روائي عراقي*
إن مفاهيم الذات والسلطة والحقيقة والمعرفة والجنس والطبقة والحرية والآخر وغيرها تنعكس وتتجسد في نظام السجن عامة ومؤسسة السجن الآسيوية خاصة. فكل ما هو خارج الأسوار يحضر داخلها على نحو مباشر أو غير مباشر.
ومؤسسة السجن الآسيوية لا تحاول كما هو الأمر في غيرها( الأوروبية مثلا) أن تموه أو تستر نفسها لأنها من العري بحيث لا تُستر بكل أنواع الأغطية والمساحيق والأصباغ.
وقراءتنا هنا لهذه المؤسسة لا تقوم على البحث النظري الأكاديمي البحت، بل على تجربة معاشة وطويلة ومريرة تنظر إلى السجن من داخله بكل ما فيه من قسوة ومرتبية وظلم وعالم معقد من العلاقات بين السجناء الذين يؤسسون عالما خاصا وسريا وتحكمه قوانين داخل السجن العام وله قوة الإلزام والتطبيق.
وسيكون سجن" كويتة" الباكستاني الواقع ضمن حدود إقليم بلوجستان هو المكان الذي تدور حوله هذه القراءة التي هي محاولة لتفكيك نظام السجن الآسيوي.
وهذا السجن ملخص آسيوي لكل علاقات وسياسات وقوانين وتقاليد هذه القارة الشاحبة الضاجة بالشرطة والإرهاب والتفاوت وميثولوجيا يومية يتجاور فيها الموتى والأحياء في جوار لا مثيل له في مكان آخر في العالم إلا أفريقيا.
علقتُ في هذا السجن بعد عبور الحدود الإيرانية/ الباكستانية منتصف كانون الثاني سنة 89 على الأقدام وبلا أوراق كمهاجر غير شرعي قادم من سجون إيران بحثا عن أرض أخرى تمنحه الحرية والخبز والجواز والأمل.
لكن كويتة ليس سجنا، بل هو صورة مصغرة لنمط الحياة الآسيوي بكل ما فيه من قوى وتقاليد وطبقات وعالم يلتقي فيه الديني والسياسي والاقتصادي والروحي في جوار وتعايش وعلاقة تبادلية في غاية الصرامة.
كان هذا السجن يمثل قلعة قديمة يعود تاريخها، كما هو مكتوب على بوابة السجن( إلى جانب صور محفورة لآلهة ووحوش زمجرت في وجوهنا عبر الحجر ولم نكن نحتاج إلى هذا الرعب الإضافي!) إلى ثلاثينيات القرن العشرين ومن المؤكد في الحقبة الاستعمارية الإنكليزية لأن كثيرا من أنظمة العمل والقوانين والعادات هي إنكليزية الطابع بما في ذلك طرق الاستيقاظ والنوم والطعام والمراجعة ونظام الحراسة والأبراج والهندسة المعمارية التي تعكس المرتبية الاجتماعية والطبقية والقائمة على نظام العزل بين السجين وبين عالمه الخارجي أولا، وبين السجين وبين الإدارة ثانيا، وبين الإدارة وبين الحراس رابعا، وبين الحراس وبعضهم خامسا، وبين كل هذه النماذج وبين بعضها سادسا وعاشرا، بما في ذلك عزل السجناء عن بعضهم حسب المرتبة والموقع والهوية.
ومن الصعب في هذا السجن فصل عالم الحراس والشرطة عن عالم السجناء لأن الحراس يقضون حتى أوقات راحتهم أو أجازاتهم بين السجناء وكثيرا ما رأيت "ماما عزيز" رئيس عرفاء الشرطة يصطحب أطفاله معه إلى السجن في أوقات فراغه أو عطلته!
إن عالم الحراس الخارجي مفرغ من المعنى وهم بدون سلطة السجن لا قيمة اجتماعية لهم. إنهم سجناء أبديون. وبهذه الميزة يشتركون مع السجناء بوعي أو دون وعي .
وفي الوقت الذي يبحث فيه الشرطة عن مخدرات عند السجين الجديد، إلا أنهم في الليل يقومون ببيعها للسجناء!
بل أن بعض الشرطة يبيعون أجسادهم للسجين مقابل مال كما يفعل السجين الفقير أو المنبوذ حين يبيع جسده هو الآخر لأنه لا يملك غيره.
كرنفال محزن تختلط فيه صور الضحايا العلنيين، شرطة وسجناء، مع الجلادين السريين والمكشوفين في مؤسسات الحكم والقضاء والمال.
ليست صدفة أن يتواجد في هذا السجن في هذه الحقبة سجناء من عدة دول آسيوية يمثلون شرائح اجتماعية وهويات إنسانية وسياسية مختلفة: فمن الأفغاني الشيوعي المقبوض عليه لسبب أو آخر، إلى الأفغاني الإسلاموي، ومن الإيراني الملكي إلى الإيراني الجمهوري، ومن العراقي الشيوعي، القومي، المستقل، الشرطي، المنحرف، الجندي، العربي، الكردي، وحتى رجل المخابرات الهارب لهذا السبب أو ذاك.
