجة واحدة من تلك الفوضى.
كان كل منا، في لحظة استيقاظه القسري، يعقد مقاربة تصورية بين معاناة ليلة بائسة اختتمت بفوضى، وبين صورة متخيلة يقنصها بمزاج ماكر، ويبقى يكررها مرارا بـلقطات "سلو موشن"، ليستمتع بفصولها المدهشة، زاعما أنه استيقظ على وقعها الساحر، وليس على ذلك الضجيج الذي أرغمه بالفعل على إزاحة وجهه عن الوسادة العفنة.
أحدنا، نحن الثلاثة فقد رشده. فقد نصف عقله، ثم استغل مخيلته، وابتدأ لعبة المتخيلات الصباحية تلك. ظل يحدق في سقف الغرفة وزواياها المليئة بشبكات العناكب، ثم همس بصوت متهجد، تشوبه بحة واضحة:" كنتُ أقضي أجمل أمسية مع ربة القصيد "غورنكو"، نلهو معا في سهوب أوديسا وسيفاستوبل على ساحل البحر الأسود، ثم تسكعنا في ضواحي العاصمة بيتربورغ وكييف. أرتني صورها البديعة التي رسمها "مودلياني والتمان وسارايان"، ثم حلقتُ بنصف جناح على أنغام قصائدها المموسقة التي أعدها "بروكوفييف ولورا وفيرتينسكي". الله، كم أنت رائعة يا أخماتوفا"؟
ابتسم له المتخلف الآخر. كان يجلس على حافة سريره ويكثر من التثاؤب، ثم سرد رؤيا عذبة راقصة، زاعما انه استمتع بها كثير:" البارحة زحفت نحوي كل نجوم الثريا، تسبقها هالات البريق الفتاكة، فغرقتُ طوعا. يااااه... لَكَم غرقت، مُذْ ذلك الزحف وأنا أغرق.... رأيت الجنة متاحة لي، كل أبوابها تومئ لي بامتنان، فنفذتُ إلى أحد كرنفالاتها المُشعة. شاهدتُ رجالا يشدون على خصورهم "الظلوف". تهتز أجسادهم النحيلة، فتغدو موسيقى "الظلوف" سيمفونية لوحدها، تتماوج أنغامها على ايقاع صوت "الطنبورة والصفائح والطبول"، فيرقص شبانٌ نحيفو الأجساد، يرتدون ثيابا بيضاء فضفاضة، ويلفون رؤوسهم بكوفيات بيضاء، وعلى أكتافهم عباءات بيضاء أيضا. انها رقصة "النوبان" المُبهرة، تؤديها "الجانكا"، الفرقة العجيبة التي هربتُ إليها طوعا، حالما هزَّت جسدي رعدةٌ من غوايتها، قُلْ جنوح مشوَّش ساحر، جرفته الراقصات السمراوات برشاقة أجسادهن، وعبق عطرهن الممزوج بالبخور، وأنغام "الجيكانكا" العذبة، وموسيقى "الباتو" التي حفَّزتهن على الرقص.
احتسيت "طاسة بوزة"، فثملت سريعا. انغمرت برقصة "الهيوه"، درتُ برأسي مع الراقصين. حلقة النسوة الراقصات اتسعت، غرقتُ في سحر الدوران، توسطتْ الحلقة مجموعة أخرى من الراقصات، صنعن دائرة أخرى وأخرى. تصاعدت نغمتا "الصرناوي والباتو" من خلل ايقاعات رشيقة، ثم صدحت في تيارات أغاني الهيوه:" لا اله الا الله يا مياسة.. اسمع أنين عبيدي فوق الغرفة.. يمه عشقني مولد وشق ثوبة ". تصاعدت وتائر ميزان الإيقاعات المركب. الإيقاعات تداخلت برغوة عجيبة، ثنائية وسداسية، ثنائية وسداسية. ثم صنع الراقصون دائرة كبرى. تسللت الراقصات الساحرات، شكَّلن دائرة داخلية. دارت الحلقتان في حركات إيقاعية التوائية مدهشة. امتدت الأرجل اليسرى مع الأيادي اليمنى، وانحنت الأجساد إلى الأمام، راحت تتلوى كأفاع مجنونة. تداخلت الحلقتان، ثم تسلل إلى داخلها راقص وراقصة، تماوج جسداهما في "صولة" مثيرة، لوحة جذّابة من حركات الأيادي والسيقان، وسط دخان بخور "الجاوي" وعطر دهن "العود"، والأنغام الصادحة، والمتفرجين الذين أطلقوا عنان رغبتهم للرقص.. ياه... تلك مسافة كافية للفرار في "مكايد" تُعْرَف رقصاتها من لون "الشنيّر"، أعلامها المرفرفة منذ الفجر، ومن أسمائها الغريبة:"ساحة باريس وسعدية الدلاكة وسنجان والمعري وياروت ووو...".
لم أكن أصغي كثيرا إلى ثرثرتهما، انشغلت، لسبب لا أعرفه، بترميم قصيدة مكتوبة بخط رديء على الحائط. بدت لي الفراغات التي خلفتها الأحرف الممسوحة وكأنها كلمات متقاطعة، فأجهدت فكري بإصلاحها، وتركتهما يمارسان متخيلتيهما بهدوء، وحين أصرّا على اشراكي، تركتُ القصيدة معاقة، ونهضت من سريري منزعجا. خاطبتهما بنبرة منفعلة، قلت:"اسمعا، لقد كنتُ مع فتاة فائقة الجمال. خلعت ثوبها الفضفاض بحركة خاطفة، ثم دعتني إلى سريرها، مقابل بيعكما في سوق النخاسة، وبدلا عن أن أضيّع نصف ثانية في الاجابة، خلعت بنطالي على الفور واندسست معها، للإعراب عن سرعة موافقتي"!

