أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - فصل من رواية في الأرض المسرة















المزيد.....


فصل من رواية في الأرض المسرة


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 5544 - 2017 / 6 / 7 - 21:21
المحور: الادب والفن
    


مرات كثيرة، كنت أهيم مع نفسي، أجلب الدودوك وأعزف، أخرج روحي، يأسي، قلقي، كأمرأة وإنسان، وأضعه في فمي، أنفخه ثم أنفثه في هذا الناي. عندئذ، تتبدد عني الكآبة واليأس وتقلب المزاج. وعندما أشعر أن الدودوك فرغ كل الكبت الساكن في داخلي أتوقف عن العزف. ما زالت هذه اللوثة في عقلي، أنشد العيش مع الرموز لافككها من حمولتها. كل ذلك هو إغواء وغواية وتجربة.
ـ أنت أبنة أبيك. الشيطان.
ـ الشيطان؟
ـ أقصد، الشيطان ساكن في عقلك.
ـ إحدى المرات، نزلت برفقة والدي الى الشارع الموحل. المطر يزداد خفوتا. رائحة غليونه يعبق في الجو، يختلط بهواء البحر والأشجار الراقصة. تركنا والدتي في سريرها، في انتظار موعد ذهابها إلى المدرسة لتعلم طلابها دروس الموسيقى والرسم والنحت.
وقفت إلى جانب والدي، نتأمل البحر والموج. والمراكب المبحرة. وأصوات الباعة الجوالة. ومر بالقرب منّا العربات التي تجرها الخيول. وفتاحي الفال والغجر، والرحالة. الهواء الرطب يعبق في الهواء، يحمل معه رائحة البحر والأسماك وعدم الاطمئنان!
مسك والدي بيدي وركض. ركضت وراءه، بيد أني لم أكن أعرف لماذا هذا الانزياح عن المكان. اعتراني الخوف.
ـ خطر في بالي، لحنًا عن رائحة البحر والأسماك وعدم الاطمئنان!
ومضى يرقص في الشارع طربًا. يداه ترتعشان وقدميه وشفتيه. قلت:
ـ دموعك مدرارة يا أبي. كفكفهم.
لم يسمع. جال ببصره حول المكان. عدنا بسرعة إلى البيت، حجرة البيانو في الزاوية، الدودوك معلقا كمزمار الزمن المدلى في الواجهة. الكرسي الهزاز، اللوحات الفنية التي رسمها والدي، والدتي. وبعضها الآخر، تم جلبه على أثر رحلات جدي الغني، إلى الصين والهند. المكتب، النوتات الموسيقية المبعثرة على الطاولة، الدفاتر والكمنجة والأقلام.
ماذا حدث؟
ـ أراد أن يدون السماء على الأرض، أو الأرض على السماء، يسرق منهما ما تختزنه من ألوان.
ابتسمت قليلًا.
ـ عليك نور يا فاركيس. لكن، رجاءًا، لا تقاطعني.
ـ أردت تذكيرك، ليس إلا؟
خمنت أن كفيه بدأتا تتشنجان:
ـ ما بك يا أبي؟
لم يعرني أي اهتمام. راح يدون كل ما جال في عقله، بنزق وسرعة. كان وجهي ملتصقًا بالنافذة في انتظار المراكب القادمة أو الراحلة. شعرت أنه نسى العالم كله، وتوحد بشؤونه وأفكاره، وامتزج بالزمن كله.
لمحت أنه مشغول:
ـ دعيني.
خفت عليه:
ـ أبي، ما بك؟ أراك على غير عادتك؟
ـ هدئي روعك.
كان إلمامه واهتمامه ودراسته منصبًا على الموسيقى القديمة. مددت كفي بحنو إلى ستارة النافذة.
ـ اطمئني، غدًا سيبان كل شيء.
