|
اشتهرت الخنساء بمرثيتها لأخيها صخر وأسبازيا اشتهرت بخطابها الجنائزي، فهل تعتقدين أن شخصيتيهما ستتكرّر في العصر الحديث، أم ستحاصر فكريا وقبائليا؟ - من - دهشة فعل التفلسف كعقلنة - في الحلقة التاسعة - من حوارنا مع البروفيسورة خديجة زتيلي في -بؤرة ضوء-
فاطمة الفلاحي
(Fatima Alfalahi)
الحوار المتمدن-العدد: 5547 - 2017 / 6 / 10 - 03:08
المحور:
مقابلات و حوارات
اشتهرت الخنساء بمرثيتها لأخيها صخر وأسبازيا اشتهرت بخطابها الجنائزي، فهل تعتقدين أن شخصيتيهما ستتكرّر في العصر الحديث، أم ستحاصر فكريا وقبائليا؟ - من - دهشة فعل التفلسف كعقلنة - في الحلقة التاسعة - من حوارنا مع البروفيسورة خديجة زتيلي في -بؤرة ضوء-
https://i58.servimg.com/u/f58/19/60/38/08/5510.jpg
خديجة زتيلـي:
أعتقد أنّه في خانة البداهة أن لا تتكرّر الخنساء ولا أسبازيا المالطيّة في التاريخ الإنساني، فالشخصياّت الكبيرة والفاعلة والملهمة فيه هي استثنائيّة بلا منازع. فلا تزال قصائد الخنساء المؤثّرة والعميقة تُثير مشاعرنا وتجعلنا في أحيان كثيرة نحبِسُ الدمع بصعوبة بالغة نظراً لرقّتها وحُسن صياغتها وعظمتها، ولذلك بقيتْ الخنساء في التاريخ نَسْتحضرها في كلّ مرّة نحتاج فيها إلى إبداع امرأة شاعرة وإلى مرثيّة استثنائيّة عميقة تزدحم فيها الصوّر الإنسانيّة البليغة والمعاني الروحيّة بإسهاب شديد وبصدق أخّاذ قلّما يتكرّر نظيره في التاريخ. عاشتْ الخنساء في العصرين الجاهلي - (وإنْ كنتُ أتحفّظ على هذه التسميّة) لأسباب لا يتّسع المقام لذكرها - وأدركتْ العصر الإسلامي فضلا عن ذلك، وتنطوي قصائدها الشعريّة عن حبّ فائض ووعي عميق وضمير مُتيقّظ ونفس مرهفة الإحساس ووصف بليغ للحظات وهن النفس البشريّة أمام مصائب الدهر وفاجعة الفُقْدان والموت، لقد جفّتْ مآقيها من كثرة البكاء على أخيها صخر حينما بلغها نبأ وفاته، ومن بين ما أنشدتْ في رثائهِ الأبيات التي سأذكرها هنا والتي لا أزال أحفظها عن ظهر قلب من أيام المدرسة حينما كنّا نقرأ ونشرح مثل هذه الدُرر النفيسة من عيون الأدب والشعر العربيين:
