|
صخر عرب مجسّدًا صراع الأجيال والقيم في روايته -نسيم الشمال-
عماد الدين رائف
الحوار المتمدن-العدد: 5545 - 2017 / 6 / 8 - 20:50
المحور:
الادب والفن
كان ما أرغب فيه هو تقديم للرواية التي نشرها الصديق الأستاذ صخر عرب "نسيم الشمال" في "الدار العربية للعلوم ناشرون" قبل سنتين، ثم أراه قد أضاف إلى التقديم مهمة أخرى وهي قراءة نقدية للرواية، وها أنا أمام مقدمة تتعلق بالقصة الاجتماعية ثم سأغوص قليلًا في مسار الرواية مع صراع الأجيال، الذي صوّره صخر في مشاهد متلاحقة استمرّ خطّها الزمني نحو ثلاثين عامًا، روت حكاية بطلها كريم واصف العطار. وهو المسار الواقعي لدخول القارئ إلى فهم الرواية ومشاهدها. كنت على تماس منذ أكثر من عقد من الزمن مع الصحافة المكتوبة من جهة والآداب السلافية من جهة أخرى، ونقطة الالتقاء بين هذين الاختصاصين تتجسّد في منتج أدبيّ يحمل عنوان "القصة الاجتماعية". وهذه القصة تستفيد من أدوات الصحافة الاستقصائية أولًا، ومن القالب الأدبي السرديّ ثانيًا. وقد سبقتنا إلى هذا النوع من المنتج الأدبي شعوب الشمال، فيما كنا لا نزال نراوح في الأدب الشعبي الشفهي، أو في إعادة ترداد السير المتناقلة جيلًا بعد جيل... ونبحث في كل قصة عن مغزى. وعلى الرغم من أنّ المغازي في الأدب الشعبي الشفهي وعظيّة بمعظمها إلا أن تلك القصص التي ارتبطت بالوعي الديني الجماعي ما زالت ترُدّد في مناسبتها منذ القرن العاشر الميلادي حتى اليوم، والزيادات عليها ليست عرضيّة، بل تغدو جزءًا منها مع الاستمرار في تردادها. أما القيمة الإصلاحية الفعلية منها فليست ذات شأن، طالما أن المتلقي يتوقع سلفًا ما سيلقى عليه من أفكار وصور.. وحتى تعابير.
من هنا، تأتي أهمية القصة الاجتماعية كونها تتوجه إلى المجتمع بتصويره وتقديمه إلى القارئ بما لا يتوقعه، وإن كانت جميع عناصرها منتقاة بعناية من المجتمع نفسه. فالصورة نفسها تمر عبر ذهن الكاتب ليترجمها بعبارات أبعد ما تكون عن التصنّع البلاغي أو البياني، ويرمي بها إلى المتلقي من جديد ليريه عيوب مجتمعه، لكن بشحن أخلاقي غير منظور أحيانًا. ذلك أحد أنواع التناصّ التام، وقد نجحت القصة الاجتماعية في المدن العربية باختراق المحظور، والحديث عن الناس العاديين، وانتقاد من يسمّون أنفسهم بالمصلحين، ومقارنة العادات والتقاليد بمسارات التطور والسعي إلى التقدم، وتجسيد التخلف الاجتماعي وذمّه أحيانًا على ألسنة أبطالها. بطبيعة الحال، لم استسغ إشارة صخر في بداية روايته إلى أن "هذه القصة هي من نسج الخيال، ولا أساس لها في الحقيقة، وجميع أبطالها وأشخاصها وهميون لا وجود لهم في الواقع... إلخ. وأعرف لماذا يورد الروائيون هكذا إشارات في مجتمعنا المتخلّف الذي لا يزال يرزح تحت عبء ثقيل من الإقطاع المزارعي، ولا تزال الغنائميّة الاستزلامية فيه هي السياسة "المقبولة" من معظم المجموعات البشرية التي تنقسم إلى مذاهب وطوائف وعشائر وعائلات. لكن، وفق المقياس الصارم للقصة الاجتماعية التي يتفاعل بطلها الرئيسي مع كل ما هو حوله، من زمرة أصدقائه وهو في العاشرة من عمره يقصد دكان أبيه كي يحصل منه على مبلغ من المال لرفع تمثال لعبد الناصر في صور، إلى علاقته بجدته وأمه وأبيه... وانطلاقه في الحياة من إمكانية المعرفة إلى ضرورتها ثم حتميّتها، كونها