كنت مستلقيًا على فراشي اتابع الحديث، واضعًا رأسي بين أصابع يدي، ومستندًا عليهما.
تسري القشعريرة في صدر فاركيس:
ـ أليس لقاءنا اليوم جميلًا، فتح لنا الأفاق أن نقول ما يجول في دواخلنا من هموم. أقصد أن نعرف المزيد. إنه يوم جميل جدًا، لا يتكرر في العمر كله الا مرة واحدة. فتح لنا شهوة الفرح والتفكير الحر.
تستدير نازلي رأسها فجأة دون أن تعر كلام فاركيس أي انتباه:
ـ هل كان والدك خارج سياق الزمن؟
تطاطأ رأسها بالنفي.
بيد أنها تلح:
ـ أراك مكتئبة منذ فترة، وبالضبط منذ اليوم الذي دخل عبد الله المشفى. ما زلت أتساءل ما الذي جعلك هكذا؟

ـ إني أتالم بسبب أوضاع بلدنا ووطننا. مصيرنا مربوط بمصير الناس جميعهم. إننا بشر من منبت واحد.
ـ دعينا من موضوع المنبت والناس والحكومة والحرب. لقد تعبت وقرفت منهم. لنبقى في الحديث عن والدك الذي تتحدثين عنه. ما الذي يقلقه؟ ربما يهرب من الملل؟
ـ أنت مخطئة. الأمر لا يتعلق بهذا الجانب. لقد صادفت الكثير من الناس بيد أن لا أحدًا يشبه والدي.
يتأمل:
ـ شغفي يا أبنتي سيلفا، أن أعرف أسباب وزمن نشوء الفرق الموسيقية ومسيرتها التاريخية وعلاقتها بالآلهة والمعابد والمرأة والملاحم والمسرح والرقص والرسم والنحت. درست الأوزان الموسيقية، زمن ظهورها، تشكلها. الألحان القديمة، الألحان المعقدة بكتاباتها وعلاماتها. الأبجدية الموسيقية وتاريخها وتاريخيتها، المقامات الموسيقية. زمن دمج الموسيقى المحلية بالعالمية، الأغريقية والرومانية والبيزنطية، العربية والكردية والفارسية والتركية والأرمنية.
ـ الا تتعب؟
ـ إنني أبحث عن علاقة المسرح والشعر والملحمة والموسيقى ببعضهم. أكاد أقول، الإنسان مصنوع من رموز وإشارات، من خلالهما، يخفي عريه وعيبه، هزاله وضعفه. تفكيك هذه الرموز، يفسح لنا المجال لدخول الحياة ومعرفة الواقع. الأدب والفن يفككان العيب الإنساني، يعريان الرموز والإشارات الخفية.
وقال لي في إحدى الأمسيات:
ـ أريد أن اكتشف من خلالهما، الحقائق المدفونة في عمق الحياة. نعري المخفي. نعري السلطان من رموزه حتى يبان على حقيقته كإنسان، ضعفه وهزاله وعريه.
ـ خفض صوتك، للحيطان أذان كما يقول المثل.
وأضافت سيلفا:
ـ تبقى نظراتي معلقة على البحر، زرقة السماء، رشاقة النوارس. أرى والدي يشهق، ويدخل الهواء إلى أعماق صدره.
يسرح بخاطره:
ـ إنه جميل، بشوش هذا الماء المالح يا أبنتي. يسقينا رشاقة الحياة ودفق الموج وأحذية الجنود. طرابزون حيرة القاتل، نصل سكينه.
دون قيد أو تحضير مسبق، قلت:
ـ آه، يبدو أن والدك رجل حالم جدًا. ويسكنه الهاجس الوجودي! إنه خارج الواقع، محلق في ترانيم نفسه..
تقطع سيلفا الحديث:
ـ إنه حالم يا عبد الله، بيد أن هاجسه المعرفة.
تستدير نازلي فجأة نحوها.