وكل صراعات هؤلاء في الخارج تجد صداها في الداخل وأحيانا على شكل معارك دامية تتدخل فيها الشرطة لإنقاذ السجناء السياسيين أو غيرهم من حوار الدم والتنكيل. وكما في الخارج، يوجد في السجن أنظمة عقاب خارج سلطة الإدارة وهي التشهير، النبذ، الضرب، حرمان من علاقات أو صداقات، كراهية ونفور، الصمت، طرد السجين إلى قاعة أو غرفة أخرى...الخ...
ويقوم نظام السجن على تصنيف هؤلاء السجناء حسب البلد أولا، ثم الدين ثانيا، ثم الهوية السجنية ثالثا ( مجرم، سياسي، لص، مخدرات) ورابعا موقعه الطبقي أو الاجتماعي وقد تتصدر صفة على أخرى، وأحيانا يتقدم الوضع الاجتماعي على السياسي، أو يتقدم هذا على الديني...الخ..
إن المرتبة والموقع والمكانة في هذا السجن، الملخص لصورة آسيا، يحددها في الغالب الموقع الاقتصادي للسجين. فهذا الموقع هو الذي يرسم الحدود الأخرى الفاصلة ويخلق مستعمرة طبقية إقطاعية تتمتع بنفس نظام الامتيازات خارج السجن.
في هذا السجن يمكن تصنيف الأفراد حسب المكانة الاقتصادية والمنزلة الاجتماعية والسياسية والجنائية على هذا النحو:
أولا: فئة سجناء أبناء البلد وهؤلاء أصناف بعضهم من الشرائح المتعلمة والوسطى من تجار ومحامين ومعلمين الخ، وهم يشكلون نسبة ضئيلة جدا لكنها تتحكم بالنظام السجني كله من خلف ستار وتتمتع بحقوق وامتيازات إضافية حتى في السجن.
ثانيا: وبعضهم الآخر أو الغالبية هم من الشرائح الفقيرة أو المنبوذة أو المهمشة وهؤلاء سيجدون حتى داخل السجن علاقات القوة والسيطرة ونظام الخضوع للسجين وهيمنة قوانين الملكية والجاه والنفوذ.
ثالثا: فئة من السجناء السياسيين الفارين من دول مجاورة وكنا نصنف حسب قوانين السجن على أننا منهم، وفئة سجنية تقضي أحكاما لجرائم مختلفة من دول محيطة أو أخرى، وشرائح تشكل خليطا من السجناء وتتعدد الأسباب.
رابعا: فئة من القتلة، وباعة المخدرات، والمهربين..الخ.
داخل هذه القلعة الشاحبة والحجرية ( القارة الصغيرة) يتعايش، حسب نظام صارم، مكتوب أو عرفي، عالم ضخم من البشر والعلاقات والهويات والأواصر والأفعال العلنية أو السرية.
إن محاميا باكستانيا من أبناء البلد موجود في هذا السجن بصفة قاتل ويقضي عقوبة سجن طويلة في وسعه الخروج من السجن في النهار والذهاب إلى المحاكم وتصريف أعماله والدفاع عن موكليه بكل حرية ثم العودة إلى السجن في المساء والنوم في غرفة خاصة لوحده!
سألته مرة عن سبب تواجده في السجن، فكان رده ضاحكا:
ـ قتلت موكلي!
سألته منبهرا:
ـ كيف؟ لم أفهم؟
أجاب باللهجة المرحة نفسها:
ـ أنقذته من سجن خمس سنوات لكنه لم يدفع لي أتعابي فقتلته!
قلت:
ـ كان يجب ألا تنقذه من السجن!
وكما تهدم قوة النقود علاقات وأسوار الخارج، تفعل ذلك في السجن، وليس مهما أن يكون السجين في هذه الحالة مواطنا أو هاربا، لأن النقود لا وطن لها حقا.
إن السجين الفقير، سواء كان سياسيا أو لصا أو قاتلا أو مهربا، عليه أن يجد شيئا يقدمه مقابل الحصول على شرعية الوجود الآخر، غير وجوده كسجين لأن هذا مضمون، والمقصود أن عليه أن يحقق شرعيته كإنسان وليس حشرة يسحقها نظام السجن.
إن السجين المهمش والمضطهد عليه أن يقدم خدمات من نوع ما مقابل أتعاب تساعده على نظام التبادل من بيع وشراء واستهلاك، وبما أن المهمش والفقير ليس عنده ما يبيعه للآخرين وهم عادة من الأثرياء أو الأقوياء من أجل المال أو الحماية أو بدافع الخوف، فإنه يبيع خدماته لهم: تنظيف، كنس غرف، شراء حاجات، طبخ، تجسس للإدارة، تسلية وتدخل فيها تقديم الجسد كسلعة لأن بعض هؤلاء ليس لديهم ما يبيعونه في هذا السجن أو السوق المغلق أو النظام السياسي المختصر غير الجسد.
في أقفاص القرود، يستدير القرد الضعيف الخائف بمؤخرته للقرد القوي سيد القفص ويحل المأزق!