سبيلًا مختارًا في الحياة الاجتماعية، ثم انخراطه "المبرّر" في العمل الفدائي العسكري في مواجهة المحتل،... إلخ، يمكننا أن ندخل النص الممتد على 156 صفحة في أنابيب نقدية محددة، ثم الوقوف على النتيجة. مع ملاحظة أننا نستثني هنا المشهد الأول والأخير، وقد ساقهما صخر بضمير المتكلم، فنرى أنه أراد أن يكتب ذكرياته وما جرى له... (ص9)، ثم أن تنتهي الرواية بتوقيع "المختار كريم العطار" (ص156، الأخيرة). إذن، طالما أننا اخترنا المسار، وهو صراع الأجيال، والمثل الأكثر وضوحًا في الأدب القصصي الاجتماعي حول هذا المسار هو في قصة "الآباء والبنون" لإيفان س. تورغينيف (1818-1883)، التي أعيد إنتاجها منذ صدورها في العام 1859 آلاف المرّات بأشكال ولغات مختلفة وعلى ألسنة راوين من شتى بقاع الأرض، أعتقد أن معظمهم لم يقرأ رواية تورغينيف لأنّ كل واحد منهم ببساطة كان يروي عن مجتمع وناسه، ولم يكن بحاجة إلى مقياس خارجيّ، على الرغم من أن هذا المقياس هو الذي أرسى – نقديًّا على الأقل وبالنسبة إليّ شخصيّا – أسسَ تناول محور صراع الأجيال لدى من يريد تناوله قصصيًّا.
لماذا نقوم بذلك؟ لأن الأدب النثري القصصي الاجتماعي لمّا تكتمل دورته بعد في بلادنا، ولم يرس المبادئ الإصلاحية أو ما يسمى بالمرتجى منه، ونتمنّى أن يصل إلى يوم يجسّد فيه الصراع بمستوياته الفردية والاجتماعية كمحرّك للتقدم العام، معترفًا بضرورة وجود ضحايا يدفعون بتضحياتهم عجلة المجتمع إلى الأمام. بناء على ما سبق، نلحظ في رواية "نسيم الشمال"،
أولًا، وضوح الأزمنة والأمكنة، فعندما يكون مكان القصة هو مدينة صور وجوارها إلا في بعض المشاهد، والخط الزمني للأحداث هو ثلاثين عامًا من عمر شخص واحد، يسهل على الراوي الوقوف على مشاهد محددة، منها، موت جمال عبد الناصر، مرحلة ما قبل اجتياحي 1978 و1982، مرحلة المقاومة المسلّحة، انسحاب العام 1985، وصولًا إلى انسحاب العام 2000. وهذه العناصر تشكل الإطار العام للقصة، فعندما يتدخل الراوي ليزجّ ببطله في عمل مسلّح، يكون قد أضاف متغيّرًا جديدًا يلزمه أن يحيط بتفاصيله الدقيقة ليخرجه عبر كلمات إلى المتلقي، وقد استهلك هذا المتغيّر على سبيل المثال نحو أربعين صفحة من الرواية، أي نحو 25% منها، فهل يحقّ لنا أن نسأل هنا إن كان هذا المتغيّر عبارة عن إقحام غير مبرّر في السرد؟ لا، لا يحق لنا ذلك لأن الإطار الزمكاني فرض نفسه على الراوي أولًا ثم علينا كمتلقين. وذلك يضفي على الأحداث واقعية مطلوبة في السرد.
ثانيًا، التكرار الظرفي، لم يتدخل صخر في توجيه النقاش المحتدم بعدما وضع الشاب كريم وجهًا لوجه مع أبيه واصف، بكل ما يمثّله كلٌّ منهما، إلا أنه فصّل على لسان بطليه ببراعة تصادم أفكار كريم القائمة على المبادئ التقدمية العامة والخضوع لأركان ضرورة المعرفة، ورفض الاستزلام والتبعية... مع موروثات المجتمع المحافظ القائم على قاعدته الذهبية "ان كان لك عند الكلب حاجة قول لو صبحك بالخير سيدنا"؛ ذلك النقاش الحاد المفضي إلى التصادم، يرسم أمام القارئ الخطوط العريضة لسمات العائلة التقليدية وقيمها الراسخة، التي تبني المجتمع المتخلّف ككل. وهنا يمكننا أن نقف بالتفصيل عند مشهد الوظيفة – الحلم في مأمورية النفوس، وضرورة الخضوع لواسطة نائب المنطقة واللقاء به في مكتبه.