ـ كلامك صحيح. إنه رقيق، حالم، مثل شجرة البرتقال والنارنج والليمون. أليس كذلك؟
ـ لدي حدس، شيء ما، سيعكر علي حياتي، لا أدري كنهه. شيء ما سيقع في موش وطرابزون ووان وأردهان وديار بكر وسيواس. هذا لا علاقة له بالامزجة وتقلب وجه الريح.
تتدخل نازلي. وبنزق:
ـ فال الله ولا فالك. إنك تثقلين على نفسك وعلينا.
ـ على مقربة منه، يشير دائمًا إلى لون الذبول والألم وزهر البنفسج. يلتفت. يصبح عقله ممزوجًا بالشرق وسحره، ويميل إلى الهدوء والسكينة. كنت إلى جانبه عندما قال بغصة:
ـ دائمًا، المراكب العظيمة، تشيخ وتموت.
ثم غرقنا في التأمل مرة ثانية بعد هذا الحديث. فاحت من الأرض رائحة مطر هارب. نغل الربيع عميقًا في قلب الطبيعة. ومن خلال النافذة المفتوحة، في ذلك الزمن البعيد:
ـ أنظر، هناك، على مقربة منا، ثياب صبايا مغتصبات.
بيد أنه لم يعر كلامي أي اهتمام. رومانسيته، حبه الجارف للإنسان جعله لا يهتم.
صوت استهزاء نازلي جاء صاعدًا.
ـ أخشى أن أكون قد فهمت..
كانت سيلفا في نشوة، لم تسمع صوت نازلي.
ـ وبين الفينة والأخرى، كنا نهرع أنا وأمي من الفراش، نستيقظ من النوم مذعورين على صوته وصراخه. نركض إلى غرفته حيث يكون. نراه منهمكًا في عمله. ندرك أنها لحظة القشعريرة الموجعة. الاكتشاف. نقترب أكثر فأكثر من غرفته ونخطو. نمد خطواتنا على رؤوس أصابعنا مخافة أن نرى ما لا تحمد عقباه. وعندما نراه يبكي ويضحك نعلم أنه بخير وأن هناك شيء جديد، مولود جديد في طريقه للحياة.
قلت له:
مسرح جديد أم معبد!
ـ مدينة جديدة مخبئة تحت الرماد بالقرب من ديار بكر. وجدتها، إنه تاريخ الإنسان. من الأن فصاعدًا أصبحت متيقنًا عندما نريد أن نبعث شيئًا مهمًا، علينا أن ننقب تحت الأرض.
وأضاف:
الحرية تحت الأنقاض.
ـ ولماذا كنت مهمومًا طوال الليل؟
أرد أن يهرب من أسئلتي، من إلحاحي:
ـ مجرد كابوس، أثقل علي الليلة الماضية.
راودته في الحال فكرة:
الفلاح هو أكبر مبدع، علينا أن نتعلم منه. الأرض الذي يقف عليها تتمثل أمام عيني كمكانٍ مقدّسٍ للفن، الأغاني، الدبكات، الزغاريد، المحراث والمنجل والأحجار.
ـ هذا الذي يشغل بالك؟ المقدس.
ـ وهل المقدس موضوع سهل؟ إنه الغواية التي تطيح بعقل الإنسان وتقذفه في عمق المجهول.
شعرت بالاختناق. أغلقت الباب ورائي، ومشيت. أردت أن التصق بالمدى والضوء. التفت ورائي، كان والدي غارقًا في الكتابة.
قالت نازلي:
ـ أراه غمامة راقصة فوق اليم.
تنفست سيلفا بعمق، ومضت تحدق في الجمر:
ـ إنه الجمر.
ـ خيالك واسع.
لم تنتبه لكلام نازلي.
كنت أحدق في أكتشافاته:
ـ انظري في المخطوط. هذا المعبد بني على شكل قوس قزح في قلب الصخر، يحاكي الشمس أثناء انبثاقها إلى لحظة مصبها.
