طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5542 - 2017 / 6 / 5 - 02:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كما تعلّمنا الماركسية, ان الوعي الطبقي خطوة ضرورية في تحرر الطبقة العاملة خصوصا والبشرية عموما. وبالنسبة لبريخت، التحرر لا يمكن أن يحدث إلا بعد ادراك واقع الاستغلال من قبل الطبقة العاملة. ووفقا له، يطور الناس دون تمحيص وبلاوعي طريقتهم لإدراك و تفسير وفهم بيئتهم (ولذا من المهم جدا اقتران الماركسية بالتحليل النفسي الذي هو العلم الوحيد القادرعلى التعرف على محتويات اللاوعي الفردي والجماعي ومن ثم اعادة كتابة محتوياته لصالح الطبقات المحرومة والمهمشة, وكما شرحت ذلك في اماكن اخرى 1, 2, 3, 4). فكالأسفنجة التي تمتص كل سائل هي في تماس معه وبدون ترشيح او اختيار, يتماهى الافراد والجماعات مع كل الطرق المشتركة والمقبولة عموما في إنتاج الحقيقة, والحقائق المُنتجة بهذه الطريقة, وبدون النظر في إمكانية وجود لطرق بديلة لانتاج الحقيقة. وبكلمات اخرى, فهم يتقبلون دون تمحيص او تساؤول او تشكيك الافكار المهيمنة. وهذه الافكار المهيمنة تكتسب طابعا عضويا وكأنها جزء من طبيعة سرمدية لا يمكن الاخلال بها: مثلا, الملكية الخاصة وقدسيتها, "الطبيعة الانانية!" للبشر باعتبارها محتوى جينيا كما ناقشت في حلقة سابقة, او ان قوانين السوق تنظم العرض والطلب لصالح الجميع وضرورة عدم التدخل فيها, وغيرها الكثير من الافكار التي قد تأخذ طابعا طبيعيا (نسبة الى الطبيعة), وبالتالي تكتسب نوعا من القدسية او الصنمية, ولذا لا غرابة ان يحمل الدولار الامريكي عبارة
In God We Trust
"في الله نثق"
و "الله" هنا هو صنو للملكية الخاصة او الاسم الآخر لها. وبالتالي ان كل ما يقوض سطوة الملكية الخاصة هو "الحاد": ان الملكية الخاصة هي قدس اقداس الرأسمالية. ولذا ان الشيوعية بعرف ساسة الدولار هي الحاد, ليس اساسا, كما يعتقد العديد بسذاجة متناهية, لانها تنكر وجود الله, بل لأنها تعارض الملكية الخاصة وتدعو الى الغاءها. وقد رأينا في الحلقات السابقة محاولات بريخت لتشتيت الاعتقاد بطبيعية هذه الظواهر من خلال إظهار تشكلها في نطاق اجتماعي تاريخي محدد. فوظيفة مسرحه هي احداث "خلخلة" معرفية في تفكير جمهور المسرح, وذلك من اجل تقويض حقيقتهم الخاصة بهم والمنسجمة بدورها مع الافكار السائدة او المهيمنة.
وفي مجال الجماليات, يمكن ارجاع طبيعية الجمال بكونه موضوعة ميتافيزيقية الى الفيلسوف عمانوئيل كانط, حيث ان الجمال بالنسبة له موضوعة تتسامى فوق آفاق التاريخ والجغرافية, وان الجمال يستدعي التفكير. لذلك, حسب كانط, فان اللذة الناتجة عن احساسات هي ليست بجمال لخلوها من التفكير. يتميز عصرنا الحالي بثقافة استهلاكية تسعي الى تبسيط الامور بشكل فج والاجابة على تساؤلات فلسفية معقدة بواسطة اجراء تجارب مختبرية متماشية مع املاءات الفلسفة الوضعية ونهجها التجريبي-امبريقي. ولاختبار فرصية كانط ان الاحساس بالجمال يستدعي التفكير, قام باحثون باجراء تجربة نشرت حديثا في المجلة العلمية المرموقة Current Biology (5).
