|
أغاني كازابلانكا على هُدى -ألف ليلة وليلة-
عبد الكريم عليان
(Abdelkarim Elyan)
الحوار المتمدن-العدد: 5535 - 2017 / 5 / 29 - 13:07
المحور:
الادب والفن
ويوم دخلت الخِدْر خِدْر عُنيزة **** فقالت لك الويــــــلاتُ إنك مُرجلي تقول وقد مال الغبـيط بنا معـا **** عقرتَ بعيري يا امرأَ القيس فأنزلِ فقلت لها: سيري وأرخي زمامه **** ولا تبعديني من جَنَــاك المُعـــلل "امرؤ القيس" أبدأ بالإشارة إلى أن الشاعر علاء نعيم الغول كان قد أصدر ثلاثة دواوين شعرية في العام 2015، هي: (قصائد العشق المائة) و(حين يشبهك الغجر) و(وسائد الخريف ولون المطر)، والديوان الذي بين يدينا هو الديوان السابع للشاعر، بعنوان: (أغاني كازابلانكا) كتبت قصائده في العام 2014، وكان من المفترض أن يُنشَر قبل الدواوين الثلاثة الأخيرة، لكن ربما ظروف الشاعر لم تسمح له بذلك.. أو أنه كان يقصد ذلك عن وعي، وأي كان الحال ننصح القارئ بأن يعود لقراءة الدواوين الثلاثة بعد أن يقرأ (أغاني كازابلانكا)، وبعد أن يطلع على هذا التقديم، ولسوف يجد متعة أكثر، وفهما أكبر... منذ (قصائد العشق المائة) شعرت أن هناك حلقة مفقودة في شعر علاء، وبقيت أتابع قصائده، وكأن الشاعر كان يراوغني، أو يمتحنني كي أمسك بالخيط الذي يقودني إلى ما يصبو إليه.. في قصائده من حيث الشكل والمحتوى.. إلى أن صدر ديوانه (أغاني كازابلانكا)، هذا العام عن دار الكلمة للنشر والتوزيع، من القطع المتوسط في صفحاته المائة وأربعة وثلاثين صفحة. جاء غلاف الديوان بلون الدراق، وقريبا من لون الزعفران جميلا كما أشعاره!، وحمل لوحة تجريدية لامرأة فاتنة، واللوحة للفنان الشاعر الأمريكي المعاصر Norman Engel، وهذا الفنان يؤمن بأن "الهدف من الفن ليس المظهر الخارجي للأشياء، بل هو داخل الأشياء..." واشتهرت أشعاره بأن تضمنت لوحات فنية، وجمع أسلوبه بين تقاليد سادت قديما مع التجريد المعاصر مستخدما الخطوط الحساسة وطبقات اللون والتكوين الكلاسيكي، كما ظهر في لوحاته خصوصا النساء العاريات، والتي تمثل لوحة الغلاف واحدة منها.. فجاء اختيار اللوحة هادفا وملائما لقصائد الديوان وما يصبو له الشاعر... يهدي الشاعر ديوانه لصديقته المغربية (خديجة بن كيران)، ويبدو أنها المعشوقة الملهمة لأغاني كازابلانكا؛ إن كانت كذلك، فهي تستحق الإهداء... ونستحق نحن أن نفخر بالشاعر علاء الذي أنتج لنا هذه القصائد من مخيلته فاتحا لنا شعرا جديدا متفردا على مستوى الشكل والمحتوى.. وتجدر الإشارة إلى أن الإهداء تبعه في نفس الصفحة فقرة باللغة الأمازيغية، يمكن أن تكون (خديجة نفسها) من أرسلت له تلك العبارات الشاعرية التي تبادله الحب ـ حسب ما ترجمها لي صديق مغربي ـ فتقول: "غالبا ما أجلس وحيدا لا أدري أن الحياة كانت تخبئ لي شخصا أصبح قريبا مني.. تهت في هواه حتى نسيت كل ما في الحياة.. الأرض والجبال والأشجار أصبحت تضحك في وجهي... والله أحبك يا علاء.." لا نعرف مراد الشاعر من تأكيده لنا أن حبيبته التي أهداها الديوان هي أمازيغية