غرزت نازلي حدقة عينها في عين سيلفا بقسوة، بيد أن هذه الأخيرة لم تنتبه:
في ذلك البحث المضني عن المسرح وجد والدي في أوراق البردي مخطوطات مفصلة عن المعابد الوثنية في طرابزون ووان واردهان
وقارص وديار بكر وسيواس.
ـ عما تتحدثي؟
ـ تحت ضوء الشموع يسهر، يبحث. يجد لذة في دراسة الملفات والرموز المخفية في بواطن المخطوطات الذي طواه النسيان. الأشياء المخبئة تحت الرماد هي هدفه. يضع فرضية ما، ثم يطرح الأسئلة التي تدور حول الموضوع الذي يفضي للبحث. ثم يغوص للوصول إلى الإجابات. ينطلق من فكرة غير موجودة. ويبني عليها. لا يكل أو يمل أو يعرف معنى التعب. إنه ليس والدي. إنه صديقي.
كنت أسمع سيلفا تتحدث بذهول أقرب إلى الخضوع.
ـ وجه والدي خليط من كل ذلك. جميل. اعشق قامته. وجهه النضر، وسامته، ثيابه المتناسقة، كأنه فارس من القرون الوسطى. يكتب، يؤلف للمسرح. لا يريد أن يلتفت للحياة المعيشية العادية. إنه مشغول بقلقه، بنزقه. مرات كثيرة أجلس عند قدميه، بيد أنه لا يعرني أي انتباه. هو عدة شخصيات في ثوب، وزمن. يقرأ كثيرًا ويكتب أقل، ويتابع المخطوطات والملفات التي يجلبها من المعبد القديم.
تدخل فاركيس:
ـ ذلك الذي تحول إلى كنيسة؟
بحماس، ومشاعر متأججة، مثل النار في الهشيم:
ـ أعرف كيف وجدت نفسي وسط مجموعة من فلاحي الاناضول، أرمن، أكراد، أتراك وعرب، يغنون المواويل، والألحان القديمة، الغارقة في القدم.
سألته:
ـ هل كنت تعرف تاريخ تلك الأغاني.
ـ لقد وضعت دراسة مفصلة للإبقاء على تاريخية كل لحن أو أغنية. كنت أقف على مقربة، اتشاغل، وأسمع. كيف تتحاور فتاتان بالأغاني. شغفي قادني إلى ربط علاقة المعبد بالمواويل والأناشيد الدينية. وبفعل اندفاعي الجنوني نحو الوصول إلى تحقيق الغاية رحت أهيم على وجهي بحثًا إلى أن وصلت إلى معبد وثني قديم جدًا يقطنه راهب متعبد منفصل عن الناس والمدن والريف. في منطقة جبلية بالقرب من بحيرة وان. تشكلت بيننا صداقة عميقة ومودة. لديه مزرعة، يحرثها، يسقيها ويأكل منها ويشرب.
ـ وماذا أيضًا يا أبي؟
قلت محدثً نفسي:
ـ ناسك في هذا المكان المهجور، كنز بحد ذاته. ويحط رحاله على كنز. كل ما ابتغيه موجود لديه. رأيت المخطوطات في دهاليز المكان، مركون على رف تحت الأرض. رقيمات من الفخار.
ـ أنت إنسان موهوب يا أبي.
ـ الموهوب هي الطبيعة وعمل الإنسان يا سيلفا. حاولت أن أقدم تلك الإبداعات الإنسانية الغافية في باطن الأرض، وأخرجها من مدفنها وأعيدها لكم، للحياة.
ـ رائع أنت يا أبي.
ـ في الريف، كنت اتلصلص، لأسمع غناء الحجر أثناء مداعبة الريح له، ولجذور التراب . أقف على مبعدة، اختلس النظر والسمع. أرى القرويين في قرى وريف الاناضول عندما يحرثون الأرض. ثيرانهم المجهدة، تدفع المحراث في عمق التربة وتقلبه. للحراثة نوع من الغناء، وركش الأرض نوع آخر من الغناء، ورمي البذار له نوع من الغناء.