* * *

بدا النهار الأول في مركز التدريب قاسيا. مشاهد مقرفة، وحوارات ساذجة، وأوامر وممارسات صدرت من شتى الرعاة الى قطيع متخلفين مقاد عنوة الى محرقة الحرب. صبرنا، أول الأمر، على نظرات الاحتقار والتوجيهات المُهينة، وحالما دق ناقوس البرد في المساء، لذنا بنائب ضابط اعاشة بدين. توسلنا اليه أن يجد لنا حلّا. تردد كثيرا صاحب الكرش العظيم، ثم أومأ لنا متعاطفا فتبعناه كالخراف، فتح باب المخزن، وسلَّم كلَّا منّا عَفْشا مؤلفا من بطانيتين ووسادة وبدلة عسكرية وجرسي وبسطال وبيرية.
لم نعثر في قاعات منام الجنود على أي مكان. جميعها كانت مكتظة بمئات المستجدين المنهكين من قسوة ساعات التدريب طيلة النهار، لذلك هرعوا الى ساعات نومٍ ثقيلة، ابتدأت، أغلب الظن منذ الغروب. أيّ بؤس هذا الذي يُنهي يوم الفتى بُعيد غروب الشمس!؟
بدت الأجساد نحيفة متلاصقة، مستلقية على الأرض المفروشة بالبطانيات، يجمعها الشخير والكوابيس ورائحة الفساء.
حملنا عَفْشَ بيتنا الجديد، ورحنا ندور كالمشردين في أروقة المعسكر، نبحث عن أيّ مكان يأوينا، أيّ غرفة خربة، أيّ بناية مهجورة، أيّ... ضاقت بنا الأرض بما رحبت، فرحتُ أردد بالنيابة عن المتخلفين:"أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينهما، وأراني كأنما أتنفس من خرم إبرة" *
بعد نحو ساعة، اضطررنا الى المبيت في العراء، لِصْقَ جدار احدى قاعات المنام. كدنا نهلك في تلك الليلة، ظللنا نتقلب يمينا وشمالا من شدة البرد، حتى دوّت صفارات الاستيقاظ فجرا فنهضنا مرغمين، عدا عاشق ربة القصيد "غورنكو". ظلَّ يتثاءب، ويمني نفسه بدقائق متخيَّلة أخرى، حتى جاءته رفسة بسطال من ضابط صف، مع جملة عسكرية لا تُنسى:"اگعد.. ما عدنه نوم للظهاري"!
قفز الشاب فزعا. لم يستغل مخيِّلته في ذلك الصباح، ولم يمارس لعبته. تخلَّت عنه "ربة القصيد"، وبدلا من الاستيقاظ على أنغام قصائدها المموسقة، نهض برفسة بسطال، وراح يردد بحزن:"أفضل طريقة لإنهاء الخدمة العسكرية هي أن تهرب منها سريعا".
ارتدينا بذلاتنا العسكرية الفضفاضة، وبدأ كلٌ منا يسخر من صاحبه، حالما يراه يتحول الى "مخلوق خاكي"، أو فراغ محصور بين البيرية والبسطال. أنا الوحيد بينهم، لم أعثر على بيريتي، فأصبت بحالة من الارتباك. ظللتُ فراغا محصورا بين البسطال ورأسي. ذهبتُ الى ساحة العرضات حاسر الرأس، خلافا لرؤوس الجنود كافة، كنتُ واثقا من حصول صدمة جديدة. صدمة تفجرت اشارتها من بعيد باتجاهي. اصطادني الآمر بسهولة، وأوعز الى رأس العرفاء بإخراجي من الكردوس واقتيادي اليه. كان ضابطا شرسا برتبة عقيد، بدا أقرب الى خنزير. أمرني بالزحف على الأرض الرطبة، أمام أنظار الجنود، ثم أمر بحلاقة شعر رأسي "زيان صفر"، * مع عقوبة بحبسي لمدة خمسة أيام.
عثرتُ على صاحب المتخيَّلة الراقصة بعد خروجي من سجن المعسكر. هو المتخلف الوحيد الذي وجدته في احدى قاعات المنام. مصير بقية المتخلفين ظلَّ غامضا، أخبرني بنقلهم الى مراكز تدريب أخرى، ومنحهم صنوفا عسكرية مختلفة، كما أطلعني على بعض غوامض المعسكر. هو هكذا له قدرة مدهشة على عقد صداقات عابرة سريعة، وحشر أنفه في حوارات وأسئلة واشارات شديدة الخصوصية، وسرعان ما يكتشف أسرارا وخبايا كثيرة، ربما يعجز غيره عن منافسته في اكتشافها، أو على الأقل مجاراته في تلك السرعة المدهشة.
تحدث صاحبي بحزن ممزوج بالغضب، عن خفايا الجنود المستجدين داخل المعسكر، قال لي انهم ليسوا سواسية، تماما مثل بعض أصحاب المواليد الذين يتم سوقهم الى الجيش، بعضهم يبقى متمتعا بحياة مدنية هادئة، وآخرون يتم زجهم في وحدات عسكرية مستقرة داخل المدن، وهناك من يجد مكانه بيسر في مقرات الفيالق والفرق والألوية، أما أمثالنا فيتم قذفهم في جبهات القتال. تصور...! هذا ما يحدث في بلدٍ في حالة حرب، وفي جيش لم يتزحزح عن صبغته العثمانية القديمة، ويحارب دفاعا عن نظامٍ، بات احتفاظه بالسلطة مرهونا بهذه الحرب. والله لن أذهب الى الجبهة.. سأهرب!
وقد هرب بالفعل. هو أول هارب من قطيع المتخلفين، كان هربه صدمة. قلقتُ عليه كثيرا، وتفاقمت غربتي، ثم اعتدتُ على الوحدة، ونسيته.
بعد نحو شهر، وجدتُ نفسي في خندق القتال المتقدم في "قاطع بنجوين"، سلَّمني آمر السرية بندقية كلاشنكوف، مع جعبة رصاص، وخوذة، وأمرني بالتوجه الى حجاب يقابل حجابا ايرانيا. أنهيت أول نوبة حراسة لي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، كنتُ أرتعد من الخوف، مصعوقا بأشباح ظلام الليل، وسأم الغربة. استسلمت للنوم سريعا، ولكن الجندي الحرس الذي أنابني، عاد وأيقظني بعد نصف ساعة، في مشهد يقطر حنانا ورقَّة. صفعني على وجهي، وهو يزعق بأعلى صوته:"اگعد، اگعد هجوووووم"!