الأصل، إن كان كذلك فالمثل الشعبي المغربي يقول: "من لم يتزوج من أمازيغية يعش باقي الدهرِ أعزبا" فهنيئا لشاعرنا ذلك الحب.. لما لا..؟! فلا جمال دون الحبيبة، فالحب مصدر الطاقة، والحبيبة لها تأثير حتى في حواس الإنسان، فالرؤية الجمالية موجودة لديه حتى لو كانت الحبيبة غائبة، وهي موجودة في جمال روح الشاعر وفكره ومتعته الحسية والخيالية... وهي مصدر إبداع الشاعر، وغزارة الإنتاج لديه ما هي إلاّ دلالة على قدر كبير من التوهج والاستعداد للكتابة في أصعب الظروف وأكثرها تعقيدا ونهبا للوقت... كل ذلك الدفق والبوح منحته له الحبيبة. ديوان (أغاني كازابلانكا) يرصد البعد الإستيطيقي لدى الشاعر، وهو عنده تجسيد لعلاقة الرغبة بالصيرورة في معظم قصائد الديوان، تلك العلاقة الجدلية المتجددة التي ينبثق منها "الجميلُ"، كأنه يعيد علينا حكايا ألف ليلة، ولعل هذا الديوان فاتحة للدواوين التي صدرت من قبل، والمثير فيها أن كل منها يحمل مائة قصيدة أيضا، وبهذا يكون الشاعر قد أكمل أربعمائة قصيدة في مشروعه "الألف قصيدة وقصيدة" هي بمثابة كتاب "ألف ليلة وليلة" الشهير في التراث العربي... الشاعر الذي يسكن شاطئ غزة وعلى الشاطئ الآخر في كازابلانكا تسكن حبيبته، والبحر الكبير الذي يفصل بينهما، يقرر الشاعر أن يرتاده على جناح السندباد، وفي سفره هذا يستغرق مائة يوم تتجلى فيها كل يوم حكاية من "المتخيّل/الصيرورة" المتوهج في ذهن الشاعر ومدركاته وأحاسيسه.. مائة يوم متصلة دون إجازة أو توقف ليوم واحد، وهي بدأت في يوم 15 أيلول واكتملت يوم 21 كانون الأول من العام 2014، مائة يوم بالتمام والكمال.. هكذا تتهاوى المقاييس والمعايير الأدبية المدرسية ليفسح المجال أمام النقد المُسائِل لكل الأرحام والخلجات التي أبدعت الأبعاد الإستيطيقية المنغرسة داخل صيرورتنا وفي صلب رغائبنا... وهكذا تكف رائعة ألف ليلة وليلة عن أن تكون مجرد خرافات وحكايا تخدش الأخلاق، لتستعيد مكانتها وسط مواكب الإبداع الحقيقي، فتتصدر "أغاني كازابلانكا" كتابات المتخيل العربية، وتتيح لنا أن نعيش ونرى ما لا تقدمه الكتب الأخرى.. أغاني كازابلانكا متخيل ملتهب، ومكان لمأساة الحب، وملجأ للعاشقين، إنها تضم مغامرات الجسد والروح، بلغة أيروتيكية خجلة تماهيا مع الثقافة العربية الإسلامية، التي حدّت من ثقافتنا على الاستمرار في إنتاج هذا المتخيّل، بينما "استمدت القصة الغربية من ألف ليلة وليلة آفاقًا جديدة وميادين مبتكرة لحوادثها وعواطفها.. وغدت شخصية شهرزاد شخصية عالمية، وقد تأثر بها غوته، فراح يكتب عن الليلة الثانية بعد الألف، وكذلك فعل إدغار آلان بو بأسلوبه الساخر. وقد أدّى الإقبال على تأليف قصص عن الشرق مستوحاة من ألف ليلة وليلة إلى استلهام الكتّاب الغربيين القصص الشرقية الأخرى التي ترجمت إلى لغاتهم بعد ترجمة ألف ليلة وليلة. كذلك أوحت الليالي إلى الموسيقيين بأوبِرات عالمية كأوبريت معروف الإسكافي، وباليه شهرزاد التي ألفها ريمسكي كورساكوف، وباليه ثورة الحريم. وقد طبعت الليالي