|
التيه ، رواية كاملة
محمد شودان
الحوار المتمدن-العدد: 5536 - 2017 / 5 / 30 - 22:12
المحور:
الادب والفن
التيه توقف قليلا في منتصف الممشى الإسمنتي الرابط بين الإدارة والباب الخارجي، حتى يسمح لنفسه بتعديل وضع الحقيبة على ظهره، وبعد ذلك، أمسك بيسراه الوثيقة التي مده بها مدير السجن، فتأملها وهو يمشي ببطء، كان كأي عالم آثار أخرج لتوه قطعة أثرية؛ رأى حروف اسمه واضحة المعالم، فقد كان مكتوبا بالبند المضغوط، بارزا، كأنه يناضل بين الحروف، حتى لا يتيه في الكلمات الروتينية التي تتكرر في كل الوثائق الأخرى. استطاع تهجي الحروف تباعا، واسمه، هو الكلمة الوحيدة التي يستطيع كتابتها بإتقان، والتعرف عليها أيضا من بين ركام الكلمات بسرعة، وهذا كل ما تعلمه في السجن. في أسفل الوثيقة، يتربع ختم إدارة السجن المدني، وهو كتابة في دائرتين تحتهما طابع مستطيل، وتوقيع عجيب يمينهما، أما إلى اليسار فكُتبت جملة تتجاوز كلماتها ربع السطر؛ دوَّنها الموظف المرافق للمدير بقلم حبر جاف تحت توقيع السجين. بعد ذلك، وكأنه يكتشف الأشياء لأول مرة، اطلع على بطاقة هويته، تلك التي استرجعها بعد نفاذ المدة التي أفناها خلف القضبان، كان يحملها بيده اليمنى كأنها رضيع، أو كأنه يتطلع إلى ماضيه المطل خلف الصورة. استمر في التقدم نحو البوابة القريبة؛ وهو يجر خطواته المتثاقلة، ودون حتى أن يعي، وجد نفسه غير بعيد من ذلك الباب الحديدي الصدئ الموصود؛ إنه الباب نفسه الذي استقبله منذ أشهر. أيقظه من سهوه حارس الباب بحركة من يده، مُرفقَةً بصوت صفارته الحاد، ذلك الصوت الذي أرغمه على أن يسترد وعيه، وماضيه القريب والبعيد، البئيس، "إنه الصوت نفسه مهما اختلفت الصفارات أو تنوعت الشفاه خلفها"،هكذا خاطب نفسه. ولما سمع هدير محرك سيارة كبيرة قادما من الخارج حدس ــ مستعينا بما حفظت له ذاكرته ــ أنها لن تكون إلا سيارة شرطة، أو سيارة إسعاف، فهذا ليس وقت قدوم موزع الخبز، وإذن فإما أن تكون سيارة إسعاف جاءت لتحمل مصابا إثر تعنيف جماعي، وهذا هو الغالب... أمره الحارس، بعنف، أن يبتعد عن الممر الإسمنتي، فحرك رأسه مطيعا، وانحرف يمينا باتجاه البيت المربع الصغير، الذي يقف كاليتيم في قاعدة الباب الجانبية. رأى حارسين مسلحين ببندقيتين رشاشتين، وقد وقفا متأهبين فوق برج البوابة، ثم تحرك حارسان آخران بزيهما الرسمي ففتحا دفتي الباب الكبير جرا من اليمين واليسار في آن واحد، وانزلقت سيارة شرطة متوغلة وهي تزمجر، ثم أغلِق الباب بالسرعة التي فُتِح بها. "لا بد أنها محملة بمحكومين مدانين، وربما بينهم أبرياء" حدثته نفسه. أمره حارس السجن، ليس الذي زجره قبل قليل، ولا أي من اللذين فتحا الباب، بل آخر، في زي مدني، ولأول مرة طوال هذه المدة، يخاطبه شخص مدني من غير السجناء، ربما، حتى يعودونه على الحياة المدنية خارج المعتقل، أمره أن يتقدم نحوه، مكتفيا بإشارة من يده وصوت خفيض يكاد لا يسمع، ثم دخل قبله إلى الغرفة ذات الشباك الحديدي، والنافذة الزجاجية. تقدم نحو الغرفة بخطوات سريعة هي أقرب إلى الهرولة منها إلى المشي، كأنه يريد إنهاء الطريق بأقصى سرعة، ثم وقف عند الباب، راقب الحارس الذي كان يطالع من خلف نظارتيه النازلتين على أرنبة أنفه الوثيقة وبطاقة التعريف. والمكتب في الأصل غرفة ضيقة جدا، أو قُلْ إنه مجرد زنزانة منفلتة من مجمع العنابر، بحيث لا تسمح بغير الوقوف عند الباب أو دونه قليلا، تتوسطه طاولة خشبية، متساوية الطول والعرض، ومهترئة بحيث لو جلس أحدهم وسطها لانبعجت، وخلفها يقبع كرسي تهشم خشب منضدته، ولذلك اختار إدريس عدم حشر نفسه فيها. ردَّ إليه الوثيقة وبطاقة التعريف بعد زهاء الدقيقتين، دونَّ خلالهما كلمات في سجل أسود موضوع عند طرف المكتب، أحس إدريس حينها كأن الوقت قد تباطأ كثيرا، فودّ لو يسأل الموظفَ عن حاله مع هذا المكان الذي لا يعلم غير الله المدة التي قضاها فيه، ولا كم من الرجال أفنى هذا القبر. نزع الحارس نظارتيه، ربما وضعهما خصيصا لتفحص ما قدمه السجين، فبدت عيناه بشكل مضحك، كان أقرب إلى الضفدع منه إلى البشر، مد يده بعيدا عن عينيه بعد فركهما، ثم كرر عليه نفس الأسئلة التي كان قد سمعها قبل وصوله إليه. صدرت هذه الحركات عن الحارس، وهو يعيد نظارتيه من جديد، استعدادا للكتابة مرة أخرى، لكن على ظهر ورقة بيضاء هذه المرة: ــ هل عندك معارف في هذه المدينة؟ إلى أين ستذهب؟ زودنا بعنوانك". ثم أردف: ـ أوف ! إدارة اتكالية، إنه عملهم بالداخل، هذه ليست من مهامي. ـ لقد طرح علي أحد الموظفين الأسئلة نفسها سيدي، لكنه لم ينتظر مني جوابا، بل رافق المدير دافعا إياي خارج المكتب، ربما كانت عندهم حالة مستعجلة ! ــ ما الطارئ الذي قد يستعجل أحدهم هنا؟ الزمن نفسه يشتكي من التباطؤ والملل، طيب، أجب باختصار. ــ إلى أين قد أذهب؟ فكر مليا في عش قد يؤوب إليه، ففرت به الذاكرة بعيدا، ووجد نفسه مقتحما أمواج الماضي بمركبه الصغير. المدينة القديمة بفاس؟ لا، لن أعود إليها أبدا، وحتى لو شئت ذلك، فماذا سأفعل هناك؟ لا أهل ولا بيت ولا...أبواي توفيا في تلك الحادثة المشؤومة، ولطالما رفض أخوالي تبنيَّ، ولا حتى كفالتي. أعمامي؟ يا ليت! أنا أصلا لا أعرف أصل أبي، وهو لم يحدثني عنه يوما، ظل يقول إنه مقطوع من شجرة؛ ولم يكن سوى عامل مياوم في فرن الحومة التقليدي، لفظته إحدى خيريات مدينة الدار البيضاء بعد أن بلغ سن الثامنة عشر، ـ هكذا كان يقال ـ وهروبا من شبح اللقيط قصد مدينة فاس، فاحتضنه صاحب فرن تقليدي وعلمه أصول المهنة؛ جدي لأمي، ولشطارته وإخلاصه بات منافسا لأخوالي المتكاسلين، وهذا منبع كرههم لنا، ثم، وبعد أن صارت أمي حاملا بي منه، لعن الله تلك اللحظة التي جمعتهما، زوجه جدي إياها وأدخله البيت، فبقي معهم هانئا مسالما، رغم النظرات واللمزات. تُوفي جدي ، ذلك العام المشؤوم، فحرَّم أخوالي الدار على الوالد بعد العشاء الثالث للجنازة، رأيت بعيني هاتين كيف كانت أمي المسكينة المغلوبة على أمرها تبكي أمامه تحت ضوء عمود النور في الزنقة، ولأنه رجل، وليس مجرد ذكر، كما كان يردد ليلتها، فقد قصد طنجة، المدينة الواقعة عند التقاء البحرين، وما إن أمّن عملا وبيتا بالإيجار، حتى عاد ليأخذنا، وينقدنا من المذلة التي أغرقنا فيها أخوالي، لا سامحهم الله. كنت نائما في الحافلة ليلتها، ولما صحوت وجدت نفسي في المستشفى، معافى إلا من جروح خفيفة، فاستقدمتني الجدة إلى الدار الكبيرة رغم أنف أخوالي، وبعد أيام علمت بالخبر المفجع؛ خبر وفاة الوالدين. تقبلت يتمي وتعايشت معه، فما كنت أحلم بأكثر من الأمن، ولا طالبت بغير الخبز، بل ونفذت بالحرف كل ما كان يطلب مني، ولما اشتد عودي قل احتمالي لمضايقة الأخوال ونسائهم: "من يأمن بقاء سليل الخيانة هذا بين نسواننا؟" "ذلك الغصن من تلك الشجرة"... لملمت ملابسي في محفظة، وتحت جنح الظلام خرجت فقصدت المجهول، وحيدا كنت، أنا والقمر. أحدٌ لم يفتقدني، ولا روح الوالدين. تجنبت دخول المدينة القديمة ما وسعني، إلا في ذلك اليوم المشؤوم الذي أفضى بي إلى هذا الجحيم. ــ "هيه، إني أنتظر!" صاح الحارس ملوحا بالورقة. ــ لا أدري! ــ طيب، هاتنا عنوانا، مهما يكن. ــ سجل العنوان الذي تشاء. سجل الحارس شيئا على الورقة، ابتسم بمكر وهو يدسها في سجله الأسود، ثم أشار من تحت الشباك للحارسين بأن يسمحا للسجين بالخروج. وهو يبتعد عن المكتب ذي الشباك الحديدي، اخترق طبلة أذنه خطاب من الحارس خلفه: ــ ابحث عن حياة جديدة، واحذر العودة. تساءل وهو في آخر الطريق الإسمنتي، كيف يمكن للإنسان أن يبدأ حياة جديدة؟ وماذا عن الحياة القديمة؟ أتعوض الجديدةُ القديمةَ؟ ليس لنا من العمر ما يكفي لتجريب عدة حيوات، لا بد أن الحارس قد حفظ هذه العبارة من كثرة التكرار، فلم تعد تعني عنده شيئا. أراد أن ينبه الحارس إلى سؤال سمعه من الموظف الفظ، ولم يكرره هو على مسمعه: "هل تريد العودة إلى فاس، فنكفل لك رحلة في إحدى الحافلات، أم ستبقى في سلا؟" كاد أن يعود ليذكره بالسؤال لو لم ير الحارس البواب وهو يفتح له الباب الصغير، والذي هو في حضن دفة الباب الكبير اليمنى، فاجتاز الباب والحارسين عنده دون أن يبادلهما ولا كلمة وداع واحدة، ولا هما فعلا، فقط اكتفى الحارس بفتح الباب، تماما، كأنه آلة، وألقى إدريس رجله فصار خارجا. كل الحراس كذلك، نعم، حراس السجون جميعا، ملامحهم خالية من أي تعبير، اكتسبوا من عبوسهم، أو، ربما من فراغ قلوبهم، اكتسبوا تعابير متشابهة، فاقدة للمعنى، وموحدة إلى الحد الذي يدفع الإنسان إلى الشك إن كانوا بشرا أصلا، وإن كانت لهم قلوب وعواطف، أم مجرد محركات، الله وحده يعلم حالهم مع أهلهم. في الخارج، رأى طابورا طويلا من الزائرين نساء ورجالا، كانوا محملين بأكياس البلاستيك، من نفس نوع الأكياس التي كانت تصل الزنازين، إلى جميع السجناء، باستثنائه هو. لم يحَدِّث أحدا في سبب ذلك النضوب غير المبرر، ولا واحدا منهم سأله في ذلك؛ فقد كان قليل الكلام، قليل الثقة، وطيلة الأشهر الستة، لم يربط ولا علاقة عابرة مع أحد، لكنه كان يعطف على الجميع، خاصة حمودة الصغير. حمودة، الذي كاد رئيس الغرفة "خطوطو" الشرس أن يغتصبه في إحدى الليالي، طبعا لولا تدخل خَلَفِ ابن الخيرية هذا؛ استفاق إدريس فجأة على صوت أنين سمعه، وبخفة بديهته أحس بما يدور في الزنزانة، ثم، وعلى بصيص الضوء الضعيف المنبعث من الكوة، سدد ركلة قوية إلى مؤخرة رئيس الغرفة الذي كان عاريا فوق حمودة وهو يخنقه بيده حتى لا يصيح. كانت الركلة كفيلة ليس بإبعاد الأذى عن حمودة فقط، بل بجعل المغتصب يقبل الأرضية بعنف. قامت الدنيا والبلبلة، وما قعدت إلا بدوي صوت الصفارة، ثم أضيئت الغرفة، ودخل حارسان، فرفعاه من فوق خطوطو وهو يلكمه، والأخير عاريا. ما كان أحد من نزلاء تلك الزنزانة المزدحمة يحقد على إدريس، ولا كان منهم من يحب خطوطو المتعجرف، فقد عاش المقهورون تحت رحمته طويلا؛ وقلما ناموا هانئين مطمئنين. لقد كان اللواط منتشرا في بعض الزنازين، ولكن زنزانتهم كانت شبه هادئة، ولذلك وقفوا وقفة رجل واحد إلى جانب إدريس، وشهد الجميع بما اقترف المجرم، فتم إبعاده، وهكذا ضمن إدريس صداقات، ولاسيما نصيبا طيبا من كل المؤن التي كانت تأتي مع الزيارات. تحسس جيبه، فوجد بعض الأوراق المالية وقطعا نقدية معدنية، أعادوها له بعد نفاذ مدة محكوميته، فقصد مقهى قريبة من السجن، جلس على كرسي متموقع تحت الشمس قليلا؛ بحيث سمح له موضعه بحماية رأسه تحت ظل الشماسية، وإطلاق رجليه تحت الشمس، ممددتين. طلب من النادلة قهوة سوداء لما وقفت أمامه، ومسحت الطاولة بمنشفة صفراء اجتذبتها من طرف وركها حيث كانت معلقة، ولما عادت أعقابها تتبعها بعينيه متمليا بمشيتها؛ إنها في مثل عمره تقريبا، فملامحها أخبرته أنها لم تتجاوز العشرين إلا قليلا، والله وحده أعلم بما دفعها للعمل في مثل هذه المهنة. إنها جميلة ــ خاطب نفسه ــ ومكانها بيت الزوجية، لتخدم زوجها وحماتها وأبناءها، لا خدمة من هب ودب. قدمت له فنجان القهوة باسمة، فرد عليها بابتسامة خفيفة، ثم أخذ الكأس مباشرة بعدما وضعتها، رشف الرشفة الأولى مُرَّةً، فاستغربت منه ذلك؛ عقدت حاجبيها وهي تغادره إلى زبون آخر، ثم أشارت إليه بسبابتها أن "ضع طوب السكر واخلطه بالملعقة". فعلت ذلك وفغرت فاها بضحكة رائقة، لكنه لم يعر حركتها اهتماما، لأنه قد تذوق مرارة القهوة عمدا، لا سهوا ولا غباء، فهي أشبه شيء بالحياة؛ الحياة في الأصل سوداء حالكة، ومرة، لكننا نضيف إليها تحلية لنستسيغها ونتلذذ بها، ثم إننا ندمن القهوة كما نحن ندمن الحياة نفسها. استلذ مرارة القهوة فلم يضف لها سكرا، ولما كان منتشيا بحريته فقد غاب عما حوله حينا، ثم عاد بفكره إلى المرأة/النادلة، خاصة لما رآها عند طاولة زبون غير بعيد. وكان ذلك الزبون يطالع نهديها النافرين بينما هو يحدثها، وفي اللحظة التي انتصبت لتغادر طاولته، أشاح إدريس ببصره بعيدا، تماما قبيل التفاتها جهته بأعشار في المائة من الثانية؛ فعل ذلك حتى لا تعلم أو تظن أنه يراقبها أو ما إلى ذلك. غار في أعماق نفسه فلم يجد قطرة ميل إليها، وأما ما بدر منه، فقد عزاه إلى الغريزة المكبوتة لمدة أشهر؛ فقد عادت بعد ضمورها مدة الاعتقال، وخاصة لما حركتها مؤخرة النادلة وصدرها البارزين. للعلم، لا يجد إدريس في نفسه ميلا إلا إلى النسوة كبيرات السن، ربما، لأنه يجد في أحضانهن دفء الأم المفقود، أو لأنه متأثر بتجارب سلبية؛ مثل اليوم الذي خرج فيه مع تلك المراهقة، وحتى أوضح، فهو لم يخرج معها إلا لدفع الشبهات عليه، وبصفة خاصة ليضع حدا لتنكيت إسماعيل الحلاق، لعنه الله، طريقه كلها شرور. ــ هل قدمت مسافرا؟ انبعث الصوت الأنثوي من خلفه هامسا كالحلم، أو كصحو أخرجه من الحلم، التفت ليجد النادلة عند الطاولة خلفه، إلى جانبه قريبا، تأمل جيدها في صمت حين اقتربت أكثر، فوجده خفيف السمرة، ولما لم يجب عن سؤالها ألحت عليه وقد انحنت متكئة على الطاولة بيد، وواضعة يدها الأخرى على منضدة الكرسي حيث يجلس، فجاءها الرد باردا كأرض الزنزانة: ــ نعم، قبل أربعة أشهر، ثم أضاف: في سيارة السجن. تأمل ملامح وجهها إن كانت ستتغير، أو أن تنقبض أساريرها لما عرفت أنه قد كان سجينا، لكن هذا لم يحدث، بل طورت السؤال: ـ من أين؟ ـ فاس ! ـ آه، أنت فاسي إذن، أتحب أكل الخليع على الفطور، أم حلوى الكرواصة (هلالية) والشاي مثلنا؟ خرج سؤالها بنبرة فاسية ضاحكة، ثم تركته مستجيبة لنداء زبون. هل أنا فاسي؟ لقد عشت حياتي كلها وأنا ذلك الغريب، هذا ما قُدِّر لي؛ منذ فتحت عيني بين أخوالي، وحتى لما استقر بي المقام أخيرا في تلك الغرفة التي كنت مستأجرا في حي الزهور الشعبي، آه يا تلك الغرفة! ربما اقتحمها صاحب الدار بعد غيابي في السجن، وإن فعل ـ وهذا مؤكد لأنه لن يحجزها لسواد عيني ــ فسيكون قد غنم قنينة غاز صغيرة، والحد الأدنى اللازم من الأواني، وفراش بسيط، وتلفاز صغير. ماذا لو لم؟، لا، ليس الآن، لا... مرت النادلة قريبا منه، وابتسمت له بدلال، فرد عليها بانحناءة هادئة، أحس كأنه قد جعلها تنجذب إليه برزانته ورباطة جأشه، هكذا راودته نفسه، فتساءل: ــ ما الذي أعجبها مني؟ هل اغترت بعضلات صدري وذراعي؟ هذه العضلات التي روضت بالتمارين الرياضية التي كنت أملأ بها ساعات فراغي الدائمة بالسجن؟ إنها امرأة غامضة ومغرية، ولكن إلى متى سيجرني الإغراء والإغواء؟ ودوما، إلى دماري؟ لاحقت تلك الشابة، فجرتني إلى ذلك الحي الشعبي لتتلقفني أيدي عصابة حطمت عظامي ضربا بعدما وجدوا جيوبي فارغة، فأدركت أخيرا، بعد الدرس الصعب، أن الفتاة لم تكن إلا طُعما/إغواء، ثم بعدها... لا، يجب أن أنسى ذلك، إلا هو، إنه آخر ما يمكن تذكره، الله وحده سينتقم لي ممن ظلم. أحس كأن الذاكرة ستنفجر عليه من كل الجهات فلم يستطع مقاومة تدفقها: ماذا لو سألتك سمراء الجيد عن سبب سجنك؟ ما الحكاية التي ستنسج؟ أو تلفق؟ ألن تجد نفسك، وأنت في لحظة صفاء تحكي لها أنك كنت عائدا من يوم عمل شاق، تماما بعد حصولك على أجرة الأسبوع، التي في جيبك الآن، وأنك دخلت غرفتك فوجدت قنينة الغاز فارغة، وأن بطنك الجائع لم يمهلك وقتا لتستبدلها بغيرها فتنعم بكأس شاي منعنع وخبز مغمس في الزيت كعادتك، فخرجت طالبا مطعم الحي على وجه السرعة، وأنك قد مررت في طريقك بإسماعيل الحلاق، الذي غالبا ما كنت تجلس عنده ساعات المساء والليل. ولما دخلت الصالون لم تجده، ولكنك لمحت إبريق شاي يتبخر دفئا، وإلى جانبه كأسا وصحنا مليئا بالسفوف فلم تتمالك نفسك، فوقعت فريسة الجوع والإغراء؛ قالت نفسك: ذق! فذقت، ثم جاء الأمر المغري، كلْ لقيمات ريثما عاد، وهكذا تابعت؛ ملعقة تتلو التي قبلها... لما دخل إسماعيل زعق لِما رأى أولا، لكنه كتم غيظه أو ضحكته بعدها، وأنت، أيها الغبي لم تنتبه، ولم تستفسر، بل ولم تعتذر حتى؛ انتشيت بانتصارك، فبدا لك كأنك قد ثأرت منه لنفسك لأنه شرب كأس الليمونادة خاصتك ذات سهرة مع الأصدقاء، فقلتَ له وأنت تغادر الصالون: "الله يخلف عليك، لقد كان لذيذا". إن الذاكرة الآن محَفزة حد القفز على الأحداث، كأنها صبية تلعب بالحبل، ولكن صورها لا تزال ضبابية، ولا يزال إدريس يعمل جاهدا على طمسها. تمنى لو كانت الحياة شريطا يمكن التحكم فيه، إذن لقص هذا المقطع البئيس من حياته، فأخذته الفكرة بعيدا؛ لو كانت الحياة البشرية شريطا سينمائيا لوجب قطع جزء كبير جدا منه، ولكن هل سيكون ذلك كفيلا بإزالة البؤس؟ محتمل، لكن ذلك أبعد من الواقع، لا بد أن هناك حكمة إلهية تحرك خيوط اللعبة، فربما تجربة الألم هي الأصل في الحياة، فما يمكن أن تكون السعادة دون شقاء؟ بل وكيف يمكن تحديدها؟ لأنها من الأشياء التي لا نحسها فقط، بل نعرفها بنقيضها، ولولا النقيض لما عرفناها، ولو لم يطرد آدم من جنة السماء ليواجه شقاءه في الأرض لما أدرك النعمة التي كان يرفل فيها، ربما تجربة الألم سبيل لإدراك نعم الله ومعرفتها؟. حدق بعينيه باحثا عن النادلة السمراء، فلمحها وهي منهكة في خدمة الزبناء الذين توافدوا في لحظات متقاربة كأنهم كانوا على موعد، ولوهلة اختلطت عليه الأحاسيس، هل هو منجذب إليها، أم هي التي انجذبت إليه؟. "آه، إنه الإغواء مجددا، لا بد أن أفر بجلدي، وبماضي، وببؤسي"، هكذا حدث نفسه، فحاول أن يتحاشاها لما رآها قادمة نحوه بابتسامتها العريضة، كانت تحمل على راحة كفها صينية مليئة فظنها طلبية لزبون خلفه، لكنها توقفت عند طاولته هو، فوضعت الصينية وجلست أمامه، ــ أظنك جائع أيها الفاسي السجين. ــ لا بأس، لا بأس، لا شهية عندي الآن، ثم، في الحقيقة، لقد كان الفطور آخر وجبة تناولتها في سجن الزاكي. ــ كذاب ! اضطرب في مكانه، فقد صدمته الطريقة التي نطقت بها تلك الكلمة، وفجأة لم يجد جوابا، وهي أيضا لم تنتظر منه ردا، بل وضعت على الطاولة كأس شاي دافئ وحلوتين هلاليتين، واحدة منهما كانت مذهونة بالجبن والأخرى فارغة، ثم أخرجت سيجارة من الحقيبة الملتفة حول خصرها، فوضعتها أمامه وانصرفت، وقد ازدان وجهها ببسمة الرضا. وجد يده تمتد نحو الحلوى المذهونة أولا، فقضم منها قضمة بملء فمه، وأردفها رشفة شاي، فوجده حلوا ودافئا ولذيذا... بعد دقائق أكمل الفطور، ثم داعب السيجارة بأصابعه وهو مستغرق في اللاتفكير، كأنه قد خرج من حدود الفضاء، ــ ولاعة؟ سألته، وقد وقفت عليه مجددا فرد عليها: ــ لا، لا أدخن، شكرا. ــ طيب، بالصحة والراحة. أخذت السيجارة، وأعادتها إلى مكانها من العلبة المفتوحة، ثم جلست قربه، لم تكد تنطق بكلمة حتى سمعت تصفيق أحد الزبناء في الطرف الآخر، فقامت متأففة وهي تغمغم: ــ " أوف، طلبات هذا الأحمق لا تنتهي". فكر في أمر السيجارة؛ "هكذا هو حكم الناس المسبق على السجناء، ترى كيف فهمتني لما أخبرتها أني لا أدخن؟ هل يعني أنني رغبت في إعطائها صورة الفتى الصالح الذي تتمناه كل مقبلة على الزواج؟" قرِف من الفكرة؛ فهو في الأصل ليس مدخنا، ولا يتعاطى المخدرات، لكنه يشرب الخمر أحيانا، وأول ما تناول مخدرا ـ ولو بالخطأ ـ جنى على نفسه. لقد كان صحن السفوف في صالون إسماعيل خليطا مخدرا، يدعى المعجون، وفي لغة أهل الاختصاص يسمى القرطاس والطيارة وغيرها، ولأنه تناول السفوف المخلوطة بالمخدر على الجوع، فقد لعب المخدر بعقله، وأثر عليه بقوة. يذكر، وقد أسعفته الذاكرة، أنه اقتحم المنطقة المحظورة "المدينة القديمة" ذلك المساء، فجال في أزقتها الضيقة، وبينما هو كذلك إذ رأى بغلة محملة بالبضائع؛ كانت مقبلة اتجاهه بلسانها المتدلي، فبدت له كأنها ستلتهمه، ففر منها. ركض وسط الزحام وهو يلهث حتى تقطعت أنفاسه، كان يلهث وقد تدلى لسانه كالبغل، رأى نفسه بغلا ظمآن، فكرع على ماء آسن وشرب حد الارتواء من تجمع ماء المجاري، وأمام أعين الناس وعجبهم، لا يزال متأكدا أنه سمع بعض المارة وهم ينهرونه عن ذلك، وربما ركله أحدهم فلم يرد عليه، لأن عليه ــ ككل بغل ــ أن يتحمل الركل والضرب، ثم خرج من فاس الجديد، التفت يسارا فرأى حديقة القصر في شارع العلويين، وككل بغل، قصدها وبدأ يقطف الورود ويأكلها. سمع صفيرا من بعيد، وآخر أطول نفسا، ثم توالى الصفير من حوله، لم يهتم لأمر ذلك الرجل ذي الزي الموحد الذي كان يلَوِّح ويزمجر وهو يعدو نحوه، جزم بأنه لا بد بغل منافس، لذلك وجب عليه أن يقطف جل الورود، حتى إذا ما وصل البغل ذي الزي الموحد، فلن يجد شيئا، هكذا حدثته نفسه، وذلك ما فعل. ولكنه قبل أن يشبع رغبته، وجد نفسه قد اختُطِف من مكانه، وأُلقِيَ به في سيارة. ارتاح للأمر؛ وفهم منه أنه قد صار سمينا، وأنهم آخذوه إلى السوق، ففرح بالفكرة، أقلها سيتغير مالكه ومرعاه، وفي هذا مدعاة لسعادة البغال وغيرتهم وتحاسدهم أيضا. ما إن انطلقت السيارة، حتى بدأت اللكمات والركلات تنهال على رأسه وظهره من كل الجهات، زمل برجله كالبغال ليركل أحدهم، لكن السيارة كانت قد انعطفت فانهار على أرضيتها. في قاعة شبه مظلمة، وضعوه على طاولة، مستلقيا على ظهره، ثم كبلوه بحزام كأنه صبي مقمط. أراد أن يصيح كالصبيان علهم يشفقون عليه فيرضعوه حليبا، لكن أحدهم وضع قطعة من الإسفنج في فمه فكانت كفيلة بإسكاته، بل وكادت تخنق أنفاسه، ثم بدأت أشواط من الضرب على قدميه بالسوط، وبين كل شوط والذي يليه، كانوا يسألونه بعض أسئلة تثير ضحكه، فيضحك ويضحك حتى تنقطع أنفاسه بقطعة الإسفنج التي تعود إلى فمه، فتُوقِّع العِصِي موسيقاها على كامل جسمه. تناوب عليه الجلادون؛ حتى إذا ما كلَّ أحدهم، عوضه آخر. لم يفق من تأثير المخدر إلى أن وجد رأسه يتدلى وسط إناء قد ملئ ماء باردا، فيغمره حتى تنقطع أنفاسه ويختنق. هكذا دام موسم تعذيبه مدة متواصلة لم تتوقف إلى أن دخل أحدهم، وأمرهم أن يكفوا عما هم فيه. ــ لقد فتشوا غرفته، وتعرفنا على هويته، ليس له أي انتماء سياسي، ولا بد أنه تحت تأثير مخدر ما، ربما أكل المعجون، فهو الذي يسبب الهلوسة والهستيريا. كان لا يزال مكردسا في قماطه لما سأله ذلك الضابط الذي دخل لتوه وأنقده؛ فقال له وهو يطالع بطاقة التعريف التي عثر عليها في غرفته: ــ هل أكلت شيئا غير عادي؟ مخدرا مثلا، أو ما إلى ذلك؟ وقبل أن يتم سؤاله، قفز الجواب من لسان إدريس مندفعا بحرقة: ــ السفوف، أكلت السفوف سيدي. هكذا أجاب، وقد استعاد وعيه رغم الألم الذي لا يزال صائلا وجائلا في جسمه كله، بالإضافة إلى دوار حاد في رأسه، فخرج الأمر هادئا من فم الضابط: ــ فكوا رباطه!، امتثلوا للأمر ببطء وامتعاض واضحين، كأنهم كانوا مستمتعين بأشواط التعذيب تلك، ثم أمروه أن يلبس حذاءه، لم يستطع وضع قدميه في جوف الحذاء بسبب الانتفاخ الناجم عما نال، فأخذ فردتي الحذاء بيده اليسرى، وقام مستأذنا بالخروج، لكنه مُنِع من ذلك، ووُضِع القيد في يده. بعد أيام قليلة في الحجز نُقل إلى المحكمة ليمثل أمام القاضي متهَما بتعاطي المخدرات، وتخريب الممتلكات العامة والخاصة. انتبه من غفلته التي غرق فيها لما رأى النادلة وهي تتحرك بين رواد المقهى بنشاط، فتساءل عن السبب الذي دفعها إلى الاعتناء به على ذلك النحو؛ هل هو إعجاب، أم محاولة اصطياد؟ أما كرمُها وطيبتها فجعلاه يستثني هذه الأسباب، ولوهلة أحس بانجذاب غير مفهوم إليها، ولدفع ذلك الإحساس استهجن على نفسه هذا المكوث المطول في المقهى، وانتظار مرورها بين الحين والآخر، ثم دخل في حوار مطول مع نفسه: هل يمكن أن أبدأ حياة جديدة كما قال الحارس؟، وهل ستكون البداية مع هذه... الإنسانة، أف لهذه النزعة نحو التصنيف، إن مجرد قول هذه النادلة يعني أنني... ضحك من نفسه: أين تعلمت هذه الأحاسيس والأفكار؟ ولكن، ما معنى أن أبدأ معها حياة جديدة؟ هذا يعني زواج وإنجاب... لا، لن أنجب مخلوقا ظلما، فهذا العالم أسوء من أن أستقدم إليه كائنا حساسا، خاصة وأن مستقبله محكوم بالمعاناة سلفا، لن أقع في نفس خطيئة أبي وجدي... لا بد من مقاومة الإغواء، أنا شخص تائه ويجب أن يبقى كذلك، هذه هي الطريق التي رسمها لي قدري. وضع حقيبته على ظهره استعدادا للمغادرة، واستخرج من جيبه ورقة من فئة خمسين درهما، ولما رأى أن النادلة منشغلة بوضع بعض الكؤوس على صينيتها، لوح لها بالورقة المالية لتراها، ثم تركها تحت الكأس الفارغة، وانصرف دون أن يلتفت، كان كالهائم بين تفاصيل الذكريات، وثنايا الشوارع؛ راح يذرع الطريق في غير اتجاه، فتبعت قدماه الشوارع والأزقة كيفما التوت، حتى ألجأته إلى حي راق. انتبه على نباح كلب أسود، كلب صغير مهجن، كأنه رزمة صوف تتدحرج وتنبح، ولما انتبه فجأة إلى تفاصيل الحي، أحس أنه كان غارقا في ما لم يذكر منه شيئا، لكنه في هذه اللحظة من الصحو، وجد نفسه محاطا بأسوار الفيلات الهادئة، والشجيرات المطلة من خلف الجدران. توقف فجأة حين أحس بضيق شديد في صدره، ووجد أن لسانه قد جف من العطش، كأنه قضى مدة وسط البحر. البحر إذن، لمعت الفكرة في ذهنه كالبرق الوامض، فما أحوجه إلى برق يضيئ ظلام حياته، ويمطر فيهدأ روعه، وما البرق إلا وعد بالمطر. "آه متى تمطر سمائي فتهدأ روحي؟، لا بد أن أقصد البحر، فمجرد النظر فيه ـ كما يقال ـ يبعث الراحة والطمأنينة". هكذا حدثته نفسه، ولكن أين السبيل إلى البحر؟ خاصة من ذلك الموقع، وجد نفسه تائها بين المنازل الراقية المتشابهة، ولأنه لا يعرف خارطة المدينة فقد أحس بالضياع والحاجة إلى مساعدة فتبع الكلب وهو يعود استجابة لنداء غير بعيد، ولما انعطف مع الجدار الأول رأى حارسا جالسا في دكته، وهو الذي كان ينادي على كلبه ليعود إليه، فقصده. بادر إدريس بتحية خفيفة قبل توقفه على مقربة من الطوار حيث تقف دكة الحارس، فقوَّم العجوز ظهره وهو يرد التحية بصوت خافت يكاد لا يسمع، ثم استقام كلية في جلسته وهو يدفع ظهره براحة كفه، فبدا من حركته كأنه يشكو ألما من كثرة الانحناء. استسقاه كأس ماء، فانحنى ليلتقط من جانب كرسيه كأسا وقربة، وإذ هو يصب الماء من قربته سأله إدريس: ــ أين السبيل إلى البحر يا أخي؟ تطلع إليه بهدوء وهو يعيد القربة إلى مكانها وقال ــ البحر، إن لم تكن ابن المنطقة فقد تضيع قبل أن تصله. أمسك إدريس الكأس بيده، ثم رفعها محاذيا بها فمه، وقال: ــ لا، لست من هنا، فدلني على الطريق رجاء. ــ عد أدراجك، إلى أن تخرج إلى الشارع الكبير من حيث أتيت، ثم انعطف يسارا، وخذ الطريق إلى مفترق الطرق الكبير، ستصل إلى إشارة مرور ضوئية، ومن هناك انعطف يسارا مرة أخرى، خض ذلك الطريق النازل إلى آخره، عندها ستصل الشاطئ. شرب ما بالكأس دفعة واحدة، وتنفس الصعداء، ثم أدار الكأس المطلية بالقار في يده متأملا؛ إن الشرب من الكؤوس المطلية بالقار يضيف إلى الماء نكهة منعشة خاصة، فيجعله طيب المذاق. ثم طلب زيادة كأس أخرى لما رأى يد الحارس تمتد إلى الكأس في يده، كأنه يطلب منه تسليمه إياه. ــ الماء هنا بارد وطيب، أرجوك، ارو عطشي. ــ الحمد لله، الماء نعمة الله، وهي النعمة الوحيدة التي فاضت من الجنة فملأت الدنيا حياة. ــ (وجعلنا من الماء كل شيء حي) قال إدريس مزكيا كلامه. ــ صدق الله العظيم، ورحم الله من علمك، ثم قال ناصحا وهو يصب الماء ثانية: ــ لا تشرب الماء دفعة واحدة يا ولدي، ولا تشربه واقفا، هكذا علمنا رسول الله، وقد أثبت الطب الحديث أن الشرب في وضعية الوقوف يؤذي عضوا ما، لا أعرفه، ربما الأمعاء، أما الشرب دفعة واحدة فقيل إنه يؤذي الكبد. جلس إدريس على طرف الطوار ليشرب كوب الماء الثاني، تماما كما نصحه الحارس، لكنه كان شاردا، فطالت جلسته. مرت بهم شابة سمراء، تجر كلبا صغيرا بحبل في يدها، وكان هو في الوضع الذي سمح له بتقصي تفاصيل جسدها كاملة، كانت الفتاة في مثل سمرة النادلة تقريبا، ولكن سمرتها لم تظهر على بشرة وجهها، لأنه كان مغطى بكريمات موضوعة بعناية فائقة، أما جلد عنقها فهو الذي كان في سمرة براقة، وظاهر أنها ربما قد طلته بمرطب فبدا لامعا، ثم إنها أكثر إشراقا مما بدت عليه النادلة، وأنحف قليلا، لا بد أنها تتبع حمية مشددة لتحافظ على شكلها النحيف هذا. مشيتها مثيرة أيضا ومنمقة، أما التنورة التي ترتديها فتقف عند حدود الركبة لتكشف عن ساقين رائعين، وهذا ما سمح لإدريس بأن يسرح بعيدا، ويدب بخياله على ركبتيها صاعدا. أعاد الكأس إلى صاحبها، وشكر له شربة الماء المنعش ثم أخذ الطريق كما وُصِفت له، فسار خلف الفتاة صاحبة الكلب قليلا؛ تبعها رويدا وهو يطالع تفاصيل جسدها إلى أن انعطفت يمينا، أما هو، فقد كان من المفروض عليه أن يأخذ الطريق شِمالا. تبع مساره كما رسمه له الحارس، ولما وصل مفترق الطرق الأول، الذي ينتهي عنده الطريق الداخل إلى الحي الراقي، التفت يمينا فرأى الشابة وهي تصعد سيارة رباعية الدفع، في حين تكلف شاب بحمل الكلب وإدخاله إلى المقعد الخلفي. تطلع إلى المسار الذي يلزمه قطعه، فبدا له الطريق صاعدا نحو مفترق طرق كبير، وعلى يمين الإشارة الضوئية يرتفع برج ضخم كأنه لتوزيع الماء، وبدا أن الطريق إليه ليس بالأمر الصعب ولكنه شاق ومنهك. على الطريق الإسفلتي تمر السيارات مسرعة، أما على الرصيف فعدد الناس قليل، وهذا لأن شمس الضحى بدأت تقرع الرؤوس من فوق، وقد زاد هواء البحر المحمل بالرطوبة من شدة وقعها على الجلد. انتبه لنفسه وهو يمشي الهوينى، وحقيبته على ظهره، ففكر: ربما سيعتبرني الناس سائحا جاء ليمضي أيام العطلة الصيفية، فلا يميزني على السياح إلا الفرق في قدر المال عندي وعندهم وهذا غير ظاهر للعيان. كان قد وصل إشارة المرور الأخيرة المحاذية للبرج لما رأى في الجانب الآخر من الطريق دراجة ثلاثية العجلات محملة بشباب هائج، وكان في الصندوق الخلفي للدراجة أكثر من خمسة شبان مرحين ومنغمسين في الغناء بصوت عال، ومعهم مظلات شمسية، فتأكد حينها أن الطريق سالكة إلى البحر. توقف قليلا ليستطلع الأمر، فرأى في مكان غير بعيد رقعة واسعة ومزدحمة بالناس، تماما إلى جانب الطريق، وبدا من الواضح أنه سوق، وهو ليس ببعيد عن المكان الذي وقف فيه. كانت السيارات كثيرة، رابضة عشوائيا في بقعة قريبة لا يبدو أنها مرآب، تماما إلى جانب أكواخ قصيرة ممتدة على مساحة كبيرة؛ دونها بقعة شاسعة، وخلفها بنايات عالية، وإذا احتسبنا الحي الراقي الذي تركه خلفه، فإن سلا هي مدينة التناقضات الاجتماعية الكبرى. التفت يسارا حيث يقف، فوجد نفسه محاذيا لمقهى في ملتقى الطرق ذاك، وإلى جانبها امتدت دكاكين لخياطة المظلات الشمسية والمشمعات، أما القاعة الأصلية للمقهى فضيقة، لكنها تعوض ذلك بالمساحة المرصوفة أمامها، حيث تمتد الكراسي في الخارج على مساحة تضاعف قاعة المقهى مرات عدة، انتابه فتور خفيف وأسى وهو يخاطب نفسه: "ألا يرى قائد الملحقة هذا؟ أم إنهم لا يسمونه احتلالا للملك العام، يوم كنت أبيع قناني العطر في الشارع على البساط المشمع بفاس، في ذلك الشارع الذي دعوه، زورا والله حسيبهم، شارع الكرامة بحي الزهور، غالبا ما كان يتدخل القائد مدعوما بالمقدم ورجال القوات المساعدة المدججين بالهراوات، فيجلينا نحن الباعة المتجولين بالقوة، كانوا يطاردوننا بحجة أننا نحتل الملك العام، يا للظلم ! لا بد أن الفرق بيننا وبين أرباب المقاهي كامن في القيمة المالية التي نمثلها، ونروجها، فرأسمالي كله، آنذاك، ما كان ليتجاوز ثمن طاولة من هذه التي تغص الممر بمقاعدها الثلاثة، وإذن فالفرق الأساس يكمن في امتلاك المال. جعلته هذه الكلمة الأخيرة يتفقد ماله، فدفع يده في جيبه، واستخرج وريقات مالية من مختلف الفئات، عدها، فوجدها مائتين وسبعين درهما، تذكر الخمسين درهما التي تركها للنادلة فتحسر، ثم انبسط لأنه اشترى بها راحة البال. بدت له من داخل المقهى نادلة بيضاء البشرة، تتمشى بين رواد المقهى بدلال، فأثارته عجيزتها المكورة البارزة، وقد زادها السروال المطاط بهاء. "أف، إنه الإغراء مجددا، أف" لقد تشكلت لدى إدريس عقدة من الإغراء، وتأكدت مع بعض التجارب؛ هو نفسه لا يعرف من معاني الكلمة إلا بقدر ما أخذه من بعض الطلبة الإسلاميين الذين كانوا قاطنين في غرفة مجاورة لغرفته بفاس، وكانت تجمعه معهم علاقات طيبة، إلى أن أحس باستغلالهم جهله في أمور السياسة والدين، وأنهم يستدرجونه لتنظيمهم، فترك البيت الذي جمعه بهم آنذاك. وقد استقرت دلالة الإغواء عنده في الانجراف نحو لذتي البطن والفرج، وهما سبب هلاكه؛ منذ اليوم الذي تبع الفتاة فالتقطته أيادي العصابة، ثم يوم أكل السفوف ففتحت في وجهه أبواب السجن، ولا أحد يعلم ما يخبئه له المستقبل بعد. حدثته نفسه في شرب فنجان قهوة، ليرتاح من مشيه قليلا، ويمتع ناظريه باللحم الملفوف، لكنه ابتسم للفكرة وترك رجليه تقودانه نحو التجمع الذي بدا له غير بعيد. في الطريق، طفت صورة النادلة صاحبة الفطور فوق بحيرة اللحظة، فلام نفسه على سوء تصرفه معها، ثم، وهو يتمشى الهوينى حدث نفسه قائلا: ـ لقد قابلت الإحسان بالسوء، آه، لو تمهلت قليلا، فربما كانت نيتها صافية، من يدري؟ ربما كانت قد مرت من تجربة ما، فعزمت على فعل الخير. أما كان عليك أن تلاطفها؟ وأقلها، ألم يكن أولى بك وأجدر أن تسألها عن اسمها، وعن ظروف حياتها؟؟ ما كنت لتخسر أي شيء لو حاولت، أيها المجنون، من وضع القيد على يدك؟. انتشلته أصوات أبواق السيارات من بحر ذاكرته، الذاكرة التي انضافت النادلة إلى ترسباتها، فوجد نفسه على الطرف المقابل للسوق من الشارع، وقف في ملتقى الطرق، تأمل المكان كأنه مهندس يريد إعادة تهيئته، لقد كان السوق ممتدا على يمينه، أما إلى اليسار، فتمتد حديقة محاطة بسور قصير عليه سياج حديدي صدئ ومتهالك. تناثر الناس في الحديقة زمرا ومثنى وفرادى، هناك أطفال يلعبون الكرة، وهنا كهول يلعبون الورق. أما من الجانب الآخر، حيث السوق، فتتعالى الأصوات، أصوات الباعة وهم يتصايحون. يبدأ محيط السوق بمحلات صغيرة تعرض فيها الملابس المستعملة وأشياء أخرى، وللمحلات جدران إسمنت لكنها مسقوفة بصفائح القصدير أو الزنك، كتلك البيوت التي تنتشر في حيي الليدو وباب الغول بالمدينة التي لفظته، على أن الأخرى هناك كانت حيطانها من الطين وليس من الإسمنت كهذه. لقد قطن مرة في حي الليدو الصفيحي، قبل أن تهدمه السلطات، وهناك تعرف على الحياة الطلابية وأشياء أخرى، ولو فرضت عليه الذاكرة حضورها فسيتذكر ليالي الشتاء الطويلة، ولكن لا مكان للذكريات الآن فهو مشغول عنها بحاضره. وقبالة هذه المحلات، في البقعة المفتوحة، تربض السيارات والدراجات النارية، التي يحرسها شابان نشطان، تراهما في حركة ذؤوبة؛ هذا ينفخ في صافرته، أو يساعد سائقا على ركن سيارته، وذاك يستخلص من الزبناء، فتراه يولج يده في الزجاجة المطلة على مقعد السائق من السيارة، ومن دون أن تترك عيناه باقي السيارات يكمش كفه على ما قدمه السائق، ومن تم ينتقل إلى أخرى. ربما ساهما حتى في تنظيم حركة السير أيضا. راقبهما قليلا، فوجد أنهما لا يكفان عن الحركة، كل عضو من جسدهما يتحرك بتناسق كالآلة، اللسانان والأيدي والأقدام. ثم فجأة، وفي غفلة منهما تحركت سيارة مركونة في آخر الطابور، وخرجت عن الصف، كان المستخلص مع زبون تأخر في إعطائه الأجرة لما أبصر السيارة الخارجة، فشرع في الصياح والهتاف مستوقفا سائقها. انتبه صديقه فلحقها جريا، لكن السيارة كانت قد صارت أبعد من أن تُدرك، وهنا انطلقت الألسن بما تيسر من الكلمات الساقطة، صادف المشهد مرور رجل ملتح وزوجته المنقبة، فانتظر إدريس ردة فعل ما، ولكن شيئا من ذلك الذي توقعه لم يحدث، فترك الجو محتقنا بين الصديقين ومضى؛ كان كل منهما يحاول إلصاق تهمة الإهمال وعدم الانتباه إلى الآخر. مر بين السلع المعروضة على البُسْط المنشورة بطرفي الرصيف، وإلى اليمين في الأرض الترابية غير المرصوفة يمر مجرى الماء المستعمل الخارج من بين البيوت القصديرية، وقد صار أسود تنبعث منه رائحة الحمأ؛ يمر محاذيا الرصيف إلى أن يصب في بالوعة بالشارع، وفيما بعد سيعرف أنه ليس في الحي قنوات للصرف الصحي، ما يضطر السكان إلى حفر حُفَرٍ يطمرون فيها فضلات أمعائهم، أما مياه النظافة وغيرها فيتم تصريفها خارج البيت ما يشكل مجاريا تخترق الحي وتتدفق إلى الشارع فتبتلعها بالوعات شبكة التصريف، أما إن اختنقت هذه البالوعات بالأوساخ الصلبة والأكياس البلاستيكية فتتشكل البرك العفنة في كل مكان. مشى بين البسط بحذر، فدافع الناس بكتفه وهو يطالع السلع المعروضة والوجوه؛ وجوه شاحبة وغاضبة، تبدو بعضها كالقنابل الموقوتة. من الباعة من يعرض أشياء متراكمة لا تصلح لشيء، ولكنه لاحظ أن الناس يقبلون عليها بطريقة عجيبة؛ فترى الرجل وسط البساط، يقلب السلعة بيديه، وهي في الغالب متلاشيات لا بد أن صاحبها قد جمعها من قمامة العاصمة والأحياء الراقية. يفتش الناس وسط تلك الأشياء المتراكمة، والبائع يصيح بعباراته التي قد تصلح لنص كوميدي، وترى الزبون يقلب ما يسمونه سلعة بيديه وبتفانٍ تام كأنه يبحث عن إبرة مفقودة؛ قد يطأ بقدمه شيئا آخر فيكسره، ولكن، لا أحد يهتم، ولاحظ أيضا أن بعض الباعة يتعاطون المخدرات علنا، وبعضهم يعرض سلعته في عربته المدفوعة أو سيارته. لم يغره الوقوف عند سلعة، ولا الانكفاء على بساط ما كبقية الناس، بل فضل السير، فراوغ بعض الباعة الذين يعرضون سلعتهم وهم واقفون في سبيل المارة؛ يقف الواحد منهم وسط الممر، عارضا ما بيده من سلعة على كل من مر أمامه، وسلعهم في الغالب إما هواتف، أو ساعات يدوية، أو حتى ملابس وأحذية مستعملة. وجد في طريقه جوقة من الناس متحلقين حول صاحب سيارة يعرض سلعة غير واضحة من شدة الزحام، أراد أن يتطلع إلى ما الذي يعرضه؟ وما هذا الذي جذب الناس بهذا الشكل؟ وقد أسعفه عنقه الطويل الذي مده بين الرقاب ليتطلع إلى ما هناك، فوجدها أحذية مستعملة متراكمة، والناس منهمكون في نبشها، حتى إذا ما راقت أحدهم فردة حملها بين يديه وشرع في البحث على زوجها، إلى أن يكتمل بين يديه زوج جيد، فيفاوض البائع في الثمن. كانت سيارة التاجر مرقمة بأرقام أوربية، وكان التاجر مرفقا بامرأة شقراء، ربما هي زوجته، إلا أنه هو وحده من كان يفاوض الزبناء، أما هي فمكتفية بالمشاهدة، ومراقبة السلعة بين الأيدي. في غمرة الزحام، أحس كأن كفا تلمسه عنوة في مؤخرته فالتفت بسرعة، ووجد خلفه شابا على وجهه علامة جرح ممتد من أذنه إلى فتحة شفته، ربت الفتى على كتفه مهدئا إياه وكأن شيئا لم يحدث، فراقبه إدريس وهو يمضي إلى أن زرع نفسه في جوقة أخرى. ركز عينيه عليه، فلاحظ أنه يحاول دفع يده خلسة في جيب شخص منحنٍ على تلك السلعة التي تجمع الناس حولها، كأنه كان منحنيا لأخذ شيئا ما، وبمجرد ما استقام الرجل واقفا، وهو يقلب كماشة بين يديه، كان الفتى قد نشل من جيبه هاتفا محمولا، أدار إدريس عينيه بين الناس، فلاحظ أن النشال قد كان تحت مرأى كثير من الباعة، ولكن أحدا لم يتدخل. وجد أمامه ـ غير بعيد ـ طريقا ضيقة مؤدية إلى ساحة فسيحة مملوءة عن آخرها بالخردة والمتلاشيات المعروضة على البسط الصغيرة والكبيرة، فتمشى قليلا بينها، ثم توقف ساهما، عاودته الرغبة في الذهاب إلى البحر بعد هبوب نسيم رطب، ولكنه وجد متعة في البقاء ومطالعة أحوال الناس، وفي غمرة تيهه وقف عليه شاب نحيل وهو يمد له ساعة يدوية، فرد عليه مصدوما: ــ عفوا يا أخي، لا رغبة لي فيها. ــ با با با... فهم أنه أبكم، فوضع راحته على صدره وانحنى معتذرا، لكن الأبكم أصر على وضعها في يده، ورغم أنه حاول التنصل منه، إلا أن الساعة قد صارت بمعصمه، ثم شرع الأبكم يقبل رؤوس أصابعه مجتمعة، دلالة على أنها وجدت اليد المناسبة، ومما زاد ورطة إدريس أنْ تدخل أّحد المارة فاستحسن منظر الساعة وموقعها من يده، وأضاف: ــ تعاون معه، لا بأس، اعتبرها صدقة، لن تخسر لو أعطيته خمسين درهما مقابلها! ثم وضع يده على معصم إدريس وقد قرب وجهه من الساعة، وأردف: ــ إنها ماركة سويسرية، ثمنها الحقيقي يتجاوز الألف درهم. ــ خذها منه إذن، ــ سامحني، أنا، ها هي عندي، قال هذا وهو يكشف عن ساعة في معصمه، ثم مضى وهو يتمتم بكلمات. هَمَّ إدريس بنزع الساعة من يده، لكن الأبكم خطف يده وقبلها، ثم فرد أصابعه الخمسة أمام وجه إدريس وهو يتوسل، استخرج إدريس ورقة من فئة عشرين درهم وعرضها عليه، لكن البائع الأصم امتنع أولا، ثم قبِل العرض في الأخير، خاصة لما نصل إدريس الساعة من معصمه، ووضعها في الكف اليمنى للبائع، فمد الأبكم يده لالتقاط الورقة النقدية ثم انصرف ساخطا. أمسك إدريس الساعة بيده، حار في ما سيفعل بها، ثم فكر بألم: ــ لا بد أني سأصبح غدا في السجن مجددا، فمصروفي على هذا النحو سيدفعني إلى السرقة كي أعيش، وأنا لا أتقنها. كانت نيته أن يقتر على نفسه حتى لا يفلس من ليلته؛ وللاستدراك خمن أن بإمكانه المبيت ليال عدة في الخلاء، ربما في الشاطئ، أو في محطة القطار، أو غيره، على أن يبحث عن عمل في البحر إلى أن يستقر به الحال. مذ كان في السجن وهو يخطط لركوب البحر في مركب صيد تقليدي، أو أقلها ليشتغل في المرسى أولا؛ كأن ينظف المراكب، أو أن يساعد في تفريغ الحمولة... المهم أن يبقى بجانب البحر، وأن ينفتح على أمواجه الفضية ومياهه الزرقاء، وحده البحر يستحق الإعجاب، مياه زرقاء تلد أمواجا فضية. كان غارقا في أمواج فكره، يمشي بين الباعة كمن يسير خلال النوم، والساعة لا تزال في يده، إلى أن استوقفه رجل: ــ بِكَمْ؟ انتبه من غفلته لما علم أن السؤال موجه إليه، ودون سابق تخطيط وضع الساعة في يد الرجل على طريقة الأبكم، ثم قال باسما: ــ جرب أولا، ولا بأس بخصوص الثمن، عدل الرجل وضع الساعة في معصم يسراه ببطئ، ثم قال: ــ طيب، كأنها صممت لي شخصيا. طالع إدريس الرجل فحدس من خلال هندامه أنه رجل ذو دخل سمين، فقد كان يرتدي قميصا أبيض وسترة شديدة السواد، أما حذاؤه، فقد كان من الجلد، راقيا وملمعا، مما أوحى له أنه لا بد جاء راكبا سيارة، ثم تذكر أن ذلك الرجل قبل قليل قد أخبره بأن ثمنها يضاهي الألف درهم، فرد عليه بكل لباقة: ــ يا أخي، إن ثمن الساعة في الحقيقة باهظ، ولكنني في حاجة إلى مال، ثم أردف مستفزا إياه: وربما لا أظنك قادرا على دفعه. ــ أجل، أعرف أن هذا النوع غال، وأنا أريدها لنفسي، وسأشتريها منك على أن تخصم لي قليلا. ــ أنت يا ابن الأصل الطيب أحق بها، ومساومتك عيب علي، أعطني فيها ثمان مائة درهم وهي لك. ــ أرجوك ! ــ ... ــ أعطيك خمسمائة؟ ــ يا أخي، والله لو كان الأمر بيدي، فما كنت لأبيعها، ولكن، لما قدر الله بذلك، فأنت يا ابن الكرام أولى بها، زدني مائة وخمسين، والله وليي. قدم الرجل المال لإدريس، ثم ذهب جذلا والساعة معه، لكنه ترك إدريس عالقا وحائرا؛ عدَّ المال مرات ومرات، فركها ورقة تلو الأخرى، وفكر مع نفسه: "هل كان هذا الرجل ملاكا أرسله الله لأجلي؟ أم إني في يوم حظي؟ ثم ماذا عن الأبكم؟ وقبله النادلة؟ فجأة قرر البحث عن البائع الأبكم، فربما ما كان بشريا، بل كائنا بُعث ليُفهمه شيئا خفيا، ربما بعثه الله بسره كغراب قابيل وهابيل، وربما هذا يعني أني ظلمت هابيل/فاطمة. جال في السوق قرابة نصف الساعة بحثا عن صاحب الساعة ليتيقن إن كان آدميا أم لا، فأرهقه الإعياء وأيقن أنه لن يجد الأبكم أبدا، خاصة وأن السوق كان غاصا بالناس. مر بالقرب من صاحب عربة يبيع فيها وجبات سريعة، فتنادت أمعاؤه طلبا للأكل، ولبى النداء. كان صاحب العربة مشغولا بقلي السردين المحشو بالتوابل، وأمامه على الشواية رُصَّتْ قطع الدجاج مصفوفة فوق الجمر المتوهج، وقد احمرت أطرافها فصارت شهية ومغرية، طلب منه سندوتشا مكونا من أربع حبات سردين ونصف خبزة. أخذ السندوتش من يد صاحب العربة، وعض طرف الخبز مباشرة بعد جلوسه على كرسي بلاستيكي، فسال المرق على أصابعه، فلعقها وتابع أكله بلهفة وتلذذ؛ لقد وجد السمك طريا وهائلا، وهو لم يذق طعاما مستساغا طوال المدة التي قضاها في السجن. كانت وجباتهم فقيرة وعفنة؛ إما قطاني تسبح حباتها في ماء أصفر، أو مرق أحمر بخضر قليلة وغير صالحة للأكل لولا أنها فرضت عليهم، وعليه هو خاصة، لأنه لم يكن في إمكانه الاستغناء عن وجبات السجن كبعض ممن عرف؛ أولائك الذين كانوا يعيشون في ترف. أما اللحم في السجن فقد كان كالخشب، وهذا أفضل تشبيه وجده. بعد فراغه من الأكل دفع للبائع عشرين درهما ووقف منتظرا الفكة، ولكم دهش لما رَدَّ إليه صاحب العربة أربعة عشر درهما؛ عرضها في راحة كفه، وعدها قطعة قطعة، فوجد الوجبة رخيصة، بعدها سأله عن ثمن فخذ الدجاج المشوي، ولما أخبره أنه بعشرة دراهم، مدها له في الحال، ثم طلب معه قليلا من الصلصة، فجعل يغمس الفخذ فيها ويرفعه ليلتقمه بفمه، وهكذا إلى أن أتى على آخره، ثم مص العظم امتثالا للمثل المغربي السائر: "اللذة كلها في العظم". قام من مكانه وقد أحس بالشبع والارتياح، فأخذ ورقة معلقة بجانب العربة، وفيها مسح يديه، ثم التف مغادرا، وهنا التقى بالأبكم صاحب الساعة، فبادره بالتحية واضعا يده على صدره وانصرف مرتاحا. ذلك المساء، أخذ دشا باردا، فأحس على إثره بانتعاش رائق أنساه تعب السوق، انتقى ملابسه بعناية، وبعد ارتدائها، رش العطر على قميصه وخلف أذنيه، ثم خرج قاصدا المقهى. جلس على الكرسي حيث تناول فطوره الأول بسلا، وعلى الكرسي الذي بجواره وجد جريدة مبعثرة الأوراق، وقد مسخت صفحاتها وصارت كورق الخريف الذابلة من كثرة الأيادي التي عبثت بها طوال النهار، أخذها إليه ونظم ورقها بروية ثم شرع بمطالعتها، منتظرا قدوم النادلة. لو قُدِّرَ آنذاك لأحد أن يجلس قريبا منه، لسمع خفقان قلبه، لم يكن في الأصل يقرأ الجريدة، بل كان محتميا بها ريثما يهدأ روعه. ترصد حركتها بين الطاولات؛ كانت مشغولة ومفتونة، ولاسيما فاتنة، وكانت المقهى غاصة بالرواد، خاصة في القاعة الداخلية، حيث احتشد الشباب استعدادا لمشاهدة مباراة من البطولة الإسبانية. بعد مدة، ربما قصيرة، وصلت عنده، فتوقفت عند حدود الطاولة أمامه، مسحتها بخرقتها الصفراء، ثم استقامت، تنتظر طلبه. ــ قهوة عادية رجاء. لم يستطع رفع بصره؛ أحس كأنه آثم، أو أن لسانه لن يطاوعه للتحدث إليها فيما كان عازما، كاد أن يهرب لولا أنها جاءته بالقهوة، فوضعت الفنجان على الطاولة، ودفعته نحوه، أما هو فظل مثبتا عينيه في قلب الجريدة، وقد عزم على الفرار بمجرد مغادرتها. ــ هل من شيء آخر؟ وضع الجريدة جانبا، وقال: ــ لا، ولكن أريد محادثتك. وضعت أمامه عشرين درهما وهي تقول: ــ اقتطعت ثمن هذه القهوة من دفعك المسبق، ثم أضافت: ــ أما الفطور، فكان صدقة مني. التفتت مغادرة، لكنه تشبث بيدها وهي مولية: ــ رجاء، افهميني، رجاء. ــ أ أتيت بكذبة أخرى؟ ــ لم أكذب في شيء مما قلته، صدقيني. ضحكت ضحكة مصطنعة وقالت: ــ أنت من هنا، مشيرة بسبابتها إلى الأرض، وصمتت قليلا ثم أردفت: ــ لست فاسيا كما ادعيت، لقد رأيتك، رأيتك مرارا. وأنت، يا إلهي! على من تحسب نفسك كاذبا؟ أنت بائع الهواتف المسروقة. ــ مسروقة! لا، أنا أشتري الهواتف من عند الناس، وأبيعها مجددا. ــ و من أين يأتي بها أولائك الذين يبيعونك إياها؟ يصنعونها؟ إنهم يسرقونها من جيوب الناس البسطاء ومن حقائب النساء، وأنت تعلم هذا، ويوما ما سيجرونك إلى السجن. قالت هذا وهي تتنصل من قبضته، ولما أفلتت، ذهبت قاصدة قاعة المقهى الغاصة بالرواد الذين بدت منهم صرخة عارمة أعقبت هدفا سجله أحد الفريقين. تركته غارقا في أفكاره؛ فتذكر حادثة الشاب الذي نشل الهاتف من جيب ذلك الرجل في السوق، وتعجب كيف أن حب الربح السريع والوفير لم يسمح له بالتدقيق في مثل هذا؟ كان كسب المال أهم هدف رسمه مذ عاد إلى السوق في اليوم الذي تلا حادثة الساعة. يتذكر جيدا أنه في صباح اليوم التالي كان كالممسوس؛ يبحث عن كل ما يمكن أن يتاجر فيه، ولما رأى رجلا يحمل هاتفا ساومه فيه، وبعد أخذ ورد ابتاعه منه بثمن بخس، واشترى آخر من رجل غيره، فنظفهما ثم وضعهما على صندوق فارغ من ورق الكرتون، وباعهما في يومه، فجنى من كل واحد منهما مائة وخمسين درهما، وهذا المبلغ، وإن كان أقل من سابقه الذي جاء بالصدفة، إلا أنه كان أفضل مما كان يجنيه من عمله مع البنائين في فاس، دون احتساب التعب. ناداها فلم تستجب، ولما رأى رجلا داخلا إلى القاعة الداخلية للمقهى رجاه أن يدعو النادلة إليه فأخبره الرجل بلطف أنه هو النادل الذي سيعوضها في هذه الساعة، وإن كانت عنده حاجة فسيلبيها له. ــ أريد سيجارة. ــ ضحك معتذرا، وقال: طيب إذن ستأتيك هي بها، فإني لم أستلم منها علب السجائر بعد. ارتاح للفكرة وقد ضمن قدومها، وبعد هنيهة أقبلت عليه، وهي تخرج السيجارة لتقدمها له: ـ وهذه، ألم تخبرني أنك لا تدخن؟ ألست كذابا؟. أمسك السيجارة ويدها، فقربها نحوه ثم قال. ــ وكيف آتي بك لو لم اطلبها؟ فأنت امتنعت عن سماعي. ابتلع ريقه وأضاف: أولا أنا لا أدخن، ثانيا، أريد أن أشرح لك بعضا مما التبس لديك ثم أنصرف. ــ طيب، أتمم شرب فنجانك سريعا، فسأخرج بعد تقديم الحساب للنادل الذي سيبقى لليل وطريقنا واحد. ترك يدها، فانقلبت قاصدة ما كانت فيه وهي تعيد السيجارة إلى مكانها، رفع الفنجان نحو شفتيه فرشف منه ثم وضعه وهو يراقب مشيتها، لقد عزم أن يفضي إليها بكل شيء، وفي الطريق وفى بما وعد نفسه؛ أخبرها كل شيء، تقريبا كل شيء، حدثها عن سبب هروبه من المقهى ذلك اليوم، وعن خوفه من الإغراء، وأسبابه الدافعة إلى ذلك. وجدت هي أن المسالة لا تتجاوز كونه قد تأثر بقول ذلك الطالب، وأن بعض الصدف ربما قد عززت مخاوفه، فاقتنع هو بذلك، نسبيا. ثم أخبرها عن الأبكم، وقد أقسم لها أنه كان يتحرى عن صاحب الهاتف قبل شرائه، وأنه عازم على ترك الهواتف وكل ما قد تأتي منه المشاكل. ــ وفيم ستتاجر إذن؟ سألته، فجاء الجواب بديهيا كأنه كان معدا سلفا: ــ في الأحذية المستعملة. ــ التي تُسرَق من أبواب المساجد؟ ضحكا على الفكرة النكتة، وأكد لها عكس ذلك بالفعل بعد القول، ففي صباح اليوم التالي تخلى عن الهواتف والساعات التي كانت بحوزته؛ فباعها بثمن القرع كما يقال. لما بلغا سور الحديقة التي على يمين الحي الصفيحي، توقفا، ولتفادي ضغط الصمت الذي هيمن عليهما، سألها وقد صارت العين في العين: ــ أين تسكنين؟ ــ هناك، أشارت بأصبعها اتجاه الشارع، ففهم أنها لا تسكن في الحي الفقير. ــ آه، فهمت الآن، وأنا كنت أعرض سلعتي هنا على الرصيف، مشيرا إلى الرصيف الذي يحد الحي إلى الشارع. لوت عنقها في دلال كأنها تتوسد كتفها وهي فاترة عن ابتسامة خفيفة، ثم دفعت بأنامل يدها خصلات شعر تدلت من مقدمة رأسها وقالت: ــ أسكن هناك، مع ثلاث بنات أعرفهن، السكن هنا في هذا الحي لا يليق بالإنسان. ــ لكني أسكنه، ومن الناس المغلوبين على أمرهم عدد غفير هنا، لو اطلعت على قلوبهم لما رضيت لهم غير الجنة مسكنا. أحست وكأنه قد انفجر عليها، أو أنه أحس بالإهانة، فحاولت أن تشرح له أنها فتاة، وفي السكن بهذا الحي مجلبة للضر والشبهات، فأكثر اللواتي يقطنَّه من البنات دون أسرهم يتعاطين للدعارة. ــ اعذريني، أنا لم أدْرِ لهذا أمرا، أصلا أنا ناء بنفسي عن الناس، ولكن هذا الحي، مهما كان بئيسا، فقد قدم لي... كل شيء. نظر إليها حتى ركز عينيه في عينيها وكرر: كل شيء. ساد صمت وجفاء بينهما، وكان هدوء الليل كافيا ليسترجع لحظات من ذلك المساء: في اليوم الأول، حين كان يطرق أبواب البيوت، باحثا عن غرفة للكراء، متحمسا بمدخوله الحاصل من ربح الساعة، ما قوى عزمه على الاستقرار. وقد فكر أن التجارة أنفع من العمل مقابل أجر زهيد، وفهم أن في الإجارة استنزاف للمجهود وقتل لروح الإبداع، لا يزال متذكرا كيف أن تلك المرأة التي قد تغضن جبينها وتقوس ظهرها، قد أدخلته بيتها كأنه ولد من رحمها؛ فاكترت له غرفة، ومدته بملاءة ووسادة، وفي الليل قدمت له صحنا من الأرز بالحليب. عجوز تسكن وحيدة في حي فقير، وتتعيش من كراء الغرف، يناديها النازلون عندها: أمي، ولا ترد إلا بنعم يا ولدي، أإنسانة هي أم ملاك؟. انتشلهم من الصمت صوت لهاث، وكان مصدره من خلف السور القصير المسيج للحديقة، فتتبع إدريس الصوت بأذنه وبصره، حتى رأى شبح شاب يستمني في الظلام، فانفجرت النادلة بضحكة أيقظت الشاب الذي تسلل بعيدا إلى أن اختفى في الظلام، فالتفتت نحو إدريس وقالت باسمة: ـ أ مع هؤلاء تطيب عيشتك؟ عجز عن الكلام استحياء، تذكر أنه لطالما استمنى هو أيضا، والاستمناء ظاهرة طبيعية في السجن؛ فعادي أن ترى شخصا يداعب قضيبه، ثم يتهيج وهو يضيف البصاق فيحتقن الدم بوجهه، ثم ينهار وهو يرتعش لذة. قد يمارسها أحدهم متخفيا تحت ملاءته، لاسيما حينما تنطفئ الأنوار فتتصاعد التأوهات، أو أمام الجميع، وفي أي مكان وزمان، خاصة في المرحاض، وما المرحاض أصلا؟: ثُقبٌ في أرض الزنزانة عند زاوية قرب الباب، وعليها حائط قصير حد الركبة به صنبور ماء صدئ. طبعا لم يخبرها بذلك، بل ظل صامتا إلى أن سألته وهي تدفعه نحو كرسي إسمنتي: ــ أأنت فاسي؟ ــ أنا فاسي باعتبار مكان ميلادي، وحَيَّانِي باعتبار أصل والدتي، فأخوالي من تيسة. أما باعتبار أبي، نظر إليها وقال بصوت خافت ومرتجف: "ربما بيضاوي"، ــ ولكن، لماذا ربما؟ ــ لأننا لا نعرف أصله، كل ما حكاه لنا، هو أنه كان في خيرية بالدار البيضاء، لا أعرف حتى إن كانت أمه قد وضعته في الخيرية مباشرة، أو إنها ألقته عند باب مسجد، أو فقط عثروا عليه في الشارع، أو مكب النفايات أو... ولما طاب لهما الجو، فإنه قد حكى لها قليلا عن أحواله مع أخواله، وعن أشياء أخرى، لكن، باقتضاب. ــ إذن، كنت تعمل بيديك، وتكسب قوتك بعرق جبينك، كيف دخلت السجن؟ أ لأنك كنت تعاشر الطلبة؟ هل تأثرت بأفكارهم؟ هل وجدوا عندك ممنوعات؟ ضحك قليلا، فقد حاصرته بأسئلتها، ثم أجاب وهو ينظر إلى نجوم السماء: ــ قطفت الورد من حديقة القصر الملكي. وضعت يدها على خدها متعجبة من جرأته، وانطلق هو يسرد لها القصة كاملة، ولما انتهى من كلامه، أضاف: لقد كانت براءتي واضحة من كل ما حاولوا تلفيقه لي؛ ظنوني منتميا لتنظيم سري، فحسبوا أني كنت ناويا على زرع قنبلة أو ما شابه، هذا طبعا كما سمعت من فم المحقق. هل تدرين لم تمت إدانتي بستة أشهر؟ ولما لم تجبه، قال: ــ ليس لأني كنت جانيا، ولكن لأني كنت معدوما، إنه الفقر، ما كان معي المال الكافي كي أعين محاميا، والمحامي الذي كلفته المحكمة لم يحرك ساكنا، ثم لأنه لا أهل لي، لكل هذا، ولنحس طالعي، ولغير ذلك مما لا علم لي به، فقد ثبتت علي تهمة تخريب الممتلكات واستهلاك المخدرات. ــ ما كان على إسماعيل أن يخلي سبيلك وأنت في تلك الحالة! كان يعرف أنك... أهذه هي الصداقة؟!. ــ كذلك كان، ومن أجل ذلك آليت على نفسي أن أعيش وحيدا، دون صداقات. ــ ولا أنا؟ قالتها وضحكت. ــ لا، أنت شأن آخر، أصلا أنا لست واثقا من نوع العلاقة التي بيننا، ثم أردف وهو يضحك: ــ أنت، إني أرى فيك أمي. ضربته على قفاه وهي تقول هازئة: ــ جدتك، ولست أمك، أأنا في عمر أمك؟ هل أبدو كبيرة في السن؟ إنما هي آثار الزمن، لو كان الوقت كافيا لتسمع عني، لعذرت، تحاملت متململة لتقوم من مجلسهما ذاك، لكنه استبطأها، فقد أغراه وشَوَّقه أن يسمع قصتها، فأقنعها بأن تبقى قليلا، وأن تحكي كثيرا؛ فالحر قائظ والشارع خالي، والناس لاهون في مشاهدة المباراة، ولا من ينتظر قدومها... ضحكت هي من كل ما تعلل به، ووجدت في نفسها رغبة لسرد حكايتها، لكنها كما أخبرته حارت من أين تبدأ، ولأنه كان متشوقا لمعرفة المزيد عنها، فقد تعمد الصمت، دافعا إياها أن تبدأ من حيث شاءت. تلعثمت قليلا، وسألته: كم يبدو عمري من خلال ملامحي؟ ــ دقق النظر إليها مليا، وتتبع تفاصيل وجهها على ضوء القمر والنور المنبعث من مصباح بعيد، ثم قال: ــ أظنك في الخامسة والعشرين. فترت عن بسمة وقالت وهي تمده ببطاقة هويتها التي استخرجتها من صدرها: ــ ماذا عن هذه؟ نظر إلى البطاقة، قلبها جهة الصورة، ثم قدمها لها: ــ إني لا أجيد القراءة. ــ كيف؟ والجريدة؟ ــ تلك التي كنت؟... في المقهى قبل قليل؟ ثم بابتسامة شيطانية: "لقد كنت أخفي فيها ارتباكي". ــ مني أنا؟ إنه لرائع أن أرى رجلا يرتبك لما يراني. ــ لقد خجلت من نفسي، تذكرين تصرفي السيئ الذي قابلت به إحسانك؟. ثم حاول جاهدا أن يشرح لها السبب الذي حفظته عليه من كثرة ما كرره تلك الليلة على مسامعها، وأقنعته أنها لم تفعل ذلك إلا لأنها رأت فيه صورة الأخ، أو الإنسان المحترِم، وربما المحروم، فمن السهل على المحرومين التعرف على بعضهم، ثم لأنه لم يكذب لما أخبرها أنه خارج لتوه من السجن، ولاسيما أنه لم يسئ معاملتها؛ ذلك أن أغلب من يأتي المقهى لا بد أن يسمعها كلمات غزل خشبية، حفظتها هي الأخرى من كثرة التكرار. لم يشأ إدريس أن يفوته سماع حكايتها، فردها إلى الموضوع بسؤاله: ــ من أين أنت في الأصل؟ أعادها السؤال لما كانت فيه، فقالت: ـ أنا من منطقة قريبة من هنا، تدعى السهول، ومن سوء الصدف أو حسنها، فإن لأبي أيضا حكاية أقرب إلى قصة أبيك، إلا أنه ليس من الخيرية. لاحظت أنه قد نكس رأسه، فأمسكت بيده وهي تقول: ــ "لم أقصد إهانتك، صدقني رجاء"، ولما رأت دمعة تسيل على خده توقفت عن الكلام نهائيا، فأقسم لها أنه لم يبك تأثرا بحاله، ولكنه بكى من الصدفة التي جمعتهما، فقد كان يظن أنه الوحيد الذي يعاني بسبب أصله وماضيه الذي لا يد له فيه، ولكن بداية كلامها أنبأته أن لها ماض مظلم وتعيس. أصر عليها أن تتابع، راجيا، وراغبا، ومستعطفا، وممسكا بيدها...ولوهلة وجدا أنفسهما قد توحدا بقبلة ودمعتين. ــ لقد كانوا يدعونه الدكالي، جاء إلى السهول فلاحا بئيسا، ومات كما جاء، كنت حين وفاته في الخامسة عشر من عمري، وكنت قد نجحت حينها في سلك الإعدادي، وانتقلت إلى الثانوية البعيدة قليلا عن الدار. زفرت من أعماقها، فاحتضنها بذراعيه قليلا، ثم تركها لتتم ما بدأته، فمسحت دمعة ساخنة نزلت من عينها، وتابعت حكيها؛ فكانت تتكلم وهي هادئة، وكان هو ساهما في مأساتها، ثم سألته على حين غفلة: ـ هل تعرف ما هو "التفريق"؟ فاته في سهوه كثير مما كانت تقول، فوجد نفسه يجيب نافيا. ـ إنه طقس جنائزي؛ فبعد وفاة الوالد ـ رحمه الله ـ كنا نذبح كل ليلة نعجة لتتلقفها البطون عشاء، وقد اضطررنا إلى بيع كبش لنوفر السميد والزيت وغير ذلك من اللوازم، وبعد انقضاء الليلة الثالثة، كما في كل جنازة، يأتي يوم التفريق، وهو اليوم الرابع؛ فخرجنا إلى القبر وقت الضحى وقد أخذنا معنا التمر والماء. بللنا تربة القبر بالماء، ثم فرقنا التمر على من حضر، وقرأ خال أمي آيات قرآنية على قبر الوالد وهو يحتضنني. لم أبك عند قبره كأمي، صدقني، والله، والحق أني صدمت بوفاة الوالد فلم أبك على وفقده فلم تجد عيني بقطرة واحدة، ولكم كنت في أمس الحاجة إليها، لقد مرضت بعد يوم التفريق أسبوعا كاملا. في الليلة الأخيرة لمرضي، وبينما كانت الحمى تقلبني على الفراش، فطنت بين اليقظة والغفلة إلى أن خالي لأمي، وهو فقيه، كان يتلو سورة " والسماء والطارق" على رأسي، ففهمت أني على فراش الموت. ــ لماذا؟ ــ سبق لي أن قرأت في أحد كتبه أن من أسرار تلك السورة الكريمة أنها تخفف وطأة الموت على المحتضر. ضحكت قليلا، وأردفت: ــ "عمر الكلب!" وقابلها هو بضحكة خاملة، وضمة حارة على مستوى الكتف. التفتت إليه لتتأكد أنه مصغ إليها، فقد شعرت براحة غريبة لما فرّغت عليه حملها، وبهذا أخبرته، ثم أضاءت هاتفها معلنة أنها لا تفصلهم إلا نصف ساعة من الزمن حتى ينتهي وقت المباراة، فتخرج الجماهير كالجراد من المقاهي، وهي تعرف طبائع شباب هذا الحي؛ إن انهزم فريقهم المفضل فإنهم سيعيثون فسادا، وكذلك إن فاز. فهم مرادها، لكنه ألح عليها أن تتابع قليلا، فقد زاد شوقه لسماع القصة، ذلك أنه ربما كان يرى نفسه في كل معاناة. ولأنها انهزمت أمام إصراره، فقد روت له كيف تدهورت أحوالهم بعد وفاة الوالد، وأنه قد خطبها رجل مسن فرفضته، وخوفا عليها من الأذى انتقلت مع أمها إلى سلا، فسكنوا أولا بقرية أولاد موسى. اشتغلت أمها في غسل الأواني بإحدى المقاهي، وفي أوقات فراغها، كانت تشتغل في بعض البيوت، إلى أن تعبت، فتخصصت في خدمة بيت عائلة راقية بالرباط، ثم إنها صارت تشكو من صدرها في أيامها الأخيرة، ولاسيما جذر ثديها، لكن ظروف العمل وقلة ذات اليد فرضت عليها الصبر والتداوي بالأعشاب، إلى أن اشتد بها المرض فزارت الطبيب. وما هي إلا زيارة، فصورة بالأشعة، ثم بالرنين، لتعرف أنها مصابة بالداء الخبيث. التفتت إليه وهي تقول: ــ "لقد قتلها السرطان" وأجهشت بالبكاء. احتضنها بين دراعيه، فأسلمت رأسها على كتفه وهي تجهش، ولما أحس بدموعها الباردة تنفذ عبر القميص قام من مكانه وأخرج من جيبه منديلا، ثم جرها من يدها لتنهض من على الكرسي، كل هذا وهو يمسح أسفل عينيها، ثم ترك المنديل في يدها لتكمل المهمة. سارا في الشارع ببطء، فكان الصمت هو سيد الموقف. لقد فهم أن هذا الوضع الذي آلت إليه هو ما دفعها لتعمل كنادلة، وأما هي فقد كتمت أشياء لا يصح ذكرها؛ رأت أنه ليس من الواجب أن تخبره عن ظروف عملها، أو كيف كانت تجربتها الأولى. ــ آسف. ــ بل شكرا لك، فقد كنت في أمس الحاجة لهذه الدموع؛ هل تعرف؟ أن تبكي أمام شخص غريب، أن يحتضنك من لم تلتق به إلا مرة واحدة فتحس كأن الكون كله قد احتضنك بدفئه، صدقني، أنا لم أبك على ماضيَّ، فالماضي لا يستحق البكاء ولا الندم، ثم أردفت وهي تتلعثم: فقط، ربما، لست متأكدة، أحسست كما لو أنه قد فاض من عيني الحنين إلى أشياء غامضة، لقد كنت غيمة جامدة، وأنت، أنت الذي أنصت إلي، باهتمام، ذلك الاهتمام والإنصات الذي حرمت منه منذ وفاة المرحومة، اهتمامك بقصتي وحياتي الغائبة عن الحضور في ساعة اللقاء، هذا هو الذي فجر هذا الحنين، وأنا ممتنة لك، فقد تخففت من حمل ظل جاثما حيث لم أك أدري. كانا قد بلغا حدود سكة قطار الشوارع عند مفترق الطرق السفلي، وصار لزاما عليهما أن يعودا، فقد تركا مسكن كل منهما خلف، والمنطقة غير آمنة، خاصة تحت جنح الظلام. اتفقا على أن يرافقها كل ليلة بعد انقضاء عمل يومها، على أن يحكي كل منهما للآخر ما تيسر، طبعا هي لم تحك له كل شيء، لكنهما تعرفا على اسم كل منهما وتبادلا رقم الهاتف وقبلات.