ـ بطبيعة الحال يغنون. هكذا هو حال جميع القرويين في العالم.
ـ أعرف. بيد أني أريد أن استخلص من الغناء والموسيقا والمسرح تاريخ الإنسان. الفلاحين جذر الأرض، غنائهم، مواويلهم العذبة الذي يشدونها، الممزوجة بمسحة حزن وألم. هؤلاء هم تاريخ الحياة.
عندما عثرت على المخطوطات، رحت أفك رموزهم، وأدون كل أغنية على طرف، وأقارنها بما جاء في مواويل القرويين. كل كلمة، جملة، وحرف له مدلوله. أحلم كثيرًا أثناء العمل. وأسجل كل ما أراه من الأغاني أو أسمعه. أثناء عودتي إلى البيت، ألحنهم. وأضع لكل أغنية خارطة ولون وزمن. أغاني الصيف مختلفة عن الشتاء، فيها حرارة وشوق، رائحة الشمس وطراوتها. أغاني فترة زراعة القطن، غيرها أثناء زراعة القمح أو الشعير. في الصيف أجلس تحت ظل شجرة أو حمار، مختفيًا، بعيدًا عن الأنظار، أسمع الأصوات العفوية، النابعة من القلب. الأغاني المنفردة والجماعية. ودائمًا، أقول، الريف هو مكمن الحقيقة، لب الحياة، لأنه طازج وطري ومغموس في الأعماق. وجوه القرويين، الفلاحين أثناء العمل. تشققات ثيابهم، وجوههم، أيديهم أثناء سقاية الأرض أو فلاحتها. الانتظار الممل للمواسم، المواجع التي تختزنها قلوبهم النقية، خوفًا أو وجعًا على المولود القادم.
وجدتني أقول له كلامًا بدأ له غامضًا:
ـ لم تجهد نفسك؟ ألا تعلم أن المكان مهترء. وإن عملك سيضيع سدًا؟
بيد أنه كان مشغولًا بأعماله وبحثه، ولم يفهم ما أقول. أما أنا فكنت على يقين أن لا فائدة تجنى.
واستطرد:
ـ عندما تصفحت المخطوطات جيدًا، وضعت محور دراستي واهتمامي المقامات القديمة. جمعتها ورتبتها ودققتها جيدًا بهدف التمكن من إظهار الألحان القديمة المطابقة للمخطوط. عندما امتدت يدي، شعرت بانفعال شديد. تصفحت أحدهم جيدًا، دققته. التطابق الذي تحقق، اصابني بالدوار والتعب. شعرت أن الحياة كومة نار مستعرة في قلوب الناس. رأيت بكاءهم، فرحهم في عيون النغمات.
جلبت سيلفا لنفسها كأسًا من الماء البارد ووضعته على الطاولة التي جمعتنا، ومضت تشربه ببطء.
راودتني في الحال كلمات والدي:
ـ بدأ لي هذا النص، الموسيقى نغم متكامل، مكمل للأصوات القادمة من الطبيعة، يمس حياتنا جميعًا. فهمت أن كل إنسان لحن، حلم متناغم. نصل من خلاله للتكامل عبر ربطه بالمسرح والشعر.
كنت محلقة في الفضاء.
ـ يبدو كما ذكرت يا والدي، الطبيعة متناغمة؟
ـ بالضبط. هذا ما نسعى إليه. نربط مصائر الناس بالفن، بالطبيعة.
ـ أنت إنسان حالم يا أبي. حالم جدًا!
ـ ربما.
ـ أراك تحلق خارج السرب. لن يسمعك الناس. إنهم مشغولون بتمرير الوقت عبثًا.