أكثر من ثلاثين مرة في فرنسة وإنكلترة في القرن الثامن عشر وحده، ونشرت نحو ثلاثمائة مرة بلغات أوربة الغربية منذ ذلك الحين." ( الموسوعة العربية: ألف ليلة وليلة، مجموعة علماء، ع 1، ج1) لا أبالغ القول بأن الشاعر علاء، قبل أن يكتب الشعر قد استلهم مجمل التراث الأدبي، والشعري منه بشكل خاص، فاختار لشعره تجربة جديدة خاضها هو وحده هي، أولا: السرد الشعري، وإن كان الكثير من الشعراء جاء السرد في أشعارهم بشكل مقتطف، أو بعض القصائد.. إلا أن أغاني كازابلانكا، جميعها قصائد سردية من المتخيل لدى الشاعر، بل شكل الديوان كتلة واحدة تحت حالة واحدة، وإن تقسمت إلى مائة موضوع، لكنها تصب جميعها للحالة الشعرية التي احتلت كيان الشاعر، وهو ما يسمى في الدرس الأدبي حديثا "ديوان الحالة"، يقول الدكتور محمود الضبع، في مؤتمر أدباء مصر 2008: "التجريب على مستوى تبني مبدأ العمل الواحد أو (ديوان الحالة)، وهو: اتجاه يعتمد على العمل الواحد بوصفه سياقا متحدا وإن تعددت تقسيماته الموضوعية، بما يشي بسرد سيرة ذاتية في الديوان، ومنه على سبيل المثال في الشعر المعاصر للجيل السبعيني وما بعده، أعمال رفعت سلام، وعلاء عبد الهادي، وجمال القصاص، وحلمي سالم، وفريد أبو سعدة، وأمجد ريان، وأحمد الشهاوي، وسمير درويش، وغيرهم..."، لكنّ شاعرنا اختلف عنهم في سردية الديوان كاملا، وقد يكون اتفق معهم في الحالة. وثانيا: أن ديوان أغاني كازابلانكا، التزم الشاعر فيها بنية التدويرـ إن جاز لنا التعبيرـ مع الشعر التفعيلي، حيث لا ينتهي السطر الشعري بانتهاء التفعيلة أو مجموعة التفاعيل، وإنما ينتهي بانتهاء بياض الصفحة ليكمل مع السطر التالي، وهكذا فالديوان قصيدة واحدة مطولة، يُبنى فيه مبدأ التجريب المعتمد على العمل الواحد بوصفه سياقا متحدا وإن تعددت تقسيماته، والذي يدفعنا للتساؤل، هو أن الدواوين الثلاثة التالية جاءت بنفس الشكل والوحدة الموضوعية مما يدفعنا للتأكيد بأن الشاعر عازم على إكمال مشروعه "ألف قصيدة وقصيدة" كما نأمل وننتظر ذلك.. الجديد الفريد والذي لم يسبقه فيه أي شاعر من قبل، وما نكتشفه في قصائد الديوان والدواوين الثلاثة الأخرى، هو أن الشاعر تعمد حذف الكثير من علامات الترقيم عن وعي مقصود، وكأنه يريد أن يقول لنا اقرءوا القصائد بشكل جديد، وبشكل مغاير عن القراءة العادية، فلا فواصل للتوقف عندها، ولا علامات للسؤال كي نفكر في الإجابة، ولا بياض في صفحة القصيدة يرتاح معه البصر... هو يقحمنا في النص دون توقف، ويبقي لنا الدهشة مستمرة ومتلاحقة كالإرهاصات حتى نهاية القصيدة، هنا.. المفاجأة التي لم يبدأ بها الشاعر قصائده، بل جاءت في أغنية "مفاجأة البياض" في الصفحة مائة من أغاني كازابلانكا، ويبدؤها: "القارئون لما كتبتُ ومن سيأتي لن يعيدوا شرح شيء في علاقتنا ببعض سوف يدهشهم مكان نحن فيه سيقرؤون السفر أكثر دون تجزئة النصوص إلى مقاطع لا تفيد وسوف أكتب يا كازابلانكا اعتذاري كان يجدر بي أن أوقف الأيام شيئا أن أراك قُبيل عام واحد كنا سنكتب كل