يُذكّرني طـــلوع الــشمــس صــخـرا ***** وأذ كــرهُ لــكــلّ غــروب شــمـسِ فـلـولا كثــرة الباكيــن حولـــــــي ***** علـى إخــــوانهم لــقــتــلــتُ نــفْـسي ولــكـن لا أزال أرى عـــجــــــولا ***** ونـائحــة تــنــوح لــيــوم نــــــحْـــسِ هـمـا كـلـتاهــمـا تَــبــكــي أخاهــا ***** عـــشــيــّة رزئـه أو غــــبّ أمـــــسِ وما يـبـكـيــن مـثـل أخـي ولـكـــن***** أسـلّــي الـنـفـــس عـنـه بـــالـتأسّـــي فـقـد ودعـتُ يـوم فـراق صخــــر ***** أبــي حسـّــان لذاتــي وأنســـــــــــي فيا لهْـفـي عـليه ولهـف أمـّــــــي***** أيـُصْبـحُ في الضـريح وفيه يُـمســــي
ولئن ْكان لا بدّ من ختام في هذا المقام فهو القول أنّ الخنساء مُتفرّدة في شِعرها وأنّ النصوص الكبرى تنتصر في كل عصر وأوان، وأيا كان الوجه الذي تُفهم به الخنساء فستبقى شاعرة وامرأة من طراز خاصّ تستحوذ على المشاعر لحظات البوح والجرح العميقين. أماّ أسبازيا المالطيّة فهي حكاية أخرى للصمود والنضال المشهودين، وهي من جغرافيّة أخرى وثقافة مختلفة عن تلك التي تنضوي تحت لواءها الخنساء، ومن الأهميّة بمكان التنبيه إلى أنّ أفلاطون لم يستخدم في محاوراته شخصيّات نسائيّة إلاّ مرتين فقط، المرّة الأولى في محاورة المأدبة عندما استعار شخصيّة ديوتيما ، (Diotime) Diotima وقد تكون هذه الأخيرة شخصيّة وهميّة ومن نسيج خياله فقط والغرض من ذلك تمرير بعض آرائه في فلسفة الحبّ على لسان أستاذه سقراط، والمرّة الثانية كانت في محاورة المينكسينيوس Minixinus (Ménexène) حيث استخدم شخصيّة أسبازيا Aspasia (Aspasie) ، وهذه الأخيرة هي شخصيّة تاريخيّة حقيقيّة كانت تهتمّ بالفلسفة وتُنظّم الحلقات الفكريّة في عصرها. والسؤال الملحّ هنا لماذا يَذْكرها أفلاطون في محاورة المينكسينيوس وتُخلَّد هذه المرأة في نصّ فلسفي له مع عِلمنا بأنّ أفلاطون يخلع عن المرأة صفة التفلسف والتفكير والأهليّة العقليّة، كيف تعاطى معها بوصفها حقيقة تاريخيّة لا يمكن تجاهلها!؟ وهل تطْرح المينكسينيوس أفكاراً جديدة لم يتطرّق إليها أفلاطون في محاوراته السابقة، أم أنّ فكره في هذه المحاورة يسير على نفس الخطّ الذي رسمه لنفسه في موقفه من مكانة المرأة الفكريّة؟ ما هو موضوع هذه المحاورة، ولماذا تطرح جدلاً وسجالات حول المبرّر الحقيقي من كتابتها من طرف أفلاطون؟ هل تعدّ المينكسينيوس كتاب خيال أم محاكاة تهكميّة ساخرة أم نصّا هازئا بخطباء عصره؟ فلا يعقل أن تُكتب هذه المحاورة من دون مقصد بعينه ولا يمكن لنصّ أفلاطوني أن يُكتب اعتباطيّا!