ـ هذا ليس مهمًا بالنسبة لي. سيأتي ذلك اليوم الذي يبحثون فيه عن تاريخهم الحقيقي.
ـ سنرى.
ـ لقد دونت آلاف الأغنيات، الأرمنية والكردية والتركية والفارسية والعربية. إنهم حقل متكامل، من المنبع، عبر الحقل إلى المصب. لدي عشرات الدفاتر. ونظريات تحويل النوتات حول الأغاني التي تمس حياة الكائنات ومقاربتها بحركات الطيور والأشجار وأصوات الناس.
قلت في نفسي:
بالرغم من جمال اللقاء، بيد أن لمحة الحزن بادية على وجهه سيلفا، مما ترك أثره علينا.
حدقت سيلفا في السقف، انهمرت دموعها كالمطر:
ـ كنت أراه يبكي في أنصاف الليالي، عندما يكون وحيدًا، في الطابق الأرضي من البيت. يشهق ويثور ويكتب ويلحن، ويخرج القهر الساكن في عيون البسطاء. يدون الأسلوب الخاص بتعدد الأصوات، عن الربيع، شجرة المشمش، الغربة، المشردين، طائر اللقلق.
فاستنتجت وفقًا لذلك أنه من الواجب أن نحافظ على هذا الأرث. هذا العالم دون موسيقى وفن ومسرح وشعر، يسمو بهم الإنسان، تجعل حياته كئيبة.
رفعت نازلي يديها في الهواء إلى مستوى صدرها:
ـ الله.. الله يا سيلفا. لقد حلقت بعيدًا. ممكن تتوقفي بضع ثوان، أريد أن تجففي دموعك، أننا في الفضاء، بيد ان الواقع هو الواقع. أريد أن أسألكم، لا شك أنكم جياع. حديثنا لن ينتهي. وكما يقول المثل، عندما تحضر السفرة يبطل الكلام. ونظرًا، لضيق ذات اليد، ما رأيكم أن أحضر لقمة لنا، جبنة وخبز تنور وشاي. لا يمكن المساومة على الجوع حتى لو سقطت السلطنة واستانبول وطرابزون والله ذاته. أليس كذلك؟
ـ صرخنا بصوت واحد:
ـ إننا جياع. وهذا الطعام بمثابة الأفيون في هذه الظروف.
أثناء استعدادهن للذهاب إلى المطبخ، التفت إلي فاركيس:
ـ عبد الله، ماذا كنت تعمل في بلدك.
ـ ليس لي بلد، مدينة أو قرية. أنا من أم مدفع. بضعة بيوت شعر ليس إلا. وأعمل راعي غنم وإبل. إنهم ملكنا.
رأيت الغرابة ترتسم على وجه فاركيس:
ـ ولم تزر أهلك من زمن بعيد.
ـ منذ سنتين لم أزر أهلي ولا أعرف عنهم أي شيء.
ـ أليس صعبًا عليك هذا الحرمان الطويل بعيدا عن الأهل والأقرباء؟
ـ وماذا أفعل؟ وهل باليد حيلة؟ أخذوني بالقوة من بيتي ورموني في بلغاريا كجندي.
ـ الله يكون بالعون.
دققت النظر في وجه سيلفا الشارد، واقفة بالقرب من نافذة المطبخ المسدلة الستائر. بصوت موجوع وخافت.
ـ كنا نتوقع هذه اللحظة القاسية. آه لو لم يتعاون البلقان معهم.
تتساءل نازلي:
ـ هل المشكلة في البلقان وحده؟ هل الخطأ تتحمله جهة واحدة؟ وماذا عن السلطنة، ماذا فعلت حتى تبقيه معها؟
ثم بدأت تتلفظ بصوت مؤثر:
ـ ليس لنا خيار آخر! عندما تنتهي أيامك، عليك أن تحزم حقائبك وترحل. لا، لا يمكن استيعاب المأساة. إنها الحرب، ما أن تخمد في مكان أو تموت حتى تخرج. إنها كالعنقاء المتجددة، أو الحرباء الملونة. أو قل، إنها لعبة الحياة والموت. سمها ما شئت، بيد أن خروجها من تحت الرماد تزداد شراسة، تقتل جميع اللذين يولدون تحت عينيها. لهذا، ليس ذلك بغريب أن أغلب شعوب العالم صنعوا صنمًا لهم سموه إله الحرب.