شيء في سطور لا فواصل بينها وبلا قواعد كي تظل حروفنا مفتوحة للبوح لن نحتاج ترقيما لأول جملة وأواخر الإدهاش في فصل البداية كان يمكن أن نكون معا أخيرا لا نفكر في الفراغات التي تبقي البياض مفاجئا للعين سفرٌ واحد يكفي الطريق إليك يمنحني...." هنا.. في هذه القصيدة، أقف وأقول نعم وجدتها! نعم اكتشفت الحلقة المفقودة التي حيرتني ودوختني أيضا منذ "قصائد العشق المائة"، نعم هو الفنان الشاعر الذي لا يبحث، بل يجِدْ ويخلق، ثم يلقي علينا مسئولية كبيرة في البحث مما قد وجَدَ أو خَلقَ.. ليس من السهولة على الدارس نقل جملة من أشعاره، إذا ما أراد الاقتباس فعليه أن ينقل القصيدة كاملة، أو الإشارة إليها بالعنوان والرجوع إلى الصفحة، هذه سمة مميزة خاصة بعلاء وهي لم تتوفر عند الشعراء الآخرين.. وهنا أيضا من الصعب، بل من المستحيل على المتلصص أن يأخذ من قصائده جملة، أو عبارة.. شاعرنا يعمل على خلق لغة جديدة وشكلا جديدا يميزه عن الآخرين، وتجعله يحمل صوتا خاصا به ، وبصمة لا تشبه سواها.. إنه يتماثل لقاعدة الفيلسوف ميشيل فوكو، عندما قال: "أحلم بالمثقف هدّام القناعات والبديهيات العمومية، أحلم بالمثقف الذي يستكشف في عطالة الحاضر واكراهاته نقاط الضعف والشقوق وخطوط القوة. أحلم بالمثقف الذي يتحرك باستمرار دون توقف غير عارف أين سيصبح غدا ولا بماذا سيفكر غدا، لأنه شديد الالتصاق بالحاضر.." (من مقابلة مع التوفل أوبسرفاتور 12/ (1977 /3هي ليست تقنيات شكلية، وليست مجرد انقلاب شكلي في قواعد الإحالة إلى الواقع، بل هي رؤية وموقف.. جاءت كرد فعل للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيش فيها مجتمع الشاعر الفنان؛ فهو يعيش الاغتراب والهامشية، والاصطراع بين الرغائب والمشاعر؛ فذهب في قصائده لتوسيع دلالة الواقع لكي يعود إليها الحلم والأسطورة كمداهمة للشكل الاجتماعي القائم، وبتدمير سياق اللغة السائد المقبول، ولاقتحام مغاور ما تحت الوعي واستخدام صيغة الأنا، والـ أنتِ لا للتعبير عن العاطفة والشجن، بل لتعرية أغوار الذات وصولا إلى تلك المنطقة الغامضة المشتركة بين الذاتيات التي تحتل الذات الواحدة.. في الليلة الأولى من الليالي المائة، من سفره يمهد الشاعر للحكايا التي سيرويها فيخاطب البحر أولا، فهو دليله الوحيد الذي سيقوده إلى كازابلانكا، ويستأنس بالنجوم والكواكب، وبالطيور المهاجرة كي تعينه في رحلته الطويلة، ويناجي البحر، بأن يبلغها رسائله ورغائبه وأمنياته التي من أجلها يخوض هذه المغامرة، ومن ثم يناجي محبوبته، ويدعوها أن تتهيأ لاستقباله، وعنون قصيدته بـ "ما قالته الغريبة". أما في الليلة الثانية يبدأ بسرد أسئلة المونولوج لاستبطان الذات والذات/ الآخر الذي لا مفر منه لأي إنسان، ما هي رغائبه، وبأي شكل يرغب بأن يلتقي الآخر: "من أنتِ يا وهج الندى وبرودة النار التي أشعلتها في الماء؟ هل أنت التي سلبت من الريح الصفير وأمسكت بذيولها من أن تطير؟ هل المدينة أنت حين تفيقُ لاهثة وراء الوقت تبحث عن دقائق لا تعود إلى عقارب تائهة؟...... متى سأعرف أين موعدنا الذي لا بدَّ منه أنا وأنت وموقد للنار في كوخٍ بعيد؟". من غير الشاعر يمكنه إشعال النار في الماء؟ من غيره يمكنه أن يرى ذيولا للريح؟ من غيره يمكنه أن يستخدم أداة للوقت بدلا من أداة للمكان؟ هنا.. تتفجر اللغة بيد الشاعر وتنصهر أدواتها ومدلولاتها في مكنونه الذي يبحث عن مصيره/ الإنسان الحائر في محيط من التناقضات والتعقيدات... التي لا يريد منها إلا موعدا يتحقق في كوخ بعيد عن ضجيج المدينة وصراعاتها.. وموقد للنار كتعبير عن العودة للحياة الأولى... في الليلة الرابعة يتحفنا الشاعر بـ "قدر المسافر: مازوركا أول الليل" كأنه يعيد لنا التاريخ والتراث العربي من جديد، كيف لا و"مازوركا" الجزيرة الجميلة التي كانت المحطة الأولى للأندلس..؟ مازوركا التي تتعانق فيها الطبيعة الساحرة مع التراث القديم، مازوركا التي مازالت تحمل الأسماء العربية، مازوركا الهادئة الرائعة التي زارها الفنان الموسيقار العالمي "شوبان" وألف باسمها أشهر المقطوعات الموسيقية، مازوركا تشبه جزيرة (أركاديا) التي كان يرحل إليها الأدباء والفنانون والفلاسفة اليونانيون... شاعرنا علاء، يسير على هُدى أسلافه، ولا يعطينا شعرا فقط! بل يحيّ فينا التراث، ويعلمنا التاريخ.. هل يمكن للعالم أن يستغني عن البحار والمحيطات؟ وهو بالتالي لا يستغني عن حبيبته ولا عن مدينته: " أنت لي ما البحر للدنيا الصغيرة والنوارس والحروب أنا الذي غرقت به سفنٌ على جفنيك فانتشلي حطامي كله ثم انشري في الشمس خارطة الرحيل إليكِ أنت جزيرة المنفى البعيدة والنهاية والتشرد حيث لا أدري أنا من عاندته الريح حتى أسقطته على شواطئك التي أسميتها قدر المسافر فامنحي قلبي العبور إلى نهارك وامسحي ملح المسافة عن جبيني..... الموسيقى هنا تلغي المسافة بين الذاتي والموضوعي من خلال المزاوجة بين الغنائية والدرامية في النسق التعبيري متجاوزا النمط التقليدي القائم على الانفعالية والتقريرية المباشرة.. مازوركا دونت أسماء الموانئ فوق صارية الرحيلُ وكتمت ما تهواهُ يا قلبي المكابر العليل والقُربُ منها بعد بُعدٍ علّه يشفي الغليل وأنا إليك يشدني من قلبي السفر الطويل" هذا هو شاعرنا كما في ألف ليلة وليلة يبقي لنا قصائده مفتوحة على الأمل والتمني والمفاجأة، يأخذنا معه في تأملاته دون أن يوصلنا إلى النهاية... ها هو في الليلة الثامنة يسأل حبيبته بعد تعبير الاشتياق، أين أوسع مدخل لدارها ليمر منه؟ " أهواك هل يكفي الهوى ليكون لي هذا المدى خيْلي الذي أمتطيه لغاية أخرى سوى عينيك يا دار الحبيبة أين أوسع مدخل لأمر منه معي الهواء وعطر زهر الشوك أحمل من نبوءات المسافة جلها وحقيبتي.". المتتبع لليالي علاء ولغته الأيروتيكية يتلذذ معه ولو في المتخيل الذي يرغبه الشاعر، أو يتخيله وقوعا، للقاء محبوبته، كما في "عناق عند حوض الفل" في الليلة الحادية عشر: "...