دق عليه أحمد الباب، فوجده منهمكا في غسل الأحذية البالية التي اشتراها أمس، أو ملء ما جف منها بأوراق الجرائد، والعرق ينز من جبينه. ذلك أنه خلال عودة بعض المهاجرين المغاربة المقيمين بأوروبا، فإنهم يجلبون معهم سلعا، والتي تتضمن ـ في الغالب ـ متلاشيات وأحذية، فيتصيدهم الباعة في السوق ليشتروا كل ما عندهم، أو أقلها انتقاء الجيد منها، وحصل أن اشترى إدريس في حين غفلة من الباعة سلعة جيدة من مهاجر، وبثمن بخس. وبعد غسلها وتجفيفها كان يملؤها بأوراق الجرائد حتى تأخذ شكل الرجل في الحذاء فيستقيم بذلك ما كان معوجا منها. أما الجرائد فقد كانت تضمنها فاطمة مجانا، حيث كانت تجمع له كل ليلة جرائد اليوم الرائجة في المقهى. ولهذه الجرائد وقع كبير في حياة إدريس؛ فأكثر من دورها في حشو الأحذية، قد علمته القراءة، وعرفته على أحمد، هذا الذي دخل بعد أن استأذن رغم أن الباب كان مشرعا، ولعلمك عزيزي القارئ، فأحمد أيضا من النازلين عند مي طامو. حين يعرض إدريس سلعته في السوق نهارا، فإنه يضع فردات الأحذية على بساط مشمع أبيض، ويترك زوج كل منها في العلبة الكارتونية قرب الكرسي الذي يجلس عليه، ولتجنب تبادل الحديث أو النظر إلى الباعة جواره أو أمامه، كان يخبئ وجهه في الجريدة اتقاء وترفعا، ولأنه كان قد تعلم هجاء الحروف وتدوينها في السجن، فإنه قد بدأ في ضم الحروف إلى بعضها أولا، ثم مع مرور وقت قصير، أتقن قراءة الكلمات دون صعوبة، وما هي إلا أيام معدودات حتى كان يفهم المقال من قراءة واحدة، فأدمن القراءة. وهو اليوم يقرأ الكتب إلى جانب الجرائد، وليس له صديق في السوق إلا أحمد، بائع الكتب القديمة، وهذا الأخير من محبي القراءة أيضا، ومن أجل ذلك فإنه قد تخصص في تجارة الكتب القديمة. ولما اطمأن إلى أن إدريس لا يخالط الآخرين، فقد تقرب منه. دخل الكتبي فوجد إدريس غارقا في عمله، والعرق يتصبب من جبينه رغم جو الخريف، ولكنه، مع ذلك، كان سعيدا، للغاية، فجلس على طرف اللحاف ثم بادر بالقول: ــ أراك منهكا في العمل، التفت إليه من فوق كرسيه القصير، ثم مسح جبينه بظهر كفه ورد باسما: ــ كيف كان أدائي؟ لقد اختطفت السلعة من بين فكوك القردة، إنها رائعة، لاحظ معي، لا اعوجاج مؤثر، ولا تمزيق أو غيره من العيوب، بعضها يحتاج قليلا من السائل المنظف، والبعض لا يحتاج إلا تقويما بسيطا بواسطة أوراق الجريدة التي تعمل كالقالب. ــ إنك محسود، سمعتهم يتحدثون عنك، هل تعلم ما كانوا يقولون؟ "إن هذا الغريب يضيق علينا رزقنا" يعتبرون أنهم وحدهم أبناء هذا البلد، وأنهم أحق بما أخذت، يحلمون. التفت نحو إدريس فلاحظ منه فتورا وعدم اهتمام، ثم أضاف، ــ لم تدعوك مي طامو بالفاسي؟ أ لأنك من فاس؟ لا بد أنك أنت من أخبرها بذلك، حقا إنها كثير التساؤل، ثم، ها إنك بطبيعتك الغامضة قد جعلتني مثلها. التفت نحو إدريس ثانية، في زاوية نظر أقرب إلى المقابلة، منتظرا منه جوابا، ولما أبطأ عليه في الرد سأله إن كان مشغولا، فأجابه بسؤال خارج الموضوع. ــ هل أحببت يوما يا أخي أحمد؟ ما إن سمع أحمد السؤال حتى قام من مكانه خارجا لولا أن إدريس قد ترك الحذاء الرياضي الذي كان يفركه بالفرشاة، وتشبث به بكلتي يديه، تماما كما يتشبث الطفل بجلباب أبيه. رجاه وحزره، وأقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يقصد ما قد فهمه منه، مهما كان. وبعد قرابة الخمس دقائق من الشرح تمكن من إعادته إلى مكانه هادئا. ولما كان قد شارف على الانتهاء من عمله ذاك، فقد التمس من أحمد أن يعد الشاي بينما يجمع هو سلعته ويوضبها في الصندوق الكارتوني، وسأله إن كان يدرك سر وضعه الأحذية في الكرتون القوي بدل الكيس أو غيره، ثم أجاب بسرعة وهو يكشف له السر المهني: انظر، إن الحذاء مهما كان نقيا، إن وضعته في كيس فإنه سيحتك ببعض، وينتج عن التزاحم طي واعوجاج، في حين أن هذه الصناديق تسمح للأحذية بأن تبقى على هيأتها. وبعد أن عبر أحمد عن إعجابه بمهارات إدريس، وضع الكؤوس والإبريق على الصينية الصغيرة، وشرع يصب الشاي في الكؤوس ويعيدها إلى الإبريق إلى أن تشكلت رغوة عالية، تماما كما يفعل أهل الصحراء. لما انتهى إدريس مما كان فيه، وجلس إلى جانب صديقه، كانت الساعة حينها تشير إلى الثالثة بعد الزوال، وأخبره أنه انشغل بالسلعة منذ عودته من السوق فلم يتغذى، ولذلك فإنه سيخرج ليجلب خبزا وبيضا، أو جبنا، أو ما إلى ذلك، لكن أحمد أصر على أن يأتيه بنصف ما تبقى له من الطاجين، الذي أكل نصفه في وقت الغذاء، على أن يمتنع عن الأكل ليلا، وأحمد في الغالب يكتفي بطبخة واحدة، يقسمها بين وجبتي النهار والليل، كما أنه لا يتناول في فطوره غير كأس شاي وسيجارة، ولا يأخذهما إلا إن يصل إلى السوق ويفرش كتبه. أما الشاي فإنه من المدمنين عليه؛ يشربه في البيت وفي السوق، فلا تراه إلا وكأس الشاي معه، ما جعله ضعيف العود، هزيل البنية. قبِل إدريس عرضه مرغما؛ إذ ما إن أنهى أحمد كلامه، ذلك حتى قام خارجا، ثم عاد بطبقه سريعا، فوضعه أمام إدريس وغادر متعللا بدخول المرحاض. أكل إدريس من الطاجين، وشرب الشاي، ثم أخذ دشا، ولما انتهى من ارتداء ثيابه وهمَّ بالخروج كان صوت آذان العصر يتردد في الأرجاء. مرَّ في طريقه بغرفة صديقه أحمد، وهي أضيق قليلا من البيت الذي يسكنه؛ ليس في سقفها إلا صفيحتي قصدير، وحائطها هو الآخر قصير نسبيا، ولما وقف بالباب، بدا له أحمد من جلسته كأنه ضائع في بحر من الهم. أقبل عليه مستفسرا عما همه وغمه، وقد تجرأ على ذلك رغم إدراكه صعوبة مزاج صديقه، خاصة حين يقتحم شخص ما خصوصياته، أو لحظات سكينته، لكنه كان في رده غير أحمد الذي عرفه، إذ رفع رأسه وقال بهدوء: ــ أحتاج خمسمائة درهم، وفي الحقيقة، كنت قاصدا إياك في شأنها، لكنني وجدتك وقد اشتريت السلعة، فلم أسألك، حتى لا أدفعك إلى ردي خائبا، ولا إلى خنقك. ثم أردف وهو يخط بسبابته على الحصير ساهما: ــ لا بأس، لا تحمل هما، لست في أمس الحاجة إليها، فقط، لا بأس، يعني، كل ما في الأمر، طيب، هناك رجل، سمِّه صديقي إن شئت، أخبرني أن شخصا ما، ربما لا تعرفه أنت؛ إنه يبيع المتلاشيات هناك، في الرحبة التي تشرف على أبي رقراق، والتي تسميها أنت هاوية الجحيم، وأنه كما بلغني، قد ساعد شخصا مهما، يدعى الدكتور، ساعده في تنظيف مرآب له، وقد عثر فيه على كمية مهمة من الكتب، وهي في حالة جيدة. وقد قيل لي: بأن ذلك الدكتور ما كان يشتري الكتب لقراءتها، بل فقط كان يقتنيها للوجاهة، وأنا أريد الوصول إليها، إذ لا بد أنها في حالة حسنة، أقلها أفضل مما يروج في... ثم بامتعاض: سوق الكلب هذا. ــ حسن، لا بأس، نخرج أخي أحمد؟ ــ نعم، فلنفعل، لقد وجدتني في أمس الحاجة للخروج من هذه الزنزانة، ولكن، أين نقصد؟ ــ إلى الرباط، ألا نستحق نزهة في الشوارع المبلطة؟ أم إنها حكر على أصحاب الياقات والمترفين؟ لطالما اختنقنا في هذا الصفيح؛ من السوق إلى الدار إلى السوق، أو في أحسن الأحوال إلى المقهى. ــ فليكن وصولنا إليها عبر المراكب التقليدية إذن، نعبرها على طريقة القدامى، فقد قرأت في كتاب الموريسكي أن سلا سبقت الرباط في الوجود، وفي كتاب آخر أن العدوتين كانتا تتصلان بالعبارات والمراكب. وذلك ما حصل، لم ينس في الطريق أن يهاتف فاطمة، ويخبرها شارحا ومفسرا بأنه ربما لن يلتقيا ليلا، وهي بدورها تفهمت الأمر ببساطة. في الطريق إلى حافة الوادي، تحدثا بشأن الكتب والقراءة؛ فاعترف له إدريس بفضله عليه، وأنه حمد لله معرفته، وما كان ليصدقه أحمد إلا لما أقسم له أنه تعلم القراءة من مطالعة الجرائد، وأن الأمر لم يتطلب منه أزيد من أسبوعين. أبدى عجبه أولا، ثم أثنى عليه ذلك وهو يؤكد أن ذلك ما كان ليحصل لولا خفة بديهته، وأن قضاء الوقت الفارغ في مطالعة الكتب أفضل من قتله فيما لا فائدة منه، وأخبره هو الآخر أنه لم يتقرب منه إلا لما عرف خلوه من أي علاقة مع أولائك الضائعين في جحيم السوق، فلا يتقنون شيئا، سوى السرقة والنشل والنصب والاحتيال وتعاطي المخدرات والمسكرات، والدعارة. ثم اتجه إليه بالسؤال: ــ وأنت يا إدريس أين تقصد؟ لم يفهم مرمى السؤال في البداية فظل صامتا، لكنه ما إن علم أن أحمد الوقور يريد منه تعيين دار الدعارة التي يتردد إليها حتى انتابته موجة من الضحك لفتت انتباه المارة، ثم حاول وهو يكبح ضحكته أن يفهمه أنه لم يتوقع منه مثل ذاك السؤال، وأنه لا يعرف ولا واحدة منها، ثم أضاف: ــ ربما أنا واقع في الحب. التفت أحمد مستغربا، ثم قال وكأنه لم يسمعه: ــ الليلة، سوف آخذك معي إلى حيث تضيع دراهمي، ثم غمغم بكلمات غير مسموعة، لكن الواضح من ملامحه أنه كان جذلا. بعد مضي لحظات من الصمت والترقب، قال إدريس: ــ هل تعلم يا أحمد؟ لقد جعلتني أتشوق لهبوط الليل. وضحكا عاليا. دار بينهما حديث لذيذ أنساهما طول الطريق الذي قطعاه مشيا على الأقدام، ولما بلغا مصب النهر ركبا مركبا صغيرا. اتخذا مكانهما في المركب إلى جانب ثلاث شابات، كان واضحا أنهن زائرات جديدات للمدينة، ذلك أنهن كن منشغلات بالتقاط الصور، الأمر الذي أزعج أحمد، ما اضطره إلى خفض مقدمة قبعته حتى غطت وجهه. مساء، في ساعات الأصيل الأخيرة، خاصة قبيل المغرب، يخلق التقاء نهر أبي رقراق ببحر الظلمات مشهدا تعجز اللغة عن وصفه، فتتجمع طيور النورس لتشكل في طيرانها ما يشبه رقصة الوداع، كأنها تودع الشمس، ولكن الشمس المتيقنة بعودتها تلوح للطيور من الأفق الغربي وقد احمرت وجنتاها استحياء وخجلا، ولو كان لها الخيار لما فارقت سماء النوارس. عدَّل أحمد قبعته لما كانوا نازلين من المركب جميعا، ثم قصدا الطريق عبر الكورنيش المحاذي للنهر والبحر، كانت المقاهي التي لا يدخلها إلا سمين الجيب متناثرة عبر مياه النهر، فترى المحظوظين منغرزين في مقاعدها، وهم يرشفون مشروبات ربما لا يعرفها هو، ولأنه لا يعرف إلا عصير بعض الفواكه والصودا والقهوة السوداء، فقد انشغل عنها بروعة العمران وضخامة البنية التحتية. وما هي إلا دقائق حتى كانا قبالة باب الرحبة، فبادر هو بدعوة صديقه إلى زيارة المكان، وقبل أن يصعدا الدرجات، أخبر إدريسُ صديقَه أنهما قادمان لأخذ الكتب، وأن معه مالا كافيا وأكثر. تمَنَّعَ أحمد في البداية، لكنه استسلم لإصرار صديقه الذي كان قد أخرج المبلغ المتفق عليه من جيبه، ودسه في جيب صدرية أحمد، ثم تحركا صعودا في الدرب الضيق. كان بعض الباعة في وضع يخطئ من يصفه بالمزري؛ ملابس رثة، ووجوه محقها القهر والفقر، هي شفاه تدلت، وعيون ذبلت، وأجساد بريت... أول واحد ممن بدا لهم بعد الالتفاف في الدرجات الأخيرة، كان شابا مكدد الوجه، يجلس خلف بساط نُشِرت فوقه بعض الأسمال، لمح بين يديه كيسا بلاستيكيا كان ينفخ فيه بين الفينة والأخرى، وبداخل الكيس قد وضعت مادة هلامية تستعمل كلاصق لإصلاح ما في إطار العجلات المطاطية من ثقوب. اكتفى إدريس بالمراقبة من بعيد، وبين الفينة والأخرى كان يغض من بصره حتى لا يثير انتباه ذلك الشاب الضائع أو غيره، بدا من ملامحه أنه لا يتجاوز الثلاثين من عمره لكنه كان فاقدا لبعض أسنانه، وبعدما تجاوزاه، التفت نحو صديقه، فوجده يلهث وهو يجد في المشي، وقد اكتسى وجهه وضاءة، وبرزت سمات المسرة على ملامحه. في المكان الذي تتسع فيه الساحة، تقف دكاكين سوداء، ضيقة، بعضها يعرض مأكولات شعبية أغلبها قطاني وسمك مقلي، وبعضها الآخر تتكدس فيه سلع لا يمكن فرزها، وعلى الأطراف انتشر أصحاب البسط، وباعة السجائر. في الساحة أيضا بنات وأولاد، كبارا كانوا وصغارا، من مختلف الأعمار، ربما يظن البعض أن أسرا بكاملها تعيش في تلك الساحة، وفيها تتناسل. اقتربت من إدريس فتاة مراهقة، ملابسها متسخة، وشعرها لم ير المشط منذ مدة، كانت تحك أنفها بينما تقول أشياء لا معنى لها، فصرفها أحمد ناهرا إياها، فانصرفت وهي تغني أو تسب، لم يكن واضحا منها لا الكلام ولا الملامح. قصد أحمدُ أحدَهم، فلزم إدريس مكانه إلى جانب بسطة وُضِعت فيها أجهزة معطلة، وقد سمح له موقعه ذاك من رؤية الكثير؛ وكانت دهشته كبيرة لما رأى في ذلك السوق، رغم بؤسه، تجارة رائجة، ربما أفضل من سوق ساعة، حيث يسوِّق هو سلعته، وقد حدثته نفسه بتجريبه يوما ما. دارت بين أحمد وذلك الشخص كلمات قليلة وإشارات كثيرة، وبعدها سمع الرجلَ ينادي من باب دار كانت خلفه على شخص يدعى "الطيب". تراجع أحمد خطوات إلى أن حاذى إدريس، فوقف إلى جانبه، رجلا لرجل، طبعا لولا أن أحمد أقصر قامة، وظهره أميل إلى الانحناء. ــ إنه هنا، سينزل، وأرجو ألا يكون مخمورا. ــ إن كان ثملا، فأظنه سيكون كريما، سل صاحب التجربة. ألقى كلامه هذا كالنكتة وضحك، فرد عليه احمد بابتسامة رزينة، ثم قال: ـ إلا هذا الخبيث، فإن المال عنده أهم من أهله، وقد بلغني عنه أنه باع شرف زوجته، نعم، كان يقدم زوجته ويأخذ الأجرة، صدقني. أظهر إدريس امتعاضه من الأمر، ما شجع أحمد فأضاف: ــ لقد كان سائق تاكسي، وحدث أن ركب معه واحد من أصحاب العمائم، من أولائك الخليجيين ناشري الفساد، أخزاهم الله، لقد كان من زبنائه، وما إن يأتي إلى المغرب حتى يهاتفه ليكون سائقه الخاص، وفي يوم من الأيام... خرج رجل أسمر من الدار، فعرفه أحمد وقطع الكلام، ثم اتجه صوبه وهو يقول لإدريس: ــ إن للحديث بقية. راقب صديقه وهو يصافح الرجل، ثم وهما يتبادلان حديثا قصيرا وخافثا، لم يسمح له موقعه من سماع ما دار بينهما، لكنه تحرك قُدُما نحوهما لما التفت أحمد إليه، وكأنه يناديه ليلحق بهما، فاتجهوا جميعا نحو باب الدار، وصعدوا سلالم ضيقة تكاد لا تتسع لأكتاف شخص واحد. عند الالتفاف الأول من السلالم وجدوا بابا خشبيا مشرعا، فدعاهما للدخول بصوت مُحَشْرَجٍ، خرج من حلق جرحته كثرة المخدرات والكحول. يتكون البيت من غرفة مغلقة، وصالة صغيرة، ومطبخ مكشوف على الصالون، ومرحاض لا بد أنه ضيق. كان في الصالة صندوقان كرتونيان كبيران، فتحهما الرجل على مهل، فانحنى أحمد إلى واحد منهما وشرع يُخرج الكتب ويشمها. ضحك منه الرجل وهو يقول: هل ستأكلها؟ فأجابه بنبرة حادة أن "لا"، ثم عقَّب: ـ ولكني أشم في الكتب رائحة نتنة نتجت عن الرطوبة، ورطوبة البحر تؤثر على الأوراق، فحتى لو لم تصفر أوراق هذه الكتب، فلا بد أنها ستتأذى بمجرد خروجها إلى الشمس. قال هذا بلسان حادٍّ مما جعل إدريس يعتقد أنه سيتخلى عن الصفقة نهائيا. تغيرت ملامح الطيب، واكتسى كلامه نبرة طريفة، وأظهر منذ البداية أنه مستعد لخفض الثمن، ففهم إدريس أن المسالة تدخل ضمن تقنيات التفاوض التي يتبعها صديقه، لذلك ترك الأمور تجري كما شاء لها صاحب الحرفة. راح يجول ببصره في البيت، فلفتت انتباهه لوحة موضوعة على الأرض؛ لقد كانت متسخة، فقصدها ومسحها بمنديل كان في جيبه، ثم تحسس اللوحة بأصابعه فوجد أنها من كتان مطلي بصباغة زيتية؛ تتوسط اللوحة امرأة، وهي تحمل قربة تبدو فارغة، وقد تدلى الثوب من أعلى رأسها، لكنه يكشف عن ثديها؛ يتوسط المقطع الجانبي للمرأة اللوحة من أعلاها إلى أدناها، وأمامها في زاوية اللوحة شمس كأنها تصارع السحاب حتى لا يغطيها، أما خلف المرأة، عند حدود ركبتها، فيبدو جمع غفير كأنه يتبعها على أرض صفراء قاحلة، لا يصل إلى أغلبهم من الشمس إلا ظل القربة ويد المرأة وتفاصيل وجهها وظلال السحب، كانت كأنها عملاق حاف القدمين يجر شعبا من الأقزام بحثا عن الماء، وكلهم منهك في السير بكد، تبدو وجوه أغلبهم مسودة لا ملامح لها ولا تفارق الأرض، وقلة قليلة منهم يتطلعون إلى الشمس فينعكس ضوؤها على وجوههم. ــ هي للبيع، إن أعجبتك، رسمها فرنسي كان يعيش هنا، ولما توفي أفرغت السلطات البيت، ولكنهم تركوا هذه اللوحة، ربما كان يهوديا؛ اقرأ أسفل الصورة، إن تلك الحروف العبرية تعني "التيه". انتبه إدريس فوجد أن الرجل كان يخاطبه هو، فشعر كأنه قد أمضى وقتا طويلا وهو يتأمل الصورة، رفعها فوق ليصل الضوء أسفلها، فبرزت حروف ملتوية تحت قدمي المرأة الحافيتين. لم يستطع الرد، إذ تملكت الصورة كيانه من حيث لا يدري، فتسمر واقفا، وهنا تدخل أحمد لما رأى الذهول في وجه صديقه، ولأنه بارع في عمله، فقد أخذ الصورة دون أن يدفعا ولو درهما واحدا؛ على أن يتم احتسابها واحدة من الكتب. تركا كل شيء عند واحد من الباعة في الساحة، وهو من معارف أحمد؛ على أن معرفتهما كانت على المستوى التجاري فقط، وكانت بينهما ثقة كبيرة وتعاون منقطع النظير: فصديقه هذا، وهو رجل طاعن في السن، يتاجر في آنية النحاس القديمة وكل ما هو قديم، وغالبا ما يتعامل مع أصحاب البازارات والمتاحف، فلا يتكل على رواد الساحة إلا لجمع سلعته، وهكذا، فإن عثر أحمد على ما يصلح لصديقه فإنه يشتريه، وإن لم يكن معه مال فأقلها يهاتفه في شأنه، وكذلك فعل النحاس لما علم بشأن الكتب. في الطريق أعاد أحمد لإدريس مائة درهم، مخبرا إياه أنه لم يعط صاحب الكتب إلا أربعمائة، واتفقا على أن ينفقا تلك الورقة النقدية في ذلك المساء. ــ هل تعلم؟ لو اطلعتَ على الكتب لكنت قد فضحتنا، لقد حمدت لله انشغالك بالصورة، تلك ليست سلعة، إنها كنز، فيها كل ما سيروقك من الكتب؛ الروايات والقصص، وديوان شعر في الحب أيها العاشق... ــ لا بد أنك قد قضيت زمنا ليس باليسير في بيع الكتب. ــ منذ استقر بي الحال هنا. ــ وليس معك مال؟ ولا أربعمائة درهم؟ ــ أفهم إلى ما تلمح، أنا لا أبيع الكتب لأربح، ولا لأضخم تجارتي، ولا حتى أتاجر لأبني مستقبلا، أنا فقط أقضي سويعاتي، وبعد موتي، لا بد أن أحدهم سيرغب في شراء الجنة بثمن قبر وكفن. ــ عندي اقتراح يا أخي أحمد؛ أولا، أنا متيقن من حبك للكتب، ولكن، لم لا نجعل الكتب...؟، لا أدري كيف سأوصل الفكرة! أنا لا أريد أن أرغمك على جعلها ثانوية في حياتك، ولكن كما ترى، بإمكانك أن تبقى مع الكتب على أن تنوع مصادر دخلك، فالناس هنا لا يقرؤون، هم فقط يأكلون، ويتباهون باللباس والممتلكات الترفيهية؛ ساعات وهواتف و غيرها، أما الكتب فسلعة بائرة يا أخي. ولكن هذا لا يعني أني أطلب منك إهمالها في كل الأحوال، أرجو ألا تسيئ فهمي، انتشله أحمد من محاولات شرحه بكلمة صارمة: ــ "ما اقتراحك؟" وجد إدريس الطريق معبدة، فاقترح عليه أن يتعاونا؛ يضمان فرشتيهما وجهدهما؛ فيختص إدريس بجمع الأحذية والساعات والكتب وصنارات الصيد، وكل الأشياء الرائجة التي يرى أنها صالحة للبيع، بأن يطوف من أجلها الأسواق والسويقات المتناثرة في الأحياء المختلفة من مدينتي سلا والرباط، على أن يهتم أحمد بالبيع. ضحك أحمد في قرارة نفسه، وقال له: ــ سأخبرك بأمري الليلة، وبعدها سنرى إن كان ذلك ممكنا، ولكن دعني الآن أكمل لك قصة ذلك الرجل مع زوجته والخليجي: من كثرة زيارات الخليجي للمغرب، وخدمة الطيب له كل مرة، تطورت بينهما علاقة ودية، ولطالما تبادلا النكت والمجاملات. في ذلك اليوم، وجد الطيب أن زبونه في مزاج رائق، ولما سأله عن السبب أخبره أنه قد ربح صفقة مهمة، طال الحديث بينهما في الطريق من المطار إلى الفندق وطاب، فأطلعه الخليجي على رغبته في امرأة مغربية ليقضي منها وطره تلك الليلة، على أن تأخذ هي عشرة آلاف درهم، ويأخذ السائق ألفا. وما إن سمع الطيب الذي غلب الطمع على طباعه المبلغ حتى زاغ عقله. ــ لا تقل إنه.... ــ والله، والمشكل العويص، بل والطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، أنه في صباح اليوم التالي، جاء ليأخذها من الفندق إلى البيت لكنهما لم يصلاه. ــ بألف مصيبة! ما حصل للديوث؟ ــ يقال، والعلم لله، لكنه خبر شائع، أنها ركبت إلى جواره، وما إن دارت عجلات السيارة حتى طالبها بالمال فرفضت، ذلك أنه طالب بثلثيه، ولما أصرت على الرفض تنازل وقنع بالنصف، وهكذا دواليك، ولكنها ظلت ترفض كل عرض، وتتعلل بأنها هي التي استحقت المال، فقامت قيامتهما. ولما كان خصامهما شديدا، فقد أوقفهما شرطي المرور ليستوضح الأمر، وهناك فجرت زوجته القضية أمام الشرطيين والملأ. ثم ختم حكايته بلسان ساخر: ــ حينها جن جنون الطيب، فضربها... وعوض أن يأخذ المال الحرام، سجن بتهمة الخيانة الزوجية والتشجيع على الدعارة وغيرها. ــ ولا زلتم تدعونه "الطيب"؟!... ذلك الخبيث ! كانت جولتهما في شوارع العاصمة قصيرة؛ فمع لا إله إلا الله من آذان العشاء كانا نازلين من سيارة الأجرة البيضاء، فحملا أثقالهما إلى البيت، ووضعا السلعة في غرفة أحمد، ولما شرع هذا في فتح الصندوقين والكشف عن الكتب كان إدريس يستعد للخروج لأجل ملاقاة فاطمة. ــ لن تخرج يا إدريس، هل نسيت مخططنا؟ نظر إدريس إلى وجه صديقه، تأمله فوجده محبورا وسعيدا على غير عادته، فلم يشأ أن يعكر صفوته، فكر أيضا أن من حقه الاستمتاع، وخاطب نفسه مطمئنا: ــ من يدري؟ ربما فاطمة هي الأخرى تخرج مع الرجال، وهذا مما لا بد منه، ولا شك فيه، لا يمكن أن تبقى...، وفي هذا الوسط، أبدا لا يمكن، فهي تسكن دون أسرة تردعها أو أقلها تراقبها، أضف إلى ذلك أنها تشتغل في المقهى، بين الرجال... إنها كفاكهة التين؛ تلين قبل وقت نضوجها من كثرة الأيادي اللامسة، فما بالي بالتي تسمع من الكلمات العذبة والإغراءات ما لا يعد ولا يحصى... ، حتى لو عاشت مريم العذراء مثل هذه الظروف ما كانت لتحصن فرجها! ابتسم للفكرة أولا، لكنه تدارك فاستغفر الله على ما وسوست له به نفسه في الأخير. استغفر الله مرارا وتكرارا وهو ملتفت إلى كتفه الشمالي، كأنه يستعطف ملك شماله الذي يسجل السيئات، وهذا ما قرأه في كتاب صغير؛ قرأ أن لكل إنسان ملكان: فالذي على اليسار يسجل السيئات، والذي على يمينه مختص بتدوين الحسنات. قرر أن يفاتحها في الأمر يوما ما، ثم تساءل: ـ ولم هذا كله؟ إن علاقتنا سطحية رغم عمقها، فكلما تمعنت في حدود علاقتي بها، لا أرى فيها إلا وجها آخر لمعاناتي، الوجه الأنثوي، نعم تبادلنا القبل تلك الليلة، لكن، دون سواها. وها نحن نلتقي لأزيد من شهرين؛ بعد فراغها من العمل، تجدني أمامها كسائقها الخاص، نتمشى قليلا، ثم نتحدث في أمور عدة، لكنها لا تخرج عن إطار المعاناة. أخذ اللوحة بين يديه بينما كان أحمد يرتب الكتب حسب نظام ما، نفخ عليها ليزيل الغبار العالق والذي لم يمسحه المنديل، ثم سأله عن المبلغ الذي يريده مقابل اللوحة، وما هي إلا أن نطق بالكلمة الأخيرة حتى قال أحمد: ــ مليون سنتيم للمرأة في اللوحة، وألف درهم لي حلاوة. تعالت ضحكاتهما عقب النكتة التي أُلقِيَتْ، ومنذ ذلك الوقت واسم الطيب رمز بينهما للتكنية على كل ديوث يبيع زوجته أو بناته، ويتعيش من مرق الخيانة. ومثل هؤلاء موجودون بكثرة في ذلك الحي الهامشي، وفي غيره، وقد ساعده أحمد في ما بعد على اكتشافهم ورصد فعالهم المشينة؛ إذ ترى الرجل بشاربه الكث يرسل بناته أو زوجته قبيل المغرب ووجهها كاللوحة بالزينة والتبرج، ويتلقفها أثناء عودتها ليأخذ المال. والأدعى للحرقة والأسف أن ذلك المال يعود عبر قاطرة القمار والمخدرات إلى جيوب الأغنياء الذين كانوا قد استغلوا تلك النسوة، فالمرأة التي تخرج لتلك الأغراض غالبا ما تقف في الطريق كأنها تنتظر أحدا، وهكذا تتصيد المكبوتين من أصحاب السيارات الفارهة. سارا بين البيوت الوطِئَة في الظلام؛ فاخترقا عدة أزقة ضيقة، أزقة تفوح منها رائحة البول والعفن، وتوغلا في الحي الصفيحي كثيرا، وكلما زاد تقدمهما في الأماكن التي لم يسبق لإدريس حتى التفكير في الوصول إليها، زاد انتشار الروائح الكريهة. توقف أحمد عند باب قصديري وطئ، يبدو الباب قصيرا جدا، ولكنه كان منغرزا في الأرض من الداخل، بحيث لا يمكن فتحه إلا بجذبه من قِبل سكان الدار. وإطار الباب من الخشب ووسطه من صفيحة من الزنك. تساءل في نفسه عن أحوال هؤلاء في الشتاء، أو كيف يكون حالهم لما يفيض الواد الحار؟ والواد الحار، هو اسم قنوات مياه الصرف الصحي. بعد طرقات خفيفة من كف أحمد، جاء الصوت متحشرجا تخبرهم صاحبته أنها قادمة. فُتح الباب، فانبعث من الداخل ضوء خافت ورائحة ثقيلة؛ اختلطت فيها رائحة المرحاض برائحة مخدر الحشيش، وربما الخمر وغيره. لما انفتح الباب أطلت امرأة في حدود الخمسين من عمرها، كان ذقنها مغطى بلحية خفيفة، وفي شفتها العليا سطَّر الشعر شاربا خفيفا عند حدود الأنف وكثيفا في الأطراف، ملامحها أميل إلى الذكورة أكثر، ولولا صدرها المتدلي لظنها الرائي رجلا. تطلعت إلى وجهيهما فتعرفت على أحمد لما دعاها باسمها "يمنى" وصافحها، فدعتهما للدخول، علم من بعد أن تلك النظرات المتفحصة ليس الغرض منها معرفة الزبون بل تحريه إن لم يكن شرطيا سريا أو جاسوسا؛ فإن كان زبونا معروفا أو محتملا سمحت له بالدخول، وأما إن كان شرطيا فإنها تمنعه وتصيح بأعلى صوتها، وتلك إشارة كافية لتهرب البنات عبر السطوح. انحنى إدريس وهو يتجاوز الباب، تفاديا لأي اصطدام مع العتبة القصيرة، ثم دلفا نازلين درجا طينيا. تبعا المرأة من خلف، فسارا بضع خطوات في ممشى ضيق ومكشوف بدون سقف كأنه زقاق، ثم دخلا من باب آخر، فوجدا نفسيهما في فسحة مغطاة بصفائح القصدير التي رصت فوق ثلاثة جذوع من شجر الصفصاف وعمودين حديديين كأنهما اقتلعا من سكة قطار، كان السقف قريبا من رأس إدريس، لا تفصله عنه إلا بضع سنتمترات وأقل من الشبر، ولو كان أطول قليلا لفرض عليه الانحناء... وكان المصباح الوحيد متدليا من الحائط المقابل، وفي الفسحة تجمعت قرابة الست بنات كما قالت رئيسة المبغى يمنى: ـ مرحبا بك يا أحمد، أنت وضيفك، الليلة عندي ست بنات، فاختارا على أعينكم. لم يستسغ في البداية تسميتهم "بنات"؛ فإن منهن من دنا عمرها من عمر يمنى أولا، ثم لأن لفظ بنت يطلق في بعض المناطق على غير المتزوجة، وفي مناطق أخرى على العذراء فقط، وكذلك لأنهن لسن جميعا إناث، كما سيعرف تلك الليلة، ولكنه ظل يدعوهن فيما بعد "بنات"، لأن صاحبة المبغى كانت تنادهم هكذا، وهو سبب كافٍ. طالبتهم يمنى بالدفع مسبقا، وقد تكلف أحمد بكل شيء تنفيذا لاتفاق سابق قبل خروجهما من دار مي طامو، وفي لحظة، قرب إدريس فمه من أذن صاحبه، ووشوش فيها بكلمات، فحرك هو رأسه موافقا. في تلك الأثناء، كانت قد قامت إحداهن بعدما أطفأت آخر ذبالة من سيجارتها، ففطِن إدريس بسرعة إلى أنها ربما تعتبر أحمد زبونا خالصا لها، لذلك تقدمت نحوهما بدلال، رغم أن خصرها كان أكبر من أن يساعدها على تبخترها، فأخذته من ساعده، وتبعها هو دون مقاومة. بعد دخول أحمد وصاحبته إلى غرفة مظلمة، بقي إدريس وحده مدة، وقف حائرا، كالذي ينتظر قدَرا لا راد له، وللحظة ودَّ لو أن واحدة تقدمت نحوه، كيفما كانت. لكن ذلك لم يحصل، فقد كن منشغلات في تدخين لفافة الحشيش، أما يمنى فقد دخلت المرحاض بمجرد تحصيلها المال في جيبها، وسُمِع صوت صفير بلبلها وأبواق أمعائها من الداخل. تصبب جبينه عرقا، وكاد ييأس ويرتد على عقبيه خائبا لولا أن نهرتهن ذات الشارب وهي خارجة من المرحاض: ــ فلتقم إحداكن مع الشاب تعالت الضحكات وقالت واحدة من بينهن: ــ هو لم يعين ولا واحدة!. ثم قامت متوجهة نحوه، حتى إذ كانت بجانبه أضافت بدلال: ــ من منا تريد؟ ما بك؟ لست في مقام الصلاة. ثم انفجرت ضاحكة وهي تنزل بأناملها من خده إلى كتفه، وجعلت تجره نحو غرفة أخرى. قد كانت لتبدو جميلة، أو أقلها مقبولة لو لم تتحدث فتكشف عن أسنانها؛ أسنان سوداء، وبعضها مفقود من كثرة التسوس، إنها في وضع لا يغري بتقبيلها، وما الجنس دون قُبَل؟ اعتذر منها بلباقة وهو متسمر في مكانه، ثم، ولتفادي الإحراج أشار إلى واحدة غيرها؛ تبدو نحيفة وشعرها الأصفر مصفوف بعناية، فقامت بعناية ودلال في حين قالت الأخرى وهي عائدة إلى مجلسها: ــ هكذا إذن، وضح مبتغاك من البداية، وكنا سندلك على صوفي الجميلة. دخلت به صوفي إلى غرفة ضيقة ومظلمة كالزنزانة، فنزع إدريس قميصه على عجل، وكذلك فعلت هي، كان نهداها صغيرين، ولكنهما مغريان وشهيان، تبادلا قبلا طويلة على الطريقة الأوربية، ولما بلغ به الهياج حدا لا يطاق نزع سرواله واحتضنها بذراعيه، فتمنعت قليلا، ولكنه أنزلها بحركة تحته على الفراش، تعنتت حتى تمكنت منه، فدفعته من فوقها وقامت، فأزالت سروالها وتبانها في الظلام، ثم تقدمت نحوه. ما هي إلا همهمات وحركات سريعة منهما في عز الظلام، حتى قام وهو يصرخ كالملسوع، فجاء الصوت من الخارج ساخرا. ــ ماذا هناك؟ هل انقلبت الأدوار؟ ثم خرج وهو يسب ويبصق ويصيح بأعلى صوته: ــ إنها ليست امرأة، هذا شاذ، عم الصراخ المكان، ثم خرج الشاذ بعده وهو في لباس داخلي نسائي، ولكنه كان فاقدا شعره الاصطناعي، فبدت مقدمة رأسه صلعاء، ذلك أنه ربما يكون قد جاوز الثلاثين من عمره، فثار عليه إدريس بالضرب والبصاق لما اقترب منه. تدخلت يمنى وباقي البنات فنزعن الشاذ من يد إدريس، الذي كان قد أشبعه ضربا تحت نور المصباح بعدما أشبعه حبا في عز الظلام قبل ذلك بقليل، عاد أحمد أدراجه فزعا لما سمع صوت صديقه، إذ كان ينتظره عند الباب كما اتفقا. ورويدا رويدا، دب الهدوء قليلا، لكن الرئيسة رفضت إرجاع المال لإدريس بداية، ثم، وبعد تدخل أحمد سمحت له بالدخول مع واحدة أخرى وهي تزمجر وتسب الرب والسلطات والمال. بعد نصف ساعة، كانا في البيت عند إدريس، فتح هاتفه الذي تركه خلفه ولم يحمله إلى الماخور تفاديا للمشاكل، فتحه فوجد ست مكالمات فائتة وثلاث رسائل، وكلها من قبل فاطمة، لم يقرأ ولا واحدة منها، لأن أحمد كان يتحدث عما حصل، وكان يضحك على غير ما تعوده منه؛ كان الضحك يخالط كلامه ما جعله ينقطع عن الكلام أحيانا ليمسح دموعه، وفي تلك الأثناء كان إدريس منشغلا بنزع ملابسه الخارجية وترتيب مرقده، إلا أنه انفجر ضاحكا حين قال أحمد متهكما: ــ لم تختلفا إلا في تحديد وجهة رأس القضيب، هو يريد منك طعنة من الخلف، وأنت تريد نزع أحشائه من القُبُلِ. ثم أردف: ــ هل تعلم؟ ذلك الذي دخلت معه هو نفسه الذي يغسل السيارات قرب سوق الخضر، ستجده في الموقف؛ بيده إسفنجة وسطل ماء، وهناك أيضا يصطاد زبناء له، منهم عدد جم، أعذرني يا أخي فقد نسيت أن أنبهك. ــ ما ظننت منك هذا كله!، كل من رآك من بعيد إلا وحسبك درويشا، وأنت، ضربتك لا يثار لها غبار. لقد تورطت، لكن لا بأس، كان الذنب ذنبي، فأنا من رفض التي قامت لأجلي، ثم أضاف بنبرة خاشعة: أخشى أننا نرتكب خطايا لا تغتفر، إن الزنا من الكبائر يا صديقي. ــ انس الأمر، إن الله غفور رحيم، وبالمناسبة لقد دخلت في الأخير مع التي رفضت في البداية! صدق فيك المثل السائر"لا بد لكل من ينفخ في اللبن أن يشتاقه". ــ لقد كانت طيبة، أو، ربما بدت كذلك لأن الحشيش قد بنجها، لا بد أنهن لا يتعاطين المخدرات إلا لينسين الواقع، أو ربما ليتمكنَّ من التكيف مع الحياة في ذلك المبغى وظروفه، وروائحه التي تشبه ال... أفٍّ، لقد سبق لي أن خرجت مع عاهرات، هناك في فاس، كنا نلقاهن في المقاهي، أو في بعض الساحات، وأحيانا كنا نسافر لأجلهن إلى مدينة الحاجب أو إيموزار، ولكن، مثل هذا العفن لم تر عيني قط. ــ ظننت أني سأسعدك بهذا، كما أسعدتني بشراء الكتب. ولولا ذلك لما ورطت نفسي في هذا ال... ثم نظر إليه من تحت عينه، وتابع: لم أذق مثل فرحة هذا المساء، إلا يوم سمعت خبر ولادة ابنة لي... ثم طأطأ رأسه، وسبح في صمت رهيب، ولم يشأ إدريس أن يزعجه فتركه كما هو، ثم أسند ظهره على وسادة، وفتح كتابا فغرق فيه ونسي كل شيء. طالت مدة بقائهم على تلك الحالة؛ أحمد منكس رأسه على طرف اللحاف، و إدريس منغمس في كتابه، ولم يخرجهم من الصمت إلا رنين الهاتف. لقد كانت فاطمة، فهمَّ أحمد بالخروج لو لم يمسك إدريس بيده وهو يرد على الهاتف، وما إن أنهى مكالمته معها حتى أطلع صديقه أنها خاطبته لتطمئن عليه لا غير، وأنها سألته إن كان قد قرأ الرسائل، فأجاب بنعم، رغم أنه لم يفعل. ــ هل أنت واقع في الحب؟ ــ ربما، ولأجل ذلك سألتك ذلك السؤال قبيل خروجنا إلى الرباط، إذن وبما أنك قد فهمت الآن ما كنت أقصد، هل لك أن تخبرني؟ ــ بم سأخبرك؟ لا شيء يستحق، ولكن كن حذرا من لدغات النساء. ــ قلت قبل قليل إن لك بنتا، ووعدتني قبل عودتنا من الرباط أنك ستحكي لي من أمرك، وها أنا ذا كلي آذان صاغية. ــ سوف لن تصدق، وأنا بدوري لن أفتح باب جحيمي ذاك، أقلها الآن، وأرجو أن تعذرني. عاد إلى أحمد شحوبه بعد أن أنهى كلامه، فقام من مجلسه، وخرج دون استئذان. فتح إدريس الهاتف، وقد عز عليه الحال الذي آل إليه صديقه، فلم يشأ أن يزعجه بأي سؤال آخر، ولا حتى دعوته للبقاء، واطلع أول مرة على الرسائل: "لو عدتم باكرا، أريد أن أراك" "غدا الجمعة، سوف أبقى في البيت" " نخرج معا غدا؟ إلى البحر إن شئت" أغراه الخروج إلى البحر، ولأن السوق يوم الجمعة يَنْفَضُّ قبل وقت الصلاة، فليخرجا إذن، رغم أنه لم يخرج ولا مرة في حياته مع امرأة، وإنها لمغامرة لا بد ممتعة. كتب رسالة قصيرة جدا" موافق، ليلة سعيدة" ثم تمدد في فراشه، فسرت فيه رعشة لذيذة، وغاب عما كان يقرأه؛ استرجع بخياله لحظات كان فيها بين أحضان تلك العاهرة، فآلمه اسم عاهرة، وخاطب نفسه ناهرا إياها: ــ من أخبرك أن جدتي لأبي لم تكن كذلك؟ ربما حملته من أحدهم في لحظة متعة كتلك الذي قضَيت، أو في وقت شدة وحاجة كالتي تدفع أغلب الفقيرات إلى هذا العالم الوسخ؛ ومن يدري؟ لا بد أنهن لم يلجن هذه المهنة إلا اضطرارا ماديا، أو طلبا للمتعة، أو تيها بين العوالم، وربما لا هذا ولا ذاك، إذ لا بد أن هناك أسباب ودوافع أخرى، فما بال ذلك الشاذ؟ لقد كان... كأنه يستمتع، فلو كانت الفاقة هي الدافع، لا، لَا، محال؛ أعرف رجالا يخطفون قُوتَهم من أنياب الأفعى. وتلك العاهرة، كم كانت رائعة؟ وجدت فيها غزارة الحب ومتعة الجنس ودفء الحنان، لقد كانت تتلوى من تحتي، وهي تتعلق بعنقي فلم أتطلع إلى أسنانها، لقد كنت غائبا عنها فيها، وكنا تائهين معا في دروب المتعة والظلام. ولما تذكر هذا، عاوده الحنين فقام من مرقده، وقصد أحمد رأسا فوجده جالسا القرفصاء، لكنه لم يحدثه في أمره؛ ليس احتراما لمشاعره، ولكن لانشغاله باللذة التي تملكته تلك الليلة. ــ أخي أحمد، أريد تلك العاهرة، الليلة، وأرجو أن تطلبها لي إن كان معك رقم هاتف تلك اليمنى؟ أو رافقني إلى الماخور رجاء. ومن دون أن ينبس بكلمة، أخرج هاتفه، فأدار مفاتيحه بلمسات من إبهامه، وما هي إلا ثوان معدودة حتى كان الرنين يصل أذن إدريس فبدأ قلبه بالخفق لما سمع صوت تلك المرأة ذات الشارب قادما كأنها تتكلم خلف أذن أحمد. ــ صديقي يريد نعيمة الليلة، أرسليها رجاء، إن لم تكن مشغولة طبعا. ثم أردف بعد سماع ردها، والذي كان قد سمعه إدريس وتيقنه: ــ قلت مائتي درهم؟ ثم هز حاجبه نحو إدريس، ولما رآه يحرك رأسه موافقا، أكد لها الطلب والموافقة على الثمن. كان إدريس غارقا في سابع نوم لما دُفِع عليه باب غرفته بقوة، ففتح عينيه ليرى مي طامو واقفة عند مصراع الباب، وقد تكلل وجهها بأشعة الشمس فبدت أوداجها منتفخة من الغيظ، التفت جانبه متحريا فوجد المكان فارغا، لكن، كان من الواضح أن أحدهم قد شاركه الفراش، أو بعبارة أدق إحداهن، صحيح أنه ما من جريمة كاملة، ولكن الذي حيره أكثر، هو أنه قد صرف نعيمة مع أول انبلاج للنهار، وأن لا احد رآه، فمن أين بلغها الخبر؟ سألها متغابيا إن كان قد طرأ طارئ؟ فأجابته فورا: ــ أنا لست غافلة كما تظن، وإن غفلت عيني، فالدنيا كلها عيون، ثم أردفت بحزم: اترك البيت آخر الشهر. استدارت بعنف عائدة أدراجها، وقد تركت الباب مفتوحا، ثم عقبت وهي مولية ظهرها له: ــ أنت ومعقوف الظهر صديقك. قالت كلاما كثيرا غير ذلك، ما أكثر ما قالت!. وقف أحمد عند باب جاره عقب انصراف مي طامو كأنه كان خلفها، مما يدل أنها قد واجهته عينا لعين لما دعته معقوف الظهر، ولكنه رغم ذلك، لم ينبس ببنت شفة. وقف عند الباب كاليتيم في خيمة العزاء، أو كأنه قد فقد شيئا غاليا، راقب إدريسَ وهو يصحو ببطء وكأن شيئا لم يحدث. لقد طغى على أحمد الإحساس بالذنب؛ فكان وقع الحادثة قويا عليه، لكن إدريس لمْ يُبدِ أي ردة فعل تجاه ما وقع، بل قال وهو يتثاءب: ــ بالنسبة لي، لم يحدث شيء، فقط عجَّلتْ هي بما كنت أؤجله أنا، وأنا نفسي لم أكن مرتاحا هنا، ولطالما همَّني أن أقضي الشتاء في هذا الغار. ــ هذا الغار قد احتضننا يوم كنا دون مأوى، أتحدث عن نفسي شخصيا، وأظنه ينطبق عليك أيضا، يجب أن نعتذر لأمي طامو، مهما كان حكمها الأخير، وهذا ما أنا عازم على فعله، الآن. قال هذا وانصرف، وتأثر إدريس كثيرا بطيبة الرجل؛ أقلها ما زال في الأرض ما يستنزل رحمة الله. سمع من غرفته صراخ مي طامو وتذمرها، فأيقن أن صديقه عندها، ومن دنو مصدر الصوت أيقن أنهما في المطبخ؛ كان صوتها عاليا ومجلجلا، أما صوت صديقه فلم يكن يسمع منه إلا هسيسا غير واضح، وهذا ما بلغه من كلامها: ــ طعنتموني في ظهري، وقتلتم ثقتي فيكم، أنتم لا تستحقون ــ .... ــ هل تظنني غبية إلى هذا الحد؟ ــ .... ــ وأنت أيضا! "الفقيه الذي انتظرنا بركته، دخل الجامع ببلغته". ــ .... ــ قم، اترك قدمي، كدت تسقطني، أأنت مجنون؟. ــ .... ــ لست أُمًّا لأحد، وبيتي ليس ماخورا. ــ .... ــ أخبر صديقك أن أمامه أسبوعا كاملا، أو يزيد، ويوم الاثنين المقبل سأحرق أي شيء أجده في غرفتي. قام من مضجعه، وبعدما غسل وجهه أخذ سلعته ليخرج من غرفته قاصدا إلى السوق، لكنه تركها عند الباب وعاد، توقف قليلا، ثم تقدم نحو المدخل الذي يفصل الدار الداخلية عن البيوت المخصصة للكراء. استجمع قوته ودخل؛ كان باب المطبخ أمام المدخل مباشرة مشرعا، فرأى أول ما رأى صديقه أحمد جاثيا على ركبتيه، ومي طامو واقفة. حزمت رأسها بمنديل ملفوف ما إن أبصرته وصاحت فيه: ــ أغرب عن وجهي، ولا تدنس بيتي أكثر! ــ أنا سأخرج يا مي طامو، ثقي بي، ولن أزعجك بعد اليوم أبدا، أقسم لك بفضلك علينا، ولن يضيع لك من ناحيتي خاطر ثانية، وهذا كله فوق اعتذاري واعترافي بالخطأ، ولكن، فقط ودَدْتُ لو تسامحيني؛ سامحيني ليس لأبقى، بل لأرتاح من خطيئتي في حقك، إنه الشيطان، والإغراء يا أمي هو عمل الشيطان الذي أخرج به جدنا من الجنة، فما بالي أنا؟ كيف لي ألا أخطئ؟؟ ــ لديك أسبوع واحد، ولو كان غيرك، لو لم تكن أنت يا من اعتبرتك ولدي الذي لم ألده، ذلك الولد النجيب الذي لا يشبه في شيء هؤلاء التائهين في دروب الضياع، لو كان غيرك لكان مطرودا، وأغراضه في الخارج الآن. أسرع مقبلا نحوها، فأخذ يدها وقبلها من الجهتين، نزعتها منه وهي تضربه على رأسه وتقول: ــ على نفسك جنيت يا أكبر شيطان. رجاها، والدمع من عينيه أنهارا أن تسمح لأحمد بالبقاء، فقد رأى في عينيه إحساسا بالضياع. كان أحمد مستسلما في برْكته تلك، فقد كان كمن ينتظر قضاء قاصما للظهر، ولا رادَّ له، تلك الصورة التي بدا عليها مزقت قلب إدريس فألح في الطلب؛ قبل يدي العجوز مرارا، وبعد تردد وافقت على بقائه شريطة ألا يأتي منه في المقبل من الأيام فعل شائن. هكذا اتفق الجميع، ولو كان في المطبخ ذلك الصباح غير الثلاثة، لأدرك من نظرات مي طامو، ومن نبرة صوتها أنها قد رغبت، من أعماقها، ألا يخرج إدريس من عندها، لكن أنفتها منعتها من البوح بذلك، أو من التراجع عن قرارها، والدليل الثاني على ذلك، أنها لم تصرفهما من عندها في الحال، وقد كان بوسعها ذلك؛ إذ كان يكفيها أن تدعو المسمى "بيدرة" وهو ابن جيران لها، قضى أكثر أيام حياته في السجن، بل وأكثر من ذلك، أنها قد دعتهما إلى فطور شبه عائلي ذلك الصباح نفسه. ساد الصمت حين كانت السيدة منشغلة بإعداد الشاي، وحتى لما وضعت الصينية فوق الطاولة القصيرة، لم يكسر ذلك الصمت الرهيب سوى وقع خطاها من مكان إلى آخر. توسط الصينية براد شاي من الحجم المتوسط، وحوله حامت أربعة كؤوس تشعشعت بالمشروب الساخن والساحر. اجتمعوا على الفطور كأسرة متناغمة، وكأي أم مع صغارها خدمتهم بتفان وصمت ورضى. لأول مرة، كان أحمد يغمس الخبز في الزيت صباحا، أقلها منذ عرفه إدريس. ــ ما أطيبك يا أمي طامو! قال إدريس، ثم أردف: لكم تمنيت، في لحظتي هذه، لو قضيت أشهري الأولى في ذلك الرحم. رفع عينيه نحو وجهها ليتبين وقع كلامه، فوجدها واجمة، لم تجبه، وفي ظل الصمت أعادت الكأس الذي رفعته لتوه إلى مكانه من الصينية؛ ولم ترشف منه بعدها أبدا، بل ظلت تلوك ما كان في فمها من خبز إلى أن غادرا من عندها. أخبره أحمد في الطريق أنها لطالما عانت من العقم، وأن كلامه ربما أثر عليها، وبعد ذلك بأيام، سيعلم أنها قد عانت في شبابها من السرطان؛ المرض الخبيث الذي أصاب رحمها، وأن تشخيص إصابتها وافق فترة حملها، ثم إن الأطباء قد خيروها بين العلاج والحفاظ على جنينها، فقاومت المسكينة ثلاثة أشهر، لكن حالتها تفاقمت لأنها كانت في مراحل متقدمة من المرض، ما اضطرها إلى التضحية بالذي سمعت صوت دقات قلبه عند الطبيب يوما، وبعد شفائها ما عاد بوسعها الإنجاب أبدا، فطلقها زوجها.
