|
قلبي على الحافتين
عايدة نصرالله
الحوار المتمدن-العدد: 1447 - 2006 / 1 / 31 - 09:29
المحور:
كتابات ساخرة
(المقطوعة التي ألقيت في مؤتمر حق العودة في 16122006، في الناصرة)
"كعك كعك، مسمسم يا كعك...مدور يا كعيييييييييييييك" الصوت يلح علي، لا يبرح المكان. ... هناك، ما وراء الخط الأخضر صاح الصوت، ذلك الصوت حمل في حنجرة عمرها خمسون رحيل. خمسون منفى مرَّ وما زال الصوت يعارك الميدان. "كعك، كعك" . تسكن حبات الكعك عربة عمرها كعمر الصوت. خمسون عاما وهي تنزع ثوبا وتلبس ثوبا أكثر قدما وعتقا، تتنفس في كل شارع من شوارع جنين.
"كعك ، كعك" شد عمي أبو خالد عمره إلى خاصرة العربة. لا يكل ولا يمل من الصراخ في وسط سوق جنين. أراه في الصورة، شابا وسيما، تهبط القذائف على ميناء حيفا حيث عمل الأخوان، هو وأبي، يهرب كل واحد منهما في اتجاه. أبي يظل في الداخل، وعمي يرى نفسه في غير حدود أرضه. يقذف عبر الحدود. في مخيم السلط، عاش على اللقمة. كان "شايه" ليس كشاينا نحن من رفلنا بالعز الذليل. هكذا قال أبى. "أبي لماذا شايهم اسود"؟ سألناه قال أبي " لأنهم يغلونه اكثر من مرة .. هذه طريق النجاة" احمرت عينا أبي
لم افهم وقتها. تحت إبط عمي أبو خالد سكنت أفواه صغيرة، وأيدي تتسابق للقمة. واعتادوا أن يغادروا المائدة بمعدة نصف ممتلئة. في ال-67، حمل نفسه وأولاده تاركا بيتا وأثاثا، وجاء إلى جنين، ليشم رائحة أم الفحم القريبة. والتصقنا بالصورة مرة أخرى.
عيوننا متعلقة بشاشة التلفزيون ونحن نبحث عن ظل لبائع الكعك عبر الدخان. الدخان يسقف الشارع، البيوت. الناس. عربة الكعك تعرف مسلكها بين الطرق، تكاد تمشي مغمضة ليلا، فهي من حملت جوع أطفاله، أسعفته وحملت أسس البيت والسهرات، ورغم وجود البزات العسكرية الخضراء حولها كانت تشق طريقها وتنجو من الرصاص وسط السوق. وهي… العربة، من جعلت أحواض النعناع تزهر في المخيم، في الأصص الصغيرة وهي من كانت السبب لسكن الماعز والدجاج. كله من خير تلك العربة التي انتصب عليها صوت العم أبو خالد
"كعك ، كعك"
لم تمل العربة لا تحت الشمس ولا في عز البرد من أن تجر عجلاتها. وعندما صرخت جنين صرختها الكبرى، وضربتها الآلة الحديدية وزمجرت بقسوة غير آبهة بتنهد الكعك. ذهب البيت، والماعز، والحمامات، وبقيت عربة الكعك والصوت يسكن فوقها حيا باقيا، يتردد في زوايا المخيم والسوق يلح على الذاكرة: "كعك ، كعك، يا مسمسم يا كع......ك، مدور يا كعك".
"إذن لماذا تلقين بجزء من روحك هناك وتبقين كلك هنا"؟ جاءني الصوت. "لماذا تظلين معلقة على الحافتين؟ إما هنا وإما هناك". ألح الصوت. لأن ماكنة أمي القديمة ما زالت مركونة في زوايا بيتنا في أم الفحم، تلك الماكنة التي خاطت ثياب الفرح والترح لتنسج من عيون النساء مقلا ترى الشمس ، ولتنسج لنا كرامة. هنا مكانها. وكيف سألقي بروحي ما وراء الحافة وبنطلون أبي الذي أدمن الغياب ما زال ينزل الدرج مودعا وأسمع طرقات يديه على بوابة الحديد في الساعة الثالثة من عصر كل يوم رغم ابتلاع الطريق له بعد 33 عاما. وكيف أنتقل من مكاني وأنا طويت اللهاث وراء اللهاث فيه، والرجفة لرجالي الذين ماتوا والأحياء الواقفين على جدار الحافة. كيف سأغني :
"حدارجي بدارجي وكل عينه دارجي يلعبوها بالتفاح واللفاح يا قلايد يا ملاح وين رحتو بالجمال بين عكا والريحان نطت خرزة قالت طش أطلع يا نفيس القرش"
أغنية لا أستطيع أن أغنيها لحفيدي خالد دون مكاني ، دون خزانتي وعباءة جدي الذي احتضنت قصص أبو زيد الهلالي في كانونه الشتوي على أرض الظهر الامتداد لجبال الروحة. إن برحت مكاني، من سيسجل خروق تلك الشجرة في طريقها إلى عين جرار التي صمدت أمام الجرافات وحضنت حكايا العذارى هناك حيث تجلس شجرة هرمة خروقها ترصد أصوات المارين الباكين، زغاريد تهاليل مواء القطط وتراقب عينا عاشقين في آخر الليل تقعد شجرة هزمت أقدام الجرافات مجبرة على أن تحرس الغسيل المعلق عليها أحذية قذفت في اعتراك شجار الجارات عذابات تساقطت على الشارع دموع عذارى مبتهلات لافتراع الروح
في الطريق الطويل لعين جرار دارت أحاديث حول الشجرة بأن لها عيون لامعة أنها تشفي العاقر ومن جوفها تلد الأمنيات وتبث السلام للمحزون ولها تقدم قرابين العشاق
من يكتب عن تلك الشجرة والماكنة وحليمة التي قتلت في نزفها وهي في الطريق من اللجون إلى أم الفحم إذا غادرت أم الفحم؟ أم الفحم معلقة في عنقي، خاصرتي بدخان أزقتها وتعب سمائها وظهرها المقصوم، كيف يطالبونني ترك غبارها، وزيتها المعتق بأهازيج عمالها ، أم الفحم بريقها الترياق وبعفنها هي أنا .
نعم...قلبي على الحافتين...روحي تنسج للحافتين نولا واحدا..لكن جسدي هنا متجذر لن يبرح لهاث الذكريات، جسدي سيكون شجرة أخرى واقفة ترصد الطريق والحكايا هنا .. في أم الفحم.
#عايدة_نصرالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-العطش-: استلاب الجسد المكان والصبو للعبور
-
الجارزة السوداء
-
أنين المقاهي
-
رجل يهتك ليل الأسئلة
-
مقطوعة شعر
-
مقطوعة شعر بعنوان -زارا رحلة التجلي في هوس النقاء
-
كطيف كونته مخيلتي
-
زارا: رحلة المبتغى في هوس النقاء
-
خصلة شعر
المزيد.....
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|