ونمشي نحو حوض الفلّ يدهشنا العناق ودفءُ هاتيك الشفاهِ وحاجةٌ فينا ترانا ممسكين ببعضنا/ قبّلتُ خدك كاد يوشي بي فعدت بقبلة أخرى ورائحة اللافندر عند أطراف الوسادة تجعل الليل احتمالا واضحا لنعيد بين شفاهنا صمتا به بوح يليق بما انتظرنا.." علاء الشاعر يؤكد حاجة الرجل للمرأة والعكس صحيح، وعندما تكون هذه الحاجة موسومة بالحب، فهو لا ير من النساء غيرها، كما يرتفع عنده الحب لدرجة لم يعرفها مجنون ليلى، وتسمو العلاقة بينهما إلى حد تصبح فيه كل الأشياء غير ضرورية، فيرتقي الجمال التعبيري للدرجات العليا، كما جاء في الليلة الثالثة بعد العشرين: " من أنت حتى أضحت النسوان بعدك سقط أمتعة وشيئا لا يرام ولم يعد في القلب غيرك وانتهت الحكاية فيك لا الأشياء واحدة ولا الماضي يساومني على ما فات مني فامنحيني الوقت كي آتي إليك بدون أمتعة وأترك للمحطة ما تركت أنا أحبك ليس يدهشني الذين تبادلوا القبل اللقيطة ليس يعجبني التهافت مثلهم والحب معنى لم يصل لحدوده قيس ولا ليلى دعي قلبي يقول لكِ الذي لم يعرفوه أنا وأنت هناك بين الشمس والدنيا وبحر لم يفق من موجة تركت له أسماءنا في الرمل،" لماذا اختار شاعرنا محبوبته من كازابلانكا البعيدة؟ هل هي وسائل التواصل الحديثة التي أتاحت للشاعر معرفة حبيبته؟ أم هي تهكم من الشاعر على حال أوطاننا العربية المقسمة، وأن الحب وحده هو من سيكسر كل تلك القيود؟! كما بدأنا حديثنا بأن الهدف من الفن ليس المظهر الخارجي للأشياء، بل هو داخل الأشياء، ودلالة الواقع ومداهمة الشكل الاجتماعي والسياسي القائم، لن يكسره إلا الحب، ماذا لو اختفت الحدود وصارت الأوطان وطنا واحدا؟ نقرأ ما وراء "المتخيل" كسر القيود والحدود المفروضة بين الأوطان العربية بالتناسب والزواج الذي يفرضه "الحب" هو وحده قادر على تغيير العوالم العربية إلى عالم واحد.. في الليلة الثامنة والتاسعة بعد العشرين يفصح الشاعر عن مكنونه: قصيدة "في الهواء كما تحت الشجر": ما جدوى المسافة بيننا وأنا أزاحم ظلي الممتد قبلي والحدود وما يحاك من القبيلة كي أراك وكي نكون كما نريد نقول للدنيا الذي أخفته عنا كي نكاشفها بقلبينا بلا قلق.... ما هذي الحياة بدوننا وبدون هذا الحلم كيف نعيشها وأنا وأنت نشق في هذا الفراغ طريقا سنكون نحن أمامنا ما لا يضيق من المكان وراءنا لن نعود إليه فاقتربي معي من نبعة رقراقة وتطيب تحت الورد رائحة العناق وبوح ما في القلب يحملنا بعيدا خلف تلات على أطرافها عُشبٌ وزنبقة ودوري يرانا نائمين على الهواء أنا أحبك واسألي عينيك حين يلوح في لونيهما شفق المساء.أما القصيدة التالية "بوصلات تائهة" شاعرنا يعيش ضمن حدود مغلقة والبحر هو أمله الوحيد للوصول إلى حبيبته، كمعادل عن هدفه القوي للخروج من الحصار والوصول إلى هدفه الأقوى ألا وهو أحبته وأقاربه أولا.. "مثل طبول من عبروا البحيرات القديمة كي يموتوا ثائرين وهاربين أرى بعيدا آخرَ البحرِ المريب وخلفه لا بد أنت هناك فاتخذي من الفنار الأبيض النائي مكانا نلتقي في ظله ليلا لنكمل رحلة أخرى لنا كالفاتحين وكالغزاة ولا تخافي الاتساع أمامنا هي فرصة لنرى الحقيقة واحتمالات الحياة على ضفاف