كان السوق شبه فارغ يوم الجمعة، وقد ساد الصمت طيلة الفترة التي انشغلا فيها بنشر سلعتيهما وبسطها، جلس أحمد أولا غير بعيد عن السلعة، ثم التحق به إدريس، فأخذ كتابا في الوقت الذي كان أحمد يدخن سيجارته على مهل وينفث الدخان من فمه، فوق، كان كأنه يريد إيصاله إلى أبعد مكان، أو ربما يجرب قوة زفيره. ما إن فتح الكتاب حتى انغمس فيه كليا، لا يخرج من عالمه إلا إن وقف على سلعته زبون ما. في حدود الساعة الحادية عشر، كان قد باع حذاء واحدا فقط في ذلك الصباح كله، فالتفت إليه احمد وقال بصوت أجش: ــ لا تعتمد علي فيما حدثتني فيه أمس. نظر إليه إدريس من أعلى الكتاب، ثم عاد إلى ما كان فيه من قراءة، وهو يقول كأنه لم يسمعه: ــ الدنيا كلها تجارب مؤلمة، والناس كلهم جروح. آه، لو نعري غطاء النفوس فنكشف عن حجم المعاناة! لما تحدثنا عن آلامنا إلا بقدر ما يتحدث الأطفال عن ساعات لعبهم. لكن الألم يا أخي ضروري لصهر الإنسان وتهذيب النفوس وفرز جواهر الناس، والدليل عندي أنت، أنت يا أحمد، مهما كان ما تخفيه عني، مهما كان. وكذا مي طامو، ثم فاطمة، هي أيضا وإن كنت لا تعرفها ولا تعلم عنها شيئا فإنها غارقة في الألم. وكذلك الأمر بالنسبة لكل الناس؛ لا نعرف عنهم إلا النزر الذي يكشفوه طوعا، أو دون وعي. ثم قال بعد صمت: ــ تأكد أني لن أسألك مجددا عن أي شيء، ولا في أي شيء، لا أنت ولا غيرك، فما عدت أحتمل إيذاء الناس. بإمكاني التخمين فيمن كان الجاسوس الذي أخبر مي طامو ولن ألومه، لا، ولن أحاسبه، بل لن أفكر حتى في ذلك؛ قد قرأت عن أحدهم أنه يرفض الانتقام لأنه لا يرغب أن يطارد كلبا إن عضه لينتقم منه، مع أني أتحفظ على أن أستعير لهذا الحاقد صفات الكلب، أولا، رأفة بالكلب، وثانيا، وهو الأهم، احتراما للإنسان فيه؛ تعلمت أنه علي أن أحترم الإنسان في البشر، لأني بذلك أحافظ على ماء الإنسانية في وجهي، ومن يدري؟ لعل الله أرسله من أجلي؛ فأنا بداية كنت أفكر في تغيير الإقامة، ولكني كنت أؤجل ذلك فقط، وثانيا وأخيرا، ربما لأكتشف خطيئتي، ولاسيما حجم وقعها على غيري، ولكن لا بأس، فمدبرها حكيم. ولأن ذلك الجاسوس ـ يا أخي ـ قد أذاني في علاقتي مع مي طامو، التي كنت أوقرها حد التبجيل؛ تلك الأم التي احتضنتني، وآوتني، فكانت كالرحم الثاني الذي أحسست فيه بالأمان، لذلك كله فإني سأحتسب صبري على الأذى عند الله فقط، وكذلك لتتطهر به نفسي. إن الصبر على الأذى أفضل مادة لتنظيف النفوس، وتطهير الأرواح، ها أنت، اقرأ، أو استمع لما يقوله هذا البطل في هذه الرواية. أقفل دفتي الكتاب تاركا سبابته في الصفحة التي كان فيها، وذلك ليتعرف اسم صاحبه أو عنوان المؤَلَّف، لكن الغلاف كان ممسوخا، فعاد ليتلو من حيث كان موضع إصبعه: ــ "إن أردنا إصلاحا، فأنفسنا أولى". كان أحمد حينها قد قام ليلبي طلب زبون فصمت، وتابع قراءته سرا، ولما عاد أحمد إلى المقعد بجواره، اقترح عليه أن يجمعا سلعتهما، ويعودا إلى البيت، لأنه عازم على أن يبدأ الصلاة من يومه هذا، الصلاة التي كان منقطعا عنها منذ مدة، وعلل تعجله بالعودة إلى البيت بأن عليه أن يأخذ دشا ويقصد المسجد مبكرا حتى لا يُفَوِّت الخطبة، وأن يلحق المسجد قبل امتلائه بالمصلين. كان إدريس منشغلا بتقطيع الخضر حين رن هاتفه، وكانت فاطمة على الخط، فرد عليها، واتفقا على الخروج معا قبيل العصر. ألقى هاتفه بعيدا بعد انقطاع الخط، وعاد إلى طبقه؛ وضع الخضر التي قشرها وقطعها بعناية في الطاجين؛ فبدأ بدوائر البصل، وفوقها وضع فخذ الدجاج، ثم رتب قطع البطاطس والجزر وهكذا إلى أن ملأ الفراغات بحبات البازلاء الخضراء الطرية، وفوق الكل تربعت دوائر الطماطم، ثم أضاف قطعا من الثوم والقزبر، والبقدنوس، أما الملح والتوابل فخلطها مع الزيت في كأس وصبها من فوق. وبينما كان يرفع الطاجين ليضعه على موقد الغاز المشتعل بنار مهيلة، إذ وقف عليه أحمد بجلبابه الأبيض واللوحة في يده، ولأن إدريس قد كان منشغلا بما يعد ويداه مبتلتان، فقد وضعها مسندة إلى الحائط، ثم اعتذر عن كونه لن يتغذى معه كما اتفقا، بل سيأكل الكسكس في باب المسجد. لم يمتنع إدريس، ولكنه قال ممازحا: ـ إذن، ستصلي الجُمَعَ فقط، وأنا أيضا، سألحق بزمر المؤمنين، الأسبوع المقبل طبعا، أما اليوم فلا زلت على جنابة، ثم أردف بنبرة الجد: إن لم تمانع يا أخي، فأعطني ذلك الكتاب الذي حدثتني فيه، ذلك الذي قلت إن فيه شعرا جميلا في الحب. خرج أحمد في صمت وهيبة، ثم عاد وفي يده ديوان شعر، أوراقه من الحجم المتوسط، ويبدو من حجمه أنه لا يتجاوز المائة صفحة إلا قليلا. لما عاد أحمد من المسجد وجد إدريس غارقا في الديوان، وقد اشرف على الانتهاء منه، وكان الباب مشرعا ورائحة الطاجين فواحة، فحيَّاه بيده وإطلالته وهو ماض إلى غرفته، ورد إدريس التحية، ثم قال بصوت عال: ــ من لم يقرأ الشعر بتلذذ، فقد ضاعت حياته. قال هذا، وهبَّ من مكانه قاصدا صديقه في غرفته، والديوان مفتوح في يده، ومن الباب بادر بالكلام: ــ لا بد أن الدم في عروق الشعراء ليس كالدم الذي يجري في عروقنا نحن، أو إن الله قد خصهم بشيء من روحه، ثم أردف بنبرة المتيقن: ــ والله إننا لا نحتاج إلا لأن نفرد حيزا من وقتنا، وقسطا من حياتنا للشعر، فتتحسن أحوالنا، وتتهدب أخلاقنا ونرتقي. رد عليه أحمد وهو مستلق على ظهره، ــ لم أر شخصا مثلك! لقد سكنتك الكتب، أما الناس هنا فلم يسكنهم إلا حب الحياة الرخيصة. ــ الكتب يا أخي، وجدت فيها ما لم أجده في الناس وغير الناس، وأهم شيء، أنها تمنحك عمرا آخر، تخلقك من جديد، لقد سمعت أحد الطلبة يوما يقول بأن القراءة وسيلة لفهم العالم، وإذن فهم الحياة. دار بينهما حديث مطول، وأهم من ذلك أنه عذب، لم يتطرقا فيه إلى شيء مما يخص أحمد، ولا التغيرات التي طرأت عليه مؤخرا، لم يستفسره عن السبب الذي دفعه للصلاة اليوم بالذات، والآخر لم يحدث له من أمره ذكرا. رأى إدريس أن الخدر بدأ بالدبيب في جسد أحمد، وأن عينيه ضاقتا، ولسانه ثقل وكلامه قد نزر، فتركه مستسلما لنومه الهنيئ؛ وأقفل الباب وهو يفكر "ربما ارتاح بالصلاة، فقد قرأت في كتاب ديني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول للمؤذن: " أرحنا بها يا بلال"، ثم ناجى نفسه مؤنبا: ــ وأنت، متى سترتاح بها يا إدريس؟ إلى متى ستساير سيل الإغواء الجارف؟ إلى متى؟. كانت ساعة اللقاء تدنو سريعا، فتناول لقيمات سد بها الجوع، وقام من مكانه تاركا كل شيء على حاله، اختار قميصا مناسبا وسروال جينز نقي، ثم رش قليلا من العطر، وخرج لملاقاة فاطمة. في آخر المساء كانا عائدين من جولتهما، فأكلا رائبا وحلوة في أحد المحلات المتناثرة بمداخل مدينة الرباط القديمة. عادا كأنهما طائران قد صفا لهما الفضاء، وخفق القلب في جو السكينة، فكادت، لولا صخب حركية المدينة تُسمع نبضاته، كانت المرة الأولى التي تحدثا فيها عن السعادة، وقد عجبت هي لما كان يتحدث بلسان المثقفين، ولطالما كانت تقول بلسان المتعجب: ــ أنت أفضل معرفة من بعض الطلبة الجامعيين الذين عرفتهم عن قرب، وحتى تدفع اللبس أضافت: "أولائك الذين يرتادون المقهى لمراجعة دروسهم ومطالعة الكتب". أخبرته مرارا أنها لم تصدق أنه كان أميا!، وكان يرد عليها مكررا ما أجاب به غيرها من قبل، فيخبرها أن تعلم القراءة باللغة العربية أمر سهل لكل من امتلك الإرادة؛ إذ بمجرد معرفة الحروف الهجائية، فإن الطريق نحو فهم الكلمات التي هي أصلا قريبة من الدارجة يصبح أمرا ميسرا، طبعا إن توفر شرط العزيمة، وأكد لها أن النزوع نحو الكتاب، كان قد تملكه منذ الفترة التي عاشر فيها الطلبة الجامعيين، هناك، بفاس، خاصة أولائك المناضلين؛ ما كانوا يكفون عن القراءة، خاصة الكتب الحمراء، وكانت معارفهم، وطرق حديثهم تدهشه. ثم عدد لها فوائد القراءة، خاصة عليه هو بالذات، لأن القراءة أكسبته مكانة بين أهل السوق، اللصوص أنفسهم لا يتجرؤون عليه، بل يوقرونه؛ رغم أنهم في البداية قد قابلوا علاقته الغريبة بالكتب بكل سخرية، لكن، ومع مرور الوقت، اكتسب هيبة وتوقيرا. وأكثر من ذلك، إن مجرد قراءة كتاب في السوق أو بالأحرى فتحه، يجعل الزبون مطمئنا إلى البائع، خاصة وأن لرواد ذلك السوق تمثُّل سابق عن الباعة؛ حيث إن أغلبهم يتعاطون المخدرات علنا، كما تنتشر بينهم السرقة والنصب والتدليس بشكل ملفت، وما إلى ذلك مما يدفع بالزبناء إلى التعامل معهم بحذر. وفوق هذا وذاك، قد تحصل له من القراءة فائدة عظمى، ولتأكيد قوله أقسم يمينا أنه كلما ختم كتابا إلا وأحس كما لو أنه قد وُلِد من جديد، ثم إنه قد وجد في الكتاب أبا نصوحا وخلا وفيا، وغير ذلك. كانت تصغي إليه باهتمام بالغ أو مبالغ فيه، أما هو فقد وجد في إنصاتها حافزا على أن يحكي لها بعضا مما قرأه، اعترفت له أنها قد وجدت لذة في الاستماع إلى حكاياته، وأنه يتقن حبكها فَرَاقه ذلك، لكنه ضحك بحرقة لما طلبت منه الكتابة، الكتابة عن حياته. لم يفكر في الأمر حتى، لأنه لم يجد في حياته ما يستحق الكتابة، ولكنه أبدى اهتماما بحياتها هي لما أخبرته أنها انقطعت عن الدراسة وهي على مشارف الباكلوريا، فلعن الظروف المزرية، وحنق على الدولة التي لا ترعى مواطنيها، وتأفف من الدنيا التي لا تنصف الناس. كانا لا يزالان في جولتهما بشوارع الرباط حين دار بينهما الحديث حول هذا الموضوع، ما جعلها تتلفت يمنة وشمالا خشية أن يسمعه أحد وهو يسب النظام، وكان هو يطمئنها أن ذلك النظام الذي تخشاه ما عاد يهتم بمثل هذا. تنوعت المواضيع التي ناقشاها وتعددت، فكانا يقفزان من موضوع إلى آخر كيفما اتفق؛ فيحدث أن يتكلما عن الكتب، ثم ينتقلان إلى السينما، فإلى الفقر والجوع والضياع المستشري في الأحياء الهامشية، والتي لا يظهر لها أي أثر في شوارع المدينة. وعقب لحظة صمت وجيزة قالت وهي تشير إلى امرأة أنيقة تتمشى أماهما: ــ كم ننافق أنفسنا! نحن الفقراء، والمرضى الحمقى الجُهَّلُ الواهنون الضعاف العاجزون والمنافقون، نختار أفضل ما لدينا من ثياب لنواجه الناس، ببطوننا الفارغة وعقولنا الواهية. وافقها في غُصتها، رغم أنه أحس لوهلة كأنها تقصده بكلامها الحانق، ثم اطمأن إلى أنها ربما تقصد نفسها أيضا، وما كانت المرأة أمامهما إلا تمويها. جلسا متكاتفين عند الصخور المطلة على البحر وأمواجه الصاخبة فسألها بلكنة المحتار عن طبيعة علاقتهما، فأجابته بقبلة في خده؛ ليس ببعيد عن الشفاه. وقد سكن روعه لما أيقن أن قبلتها تختزل الجواب اختزالا؛ فهو قريب جدا، وعزيز جدا، تحبه، ولكن ليس حب الحبيب للحبيب، إذ إن هناك حدودا باهتة بينهما، لم يتجرأ أحد منهما على تحطيمها، أو تقويمها. فكر في ظل الصمت أن يسألها فيما إن كان في حياتها شخص آخر يستحق قبلة على الشفاه، ولكنه خشي أن تنقلب الآية؛ فيجد نفسه حائرا، ولن يستطيع جوابا. تذكر نعيمة وليلته معها؛ لقد قضاها ممتعة، وفي ظل حكم الظلام وشِرعته كانت امرأة أخرى، فلم يتطلع في العتمة إلى أسنانها، أما رائحة السجائر فلم تضايقه أبدا، نسي فكرة الصلاة أو خوفه من الإغواء، بل ذهب فيه حد الذوبان، فقد كانت خبيرة في إثارته، ولما دق المنبه فجرا ودعها على مضض، فقبلها خلسة من شفتيها عند الباب وهو يدس في يدها الورقة النقدية الزرقاء، قبلها دون أن ينتبه لشعرها المبعثر، ولا لتفاصيل وجهها البادية على حقيقتها دون زينة. جالت في جسمه لذة عابرة من الذكرى، وجد فيها حلاوة ومتعة، تلك النعيمة تمتعه حضورا وغيابا فحاول استحضارها بتفاصيلها لكنه لم يستطع، ربما منع حضورَها شخصُ فاطمة الماثل. لم يندم في قرارة نفسه على ليلته مع نعيمة، بل ارتاح لها، وخامرته فكرة دعوتها الليلة مجددا على أن يحتاط هذه المرة، أقلها ريثما انتقل إلى مسكن آخر، فإن كان الإغواء سبب شقائه، فليغرق فيه حد الثمالة وليكن أمر الله فيه كما شاء، هكذا حدثته نفسه. التفت إليها، وتفحصها وهي لا تزال صامتة، كانت كأنها سابحة في ملكوت بعيد جدا، أو كأنها تستطلع المستقبل خلف أمواج البحر، أو، ربما تراجع الماضي، فرأى في وجهها أثر الزينة. كل النساء ــ فكَّرَــ ولا واحدة منهن تخرج من بيتها دون زينة، لكن لم لا يضعنها في البيوت؟ انتبه إلى أن فاطمة لم تتطرق إلى وضع التبرج لما تحدثت طويلا عن نفاق الناس في مواجهة بعضهم البعض بلباس منتقى. وليقض جدار الصمت الذي قيدهما، أبلغها أنه ينوي الانتقال إلى مسكن آخر، وبرر ذلك بكونه لا يفكر في قضاء فصل الشتاء تحت القصدير، أو الاستمرار في مثل تلك الأوضاع المهينة، ووافقت هي من جهتها مثمنة الفكرة، ثم أخبرها أن رغبة قد امتلكته في الارتقاء بوضعه المادي والمعنوي؛ فإن لم يكن بمقدوره تغيير أحوال الناس في الحي، لاسيما مي طامو وأحمد، فإنه يرغب في ترك ذلك الكاريان البئيس، في الحقيقة، قد خانته اللغة فلم يجد كلمة أصدق تعبيرا لوصف ظروف الحياة هناك، لكنه استعان بما للفظة البؤس من حمولة. حاول، في مرات عدة، أن يقارن بين فاطمة ونعيمة، كل حين، وتحت أي ظرف، وفي لحظة ما، أحس أنه ربما يحب نعيمة أكثر؛ اختلطت عليه المشاعر فما استطاع تمييز الحب من غيره من الأحاسيس والعواطف. كاد أن يفاتح فاطمة في الموضوع، أقلها كان ليسألها عن الحب، وعن رأيها في ارتباطه بالمتعة واللذة، لكنه، ورغم انفتاحه كليا عليها، خاصة ذلك المساء، إلا أنه لم يغامر بذلك، بل حافظ على سره لنفسه، وفي طريق العودة سمح لهم الوقت بدخول مسرح محمد الخامس، فشاهدا مسرحية قصيرة ومجانية تحت عنوان " قيس ولد الحومة"، وهي تمثيلية تدور أحداثها حول موضوع الحب، وأبطالها كلهم ذكور؛ تبدأ بانبعاث قيس الشاعر في أطراف مدينة حديثة فجرا، ليعلن انبهاره من العالم الجديد، وهنا يلتقي بالبطل الذي ستنتقل إليه حمى الحب أو لعنته، ولكنه لم يتمكن ــ لظروفه ــ من الزواج بمن سلبت قلبه، ثم، وفي غمرة تطور الأحداث يتحول من حب ليلاه إلى حب شامل لا يقتصر على شخص المرأة بل إلى حب الله ومخلوقاته جميعها، فيحتار الأصدقاء من ذلك التحول الذي لحقه، ويعجز هو عن تفسير ما به. أخبرته فاطمة في طريق العودة أن في سطح العمارة حيث تسكن شقةً صغيرة للإيجار، وأنها قد بنيت وجهزت حديثا، وهي مطلية ومعدة للسكن، ثم أطلعته علما أن صاحب العمارة قد بنى تلك الشقة في السطح بعد أن رشا المقدم والقائد، وأكثر من ذلك، كان البناء سريا تماما؛ فلا يباشَر إلا ليلا، وكل جزء بني كان يطلى بمثل لون الجدار في ليلته، وهكذا، إلى أن تم البناء. ولأنها تعرف صاحب العمارة عن قرب، وهو أيضا من رواد المقهى، ولن يخيب لها طلبا، فقد عرضت عليه التوسط إن رغب، وكذلك كان. ظل، طيلة أسبوعه الأخير عند مي طامو، يقصد دار الدعارة، كل ليلة؛ فبعد أن يترك فاطمة عند باب العمارة، يودعها ويتوجه إلى بيته، فيأكل ما تيسر، ثم يضع الورقة النقدية الخضراء في جيبه، وما هي إلا دقائق، حتى يكون بين أحضان نعيمة، إلا أنه ما إنْ كان يخرج من عندها حتى يتحاماه الندم والحسرة فَيَعِد نفسه ألا يعود في غده، لكن دون جدوى. ونعيمة هي الأخرى تعودت انتظاره في الوقت نفسه من كل ليلة كما تنتظر الزوجة زوجا طال غيابه، فتتزين وتتهيأ، وأكثر من ذلك، كانت تمنحه وقتا أطول من غيره، وربما ردت زبونا إن صادف قدومه إلى المبغى ساعة دخول إدريس، أو قبله قليلا. وهكذا استمر الحال بينهما حتى بعد انتقاله إلى جوار فاطمة، ولمدة قاربت الشهر؛ فكان يتسلل ليلا، كل ليلة، وفي الوقت نفسه، ثم يعود نادما وحسيرا كسيفا. في تلك الليلة السوداء، ربط المطر ليل المدينة بنهارها فطال مكوثه في غرفته، ثم خرج كعادته إلى المقهى قبيل المغرب، وعادا معا إلى الدار تحت المطر فدخل معها إلى بيتها، وتناول اللمجة مع اثنتين من صديقاتها، فلم تُبْدِ ولا واحدة منهما رفضا أو اعتراضا، ثم بعد حديث طريف تركهن وقصد غرفته. كانت ساعة الموعد المعلوم تقترب بتؤدة، فبات يراقب الوقت بالدقيقة والثانية، عزم ألا يذهب لقضاء نزوته ففتح جريدة من بين التي جلب معه تحت كمه، لكنه لم يستطع قراءة سطر واحد؛ غطى شبح نعيمة كل الصور، وطمس اسمها كل الكلمات، ثم لفحته أنفاسها المتوهجة من كل صفحة، فضرب الجريدة عرض الحائط، ونزع ملابسه ثم دخل فراشه متدثرا. ولكن، ما إن هدأت أنفاسه حتى رن الهاتف، وكانت نعيمة من يتصل فجاء الصوت خافتا: "أنا أنتظرك" قام من مكانه مسرعا، وفي طرفة عين كان يقفز على الدرجات نازلا عبر درجات السلالم. التقى فاطمة عند الباب الخارجي فأدهشه الأمر؛ إذ كانت تلهث وهي مبللة، وواضح أنها عائدة لتوها من الخارج، إلا أنه لم يكن في يدها شيء، فتذكر أنها كانت عازمة على أن ترتاح من تعب نهارها، ولم يجد مبررا لخروجها. وقفا صامتين، وربما مصدومين، دارت في ذهنه الأفكار السلبية جميعها، فحياها مكشرا عن ابتسامة مغتصبة، ومضى في صمت. دعته بكل اسم هو له(إدريس، بو كتاب، الفاسي)، وهو يسير تحت وقع المطر فلم يعرها اهتماما، اخترق الحي الصفيحي ورأسه يغلي، ثم دخل الدار الوطئة وهو يتقاطر من كل ناحية من جسمه، رأى أن سقف فسحة الدار لم يقطر رغم أن الزقاق المكشوف كانت قد تشكلت فيه بعض البرك الصغيرة. استقبلته نعيمة بمنشفة وقبلة حارة وعناق دافئ أنساه وقع المطر، لم يدخلا الغرفة الضيقة المظلمة التي اعتاداها، فقد كان سقفها يقطر، وربما انبعجت إحدى صفائح القصدير من وقع الزخات المطرية وتراكم الماء كما أخبرته، ولذلك ولجا غرفة أخرى بجوار المطبخ. وتحت سلطة الظلام سألها: ــ أتحبينني أنا؟، أم مالي؟ ولما أقسمت أنها أحبته بصدق، انفلت السؤال الأخطر من فمه: ــ تتزوجينني؟ لم تجبه، بل اقتربت من فمه تتشمم رائحته، ففِهم مرادها وما دار في ذهنها، وأكد لها أنه ليس تحت تأثير السكر، وأنه واع تماما بما يقول. ــ لو أتيت قبل اليوم، ربما نعم. ــ لا همَّ لي بماضيك. ــ مستقبلي المظلم سيبقى هنا، أما أنت، فلك أن تبحث عن امرأة صالحة، قادرة على أن تهب الحياة، ليس من واجبك أن تتقاسم معي مأساتي، ولا أن تحمل معي ثقلي. لقد حكم الله أن تكون أنت الذكر، وما كان لي أنا أن أكون إلا الأنثى، التي يجب أن تعطي كل شيء، وتفنى في العطاء. لست نادمة على شيء؛ ليس الأمر بيدي، وأنا لم أصنع رحمي بيدي هاتين، ولو كان الخيار لي لكنت تلك التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالودود الولود، ولو كان الأمر بيدي لجئت ذكرا. لكن، حتى لو كنت رجلا، فما كنت لأطلق امرأة لأن ليس برحمها... توقفت عن الكلام حينا، ثم أجهشت بالبكاء، وغرست وجهها في صدر إدريس ثم قالت وهي تغمغم: ــ ما كنت لألقي بها في مثل هذه الحفرة. طال بهما المقام بين الدمع والشجون، فطرقت يمنى ذات الشارب باب الغرفة، مستعجلة إياهما، وكان صوت الطرقة كفيلا بأن تنفجر القنبلة، وتنقلب نعيمة وحشا كاسرا؛ فخرجت عارية، واتجهت نحوها فأمسكت بخناقها وهي تصيح بكل الكلمات النابية. كادت لتقوم قيامة داخل المبغى، لولا تدخل من حضر. وفي الأخير، مد الورقة النقدية لصاحبة البيت في الوقت الذي تكفلت فتاتين بإدخال نعيمة إلى الغرفة التي خرجت منها، ثم وضح لها أنهما لم يفعلا شيئا، وأنه كان بإمكانها ألا تطرق عليهما الباب، فلا زبون عندها، ولا سببا آخر يدفعها لذلك. خرجت نعيمة من الغرفة وقد ارتدت بعض ملابسها، وقصدت المطبخ، ثم خرجت وفي كفها سكين صغير الحجم، فشرعت تضرب ساعدها والدم يتطاير من كل جرح إلى أن تدخلت زميلاتها فأمسكنها ومنعنها من إيذاء نفسها، وبالمشقة نزعن السكين من يدها ومنعنها من الاستمرار فيما كانت فيه. وقف مدة وهو عاجز عن أي فعل، يشاهد بعينيه الدم وهو ينز من الجروح، ثم استدار نحو الباب يائسا، أما هي، فقد انهارت بين أيدي صديقاتها. كان المطر الغزير يقرع رأسه المكشوف بحدة وهو يذرع الطريق كالمجنون، فيركل بين الفينة والأخرى قنينة في طريقه، وأحيانا كان يرفع يديه عاليا نحو السماء المظلمة كأنه يفاوض الله ويجادله. مر بالقرب من بيته القديم لعله يجد أحمد صاحيا فيشكو له مما هو فيه، أطل من شق بالباب فلم ير أثرا للضوء، وإشفاقا على صديقه ومي طامو لم يطرق الباب، ثم ترك الحي الصفيحي مغموما، وعوض أن يعود إلى بيته، قصد أمه الحديقة. انهار فوق أول مقعد حديدي، وتحت وقع المطر كان يبكي؛ بكى إلى أن جفت مقلتاه: بكى نفسه وبكى والديه، بكى مي طامو وأحمد، وحتى الجاسوس، بكى حال نعيمة أكثر. أخذته رعشة برد، ثم تلتها أخرى، فتوالت الرعشات، إلى أن اضطره إحساسه بالبرد أن يعود إلى بيته. في باب العمارة وجد فاطمة، واقفة منتظرة، فلم يمد يده مصافحا، ولا حتى أعارها انتباها؛ مر بجانبها كأنه لم يرها، وفي السلالم كان يسمع وقع خطواتها خلفه. ساد الصمت طيلة مسار الصعود، عدا إيقاع وقع الأقدام، والنحيب، وعند وصوله قرب باب دارها بادرها بكلام جاء في نبرة حادة وإيقاع واحد: ــ أنت نادلة نذلة، ساقطة، وأنا لست خرقة بلهاء في يدك، لتمسحي بي خطاياك، ولست شاذا لتقضي بي وقت فراغك؛ وأنت، كما فضحك الله الليلة، تخرجين مع غيري في كل حين، كل النادلات، جميعكن عاهرات. قال هذا وانصرف صعودا، لم يلتفت خلفه مع أنه سمع أنينها على طول مساره إلى غرفته، وما إن بلغ السطح؛ حيث يسكن، حتى جلدته سياط المطر والريح، اللذان اشتدا وصارا أكثر عنفا وصريرا. والبيت الذي يسكنه إدريس لا يجمعه سقف واحد موحد؛ فيه غرفة واسعة نسبيا، على الأقل قياسا إلى الغرف التي سكنها طوال حياته، ومطبخ ومرحاض. وللخروج من الغرفة إلى المطبخ كان عليه مواجهة العراء، مهما كانت الظروف. فتح غرفته بشق الأنفس؛ فقد كان يرتجف ويرتعد بكل عضو منه، أما سرواله، فقد كان ملتصقا بجلده من كثرة البلل، ولما كانت تأخذه الرعدة، فتصطك أسنانه ويرتجف جسمه كاملا، أضف هذا كله إلى تشتت تركيزه، فإنه قد وجد صعوبة في فتح الباب. لكنه رغم ذلك، لم يعر الأمر اهتماما، وما إن دخل حتى أقفل الباب دونه، ثم نزع ثيابه، ونشف جسده بحركات عصبية، كأنه يصارع ثيابه وكل شيء أمامه، كان الماء يقطر منه كأنه أوراق شجرة تحت المطر، فقد تبلل كليا، في كل عضو من جسمه؛ من شعر رأسه حتى أخمص قديه. لم يقرأ أي كتاب ليلته تلك، بل اكتفى بعناق فراشه والظلمة وصوت المطر. دارت الأكوان بذهنه فلم يستطع نوما، تقلب كثيرا في فراشه، وبين الأفكار؛ وعاد به الحنين إلى أيام فاس، فتساءل: ــ لو كانت جدتي على قيد الحياة، أمَا كانت لتبحث عني؟ أم إنها عاجزة؟ لا بد أن عظمها قد وهن، وأنها قد خضعت لإرادة أخوالي، أخشى أن أولائك الحمقى، لا قدر الله، قد أودعوها دار العجزة، فما أكثر ما يجر المجانين والديهم إلى تلك الدور البئيسة، أما كان علي أن أبحث عنها؟ لقد أخللت بواجبي اتجاهها. ونعيمة، ما الذي حصل لها؟ آه، كله مني، الأذى كله، كانت هانئة بحياتها، أقلها كانت مستسلمة لقدرها، تجتر أيامها، وتنتظر قضاء الله. يأبى لساني إلا أن يؤذي الناس من حولي، هل كنت لأتزوجها حقا؟ ربما نعم، ولكن أكيد لا، أبدا، لا يمكن. أين سأهرب بها؟ ومن ماضيها؟ ومن أعين الناس، وألسنتهم: "تزوج عاهرة"، "يا زوج العاهرة"،"يا ديوث". ثم قال في ثورة غضب وكأنه يبصق في صدره: ــ تفووو، نحن أدنى مرتبة من الحيوان؛ نغتصب المرأة ونلقي بها في أحضان الرذيلة ثم نلعنها، وبينما نلعنها جهرا تحت أشعة الشمس، نسعى إلى أحضانها ليلا تحت جنح الظلام. ولما طال سهاده تذكر فاطمة، فتساءل إن كان بمعاملته إياها على ذلك النحو، سيدفعها إلى المسار نفسه، ولو دون وعي أو قصد، أحس بالذنب، ولاسيما بالمسؤولية على مسارها إن ارتمت بين أحضان الرذيلة بسببه، لكنه اطمأن إلى براءته، فهي قبل أن يتعرف عليها كانت نادلة، ولا بد أنها... لم يستطع مواصلة الفكرة، ولما آلمه ذلك، عاد إلى حادثته الأخيرة معها بالضبط، وتساءل إن كان في ذلك دليل على غيرته، وبالتالي حبه لها. أعلن آذان الفجر عن ميلاد يوم جديد، ولا يزال المطر مستمرا في توقيع موسيقاه دون كلل، ففكر إدريس أنه قد اغتسل أو تعمد بماء المطر أمس، وأن بإمكانه قصد المسجد للصلاة بعد وضوء صغير، وأن عليه أن يتوب لله وينقطع عن الدنيا وما فيها، وأن يتبتل لله، وربما يهاجر إلى مدينة أخرى بحثا عن حياة أخرى، والهجرة من الإغواء لله وإليه وسيلة أخرى وأجدى لتطهير النفس... لم يُصَلِّ الفجرَ، ولكن مجرد الفكرة قد ملأت روحه طمأنينة فسرت في أوصاله سِنة وراحة، وما هي إلا لحظات، حتى استسلم لنوم عميق لم يفق منه إلا على سماع طرقات ببابه، طرقات رافقها صوت أحمد المبحوح مناديا إياه. تحدثا في أمور كثيرة، في كل ما لا علاقة له بليلة أمس، وعلى هذه الحال أمضوا أياما ثلاثة؛ يزوره أحمد كل صباح فيناقشا الشعر والحكايات وكل ما يدور في فلك الكتب، لا يشغلهم إلا إعداد طبق أو إبريق شاي، واستمر المطر طيلة تلك الأيام في ري الأرض بلا كلال، لا ينقطع فترة إلا ليعود، وفي اليوم الرابع كانا في السوق.