تتكون التجربة من تعريض أشخاص إلى محفزات، وهي صور، حلوى (كاندي) candy، ودمية دب teddy bear. ومن ثم يقاس مستوى شعورهم بجمال المحفزات, باستخدام معادلات رياضية, وذلك عند تركيزهم بشكل كامل على المحفزات, اولا, مقارنة بشعورهم بالجمال بسبب نفس المحفزات ولكن في حالة من عدم التركير على المحفزات, ثانية. واستناج الباحثون الذين اجروا التجربة هو:
"باختصار, تؤكد التجربة زعم كانط انه فقط المتعة المرتبطة بالشعور بالجمال تحتاج الى تفكير, وتدحض زعم كانط بان الملذات الحسية لا يمكن ابدا ان تكون جميلة. وهكذا تثبت التجربة انه يمكن للتجارب النفسية اختبار النظريات الفلسفية, وان النماذج الرياضية يمكن ان تصف التجارب الجمالية."
وان اجراء هذه التجربة هو مثال بارز على محاولة فرض الفلسفة الوضعية, ومنهجها التجريبي, في عصرنا الحالي, ليس على العلوم الطبيعية الصرفة والتطبيقية فقط, ولكن ايضا على العلوم الانسانية والاجتماعية والفلسفية ايضا. يعتيرالعديد الفلسفة الوضعية فلسفة برجوزية ورجعية (6) لانها تحاول ان تؤبد الماضي وتجعل من المستقبل نسخة منه, وهي في حقيقتها مضادة لثورية العلم. فعلى حد تعبير الفيلسوف البولندي Leszek Kolakowski الذي بذل جهدا خارقا للعادة في كتابة مؤلفه الموسوم Main Currents Of Marxism ( تيارات الماركسية الرئيسية) والمؤلف من 1300 صفحة (7), ان:
"هذا العلم المشوه (الكمي, ط.ا) الذي يؤدي إلى استعباد الإنسان يجد تعبيره في النهج الوضعي" (8 ص. 409).
ولذا ان الاتجاه السائد الآن في البحوث العلمبة هو المنهج الوضعي الذي يساوي بين العلم عموما والعلم الطبيعي, من جهة, والعلم ومنهجية محددة, المنهجية الوضعية, من جهة اخرى, اضافة الى فلسفته الميتافيزيقية التي تتبرقع ببرفع العلم. هذا علما ان مؤرخ العلم الكبير Paul Feyerabend قد اثبت بما لا يقبل الشك تهافت مزاعم الفلسفة الوضعية وعلمها التجريبي, واكد انه لا توجد منهجية محددة لتطور العلم, ويمكن الاطلاع على المزيد من التفاصيل في كتابه Against Method (9).
ان النهج النفعي للسياسات النيوليبرالية حاليا في مجال البحوت والاكاديميا يهدف الى افقار اقسام العلوم الانسانية والاجتماعية والفلسفية, وذلك بالتقليل من تمويلها ماديا او حتى غلقها (10), لاسباب منها ان بحوثها, باعتبار النيوليبراليين, لا تقدم اكثر من صفر في زيادة حجم المعرفة العلمية (حسب المفهوم البطرياركي للمعرفة وفلسفته الوضعية), اي ان معطياتها هي ضجيج لا قيمة له حسب نظرية المعلومات الرياضية. وهذه السياسات تعتبر اقسام الانسانيات وما تعالجه من افكار ورؤى جديدة قد تكون غير متفقة مع وجهة النظر السائدة, ولذا فهي, بعرفهم, افكار هدامة, ماركسية, شيوعية (!), وعلى الدولة النيوليبرالية ايقاف تمويلها لاضعافها او حتى اماتتها.
الحيلة الاخرى للاوساط النيوليبرالية هي اعتبار ماركس فيلسوفا وضعيا ممكن اختبار نظرياته ضمن قواعد مختبرية صارمة لاثبات صحة افكاره من عدمها. انهم بذلك يسعون الى تقزيم ماركس واختزال عالمه الرحب الى سجن مختبرهم الذي يعج بالفئران والارانب, وبذلك يختزلون الانسان الى مرتبة الحيوان. وساسعى في حلقة قادمة لاثبات ان ماركس لم يكن فيلسوفا او عالما وضعيا, كما تزعم بعض الدوائر البرجوازية, وذلك في مسعاها ليس للاجهاز على علمية ماركس فقط, وانما للقضاء على ثوريته ايضا. اي انهم يسعون الى ضرب عصفورين بحجر.