الحب...." يعود الشاعر في الليلة الثالثة بعد الثلاثين يحاور البحر طريقه الوحيد للخلاص من تراجيديته، وهدفه الأخير للوصول إلى مرماه، يُقسم له مرة ويحنث مرة أخرى، ويتهمه بأنه سبب أزمته التي يعانيها، لكنه في الأخير هو بوصلته المريحة: "يا بحر دعك الآن كم من مرة أقسمت ثم حنثت كم من مرة منيتني ثم خنتني وخذلتني دعني أرمم موجتين على بقايا صخرة دعني أعيد الرمل لي والعشب وانس متى اشترطت عليّ أن أعطيك ذاكرتي متى غادرت قريتنا الصغيرة لست تعرفني إذن فالقلب مني الآن يهوي من أذاقتني الحياة بشهدها وتقاسمت معي التحرر منك كي نختار لونا غير لونك..." من غير الشاعر يمكنه أن يحفر في الريح؟ من غيره يمكنه أن يجدل ضفائرا من الدخان؟ وبدلا من أن يكون الضوء منارة للطريق، يتعثر به المحب؟ من غير الشاعر يمكنه أن يصنع من الضوء ماءً للاغتسال؟ من غير الشاعر يمكنه أن يحشو الوسادة بالأسئلة؟ إنه الشاعر علاء الغول في ليلته الرابعة بعد الثلاثين، حيث يحاور ويسأل عن عالم آخر غير عالمه الواقعي، فالعالم الواقعي لديه ليس سوى صورة لعالم سرّي لا تكشف عنه العلوم والفلسفات والأديان المهتمة بدراسة العالم المنظور مباشرة : "بعد الاعتراف بقليل ـ أين الحقيقة أين أنتَ ولست أنت كما تريد وقد حفرت الريح مرات وجدّلت الدخان ضفائرا تتسلق العمر اشتهاء الحياة ولست تعرفُ ما وراء الغيم أنتَ وجدت نفسك هكذا متعثرا بالضوء أكثر أنت وحدك منذ أن قالوا الطيور تبني عشها في سقف بيتك فالتمس لك شارعا ما مرة جربت فيه الشمس واقطف زهرة بيضاء تشبه في حبيبتك قلبها ووسادة محشوة بتساؤلات واختيارات مؤجلة...." إذن كازابلانكا، وإن كانت المدينة الواقعية البعيدة التي اختارها الشاعر؛ فهي المدينة "الأفلاطونية" التي يرغبها ويتمناها أن تكون واقعية كمخلص من الحياة التي يعيشها، ويحارب من أجل الوصول إلى مدينته التي فيها حبيبته، مبتغاهُ إلى النجاح بالسعادة والحرية، كما جاء في الليلة الرابعة بعد الثمانين، وأغنيته: "أنت لي ولنا كازابلانكا" هل ما أحبُ هو الذي أحتاجهُ وأراهُ أدعي للتخلص من شظايا الإنفجارات التي اخترقت ضلوعي بعدما حاربت من أجل التحرر حاملا قلبي إليك وفي يدي إثمٌ قديم يوم صغتُ رسائلي وتركتها مفتوحة ونسيت أني عادة أعطي الكثير وحين جئت إليك كنت قد اقترفت الإثم مراتٍ بلا داع وأذكر مرة مزقت كل رسائلي ونسيت ما أحتاجه لأعود أكثر جرأة فيما أواجهه هنا وأنا أحاول من جديد فهم نفسي فيك يا حبي الأخير وصورتي بعد اعترافي أنني أعتاشُ من سهري وحيدا فيك...." الشاعر بعد أن سافر بنا مائة يوم، في كل يوم "أغنية"، وفي أغنيته الأخيرة من الديوان، لم يقرر لنا أنه وصل إلى مدينته التي يسعى إليها، لكنه سيستمر في سعيه.. إشارة بأن حكاياه الألف لم تنتهي، بل هي بداية الطريق الذي أشرنا إليه، حيث أنتج الشاعر بعدها ثلاثمائة في طريقه للوصول، وفي أغنيته المائة يقدم العهد لحبيبته بأنه سيبقى العاشق المعذب حد القتل، وسيبقى يحارب من أجلها: " لستُ أنا الذي سرق المدينة واستمر