يكتظ السوق أيام الآحاد بالباعة والمشترين فتزدحم ممراته، وفي ذلك اليوم؛ الأحد الأخير من فبراير، كان إدريس جالسا في مكانه رفقة كتابه، كالعادة، لكنه كان وحده، وأمامه قد فرشت بعض الكتب وكثير من الأحذية، وخلف البساط كانت اللوحة معروضة للبيع، متكئة على كرسي أحمد الفارغ، بحيث تواجه المارة. فتح كتاب شرح المعلقات السبع بين يديه، فتراه يقرأ منه بمثل نبرة من يتهجى الحروف أول مرة؛ يقرأ البيت الشعري فوق، بصعوبة، ويبحث عن معاني الكلمات في الهامش أسفل الصفحة، إلى أن وقف عند البيت حيث يقول امرؤ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل ولما فهم معنى كل كلمة منه، أبحر في رحلة البحث عن مقاصد الشاعر ومراميه، أحس كما لو كان هو نفسه قائله، فطالما أحس بالقهر الممتد كليل الشاعر، وود لو ينجلي عليه بصباح يسعد به، ولو أن الغد غير مضمون العواقب، لكنه الأمل، والأمل آخر الشرور كما قرأ يوما في كتاب قديم؛ كانت كتب الأساطير والمسرح اليونانية منتشرة في السوق، وقد وجد فيها متعة لا توصف ومنها تعرف أسطورة الخلق اليونانية، وصندوق الشرور الذي أرسلته الآلهة إلى المرأة... كان غارقا في المعلقة الأولى لما وقف على رأسه شخص رأى ظله عند موقع قدميه، كانت الظهيرة في أوجها ما جعل الظل يظهر قصيرا، ولا يعكس حقيقة صاحبه، رفع عينيه فوقعتا على رشيد. ذلك الشاب ربع القامة وحسن الأخلاق، مجرد وجوده في السوق خطأ طبيعي في تصنيف الناس حسب أقدارهم؛ شاب خلوق، أسمر الإهاب، ربما اكتسب لون بشرته من كثرة معانقته لشمس البحر التي تلفحه في كل الأسواق والشوارع، وهو رب لأسرة صغيرة، يكدح من أجلهم في السوق، وبين المتشردين؛ لم يرض العمل عند أصحاب المصانع، فهم ـ حسبه ــ مجرد مصاصي دماء لا يجب على الإنسان حتى ذكر أسمائهم كي لا تتسخ الأسامي. انحنى رشيد إلى أن حاذى إدريس في جلسته، فمد يده مصافحا بأدب، وبعد أن تبادلا عبارات مجاملة خفيفة، بادر بالسؤال: ــ أخي إدريس، أنت أخونا، كما هو أحمد، وككل هؤلاء التائهين في دروب الحياة، لا يصح أن تحمل الهم وحدك، أخي، يشهد الجميع بخلقك الحسن، والذي لم ولن يساورنا فيه شك، ولكننا حائرون بشأن أحمد، وأنا شخصيا، بالإضافة إلى بعض الحرفيين اقترحنا أن نساهم معك في الأجر. لقد افتقدنا أحمد في السوق، ولما تفقدناه في غرفته، أخبرتنا العجوز المسكينة أنه مرض أياما، وأنك، جازاك الله خيرا، كنت قائما بخدمته على أحسن وجه، وأنك أيضا قد نقلته إلى غرفتك، وقد حمدنا له ذلك منك، وأثنينا على كرمك وإنسانيتك، فارتاحت النفوس، وعزت مكانتك بيننا، والله على ما أقول شهيد. لكن أحدهم أخبرنا أنه شاهدكما أول أمس عائدين إلى البيت، وأنه رأى أحمد في حال سيئة. ــ لو سألتموني عنه لكنت أخبرتكم. نعم، إنه مريض؛ فقبل أسابيع، كثرت شكاويه من ألم ألمَّ بجنبه، ثم تبعه سعال شديد، وصل به ــ في ليال عدة ــ حد الاختناق. لذلك، لازمته أياما وليال، إلى أن قصد المستشفى استجابة لإلحاحنا؛ أنا ومي طامو. وهناك، أشار بسبابته نحو الشرق، في ذلك المستوصف، لم يصفوا له إلا مشروبا مهدئا للسعال وحبات لعلاج الحمى وتخفيف حدة وقعها، كما منعوه من التدخين، ولكنه ،شافاه الله وعافاه، لا يزال مدمنا على ذلك السم، نطق كلمة مدمن بحرقة وهو يمد يده نحو فمه مفرجا بين سبابته ووسطاه. صمت قليلا، ونظر في وجه رشيد ليتأكد من انتباهه ثم أضاف لما اطمأن لذلك: ــ لم يُحَسِّن الدواء حاله أبدا، فما زاد مرضه إلا حدة، وعظمه إلا وَهَنا، وإنه كان أكثر ما يشتد عليه المرض ليلا، حتى إنه لم يعد قادرا على تحمل نوبات السعال التي كانت تأخذه لدقائق متواصلة، فلا تتركه حتى تقطع أنفاسه وتمزق رئته فيبصق الدم أحيانا، ولطالما وجدته مهدودا حينما كنت أزوره صباحا. لذلك ارتأيت نقله عندي؛ حتى أستطيع مساعدته، وخدمته، لاسيما ليلا، وهكذا كان. ثم، في بداية هذا الأسبوع قصدنا مستشفى العاصمة الكبير، وأثناء عودتنا، ربما رآنا صديقك. اعتذر رشيد عن قطع حديثهما، على أن يواصلاه بعد خدمة زبون كان عند بساطه، وما كان ليذهب إليه لو لم ير منه إلحاحا في معرفة الثمن. تتبع إدريس بعينيه حركات أيد رشيد وهو يفاوض زبونه، فنسي الكتاب ولاذ بالصمت. بعد برهة، عاد رشيد معتذرا من جديد، أما عينا إدريس حين عودته، فكانتا مركزتين على اللوحة، وقال مسترسلا: ــ طلب منا الطبيب صورة بالأشعة لصدره، ولأجل ذلك قصدنا المختبر العمومي، ولأنه عمومي، ثم فرك سبابته بإبهامه في وجه رشيد للدلالة على الرشوة، وهو يقول: ــ لا بد أنك تعرف كيف تسير الأمور هناك؛ أعطونا موعدا بعد شهرين، وهل تحتمل صحة أحمد صبر شهرين كاملين؟ ــ يعني أنه يجب أخذه إلى مختبر خاص. ــ وذلك ما أنا عازم عليه، هل تعلم؟ هذه اللوحة، التي كان يساومني فيها ذلك المجنون، أغلى عندي من أن أبيعها، إنها تمثلني؛ إذ أرى نفسي واحدا من هؤلاء اللاحقين بالمرأة العملاقة، ربما أنا هذا وأنت ذلك، وسيكون أحمد هو ذلك الجاثي على ركبتيه في الخلف، تقودنا هذه المرأة/الدنيا، عارية الصدر، نحو المجهول، لا أفق أمامها، لكنها مقبلة في شموخها... مكانة هذه اللوحة غالية عندي، وما كنت لأبيعها لو لم تكن حياة صديقي أحمد أغلى. صمت حينا، ثم أردف: "صدقت حرقة عمر بن الخطاب لما قال: لو كان الفقر رجلا لقتلته". بهذا أنهى كلامه، وزم شفتيه، ثم انزوى كأن لا أحد معه. ربت رشيد على كتفه، وقام من مجثمه فأزاح اللوحة من مكانها وهو يقول: ــ اللوحة لن تباع، عينك على سلعتي! قال هذا وهو يقوم من عنده، ثم توجه مباشرة إلى بائع الأواني في الجهة المقابلة، فأخذ سطلا أسود، وأخرج من جيبه بعض العملات المعدنية فوضعها فيه وهو يصيح في الجميع: ــ يا حرفيين، يا باعة، يا إخوان... أخوكم أحمد مريض، ويحتاج مساعدتكم، أتتركونه للموت؟ أترضى أنفسكم هذا؟ وما هي إلا خطوات وصيحات، حتى بدأت الأيادي تمتد إلى السطل، والقطع النقدية تتناثر فتؤلف إيقاعا فريدا، فبدا رشيد وهو يدلف بين الجموع كأنه صوفي قد اتحد بالكون في رقصة الوجود، كان صوته متناغما مع حركته، وللحظة لم يكن الشاب الأسمر وحده من يستعطف الناس، بل انضم إليه ثلاثة آخرون، رأى إدريس بأم عينيه هذا التضامن الفريد بين الجميع، الباعة كلهم، والمتشردون، وحتى اللصوص والبغايا، كل ساهم قدر استطاعته، بل وإن منهم من وضع أوراقا نقدية من مختلف الفئات. تابع إدريس المشهد من بعيد، فاختلطت عليه مشاعر الأسى والفرحة، بل والعجب أيضا، ولكم كانت دهشته كبيرة حين أبصر بمقلتيه الاثنتين، وبتقزز، تلك المخلوقات العفنة التي كانت ترتدي تحت ستراتها قمصانا جديدة، وتربط أعناقها بأشرطة موشاة، أصحاب الأحذية الملمعة، من ذوي البطون المتكرشة، والخدود الملمعة. رأى من مكانه الكيفية التي كانوا ينحرفون بها، جميعهم، عن طريق رشيد وصحبه، كأن بهم جربا أو مرضا يخشون عدواه، رافضين المساهمة لإنقاذ حياة ضعيفة ولو بالقدر الذي يتركه أحدهم عند نادلة ليغريها بكرمه. عاد رشيد متوسطا بثلاثة من شبان الحي القصديري، مصفد الجبين بالعرق، فاغرا عن ابتسامة وشفتين جافتين، فوضع السطل مملوءا إلى نصفه بالمال، وبقي إدريس جالسا في كرسيه، حائرا، مذهولا، معقود اللسان. شكل رشيد ومن معه ما يشبه اللجنة، فقصدوا بالسطل تاجر متلاشيات، ثم عادوا ومعهم ما يناهز الثلاثة ألاف درهم، فوجد إدريس نفسه حائرا؛ فيما إن كان من واجبه شكرهم، أو الاعتذار لهم عن الأحكام المسبقة التي كان قد بناها في حقهم. هُمْ أنفسهم لم يتركوا له فرصة لفعل أي شيء مما ساورته نفسه فيه. في المساء، كانت غرفة السطح مكتظة عن آخرها بالزوار؛ جاؤوا ومعهم ما لذ وطاب، فأمسى أحمد ليلته تلك جذلا، ونام إدريس مرتاح البال، اللوحة هي الأخرى عادت إلى مسمارها بالحائط. وهُما في هدأة الليل، أخبره أحمد أن شابة من الجيران قد خدمته بحفاوة حين كان غائبا في السوق، فاكتفى بأن طلب منه أن يرتاح. صباح الاثنين، كانوا في المختبر؛ أحمد وإدريس ورشيد والثلاثة الآخرون. وبعد مدة قصيرة على خروج أحمد من قاعة الأشعة، قدم لهم المسؤول على الاستقبال صور الأشعة في مغلف، وما هي إلا أن دار أطول عقارب الساعة دورة كاملة، حتى كان أحمد وإدريس معا عند الطبيب الذي يتابع حالته في مستشفى العاصمة، والآخرون في قاعة الاستقبال منتظرين. عندما خرجا تلقفوهما بالأيد والأسئلة؛ بدا إدريس منكس الرأس وشاحب الوجه، وفي غفلة من أحمد غمزهم وهو يعض على شفته السفلى وواضعا سبابته على طول أنفه راجيا منهم ألا يضايقوه بالأسئلة، ولكن لسان أحمد كان ينساب كالجدول: ــ توقعت ذلك، لست خائفا، والله وحده قادر على تصريف قضائه على عباده بالشكل الذي يرضيه. في الوقت الذي كان أحمد بين أكتاف اثنين من أبناء الحي، انفرد إدريس برشيد والثالث معهما فأخبرهما هامسا: ــ إنه السرطان، وفي مرحلة متقدمة، نسأل الله العافية، وقد أخبرني الطبيب على انفراد، وذلك سبب تأخري بالخروج قليلا، أن الحالة شبه ميؤوس منها، وأن وضع أحمد الصحي لا يُمَكِّنه من تحمل العلاج الكيماوي حاليا؛ ولذلك، فقد طلب منا أن نعطيه هذا الدواء، وأخرج ورقة تلقفها رشيد من يده وهو لا يزال قائلا: ــ هذا الدواء ـ حسب الطبيب ــ بالإضافة إلى تغذية خاصة سيقوي بنيته، ويخفف من وقع الألم عليه، لاسيما ليلا. لطالما أصر إدريس على أحمد أن يرافقه إلى البيت في السطح وهم في الطريق إلى الحي، لكن الأخير كان مصرا على العودة إلى بيته عند مي طامو، ونزولا عند رغبته، اتفق الجميع على خدمته، مناوبة، وبدت العجوز سعيدة جدا بعودته، فرفضت أخذ الإيجار وهي تقول: ــ أحمد ولدي، والبيت بيته. قدم لها رشيد كيسا محملا بالدواء تكلف بشرائه من ماله الخاص موضحا لها كيفية أخذه وساعة تناول كل دواء على حدة، ثم أخبروها كل شيء، عدا عن نوع مرضه. طغت على الأجواء حميمية قل نظيرها، ولا قدرة للغة على وصفها بدقة، وكذلك استمرت الأيام الموالية، لكن، ومع مرور الأيام، فقد أحمد الشهية، فحتى الدواء الذي هو دواء، ما كان يستسيغ بلعه إلا ويتقيؤه قبل أن يستقر في معدته، فزادت حدة آلامه. داوم إدريس على قضاء ساعات طويلة من الليل رفقته، طيلة الأيام الأخيرة، فلا يفارقه إلا بعد أن يحرص على أخذ أحمد دواءه، فتخف حدة سعاله، ويراود النوم عينيه. ربما حضر في بعض الليالي رشيد أو غيره، ولطالما آلمتهم تلك النوبات التي كان يدخلها صديقهم المريض؛ إذ يشتد سعاله حتى يتفتت كبده، ثم يخرج الدم مع بصاقه. في تلك الليلة، الليلة المشؤومة، لم يستطع إدريس ترك صديقه، كانت حالته حرجة جدا، فقد انقطع منه الكلام، ورغم أن سعاله قد خف، إلا أن حشرجة رافقت تنفسه؛ ولما رآه يتنفس بصعوبة رفع رأسه متمهلا، وأسنده على ركبته. ثم، وفي حدود الواحدة صباحا، اشتد أنين أحمد، وبزغت عيناه، فكانت أنفاسه تتقطع بين الفينة والأخرى من الإجهاد، ولما بلغ به الألم المتفاقم مدى لم يتحمله، سارع إدريس إلى مي طامو فأيقظها، ثم خرج في طلب رشيد. كانت ليلة مقمرة، من أشد الليالي ثقلا على الصدور، أخذوه في تاكسي صغير إلى طبيب خاص، ولما كانت عيادة الطبيب في فيلته، فإنه لم يتأخر في محاولة تقديم المساعدة، جاهد كثيرا من أجل إسعافه، لكن لا راد لأمر الله، دخل المسكين فترة راحة أبدية، آخذا سره معه؛ إذ أكد لهم الطبيب أن أكثر ما عجل بوفاة صديقهم لم يكن المرض، بل غصة في قلبه؛ ففي عينيه، كما في قبضة يديه المتشنجة رغبة في البوح والتعبير عما لا يعلمه إلا الله. ارتأى إدريس أن يؤبن صديقه بالطريقة اللائقة، وأصرت أمي طامو أن تخرج الجثة من غرفته في بيتها؛ فنظفتها المسكينة وعيونها أغزر من الديمة الهتانة، ثم طيبتها بالعطر والرياحين، وهناك قضى ليلته الأخيرة مع شمعتين إلى الصباح، وفي خيمة نصبت أمام المنزل، أقيم العزاء لثلاث ليال تباعا. بعد أيام، نُسي أحمد كأنه لم يكن، ودخل شقته وافد جديد، وعاد إدريس إلى سابق عهده في السوق عازما أن يغير حياته جذريا؛ فلم يقصر نشاطه التجاري على الصباح فقط، بل اشترى دراجة، وبها كان يقصد سويقات أخرى في أحياء سلا والرباط، كما أنه لم يقتصر في تجارته على الأحذية المستعملة فقط، بل صار يتاجر في كل ما وصلته يداه، وبالإضافة إلى هذا كله، انقطع لقراءة الكتب في أوقات فراغه كلها، وابتعد عن مزالق الهاوية فلم يقرب دور الدعارة يوما، ولا أخر صلاة عن ميقاتها وتحت أي ظرف.
جلس على طرف سريره، وبيده ضمادة ودواء، فوضع بودرة الدواء على جرح في ظهر ساعده بعدما نظفه بالكحول، ثم ضمده، ولما كان الباب مفتوحا فقد دخلت عليه فاطمة دون استئذان وهي تولول: ــ ما بك أيها المجنون؟ ما بك؟ ــ لا شيء يستحق، لا بأس. أمسكت ذراعه لتطمئن وهي تقول: ــ لقد بلغني خبرك يا أحمق. أخبروني أنك... يا إلهي ما كان عليك أن تحشر نفسك مع أولائك الأوباش! قالت هذا وهي واضعة راحتيها على وجهها كأنها تثبت رأسها بين يديها، فتوجه إليها وأجلسها محاذية له على السرير، وراح يقبل يدها معتذرا: ــ اعذريني رجاء، اعذريني، لقد كنت قاسيا جدا، وعزمت حين علمت بالخبر اليقين أن آتيك معتذرا في المكان الذي التقينا فيه أول مرة؛ لم أستطع انتظار عودتك مساء. ــ ولكن، أربعة أشهر مضت على تلك الحادثة، وأنا، في الحقيقة قد نسيتها ونسيت آلامها، ما كان عليك أن تورط نفسك، الأمر لا يستحق منك هذا. ــ ولا أنت تستحقين هذه المعاناة كلها! هل تعلمين؟ لقد كنت في السوق ذلك الصباح، حين أقبلت إلي صديقتك الشقراء لتخبرني بالحقيقة، وهكذا علمت أنك قد خرجت في تلك الليلة الماطرة لتجلبي لها دواء مسكنا. ما أشد غبائي وتسرعي! عقبت على كلامه مؤكدة، ومفصلة ما حدث بالفعل: ــ نعم، لقد كانت في حالة يصعب وصفها، وكما علمت؛ لقد كانت تتوجع في غرفتها فلم تحضر معنا الوجبة التي استضفناك عليها، ظننا أول الأمر أنها تعاني من ألم دورتها الشهرية، ولكن،... ــ لقد أخبرتني كل شيء؛ أولائك المستغلون، لا ينفكون يدمرون حياة المحتاجين، وبضمير مرتاح، إن كان لهم من ضمير. ــ إذن، أخبَرَتْكَ كل شيء!؟ كنت... ليلتها، كنت سأخبرك، لولا غضبك، ولولا ما خرج من لسانك الجارح. احتضنها من ناحية كتفها معتذرا، فتابعت: ـ لا يهم، علمتَ الآن أني قد خرجت لأجلب لها مُسَكِّنا، ذلك ما فعلت حقا، وحين كنتَ خارجا من الدار، والتقينا في الباب، أين سرح بك عقلك؟ لقد كنتُ عائدة من الصيدلية لتوي والدواء في جيبي، حمدت الله أن نوبة الحراسة في تلك الليلة كانت في صيدلية الحي، فلم أزعجك، ولولا ذلك لطلبت منك مرافقتي. قدمت لها الدواء، وفي غفلة منا ابتلعت عشرين حبة منه دفعة واحدة، فكان الذي بلغك منها. ــ واقع مأساوي، لكن، ماذا لو تحمل رب عملها قليلا من مسؤوليته؟ كان بإمكانه، أقلها أن يساعدها على إجهاض ما في بطنها عند طبيب، وفي ظروف صحية. كيف راقه الأمر حين كان يستغلها؟ أكيد كان مرتاحا، وفرحا، ولكن، بعدها تملص من مسؤوليته. وحش في هيئة إنسان! ــ لقد تألمت المسكينة كثيرا، ساعدناها لتتقيأ، ففرغت معدتها من الدواء، ولولا ذلك لماتت متسممة ليلتها تلك، لقد عانت المسكينة كثيرا، والأفظع من ذلك كله، أنه طردها من العمل لما احتجت عليه. قالت هذا وزمت شفتيها، فابتلعهما الصمت حينا إلى أن تدخل هو لينتشلها من دوامة أفكارها لما سألها: ــ أين رمتك الأقدار يا فاطمة؟ لقد قصدتك في المقهى مساء، ولم أجدك. ــ نعم، بلغني خبرك من النادل، التقيته في طريق عودتي وأطلعني على كل ما حدث، ما كان عليك فعل ذلك، ما كان عليك. ــ لو كان الأمر بيدي، لنظفت المجتمع منهم. ــ تغار علي؟ سألته وهي تنظر إلى عينيه، فرد عليها، وهو يتفادى الوقوع في شباك عينيها: ــ لا، ليست مسألة غيرة، أحسست كأنه تعمد إهانتي؛ ففي البداية جلست في المقعد الذي اعتدته سابقا، منتظرا قدومك، ولما جاءني النادل، صديقك، سألته عنك، حينها كان قد لحق به ذلك المتكرش. أنا لم أعرفه، صدقيني؛ ظننته زبونا من رواد المقهى، فحسبت أنه قد قدم ليوصي النادل بشيء أو ما شابه، فلم أعره اهتماما، لكني لاحظت تلعثم النادل حينها وهو يخبرني أنك غادرت المقهى منذ مدة طويلة. ولما سألته عن المقهى التي قصدتِها كانت نيتي بريئة، ما كان يدور في خلدي سوى أن النادلات يغيرن المقاهي، وأن المقاهي هي الأخرى تغير أطقمها، لكن ذلك الحيوان السمين الذي كان معه قال لي بكل جرأة، ودون أن أسأله، ولا توجهت حتى ببصري نحوه، قال إنه... لم يستطع النطق بالألفاظ التي سمعها من رب عملها السابق، فقد ازدحمت الكلمات في حلقه دون نظام واختنقت بِرِيقِه، وبعد هنيهة من ازدراد اللعاب والالتفات في كل الجهات أردف: لا بأس، لا تهتمي بشأنه، لقد كِلت للقذِرِ القدْر الذي بحث عنه من اللكمات والرفسات، ولو رأيتِ كيف كان حاله تحتي، لشفي غليلك. قال هذا، ثم قام من جوارها قاصدا المطبخ؛ فبدا كأنه كان يخبئ انفعاله لما شرع في إعداد إبريق شاي. تابعته بعينيها من مكانها وقالت: ــ لا بأس، قل كل شيء؛ نعم، لقد طلب مني مرارا أن أخرج معه، وكثيرا ما استفسر عن علاقتي بك أيضا، آه، أولائك النكرات، إنهم لا يقدرون الصداقة، ولا العلاقات البريئة، كل شيء عندهم بالمقابل، حتى أبسط اهتمام، هل تعلم؟ لقد ألح في طلبه البغيض، ولما تيقن رفضي، هو نفسه كرر على مسمعي الكلام الذي سمعته منك تلك الليلة. وأنا، أنا لا أريد بيع نفسي، ألقيت أمامه ما معي من مال؛ لقد شتته في وجهه وغادرت، ولما كنت خارجة سألني باستهزاء: " أنت ذاهبة إلى ذلك الشاذ؟ قالها ذلك الحيوان وهو يضحك بصوت عال، وأتبعني كل ما ابتكره الأشرار من ألفاظ. لم أرد عليه، بل تركته ينبح كالكلب المسعور، ولأني لم أعد راغبة في الاستمرار بذلك العمل المذلول، الذي لطالما جلب لي السباب والإهانة وغيرها مما لا يحتمل، فقد التحقت بمدرسة خاصة لتعلم الحلاقة. سألها ممازحا: ــ يعني أنك ستتعلمين في رأس هذا اليتيم؟ ضحكت بملء فيها، فانطلقت أساريرها، وشرعت تستظهر عليه ما تعلمته من أصول المهنة، ثم ختمت كلامها بنكهة مازحة: ــ إننا لا نتعامل مع الرجال، فقط نجمل النساء. فرد عليها وهو يقدم لها كأس الشاي وقد تكلل وجهه بابتسامة ساخرة: ــ إنه التزوير، ستكون مهمتك الحقيقية هي تزوير الحقائق. ــ تقصد الميكياج؟ كلنا نزور الحقائق، ومن لم يضع تبرجا، فإنه غالبا ما يضع قناعا، حتى إذا ما نزع قناعه وواجه الناس بحقيقته عاريةً، رفضوه. انقلبت الأجواء الحزينة إلى سعادة غامرة؛ وأخبرها هامسا في أذنها أنه يحبها، ثم جاهر بأنه يطلب منها الزواج إن قبلت. تعانقا في لحظة انفجار العواطف تلك، ثم تبادلا قبلا حارة، وكان بينهما ما يكون بين الأزواج. ــ لست عذراء يا فاطمة!؟ ــ وأنت؟ كان ردها كافيا ليصدمه، والحق أنه لم يسألها مؤنبا ولا معاتبا، ولا حتى محاسبا، ولكن سؤالها المرتد جعله يسترجع ذكرياته مع نعيمة وغيرها، فأدرك أن ليس من حقه أن يطالبها بشيء هو نفسه فاقده، ولا أن يسألها في أمر كان غائبا عنه. أكد لها بكل الوسائل والأساليب التي تعلَّم، أنه لم يَحْمِل نفسه على قصدها في المقهى، وكل ما كان منه، إلا لأنه قد عزم على أن يبدأ معها حياته، حياة جديدة، دون أن يهتم بالماضي الذي لم يكن له فيه مكان ولا دور. كان بصدد شرح هذه الأمور لما كانت هي ترتدي ملابسها، و دون حتى أن ترد عليه بكلمة خرجت، فتركته في هواجسه غارقا لا يعرف في أي اتجاه يجدف، وبعد حين عادت وفي يدها مذكرة، فوضعتها بين يديه وهي تقول: ــ أنت تحب القراءة يا إدريس، ولطالما وددت إخبارك بأمور تخصني؛ وما ذلك إلا لأنني أحببتك، أقسم أني أحببتك، ولم ولن أندم على ذلك، لا لشيء سوى لأنك تستحق حبي، لكني لم أستطع فتح فمي بكلمة مما علمتَ الآن؛ ظل خوفي من فقدك يمنعني مرارا، فاهتديت إلى الكتابة، وقد ارتحت بذلك. لم يفتح المذكرة، بل وضعها جانبا، ثم أخذها فقبلها وقام قاصدا المطبخ؛ أوقد قنينة الغاز ووضعها فوقه تاركا إياها تحترق، ولما مدت يدها محاولة إنقاذها منعها فاستسلمت. اشتد اللهب قليلا ثم همد، فأطفأ الموقد ونفخ زافرا على ذبالات الورق الرمادية والسوداء التي انطفأت جنباتها المتوهجة فتطايرت كأنها لم تكن شيئا، هذا كله وفاطمة متجمدة في المكان الذي وقفت فيه، إلى جانب إدريس، وقد اتسعت حدقتا عينيها وهي تراقب كل ما سجلته وقد تحول إلى دخان متصاعد ورماد متناثر. جلس إلى جانب السرير بعدما عادا إلى الغرفة محتضنا إياها، وانهارت هي على كرسي بلاستيكي جواره، مسندة رأسها وظهرها على الحائط، فعدل جلسته بحيث صارت عيناه في عينيها مباشرة، وقام من مكانه فقبلها من شفتيها بعمق وقال: ــ ذلك ماضيك، وأنا حاضرك، وأنت مستقبلي، ثم عاد إلى مكانه. ــ ما من بأس لو عرفت القليل عنه. ارتبك قليلا، ثم أجابها مؤكدا كلامها، وأردف: ــ سيكون هناك متسع من الوقت لأعرف أكثر، ومؤكَّدٌ أنك ستحكين لي أنت بين الفينة والأخرى كل شيء. ولما لاحظ أنها لم تتحمس للفكرة أردف مراوغا: ــ طيب، ماذا كتبت فيه؟ يروقني أكثر أن أستمتع بصوتك العذب والرنان. ــ كل شيء يا ساحر الكلمات، ابتداء من اللحظة الأولى التي شربتَ فيها القهوة بلا سكر، ثم أردفت وهي تمسك أذنه بين إبهامها وسبابتها كأنها أمٌّ تؤنب طفلها، وعن فطوري الذي حرمت نفسي منه وقدمته لك يا جاحد. ــ أكان فطورك؟ ــ لم أطعم طاعمة ذلك اليوم. اعتذر منها بشدة، وحدثها عن الإغواء، وأفكار أخرى كانت تشكل هواجسه ومخاوفه، مضيفا أنه كان حديث العهد بالحرية... ــ هل تريد أن تعرف لمَ وكيف فقدت عذريتي؟ ــ ليس في بالي أن أفعل، أنا أيضا لم أعش ماضيّ راهبا في دير. قال هذا، ثم حكى لها عن زياراته للمبغى، وعما حدث تلك الليلة، وعن ندمه وتوبته. ولأن الصراحة صبغت سماء ليلتهما تلك، فإنها هي الأخرى قد أخبرته بالتفصيل الممل كيف فُضَّت بكارتها. وجد نفسه حريصا على الاستماع إليها حتى لا يقلقها؛ كانت منغمسة حتى عاتقها في بحر ماضيها، فصارت تحكي بلسانها ويديها وجوارحها جميعا. رأى نفسه كما لو كان شاهدا جامدا على تلك الفتاة التي ألقتها المقادير في حضن وحش بشري، وبدت له من خلف الحُجُب وهي بين يديه العابثتين: فتاة في عمر الزهور بين يدي عجوز عاجز، لم تسعفه الحبة الزرقاء في تقوية انتصاب العصب الذي بين فخذيه، فدفع إبهامه بقوة وهو يلهث، ولعابه يسيل. أولج المتوحش أصبعه بعنف حتى غابت الفتاة عن الوعي، فلم تعِ ما حصل بعد ذلك سوى أنها قد وجدت نفسها في مصحة. احتضنها وهو يجفف دمعها، ورجاها أن تكف عن سرد ما لا خير في استرجاعه، لكنها أضافت مصرة وهي ترتجف وقد اتسعت حدقتا عينيها: ــ لقد بعت نفسي كي أؤمن لأمي مصاريف أشعة الكشف، ولكني لم أنقذها، لقد فقدتها، فقدت دعواتها وَصِلَتِي بالسماء، فقدت رحمة الله في الأرض. عانقها، ضاغطا جسمها النحيل على صدره، فاختلطت دموع العيون، وغابا عن الوجود بعد أن أسلمهما البكاء إلى سكينة أهل الكهف.