تلتقط سيلفا أنفاسها قبل أن تلخص ما أورته نازلي:
ـ الجرح عميق. أخشى أن يضعوا الاناضول في مرمى النظر. سنضيع جميعنا، الناس والتاريخ، ثقافتنا، تاريخنا ومعتقداتنا.
ـ من تقصدين؟
ـ حكومات العالم!
تنهدت نازلي.
ـ آه، يا لتعاستنا. بيد إنني متفائلة، أن السلام سيعم العالم. لا بد من ذلك. وتنتهي هذه الحرب الشرسة التي شنت علينا منذ زمن طويل. غير أننا سنحصل على السلام.
تهم سيلفا في جلب الملاعق الخشب.
ـ ماذا تقصدين بالسلام؟
ـ أن نكون على قيد الحياة.
سألتها:
ـ ولماذا هذه الملاعق؟
ـ من أجل أن نأكل!
ـ آه، لم أفهم عليك. هل هذا ما تدعيه؟ بيد أن كلامك يحتاج إلى تفاصيل كثيرة. ربما ما تقوليه حكمة، أو كلام عائم، تخيلات. بالنسبة لي أجد أنه من الغرابة أن يكون السلام مجرد بقاء على قيد الحياة.
وتجلب معها شوك:
ـ إنها قضية الإنسان على هذه الأرض.
تركتنا سيلفا، ودخلت إلى المطبخ:
ـ نازلي، ساسأعدك في تحضير الطعام.
الشاي أصبح جاهزًا.
ـ ونحن جاهزون.
ملأت نازلي الفنجان وقدمته لي.
ـ أشرب يا عبد الله. جسدك يحتاج إلى الدفئ والحرارة.
وقبل أن أرشف شفة، وأضعه في جوفي، مضت سيلفا تقول:
ـ يبدو أننا لا نعرف هذا العالم. نحن غرباء. ندخل إليه، نسكن فيه، ثم نودعه قبل أن نعرفه. لدينا كم هائل من الكلمات بحاجة إلى إملاء من الداخل. نأتي إليه فارغين ونخرج منه فارغين. علينا أن نحافظ على هذا التراث الغني بالإيحاءات الفنية، الموسيقى والرقص والغناء. هؤلاء الرموز، يواكبون الطبيعة. هي وصيتنا، أن ندفعهم إلى الأمام. المكان الذي نعيش فيه ثقيل، علينا أن نحرره، وننطلق إلى الفضاء، ليكون كل هذا العالم. فرح يمتزج بالفرح، ويسبح في هذا الوجود.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من ذاكرة الجزيرة السورية 2
- لبنان والبحر وهمسات الريح
- رواية يريفان
- من ذاكرة الجزيرة السورية 1
- مقالة في العبودية المختارة
- طيور الشوك
- استراتيجيات الغرب وجاذبية الشرق الأوسط
- الخبز الحافي
- النظام الأمريكي بعد الحرب الباردة
- هل الظلم وحده يصنع ثورة..؟!
- ما تخلفه الحروب الدامية على المرأة
- التنظيم في رواية قبلة يهوذا
- الصين في رواية
- الثورة والنهج الأمريكي الجديد
- قراءة ثانية في رواية ألف شمس مشرقة
- الثورة حدث فاصل في التاريخ
- رقص رقص رقص
- المظلومية والمجتمع الرعوي
- عوالم تركية لقيطة استانبول
- العولمة وإدارة الفوضى..!


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - فصل من رواية في الأرض المسرة