وصلتْ أسبازيا المالطيّة إلى مدينة أثينا وهي لا تتعدّى العشرين من العمر، غادرت موطنها الأصلي لتعيش كأجنبيّة في ديار أخرى وقد يكون ذلك لأسباب عائليّة أو لرغبة في تحقيق حلمها في مسار فكري متميّز يُخلّدها لم تتمكّن من إنجازه في مسقط رأسها. لم تكن أسبازيا معروفة عندما وصلتْ إلى أثينا ولكن سرعان ما صنعتْ لنفسها اسما وحضورا قويّا، فقد اشتهرتْ بالحكمة والذكاء والقدرة على الحوار ومناقشة القضايا الفكريّة، ويَذْكر التاريخ أنّها رغبتْ في فتح مدرسة للبلاغة والخطابة وهو فنّ السياسة السائد وقتئذ، وكانت تجمع في حلقاتها الفكريّة كبار مفكّري عصرها على اختلاف مشاربهم واتّجاهاتهم الفلسفيّة فلا غرو أن يُحسب للمرأة ألف حساب في تلك المرحلة التاريخيّة العصيبة على النساء. كانت أسبازيا نصيرة لنساء جيلها مؤمنة بضرورة تحرّرهن وانعتاقهنّ من كلّ أشكال العبوديّة والهيمنة المفروضة عليهنّ، وقد جلبتْ لها أفكارها تلك المشاكل والاتّهامات حيث رأى فيها مُعاصروها من المحافظين خروجا عن المألوف وتكسيراً لقواعد اجتماعيّة ناجزة فقُدِّمت جرّاء ذلك للمحاكمة بتهمة المروق عن الدين والإساءة إلى قيمه، لكنّها خرجتْ بريئة من التُهم التي وُجهت إليها منتصرة لوجودها وحضورها الفكري الرصين وغير المسبوق. كانت هذه المرأة مثيرة للجدل في حياتها وحتّى في مماتها وقد نُعتتْ بشتّى أنواع الأوصاف السلبيّة منها والإيجابية على حدّ سواء، فهي المرأة المومس وهي الغانية الجميلة وهي الفاتنة وهي التجسيد الناذر لامرأة مُثقّفة في القرن الخامس قبل الميلاد وهي أيضا المرأة العالمِة في العصور القديمة والبطلة الأولى في التاريخ في مجال النضال النِسوي، هذا وتُعدّ أسبازيا خطيبة بارعة وعضوة بارزة في حلقة بركليس الفلسفيةّ، وقد جعل أفلاطون من خطبتها الجنائزيّة المشهورة موضوع حوار سقراط مع الشاب مينكسينيوس في المحاورة التي تحمل ذات الاسم، وقد بلغتْ شهرة أسبازيا حدّ ظهورها في لوحة زيتيّة تقبع اليوم في مدخل مكتبة أثينا باليونان.
تُعدّ هذه الخطبة الجنائزيّة تأبينا لذكرى الشُهداء الذين سقطوا في المعارك الطاحنة في حروب البلوبونيز الشهيرة التي وقعت بين أثينا وإسبرطة والتي كان النصر فيها حليفا لهذه الأخيرة، كان الخطاب الجنائزي تقليداً قديماً في المدينة اليونانيّة للاحتفال بذكرى الحرب كما يذكره المؤرّخ تيوسيديدس Thucydide في كتابه الهامّ الذي يحمل عنوان ((حرب البلوبونيز))، واستذكار أمجاد المحاربين وبلاءهم الحسن في المعارك المصيريّة. ويكتسب نصّ المينكسينيوس أهميّته من توصيفه لقدرات أسبازيا الفكريّة وخبرتها في تعليم الخطابة للمريدين والأتباع، فهل ذكرها أفلاطون اعترافاً بقيمتها أم لإدانتها خاصّة وأنّها كانت تمارس الفنّ الذي يُذكِّره بخصومه التقليدين من السُفسطائيين؟ إنّ النزوع نحو تسويق عبثيّة أفكار أسبازيا من طرف أفلاطون لا يَدْعمه العقل ولا المنطق وليس بالضرورة أن تنال المرأة رضى أفلاطون ليتمّ الاعتراف بمشروعيّة وجودها الفكري. وفي كلّ الأحوال وكيفما كان تسويغ إدراج أسبازيا في محاورة أفلاطونيّة والقراءات المختلفة بشأن وجودها فيها فإنّ ذكرها من طرف أفلاطون هو إنجاز تاريخي في حدّ ذاته بحيث خلّدها ولو لم يكن ينوي ذلك! قد يكون تفوّقها الفكري مصدر قلق وإزعاج للآخرين بفضل تمكّنها من التأثير على الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في عصرها، فهل يقلق هذا الأمر أفلاطون أيضا؟ ما من مبالغة في القول أنّ أسبازيا ستظلّ رمزا دالاّ على القيمة المعرفيّة والإنسانيّة والتاريخيّة لامرأة من أزمنة بعيدة ظهرتْ وتفوّقتْ في ظروف استثنائيّة فاستفزّتْ العقول وأسالتْ الكثير من المداد. وعطفا على ما سبق ذكره فإنّه لا يمكن قمع الصوت الواثق المنطلق من الأعماق، كما لا يمكن التعتيم على نساء صنعن التاريخ من قبيل الخنساء وأسبازيا وغيرهنّ، فكل محاولة بهذا الشأن ستكون مثل إخفاء الشمس بالغربال كما يقال في ثقافتنا الشعبيّة، ما من شكّ أنّ مُحاولات التعتيم والمحاصرة والتهميش والإقصاء ستستمرّ دون هوادة وخاصّة في مجتمعاتنا العربيّة التي لا تزال تتنكّر لقيّم التنوير والحداثة ويتبنّى قسم كبير منها القيّم القبليّة في جانبها السلبي ومنطق التراتبيّة الهرميّة وقيم النوع التي لا تزال باسطة نفوذها بشراسة، ولكن ما من شكّ أيضا أنّ خنساء وأسبازيا جديدتان ستثوران في وجه الظلم والهيمنة والذكوريّة المستفحلة كما يُعلّمنا التاريخ ذلك في كلّ مرّة، لتنطلقا كالعنقاء التي تنهض من الرماد، فوحدها المعادن الثمينة لا تصدأ!
انتظروا قادمنا من "دهشة فعل التفلسف كعقلنة " في الحلقة العاشرة من حوارنا مع البروفيسورة خديجة زتيلي
#فاطمة_الفلاحي (هاشتاغ)
Fatima_Alfalahi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- هل اختلف وضع المرأة العربية بشكل عام عن وضع المرأة الأثنية
...
-
-هل وجدت أن انزلاقات أفلاطون بالحديث عن المرأة بصورة متدنيّة
...
-
-هل تجدين أن الشعوب العربية في الوضع الراهن بحاجة الى الوعي
...
-
هل يجب على الفيلسوف أن يجدد من لغته الفلسفية ليجاري فكر القا
...
-
- هل خانتك اللغة يوما ووجدت أن الفكرة أعقد وأكبر من أن تسعها
...
-
- تعددت اللسانيات ، فبأي لغة تكتبين الفلسفة ؟- من -دهشة فعل
...
-
((إدغار موران والفكر المركّب/ الفكر المعقّد)). من -دهشة فعل
...
-
((إدغار موران وتعليم فنّ الحياة في الزمن الراهن)). من -دهشة
...
-
- مَن يكتب مَن؛ تكتبين، أم تكتبك الكتابة؟-من -دهشة فعل التفل
...
-
- الفضيلة عند سقراط - من -دهشة فعل التفلسف كعقلنة - في الجزء
...
-
-كيف يقرأ المرء لهؤلاء العُظماء الحكماء ولا تتطلسم الروح بهم
...
-
-قصيدة بارميندس- و -الأشياء متباينة بالذات- من حوارنا مع أست
...
-
دهشة فعل التفلسف كعقلنة - حوار مع أستاذة التعليم العالي بقسم
...
-
شطآن
-
حوار مع الكاتبة التقدمية والناشطة فؤادة العراقية وَ - المرأة
...
-
حوار مع الكاتبة التقدمية والناشطة فؤادة العراقية وَ - المرأة
...
-
حوار مع الكاتبة التقدمية والناشطة فؤادة العراقية وَ - المرأة
...
-
حوار مع الكاتبة التقدمية والناشطة فؤادة العراقية وَ - المرأة
...
-
حوار مع الكاتبة التقدمية والناشطة فؤادة العراقية وَ - المرأة
...
-
حوار مع الكاتبة التقدمية والناشطة فؤادة العراقية وَ - المرأة
...
المزيد.....
-
كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
-
إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع
...
-
أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من
...
-
حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي
...
-
شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد
...
-
اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في
...
-
القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة
...
-
طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
-
الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
-
الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه
...
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|