مذكرات إن صح أن القراءة وسيلة لفهم العالم، فالكتابة أكثر من ذلك؛ إنها أداة لصناعة العالم وتشكيله، من هذا المنطلق، ورغبة مني في تشكيل عالمي، أو أقلها وصفه بدقة، فإني أقف الآن، على سنوات حياتي كاملة، وأتساءل باحثا عما يجب ــ أو بالأحرى يمكن ــ كتابته؛ فيتراكم الماضي عبر الأيام، ثم يمر منفلتا خلال الذاكرة في لحظات الصفاء كالشريط السينمائي، أو كومضات يستحيل إمساكها. لم أجد إلى حد الساعة خيطا ناظما لكل الأحداث التي مررت بها، اللهم الصدفة والعناية الإلهية. نعم؛ فمصادفة التقى حيوان منوي من جدي الذي لا أعرفه، والذي ــ بالتأكيد ــ لم يكن راغبا في معرفتي، ببويضة امرأة، في لحظة محددة بدقة، ولكن بالصدفة، أما العناية الربانية فهي التي أنجتني من حادث الحافلة. ثم مصادفة أكلت المعجون، والتخطيط الرباني المحكم قادني إلى مساري؛ وإلا كيف سأُرَحَّل إلى السجن سيئ الذكر الذي ألقاني بين أحضان السوق الشعبي وفاطمة؟ أوليس مصادفة وجدت نفسي أتاجر وأنا الذي كنت عازما على معانقة البحر؟. إن الصدف هي المجاديف التي توجه مركبي في بحر قضاء الله وقدره، ولكن ليس لوحدها طبعا، فأنا أيضا قد أجدت الاختيار؛ فتعلمت التنازل وتحمل المسؤولية، كما أني قد أحسنت إلى نفسي بتثقيفها، لاسيما حين اتخذت من الكتاب ولي أمري وصديق عمري وأمين سري، هذا، وإن كان للصدف دخل في اختيار هذا التوجه أيضا. ولولا الكتاب! لولا الكتاب لما كنت كما أنا الآن، لولاه ما تعلمت القراءة والكتابة، وبالتالي مخاطبتك وأنا لا أعرفك؛ ذلك أن السارد لم يخبرك عزيزي القارئ بكل شيء، والعيب فيَّ أنا الذي كلفته بالحديث عني. وحتى أطمئنك، فإن كل ما قرأت عني صحيح، لكنه مبتور، ولذلك، فسأتمم، بإذن الله، ما غفل عنه السارد. وقبله؛ اعلم أعزك الله أني أحسست بأخطائي، فقومت الصراط الذي اتخذت لمساري، أعترف أني كنت مخطئا لما انغمست في بِركَةِ الضَّلال الآسنة، وربما ما كنت لأسلك تلك الطريق إلا احتجاجا غبيا على قدري، ورفضا لواقعي، ولكني أرى ــ الآن ــ أن على الإنسان ألا يرفض ما لم يكن له يد في اختياره، وأن يتقبل الأقدار التي كتبها الله عليه، نعم، علينا قَبُولها كخطوة أولى لتطهير ذواتنا، ثم تغييرها في حدود الإمكان دون ادخار جهد من بعد، أقسم ــ بما أني قد فتحت صفحة الاعتراف ــ أني لم أرتح إلا يوم سلمت أمري لله، واعترفت بأخطائي معلنا توبتي، وقد أيقنت أن قدر الله مهما كان قاسيا في أعيننا فإن وراءه خيرا، ومهما كتبت هنا، فلن أتمكن من وصف ما ألت إليه. وأنا أكتب الآن هذه الحاشية، أجد نفسي ملزما بترك الكتابة أحيانا لأستجيب لصرخات أحمد، ابني الصغير الذي سميته لذكرى صديقي الكتبي، ولكن، الذي لا يشبهه في شيء؛ هذا أكول يبكي الآن من الجوع، أما ذلك المرحوم فما كان يأكل إلا ليبقى على قيد الحياة، صديقي كان دائم الصمت، أما هذا المشاغب فلا يعرف معناه. طيب، حتى أساير الحكاية، وأجعلك قادرا على مسايرتي أنت أيضا، عزيزي القارئ، سأبدأ من حيث تركَنا السارد: في صباح ذلك اليوم، اتفقنا على إعداد ما يلزم لتوثيق زواجنا، والحق أن الأمور قد سارت على ما يرام، اللهم أني قد واجهت بعض المشاكل الإدارية؛ فقد كان لزاما علي أن أعود إلى فاس لاستخراج عقود الازدياد وما إلى ذلك من الوثائق الشخصية الأصلية، ما فرض علي مواجهة ماضيّ، وهناك التقيت بعضا ممن أعرف، ومنهم علمت أن جدتي قد توفيت ـ رحمها الله ـ في دار العجزة، وأن أخوالي قد باعوا الفرن وهلم جرا. استغرق استعدادنا زهاء العشرة أيام، ويوم كتبنا العقد حضر بعض الأصدقاء حفلا بسيطا أقمناه في سطح العمارة، وهناك أقمنا. وطيلة تلك الأيام الأولى، غطتنا السعادة بملاءتها، إلى أن أخبرتني فاطمة ذلك الصباح أن العادة الشهرية قد تأخرت عليها؛ رأيت في عينيها بريق الفرحة وهي تضع جهاز اختبار الحمل أمامي، فرأيت بعيني خطين أحمرين. ولكَمْ كان الحزن باديا على محياها لما عبرت لها عن عدم استعدادنا لاستقبال أطفال، من وجهة نظري، ولا زلت إلى يومي هذا مقتنعا بفكرتي تلك، حسب تلك الظروف طبعا، فأنت ترى عزيزي، أننا قد كنا في حال غير مستقرة، ولم يكن لاستقدام إنسان إلى عالم كله مآسي ومعاناة أي معنى، فما الفائدة من تعذيب شخص لا ذنب له؟ وأنا قد مررت بمثل هذه التجربة، وعانيت خبايا الإحساس بقهر الوجود، ولو سألتني لأخبرتك أنها بدأت بأخذ حبوب منع الحمل منذ تزوجنا، ولكن تلك الليلة التي سبق ذكرها كانت كافية ليستقر أحمد في رحم أمه. كل ما قلته لها، وكل الحجج التي دافعت بها عن رأيي كانت تصبها جميعا في الرمل، ومن حقها ذلك هي الأخرى؛ فقد مرت بتجارب حزينة، ولم ترِد إعادة مأساة صديقتها مع الإجهاض. لم نتفق على أي قرار؛ كان كل منا مصرا على ما يراه؛ أما أنا فأردت التخلص منه، في حين عزمت هي على الاحتفاظ به مهما حصل. وفي غمرة الطيش والجنون، تبرأت منها وخرجت مغاضبا، عزمت على قتل نفسي ودفنها في الحياة، إلى أن يأتي وعد الله. لم آخذ معي أي شيء، ولا السنتيم الأحمر، قلت: أتيه في أرض الله، أجعل من نفسي واحدا من أقزام اللوحة، وأتبع الدنيا إلى المجهول، وقد قادتني السبل إلى مدينة أغادير. دخلت محطة القامرة بالرباط مساء، وركبت أول حافلة مغادرة؛ رجوت العامل المسؤول عليها، والذي ندعوه المُشَحِّم أن يشغلني معه؛ فأقوم بكل الأعمال الشاقة على طول الطريق، على أن يأخذني معه مجانا فقبل العرض، وكانت الحافلة متجهة بي نحو قدري بأغادير. تحملت عملي رغم أنه كان شاقا؛ فعلى طول الطريق، كلما توقفت الحافلة في محطة ما، كنت أتكلف بإعطاء الناس حقائبهم والصياح باسم المدن التي ستمر منها الرحلة، ومراقبة عدد الركاب وما إلى ذلك...وهكذا إلى أن وصلنا مدينة إنزكان حيث توقفت الرحلة، وهي قريبة جدا من أغادير. واعترافا بالجميل؛ كان المشحم رجل كريما ونبيلا، فقد دفع ثمن عشائي في محطة توقفنا عندها ليلا في منطقة شيشاوة، وأعطاني، فوق ذلك، خمسين درهما عند وصولنا، وهي التي قضيت بها يومي الأول. قادني بحثي عن عمل أسد به حاجياتي إلى سوق كبير للخضر، يدعونه سوق الثلاثاء، وقد اشتغلت من يومي الأول؛ أحمل صناديق الخضر إلى الخارج، فآخد درهمين مقابل كل صندوق، ولم أجد في منافستي للحمالين أي مشاكل، بل إنهم من ألطف خلق الله؛ فقد علموني أصول المهنة واكتريت مع ثلاثة منهم بحي تاراست، كانوا ثلاثتهم من قبائل الشياظمة، وبنيتهم الجسمية قوية. لأن العمل في الحمالة الشاق والمُرهِق، قد برى عظمي، وأنساني الكتب والقراءة، ثم لأني تشبعت بروح التجارة في سلا، فقد انقطعت عن الحمالة بعد ما تحصل عندي من المال ما كفاني لشراء عربة بعجلتين وإطار خشبي وضعته فوقها. السلاوي مول الديسير، اللقب الذي حصلت عليه؛ أشتري الخضر أو الفواكه من السوق، لاسيما الفواكه الموسمية، ثم أعرضها في بوابة السوق صباحا، وفي الساحة مساء، فأجني من ذلك أضعاف ما كان يتحصل عندي من الحِمالة. وبالصدفة دوما، لن أقول عثرت على كتاب، بل التقيت به صدفة، ويا لها من صدفة خير من ألف ميعاد كما يتردد على لسان الناس، لأنه أكثر من مجرد أوراق مكتوبة، إنه روح مكسوة بغلاف من ورق، سيغير حياتي، إن لم نقل عصف بها؛ ذلك أني في يوم أربعاء مشهود، ويوم الأربعاء هنا، في إنزكان، هو شبه يوم عطلة، نرتاح فيه؛ فتقفل فيه الأسواق وكثير من المحلات أبوابها، اشتريت الكتاب لما أغراني بثمنه البخس ولونه الأحمر، ولاسيما أني كنت قد افتقدت الكتب والطمأنينة في عالمي الجديد. والكتاب رواية تحت عنوان "الحي اللاتيني"، راقني أسلوب صاحبه في الحكي فاقتحمت عوالمه، وسرعان ما وجدت نفسي ذلك البطل التائه بين دروب الحي اللاتيني، وإن اختلفتْ غاياتنا؛ فهو يريد العودة بدكتوراه، أما أنا فلا أرجو إلا السلام والسكينة، كما تعددت أوجه الشبه بين فاطمة وجانين، وإن كان الفرق بينهما ظاهرا جليا. سمرت مع الكتاب ليلتين، وفي الثالثة كنت أنفض صفحاته الأخيرة. نسيت أن أخبركم أني كنت عازما على قَصدِ مدينة الداخلة، أنا وصديقي الخضار"علال"، الذي أشاركه السكن في غرفة واحدة، ذلك أن الأخبار القادمة من هناك كثيرا ما كانت تغرينا؛ فالمعيشة رخيصة، والحياة طيبة، والتجارة ميسرة، والسياح بالأفواج... أتممت الرواية ليلة الجمعة، في آخر الليل. كان علال غاطا في نومه، فأطفأت نور المصباح وأسلمت رأسي للوسادة استعدادا لاستقبال يوم عمل جديد. غلبني السهاد، فتقلبت في فراشي مرارا، كأني كنت مفترشا شوك سدرة، استرجعت أحداث الرواية فآلمني مصير جانين؛ "ما كان على بطل الحكاية أن يتخلى على مسؤوليته تجاهها"، هكذا فكرت، وعلى إثرها قمت كالمسجى عليه لما سمعت: ــ"وماذا عنك أنت؟" ــ أقلت شيئا؟ سألت علال، لكني انتبهت إلى أن الصوت قد جاء من مصدر عميق وخافت، ثم إنه كان طفولي النبرة، فراودني الشك حينا، ثم زاد يقيني لما سمعت نَفَسَ صديقي العميق يشق هدوء الصمت، فقمت من مكاني أتحسس الحائط باحثا عن مفتاح الضوء. ــ ما بك؟ ألن تنام؟ دعنا نرتاح قليلا، فأمامنا شقاء يوم كامل. هكذا زعق علال في وجهي وهو يحمي عينيه من نور المصباح بساعده. ــ قد كان حلما، لا، بل رؤيا، فأنا لم أنم حتى أحلم أو أرى كوابيس. لم يفهم من قولي شيئا، فغطى رأسه وهو يغمغم بكلمات متذمرا، أما أنا، فشرعت توا في لمّ حقيبتي؛ جمعت القليل من ملابسي، وكل مالي. قام من نومه متعجبا لمَّا رأى ذلك، حدست من عينيه ما كان يجول في خاطره فجلست قربه وطمأنته أني بخير، وبكامل قواي العقلية، ثم سردت عليه ما كان مني قبل أزيد من ثمانية أشهر. رافقني إلى محطة الحافلات، وهو يوصيني خيرا ويسرا، ولما تحركت الحافلة المتجهة إلى سلا ودعني داعيا لي بما حفظه من عبارات الدعاء، ثم دس في جيبي وريقات مالية زرقاء، ما أكرمه! لم أنم طيلة ليلة الرحلة؛ بتُّ سارحا في آفاق الغد، محاولا حصر حدود الإمكان وتبين مراسم المستحيل، ولما علمت أن الله كفيل بتيسير قضائه حسب علمه بأقدار الناس وقدراتهم فقد اطمأن قلبي، ولم يضع رجائي بربي، فلم أكف لحظة عن الدعاء والتبتل والاعتراف بالخطأ، ولاسيما الخطيئة، فقد أسأت التصرف بحريتي في لحظة ضعف عاطفي أولا، وكان بإمكاني ألا أقع في الخطيئة، وبعد الانزلاق فيها، وعوض أن... وقعت في الخطيئة الثانية فتخليت عن مسؤوليتي. صباح السبت، نزلت من الحافلة فلم أستطع فتح عيني أمام الشمس المشرقة. تخيل كما تشاء، لكنك لن تصل إلى الحالة التي كنت فيها وأنا في طريقي من المحطة إلى البيت الذي ساهمت في بنائه، ثم خربته بزلة لسان وصلابة رأس؛ كل المخاوف اجتاحتني، فددت لو طوى سائق التاكسي تلك الطريق في طرفة عين. وقفتُ في باب العمارة لما نزلت من سيارة الاجرة، فلم استطع تثبيت ركبتي المرتجفتين، لقد جف حلقي، وتسارع نبض قلبي إلى أن انفلت من صدري أو كاد، وضعت كل الاحتمالات، وتسلحت بعزيمتي على تحمل المسؤولية، فخضت السلالم صعودا. توقفت قليلا عند باب الدار، حيث كانت تقطن مع صديقاتها الثلاث أيام عرفتها، ثم تابعت صعودي. كانت غرفة السطح مقفلة بقفل خارجي، وكذلك باب المطبخ، لكن باب المرحاض كان مشرعا فدخلته وتشممت به رائحة عطن حديث، ما جعلني أتأكد أن أحدا ما يسكن هناك ورجوت أن تكون هي، عدت نازلا إلى بيتها القديم، فطرقته ووقفت منتظرا، كررت وثلثت، ولما لم يأتني أي صوت من الداخل ارتعدت فرائصي خوفا وفقدت الرجاء، فقفلت نازلا وقد ابتلعتني الحيرة. سمعت صوت صرير الباب فالتفتت، فلمحت شابة كأنها أفاقت لتوها من نوم عميق، لكنها لم تكن من صديقات فاطمة، فاعتذرت منها وسألتها إن كانت تعرفها. ــ فاطمة؟ تقصد تلك الحلاقة، فوق؟ لقد أخذتها صديقاتي أمس إلى المستشفى، هل أنت من عائلتها؟ ــ أي مستشفى؟ ولم أخذوها؟ هل هي بخير؟ علمت منها أن المخاض قد فاجأها ليلا فقصدوا بها مستشفى الليمون، وما إن أتمت كلامها حتى تركتها مبهورة ونزلت السلالم جريا أقفز ثلاث درجات أو أكثر، وسأعرف بعد ذلك أن الفتاة التي استقبلتني أخت التي أجهضت سابقا. في المستشفى، وكأن عناية إلهية كانت توجهني، قصدت جناح الولادة، ودون أن أسأل الممرضة في الاستقبال وجدت نفسي أقتحم الغرفة الثانية. كان الباب مفتوحا، وفاطمة ممددة على السرير في أقصى الغرفة، وإلى جنبها لفافة بيضاء يطل منها ملاك صغير، لم استطع تبين الوجوه حولهما لما تغرغرت عيناي بالدموع، وما هي إلا خطوة تقدمتها حتى خارت قواي، فجثوت على ركبتي قبل بلوغ سريرها. كان الذنب أثقل من أن أتحمل الوقوف به، الآن، وأنا أسجل تلك اللحظات بالحبر، قد تغرغرت عيناي بالدموع أيضا، فما استطعت كفكفتها، إني أستحيي من نفسي، ومن قلب فاطمة المتسامح الفسيح. أقسم بأغلظ الأيمان أنها لملاك في صورة إنسان؛ فما كان ليخطر ببالي أبدا أنها ستقوم من سريرها وترفعني من كتفي، ثم تجرني بكل حنان أهل الأرض إلى طرف السرير، رغم وجعها، ورغم أن الممرضة قد تدخلت وهي تنهرها عن ذلك. احتضنتني وهي تبكي وتقول: ــ كنت أعلم أنك ستعود يوما، لا عليك يا مجنون لا عليك. لم أستطع النطق، حُبِسَت الكلمات في الحلق فكادت تخنقني، فلم أقو إلا على البكاء والنحيب، بكيت وبكيت إلى أن تخفَّفتْ نفسي من أرذانها وارتاح خاطري، فقبلتها من جبينها ومددت يدي لأتحسس المولود. لم أستطع الكشف عن وجهه كله، كأني خشيت أن يعاتبني، فحَمَلَتْه هي برفق ووضعته بين يدي، رفعته فوق، إلى أن حاذى وجهه الصغير وجهي، فقبلته في خده وعاودتني الدموع، وكانت عيناي أجود من حاتم هذه المرة فأعدت الرضيع إلى موضعه وقمت من مقامي. رفعت وجهي نحو السقف ويدي بمحاذاة كتفي أو يزيد، مستسلما، كأني يسوع مصلوبا، أو كأني مركب مهترئ ضائع في ظلمات بحر لا يحده بر، ولوهلة تذكرت اللوحة؛ لقد كنت واحدا من أولائك الذين قد طمست ملامحهم ولم يصلهم من شمس الحقيقة إلا ظلال السحب وشكل المرأة/الدنيا، وما علي الآن إلا أن أتحول من ذلك الهائم في ظلال الضلال وظلماته، إلى الباحث عن شمس الحقيقة، حقيقة الضعف؛ ضعف هذا المولود/الإنسان/المخلوق، الذي يذكر بقوة الخالق، وضعف النفس الذي لا يتحقق معه أمن إلا بالارتكان إلى كهف متين وقوة مطلقة؛ تلك آيات الله التي زرعها لنا في طريق حياتنا لتنمو بها معرفتنا له. لا أذكر كم مر علي من الوقت وأنا على تلك الحال، لكني أذكر أني صحوت من تيهي ذاك، فانتبهت إلى الوجوه حولي؛ ممرضة تأخذ قياسات من سيدة معها مولودها على سرير آخر، وصديقتَيْ فاطمة، وأسرتي الصغيرة طبعا. حييت الفتاتين على استحياء، وجدت صعوبة بالغة في صياغة عبارات الاعتذار للجميع، وعدت رأسا لأحتضن صغيري، لكنه لم يكن سمينا كما هو اليوم، بل كان صغيرا جدا، وضعيف البنية حتى خشيت أن أحمله فأكسر ضلوعه. وحتى أقلل الطول، وابتغاء الإيجاز، فقد عمت الفرحة البيت من جديد، فاحتفلنا بولادة هذا المشاغب وعقيقته سبعة أيام تباعا، ومن الصدف مجددا أن حصل اختلاف حول اختيار الاسم؛ أما أنا فطالبت أن أحيي ذكرى صديقي القديم، وأيدتني في ذلك مي طامو، ولم تعارضني فاطمة، لكن صديقاتها رفضن الاسم رفضا مطلقا، ولذلك التجأنا إلى القرعة، وكان ما كان. بعد أيام قليلة، عبرت فاطمة عن رغبتها في العودة إلى الصالون الذي تدربت فيه مدة، لكن، كعاملة هذه المرة. كنا متحلقين حول طاولة الغذاء في المطبخ حينها، وكنت مكتفيا بالإنصات، تاركا للقدر والصدف أن يفعلا ما يجب، فمدبرها حكيم. قامت فاطمة من مكانها، ودخلت البيت، لاحظت أنها قد انحنت كأنها تخرج شيئا من تحت السرير، ثم عادت إلي بلفافة وصندوق صغير. ــ هذه لوحتك، هل تذكرها؟، وهذا المال الذي خلّفته. فتحت اللفافة؛ فكانت القماش الذي رُسِمت فيه لوحة التيه، أما الصندوق فقد ضم المال الذي تركته بعد خروجي ذلك اليوم المشهود. ــ ولكن، لم لففتها؟ وهذا المال؟ يا مجنونة! لقد تركته لأجلك أنت، ومن كان ببطنك. ــ ما كنت قادرة على مواجهة اللوحة في غيابك، أما المال فكنت في غنى عنه. هكذا أوجزت ردها ثم أخبرتي أنها كانت مدخرة مالا من عملها بالمقهى، وأنها كانت تشتغل في صالون متدربة فتحصل على ما يكفيها، وحكيت لها عن كل ما مررت به، وقد رأيت منها حماسا لما وصفت لها الحياة في إنزكان، وما هي إلا أيام حتى كنا نلم ما لدينا استعدادا للرحيل، نحو الجنوب. وصلنا، نحن الثلاثة، إلى إنزكان مساء، وكان علال بانتظارنا هناك، فقادنا ـ جزاه الله خيرا ـ إلى البيت الذي كنت قد كلفته بتدبيره، وهو بيت متوسط بصالة ضيافة وغرفتين ومطبخ صغير ومرحاض، أما الحمام فهو المرحاض نفسه. عدت إلى عربتي بعد ثلاثة أيام، واشتغلت هي في صالون حلاقة راق، وهو مملوك لسيدة أجنبية تدعى إيزابيل، وكانت فاطمة سعيدة بعملها الجديد، فقد تضاعف مدخولها عما كان عليه في سلا، كما كسبت ود مادام إيزابيل، فلم تبدِ السيدة تذمرا من وجود أحمد الصغير في مقر العمل، بل تطورت علاقتهما فصارت تزورنا في البيت أحيانا. ذلك الأربعاء، كنت منشغلا بإعداد طبق الطاجين الذي أتقنه، وأحمد يحبو في الأرجاء إذ سمعت صوت صرير المفتاح، ثم تلاه صوت فاطمة مُرَحِّبة، خرجت من المطبخ لأستجلي الأمر فأبصرتها مع صاحبة الصالون، ومعهما نسوة أوربيات، كن أربع نساء يبدو أنهن كبيرات السن، وقد تكلفت أنا بإعداد الشاي للجميع دون أن أعرف سر الزيارة. دار الحديث بينهن بالفرنسية، وعلمتُ من فاطمة أن إحداهن فنانة وربة متحف، وهي من صديقات مادام إيزابيل، ولأن صاحبة الصالون كانت قد نشرت على صفحتها في أحد مواقع التواصل الاجتماعي صورة لها في صالة بيتنا إلى جانب اللوحة، فقد أعجبت بها هذه الفنانة وجاءت من فرنسا خصيصا لشراء اللوحة المعلقة بحائط الصالة. رفضت فكرة بيعها بداية، لكن، لما سمعت الثمن المعروض، لا تسخر مني، فقد سال ريقي فعلا، أقسم أنه قد سال، لا تحمل كلامي على سبيل المجاز، ولو كنتَ مكاني، أخذا بعين الاعتبار تلك الوضعية المادية التي كنا فيها، والخوف من المستقبل غير المؤمن وغيرها، أما كنت لتبيع لوحة كانت يوما ما مجرد قطعة مهملة في بيت ديوث، لو عرضت عليك أربع مائة ألف درهم مقابلها؟. أربعون مليون سنتيم مغربي، اشترينا بها محلين تجاريين صغيرين ومتجاورين، فضممناهما عبر هدم الجدار الفاصل ليصيرا محلا كبيرا، وجهزناه صالون حلاقة من الدرجة الممتازة؛ بأربعة مقاعد وغيرها من الأجهزة، وهو الآن يشغل ثلاث بنات رسميا.
#محمد_شودان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التيه ، رواية ، الجزء الثاني عشر
-
التيه الجزء الأخير
-
التيه ، رواية ، الجزء الحادي عشر
-
التيه ، رواية ، الجزء العاشر
-
التيه ، رواية ، الجزء التاسع
-
التيه ، رواية ، الجزء الثامن
-
التيه ، رواية ، الجزء السابع
-
التيه ، رواية ، الجزء السادس
-
التيه ، رواية ، الجزء الخامس
-
حصاد الريح، سيناريو لفيلم تربوي
-
التيه، رواية، الجزء الرابع
-
التيه ، رواية ، الجزء الثالث
-
التيه، رواية، الجزء الثاني
-
التيه، رواية، الجزء الأول
-
رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء. كاملة
-
رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء الفصل الثاني
-
رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء الفصل الأول
-
تبخيس الثقافة
-
الأحزاب الإسلامية والديمقراطية
-
الخمار قيد في رأس المرأة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|