|
النورَجْ
كمال عبود
الحوار المتمدن-العدد: 5541 - 2017 / 6 / 4 - 13:47
المحور:
الادب والفن
ضاقَ البيدرُ .. ضاق ضاقَ البيدرُ وأختفى ، واختفت معه حكاياهُ ... حكايا الزمن البسيط ... والمكان البسيط .. منذ ستين عاماً كان لكل قريةٍ بيدرها ..بيدرُ القريةِ كان واسعاً ، مُنبسطَ الأرض قرب ساقية المسيل .. هو فسحةٌ أرضٍ كبيرةٍ أهداها أبناءُ القرية لأبناءِ القرية نذراً وفِعلَ خير . والبيدرُ مسرح القريةِ الخاص بإحتفالات الأعراس . وهو ملعب كرة القدمِ ، وكان سابِقاً ميدان سباقٍ دائريّ للخيول الأصيله.. وهو مجمعُ الحصاد حيثُ يأتي كل فلّاحٍ بحصاده من حقلهِ ويجعلُ ربطاتَ سنابل القمح على شكلٍ هرمٍ صغير وينتظر دوره كي يدرس قمحهُ ... ينتظر النورَجْ .. هل تذكرُ البيدر يا ابا اسماعيل ... ..؟ هل تذكر النورَجْ ...؟ أطرقَ ابو اسماعيل - كعادته - ونظر إلى الأرض ولم يُجِبْ ، أمّا الفتى حفيد صديقي ابا اسماعيل .. الفتى الذي كان حاضراً سأل بشغفٍ : ماهو النورَجْ يا جدّي ..؟ رفع الجدُّ رأسه قائلاً : هو لوحٌ خشبيٌّ مُسطّحٌ سميكْ ، عرضهُ متر وطوله متران ، له وجهان ،واحدٌ أملس قليلاً والوجه الثاني مليءٌ بحُفَرٍ صغيرةٍ مثبّتٌ في كل حفرةٍ قطعةٌ من حجرِ الصوّان القاسية لها طرفٌ حادٌّ كشفرةِ السكين الجارحة . وفي مقدمة اللوح قطعةُ خشبٍ يابس مقطوعةٍ من أغصان الزيتون في طرفيها ثقبين يُربطُ فيهما حبلٌ طويل يصلُ إلى متنِ حصان قوي يجرّ به النورَجْ يضع الفلاح ربطاتَ سنابله على شكل دائرةٍ واسعه ، يضعُ النورَجْ ذي الأسنان الصوّانيّةِ الحادّة فوق المصيد ويربطه في متن الحصان ، ونقفزُ فوق النورَجْ فتيّان أو ثلاثة ، يسير الحصانُ فوق دائرة الحصيد تقطعُ سكاكنهُ سنابل القمح ، ونحن نغني وتعلو أصواتنا لهذا السفر الجميل ، نتقافزُ من على النورَجْ ونرجع اليه ، وحين نتعبُ نجلس ونسمعُ تقطّعَ السنابل ، ،ندور وندور ساعاتٍ حتى تختفي السنابل ويكون الحصيد قد صار تِبناً مُخلِطاً بحبات القمح السمراء ، ثمّ يأتِ دور الرجل الكبير الذي يفصل القمحَ عن التبنِ ب( المدراة) معتمداً على اتجاه الريح وينفصل القمح عن قَشِّه الذي صار تبناً ، وتُملاُ أكياس القمح خيراً وبركه . قال الفتى مُتخابِثاً : وهل عرفتَ جدتي على البيدر ...؟ قال ابو اسماعيل : نعم ، وقد ركبنا سويّاً على النورَجْ ، وضحكنا قالٰ الفتى غامزاً بعينهِ : وهل قبّلتَها فوق النورَجْ ..؟ قال ابو اسماعيل بهدوء : كانت ابنة خالتي ، لم تكن الأمور مُعقّده قال الفتى وهو يُحرّكُ يديه موحياً لشيء مائع خفيٍّ : جدي ، قل الصراحة ، لاتزعل .. وبعدين شو صار .. قال الجدُّ : طوّقتها بساعدي كي لا تخفْ من سرعة الحصان ، وفي ليلةٍ صيفيّةٍ كان قمرها بدراً يغمر ضوءهُ الفضيّ السماء والبيدر توادعنا على الزواج ووعدتها بسفرٍ آخر طويل ... طويل ْ ثمّ أطرقَ كعادته وقال بصوتٍ خفيض : قَدرُ الفقراء ان يسافرون في دائرةٍ ضيّقه .. فَوْقَ بيدرٍ ما .. قَدرُ أحلامهم أن تبقى رهينةَ المكان الضيّق والدائرة الضيّقة. كان الفرَحُ يوأَدُ على البيدر ،حينَ يأتي ( المعلم) الذي يُقرضُ المال للفلاحين ، يأتي مع رجلين يحملان القبّان ( ميزانّ يدوي) ورجلين من (الشرطه) ،يفتح دفتره ويزنُ القمح الذي يتوجب على الفلاحين لقاء ديونهم .. وهكذا تُصبح الغلالُ كلَّها( للمعلم). ... ايه ... ايه ... الله يرحمك يا بلقيس .. قال الفتى : مَنْ هي بلقيس ...؟ قال الجدُّ: هي إمرأةٌ قويّه ، هجمتْ على (المعلّم )... صرختْ في وجهه : أيُّها الحقير يللي ما بتخاف الله .. ما تركت شيء للعالم ، ان شاء الله ما بتشبع ... ولَك روح الله ياخد روحك ... شو بدهم ياكلوا الأطفال .. مزَّقت بلقيس فستانها فوق صدرها وهجمتْ .. ضربتْ الشرطي الذي وقف يحمي ( المعلّم ) .. طرحتهُ أرضاً وبصقت على وجه المُعلِّمُ .. : تفوه عليك يا ابن الساقطة .. ابتعد المعلّم وجلس على حجرٍ كبيرة كانتْ هناك وأوعز لعمّاله : أعطوا كُلُّ عائلةٍ كيساً من القمح هديّةً من حسابي قَالَتْ بلقيس بصوتٍ مسموع : الله لا يكتّرْ خيرك .. قلتُ لأبي اسماعيل : أي نعم ،كانت أيام ذُل .. وتعبْ قال ابو اسماعيل : وكان النورَجُ يطحنُ السنابل َ فتنزفُ دماً وعرقاً .وكان القمحُ معجوناً بهما .. رجعَ ابو اسماعيل إلى إطرقاته المعهودة ، وحين رفع رأسهُ كانت دمعة حائره تلمع في عينه .. نهض وهو يقول : انتهى زمن ( المعلّم) ولكنّه لم يكن ليسجن أحداًأو يعدِمَ ويمحو أثرَ من يعترض ،كما غيّبتْ دولةُ الظلم الجديدة وعسسُها ولدي ، وشباباً آخرين .. وكما أزهقت هذه الحرب اللعينة أرواح العباد وقطعت البلاد واختلطت اشلاء البشر بالحجارة التي كانت ابنيةً تنبض بالحياة الله يرحم ترابك يا بلقيس ، ويرحم أيام زمان وأيام البيدر .. قال الفتى مُتأثّراً : هلّق عرفت أنَّ بلقيس هي من كانت معك على النورَجْ...
#كمال_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجلموق
-
الغربال
-
الأبلق مختار الرعوش
-
حلساء .. ملساء
-
ظِلالْ
-
حكايا جدو أبو حيدر -30-
-
حكايا جدو أبو حيدر -29-
-
حكايا جدو أبو حيدر -28-
-
حكايا جدو أبو حيدر -27-
-
حكايا جدو أبو حيدر -26-
-
حكايا جدو أبو حيدر -25-
-
حكايا جدو أبو حيدر -24-
-
أوجاع
-
حكايا جدو أبو حيدر -23-
-
حكايا جدو أبو حيدر -22-
-
حكايا جدو أبو حيدر -21-
-
حكايا جدو أبو حيدر -20-
-
حكايا جدو أبو حيدر -19-
-
آمِنَة
-
أوراقٌ خريفيَّة
المزيد.....
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|