يقول في النُبل الذي ما قيل في شعر البطولات التي لم تكتمل أنت الغريبة حين قلتِ الوقتُ وحشٌ سيّءٌ في الليل أعرف أن بي ما ليس بي وأنا البعيدُ أنا الوحيدُ أنا الذي سيجيء مقهىً مرَّ منه البحر حين تراك في كرة الزجاج وفي الطريق إليك أنت حبيبتي مطرٌ هناك ووردةٌ في القلب شيء ما في شفاه ما وقائمتي تطول وعاجزون بما يتيح لك التفاؤل سوف آتي يا مدينتي البعيدة سوف أبقى العاشق المقتول عندك بين ساق منك والظل الطويل وفي سمائك والأغاني يا كازابلانكا.". العناصر الشعرية من الصورة والبناء واللغة البسيطة عند علاء تشعرك بوجود الطاقة من الوحدات الدلالية المكونة للنص، وبالتوهج الذي يستمر ككتلة واحدة مضغوطة ومكثفة حتى النهاية، يحرص فيها الشاعر على إزالة الزيادات حتى يتحقق الإيجاز في النص من دون أية غايات بلاغية، أو برهانية، بل يفتح نوافذا على عوالم إنسانية، ويمسك باللحظة الشعرية دون أن يفسر أي شيء سوى ما تعبر عنه وحدة النص عن ذاتها... ختاما، وليس آخرا نترك للقارئ ما يمكنه أن يقرأ أغاني كازابلانكا بطريقته، علّه يقرؤها بطريقة أخرى، أو يكتشف ما لم نكتشفه في شعر علاء الغول، أو لم نتطرق إليه.. وننهي حديثنا بما قاله د. جابر عصفور في مجلة فصول: "إن نجاح قصيدة (الأرض اليباب) لـ ت. س. إليوت، كان قد ارتبط بخروجها على الجمهور وهي مرتدية شكلا جديدا عبر إضفاء عناصر الدراما على بنيتها الشعرية، فكل قصيدة هي دراما صغيرة، كما يقول الناقد كلينث بروكسي، لأنها تقوم على صوت يحاور نفسه، أو (أنا) تحاور العالم في حوارها مع نفسها، ويتضمن الشعر من عناصر السر ما يصله بفن القص على مستوى تجسيد الشخصية، أو التصوير الخاطف للحوادث والمشاهد.." . د. جابر عصفور، مجلة فصول، المجلد 15 العدد 3 خريف 1996، القاهرة.
#عبد_الكريم_عليان (هاشتاغ)
Abdelkarim_Elyan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسمائي
-
نتائج الثانوية العامة 2016تحت المجهر !!
-
نتائج الثانوية العامة 2015 تحت المجهر ؟!
-
- كرنفال الموانئ - أركاديا الشاعرة منى صيام
-
قراءة سريعة لديوان -أنا لست خالدا - للشاعر: خالد شاهين
-
قراءة سريعة لديوان -قصائد العشق المائة- للشاعر علاء الغول
-
الفلسفة في قصيدة النثر في غزة
-
-شهرزاد- الفلسطينية حامية للوطن والهوية
-
أيها القوميون واليساريون، انتبهوا !! ورقة للنقاش..
-
الامتحانات المدرسية مرآة تعكس التخريب في العملية التربوية !!
-
نتيجة الثانوية العامة 2013 تحت المجهر ( نحن الذين فشلنا وليس
...
-
المحاكم الشرعية في غزة تغش الناس وتضللهم !!
-
حزيران يحتل المخيم !!
-
عاصمة الفصول
-
منفذ رفح البري نموذج لنظام الفساد والاستبداد المصري
-
الفساد الإداري والمالي للأونروا بغزة وصل إلى التعليم ؟؟
-
الأزمة المالية الفلسطينية ورواتب الموظفين
-
-إبيجرامات- الشاعر عثمان حسين ذاتية المحنة وطنية الهوى
-
الدستور الفلسطيني إلى أين؟؟
-
لحظة انطلاق الانتفاضة المجيدة
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|