ثالثًا، المؤشر الاجتماعي، أبو كريم ليس صورة فريدة من نوعها في مجتمعنا، أي صورة الأب الذي يأكل طعام الغداء كله من دون أن يفكّر بالآخرين ثم يعوّض عنهم في اليوم التالي بالطعام الوفير، أو صورة الديليما التي أدّت بكريم إلى استخدام العنف مع اخته لينتزع منها سوار الأم التي كانت في زيارة دينية ثم يسلمها إلى أبيه العابث... إلخ. فعلى الرغم من عدم إمكانية التعميم هنا، إلا أن هذا الرجل هو حالة مقبولة بشكل عام من قبل المجتمع، ما دام يلتزم بالحد الأدنى من الواجبات العامّة والخضوع لمنطق التبعية، فالمجتمع في المقابل لا يتدخل في علاقته بزوجته وطريقة تربيته أولاده، ويعتبر ذلك شأنًا خاصًا، حتى لو أدى ذلك إلى العنف الجسدي أو المادي أو المعنوي.
رابعًا، الصدق بمعناه الأعم، لم يترك الراوي – صخر بطله وشأنه، إنما أخضعه إلى امتحانات متلاحقة تزيد من قناعة القارئ بالبطل-النموذج، ولعل الامتحان الذي يرسخ في الذهن هنا، هو صورة المختار الدمث المثقف حقوقيًا، الذي يسعى إلى تمثيل قيم المواطنية في المجتمع وهو يصطدم بقريبة له تسلبه أمواله بلا رادع أخلاقي، عبر التجائها إلى القضاء بعد تزويرها مستندًا. ويُخرج الراوي بطله من هذا المأزق بخسارة في المال، لكن تلك الخسارة لم تزعزع القيم لديه. لذلك يمكنني أن أقول إن الصديق صخر لم يقف متفرّجًا في روايته، بل حكم على الرغم من المصاعب الجمة التي تعترض الطريق إلى المواطنة في لبنان ولو بعد حين، بضرورة سلوكها، وأراد في الوقت عينه أن يكون البطل – الضحية، نموذجًا للقوى التقدمية المتنامية في مجتمعنا، على الرغم من الصفعات المتتالية التي تتلقاها هذه القوى وضبابية الرؤية لديها بشكل عام، على أن تبقى الغلبة غير المحددة بزمن للموروث الاجتماعي، موظفًا بذلك الصراع في دفع عجلة التقدم إلى الأمام.
#عماد_الدين_رائف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تقترب من -هاوية- زينب مرعي قبل النوم!
-
أوديسا، كييف، موسكو... رحلة الستين عامًا
-
أتأبّطُ تمساحًا برتقاليًّا وأعانقُ أغنية
-
الأرضُ خاويةٌ بدونك مظلمة.. فارجعْ إلىّ
-
حلم باجنيان الأحمر.. بين ضفتي الحرب والحُبّ
-
هذا المطرُ لنا يا فيتيا
-
رؤيا شاب قوزاقي تطيحُ رأسه
-
عصفورة إيفان الجريحة بصوت ديانا الملائكي
-
ليف أوشانين: سأنتظرك - عيون الشعر الأوراسي المغنّى (1)
-
ليو تولستوي في مدينة زحلة
-
ستيبان كوندوروشكين حيٌّ من جديد - 2 -
-
ستيبان كوندوروشكين حيٌّ من جديد – 1 –
-
أوكرانيا: حكاية إعادة إحياء -عالم الشرق-
-
الحياة الثقافية في تركمانستان: بين أزمة الهوية وبقايا القمع
...
-
الحياة الثقافية في تركمانستان: بين أزمة الهوية وبقايا القمع
...
-
الحياة الثقافية في تركمانستان: بين أزمة الهوية وبقايا القمع
...
-
أوسيتيا الجنوبية: عامان على حرب الأيام الخمسة
-
طاجيكستان تحظر تعليم -مبادئ الإسلام- منزلياً
-
-الأهداف الإنمائية للألفية- بين الأمم المتحدة والمجتمع المدن
...
-
حول السجين الأكثر سرية في العالم
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|