* * *

شهور الخوذة والبسطال ما زالت تحتفظ بدهشتها، ما زالت تحوم كطائر شؤم، لتجبرني على الابحار بقوارب حربٍ لا تطالها العافية، ولا يمنحها المجذاف فرصة للعبور. لن تستطيع مياه أنهارك يا وطني غسل خلايا ذاكرتي من بشاعة الحروب، ستبقى تُشوَّه أحلامي، حلما شائخا بعد آخر، ولا أظنك تكتفي بذلك، لا أدري كم جثة تلزم مقابرك؟ هل كُتِبَ عليَّ أن أمارس ميتات ويقظات متناوبة، حتى أبقى عالقا بين الحياة والموت؟ ها أنا أضع كآبتي في أعمق تلك اللحظات أسى، في أشدها عتمة، فبعد الآن، لا يعنيني الدخان، ان جاء من لهاثي، أو من سيكارة، أو من حرائقك. جميعنا الآن نحترق.
عموما تعثَّرتْ وجبات المجازين كثيرا بعد انتهاء معركة بنجوين. آمر السرية كافأني بتسجيل اسمي في آخر وجبات الاجازات الدورية المقبلة! مكثتُ في ذلك القاطع أكثر من شهرين، وحالما حصلت على أول اجازة، هرِبتُ!

خواتم
• عثرتُ على أحد المتخلفين الستة الذين رافقوني في احدى الحانات، ونمت بيننا صحبة عمقية. ظلَّ هاربا طيلة أعوام الحرب، رغم أنه ألقي القبض عليه مرتين، وعوقب بقطع صوان أذنيه ووشم جبهته بخط أفقي مستقيم بطول خمسة سنتمترات وبعرض ملمتر واحد!
• بقية المتخلفين ظلَّ مصيرهم مجهولا.

من مجموعتي القصصية "هروب باصورا"



#عبدالكريم_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قتلك حلال شرعا
- أسردُ وطنا حتى لا أموت
- في الآذار الشيوعي العراقي
- بيوت شيوعية مشبوهة
- نكتة سياسية
- لهذا.. أنا بصراوي للأبد!
- مسيرة بغداد
- المترجم -چِكَّه-
- الحلم السردي.. سياحة من الغرائبي إلى الواقعي
- عيد كوليرا
- خريج يبحث عن وظيفة
- خمس قصص باكية جدا
- في لحظات رحيله.. في بدء الفراق -عادل قاسم-.. صورة عراقية لمس ...
- البصرة.. أم السرد
- -31- آذار.. نبض -الآخر- الجميل
- الشيوعي بلوى!
- الشيوعيون -كَفَرَة-
- سوزان ابراهيم و (لعبة الأنا).. قراءة تحليلية في مجموعتها الش ...
- الرفيقة (أم امتاني)
- بيت علي الشباني. محطة الشيوعيين.. شهادة


المزيد.....




- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم العبيدي - قصة قصيرة.. صدمات مرحة