ويجسد الاستغلال الجنسي في هذه الحالة أقسى صور البشاعة والجريمة والتراتبية الاجتماعية، ولعله من أغرب الظواهر التي رأيتها في السجن إن هذا الاستغلال يقع على فئات محرومة ومضطهدة ومهمشة هي الأخرى.
كل جرائم العقل السياسي تنعكس في العقل الجنسي.
فليس الاضطهاد قائما في علاقات الأثرياء والمهمشين والمعوزين والعزل فحسب، بل بين المحرومين أنفسهم. وهو اضطهاد يتسم بقسوة استثنائية لأن فيه رغبة داخلية في التفريغ وتنفيس الحصر.
لكن ما هو مثير وملفت للنظر أن هذه العلاقات الجنسية المثلية بين الضحايا أنفسهم تتسم، وهنا الغرابة، بنوع من العاطفة أو الحب المثلي الذي يصل أحيانا إلى مرتبة مبالغ فيها وتصل إلى مستوى العراك والأزمة النفسية والقتل.
لكن مثل هذا الأمر لا يحصل بين غني وبين مهمش أو فقير. لا يسمح الحيز الطبقي ببناء علاقات أو مساحات غرام بين الفقراء والأغنياء حتى داخل السجن، لكن هذا الحيز يسمح، كما هو الأمر خارج السجن، بعلاقة تتأسس على الاستغلال والمتعة والفوقية.
إن أكثر النماذج عرضة للاستغلال الجنسي، وحتى الاغتصاب( كأن اغتصاب خارج السجن لا يكفي!) هم الفقراء حتى من بين الفارين من دول بوليسية قمعية.
وربما يكون الأمر مفارقة حزينة أو ساخرة في آن واحد أن هذا الهارب من مؤسسة القمع بحثا عن الحرية يجد في السجن عقابه على يد مؤسسة أخرى عقابية مضللة.
إن المشرد والمتسول والمهرب والسياسي الفقير وأمثالهم يجدون أنفسهم في مستعمرة العقاب هذه في مواجهة مكثفة لعالم سحقهم في الخارج وفي داخل السجن.
وهذه الصور تطرح مسألة معنى العقاب الأخلاقي للسجن الذي يقول عنه ميشل فوكو في " دروس ميشيل فوكو" إن مزيته هي إنتاج الانحراف وهو جزء من ممارسة السلطة على الأجساد التي هي عنصر من هذه الفيزياء للسلطة.
فكيف يمكن لسلطة لا أخلاقية أن "تعاقب" أو تربي ضحاياها وهي تعمل حتى في السجن على تقويض ما تبقى لهم من آدمية؟.
وجدت من خلال تجربة مرة أن نظام السجن الباكستاني أفضل، على وحشيته، من نظام السجن العراقي، لأن هذا الأخير يقوم على تحويل السجين إلى حشرة منذ اللحظة الأولى ولا تنفع معه القيمة الاجتماعية أو الثقافية أو المالية أو السياسية للسجين، بل يسحق من لحظة وصوله، وتغلق في وجهه كل أشكال الاحتجاجات الأخرى الموجودة في أشد السجون قسوة وقذارة وهو مهدد إما بالموت أو التدجين أو الإذلال.
إذا كان السجن الباكستاني ينزع من الفرد ملكيته لجسده، فإن السجن العراقي ينزع منه روحه وموقفه وذاكرته وهويته.
في السجون الإيرانية يتم تحويل السجين العراقي الهارب إلى إيران إلى نفاية من خلال مؤسسة آخروية دينية طقسية تقوم بمحاولة انتزاع ليس هويته الفردية وثقافته الخاصة، بل نزع جوهر آدميته عبر طقوس خارج دينية، ودخيلة، وزيارات إلى مقابر بعد منتصف الليل، وعمليات غسل دماغ منهجية.
مرة كنا، في واحدة من هذه الطقوس الرهيبة بعد منتصف الليل ، في مقبرة" بهشت زهراء" أي جنة الزهراء في الاحواز حين اندفع نحونا حصان في جبهته غرة بيضاء، فاندلق كل المخزون الميثولوجي في الذاكرة وتحت الشعور والأساطير الشائعة عن خيول المقابر التي في جبهتها غرة بيضاء.
كانت لحظات رأيت فيها عمق محنة إنسانية عميقة على وجوه هؤلاء الضحايا الذين وجدوا أنفسهم في مقبرة ليلية بدل حلم الحرية الذي قادهم إلى هذه الأمكنة التي لا حياة فيها أو شيء يتحرك غير خيول بعد منتصف الليل.
وكان أمرا طريفا أن ألتقي ببعضهم بعد سنوات في مرقص نرويجي صاخب بالموسيقى والجمال الاسكندنافي المطمئن في إثارته !
فهل هي مقايضة عادلة:
تريد حرية خذ مقبرة؟!
وهل نجد أنفسنا اليوم أمام نفس الخيارات المهلكة:
تريد حرية؟
خذ حربا!
أو تريد وطنا؟
خذ غازات !
ـــــــــ*
من سلسلة مقالات" محنة البطريق".