ان المنهج التجريبي في العلوم الانسانية يتميز بضيق افقه وافقاره التجربة الانسانية واختزالها الى ما يمكن قياسه باستخدام بيانات اختبار تسطح التجربة الانسانية, بدل ان تسعى الى ان تنفذ الى دواخلها واستكشاف اعماقها وغناها وفردانيتها وتميزها. وما يزيد الطين بلة هو اعتقاد هؤلاء الباحثين ان علمهم حيادي وغير متحيز. وفي هذا الصدد يقول وايتهيد:
"ان ضعف هذه (المنهجية. ط.ا) الوضعية يجسدها الطريقة التي نحن جميعا فيها نرحب بشظايا منفصلة للتوصل الى تفسير في مرحلتنا الحالية للحضارة" (11).
ان هجوم الرأسمالية المتقدمة على العلوم الانسانية يجسده قول الفيلسوفة والمنظرة النسوية الايطالية-استرالية Rosi Braidotti:
"على الرغم من أنني قد اعتدت على قراءة ديليوز وغواتاري لتحليلات "لرأسمالية المتقدمة ، الا اني لا توقف أبدا عن الدهشة من كيف ان الرأسمالية المتقدمة لا ترحم. وسوف تستهلك أي شيء، حتى العلوم الإنسانية، ويحتم عليها فعل هذا واعتقد أن هذا هو على الأرجح إحدى الصدمات الكبرى بالنسبة لي، في هذه المرحلة بالذات، حيث تتدهور العلوم الإنسانية في ظل آثار العولمة من جهة والتطور التكنولوجي الهائل من جهة أخرى." (12)
(ديليوز وغواتاري هما مؤلفا كتاب الامبراطورية Empire الذي يعتبره البعض البيان الشيوعي الثاني, والبعض الآخر, على النقيض, يعتبره بيان اصلاحي نيوليبرالي, 13).
يتميز تاريخ العلاقة بين علم النفس والفلسفة, منذ انفصالهما عن بعضهما البعض على يد الفيلسوف الامريكي وليام جيمس الذي يعتبرمؤسس علم النفس, باستفادة احدهما من الآخر, ولكنه ايضا تاريج يثير الجدل للغاية. والسبب هو في ناحية واحدة واضحة تماما: علم النفس، على عكس الفيزياء والكيمياء على وجه الخصوص، يواجه لا مفر منه أسئلة بخصوص كيفية رسم الخط النظري بين الطبيعة والثقافة، اي التمييز بين ما هو طبيعي وما هو معياري او اجتماعي. وهذا الفصل هو مصدر قلق فلسفي كبير، بدءآ من كانط فصاعدا. حيث أن العلوم المادية حسب الفيلسوف الكندي الشهير تشارلز تايلور تتعامل مع "اشياء مستقلة!", على حد تعبير تايلور. علم النفس لا يمكن تجنب قضايا لا علاقة لها بالمعنى البشري. (كتب سارتر نظرية للعواطف تظهر هذا بشكل فعال جدا). التجارب فيما يتعلق بالأشياء المادية تعزل بنجاح الظواهر الرئيسية قيد الاختبار وتقدم تفسيرات مبررة. الظواهر في العلوم الطبيعية يمكن النظر اليها على انها مستقلة (الى حد ما!) عن المعاني الإنسانية والتقييمات. ولكن عندما يكون السؤال غير معزولا عن المعاني الإنسانية، كما هو الحال مع "الجمال"، تدخل سلسلة كاملة اخرى من القضايا في مجال البحث والتقييم. ويبدو حيويا في هذه الحالة الاهتمام الدقيق بمعنى المصطلح, الجمال, ليجري بحثه ويكون هو ايضا جزأ من البحث.
ان التجربة النفسية المذكورة اعلاه لا تستطيع ان تثبت او تنفي معنى الجمال لدى البشر باستخدام معايير ميتافيزيقية رغم تجلببها بجلباب العلم الطبيعي او الرياضيات: انها تغفل قضية فائقة الأهمية هنا: انها لا تراعي عوامل الزمان والمكان لما يفهم كجمال عند مناقشة بعض الأسئلة حول نطاق قدرة العلوم الطبيعية على تفسير الأمور. والحقيقة هي أن تطور الفن في عصر الحداثة ربما لا يشكل فيه مفهوم الجمال على أية حال موقعا مميزا. أحد البدائل هنا هو أن نرى الفن كوسيلة لتمكيننا من جعل الأمورتبدو جميلة. الفن في العصر الحديث غالبا ما يكون مدفوعا بالرغبة في التجديد, لأنه إذا لم يحقق إحساسا جديدا فإنه يمكن أن يصبح مجرد انعكاسا للوضع الراهن, حاله حال الامبريقيىة الوضعية في العلم. على هذا النحو، يمكن اعتبار الفن بكونه مقاوم بشكل أساسي لوجود "استنتاجات ثابتة", على الافل لأنه يمكنه تحويل ما ينظر إليه على أنه قبيح إلى شيء ينظر إليه على أنه جميل: على سبيل المثال، تاريخ التنافر الموسيقى. لقد حققت العلوم الطبيعية الحديثة نجاحا لا مثيل له، والتي يجب أن نكون جميعا ممتنين لها. ولكن, كما يؤكد الموسيقار واستاذ الفلسفة Andrew Bowie, علينا أن نقاوم إغراء توسيع بعض الافتراضات التي تحكم البحث العلمي الى مجالات قد لا تنتمي اليه (14).
يتبع
----------------
المصادر
1. اهمية اقتران الماركسية بالتحليل النفسي (العراق و مُهرِّجو البلاط !)
http://www.ahewar.org/debat/s.asp?aid=471473
2. الماركسية, نقادها, التحليل النفسي, وامثلة من العراق
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=527377
3. فرويد و ماركس: الجنس, العنف, والحداثة
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?aid=399850
4. الـماركسـية والتحليل النفسي
http://www.althakafaaljadeda.com/talal_alruba2e.htm
5. Beauty Requires Thought
http://www.cell.com/current-biology/fulltext/S0960-9822(17)30427-X?_returnURL=http%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS096098221730427X%3Fshowall%3Dtrue
6. Positivism And Marxism In Sociology
https://www.marxists.org/archive/novack/works/history/ch11.htm
7. Book Of A lifetime: Main Currents Of Marxism, By Leszek Kolakowski
http://www.independent.co.uk/arts-entertainment/books/reviews/book-of-a-lifetime-main-currents-of-marxism-by-leszek-kolakowski-2056873.html
8. Main Currents Of Marxism, By Leszek Kolakowski
http://w3.salemstate.edu/~cmauriello/Kolakowski_Main%20Currents%20of%20Marxism.pdf
9. Against Method by Paul Feyerabend
https://monoskop.org/images/7/7e/Feyerabend_Paul_Against_Method.pdf
10. What s Really Happening to the Humanities Under Neoliberalism
http://www.truth-out.org/opinion/item/36431-what-s-really-happening-to-the-humanities-under-neoliberalism
11. Alfred North Whitehead
https://brocku.ca/MeadProject/Whitehead/Whitehead_1938/1938_08.html
12. Conversation with Rosi Braidotti
http://www.ny-web.be/transitzone/conversation-rosi-braidotti.html
13. Hardt and Negri’s Empire: a new Communist Manifesto´-or-a reformist welcome to neoliberal globalisation?
http://www.democracynature.org/vol8/takis_negri.htm
14. Philosophy vs. Psychology
https://iainews.iai.tv/articles/why-science-should-butt-out-of-philosophy-auid-834?access=ALL&utm_content=buffer63896&utm_medium=social&utm_source=facebook.com&utm_campaign=buffer
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