أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد شودان - التيه ، رواية ، الجزء الثالث















المزيد.....


التيه ، رواية ، الجزء الثالث


محمد شودان

الحوار المتمدن-العدد: 5530 - 2017 / 5 / 24 - 19:00
المحور: الادب والفن
    


ذلك المساء، أخذ دشا باردا، فأحس على إثره بانتعاش رائق أنساه تعب السوق، انتقى ملابسه بعناية، وبعد ارتدائها، رش العطر على قميصه وخلف أذنيه، ثم خرج قاصدا المقهى.
جلس على الكرسي حيث تناول فطوره الأول بسلا، وعلى الكرسي الذي بجواره وجد جريدة مبعثرة الأوراق، وقد مسخت صفحاتها وصارت كورق الخريف الذابلة من كثرة الأيادي التي عبثت بها طوال النهار، أخذها إليه ونظم ورقها بروية ثم شرع بمطالعتها، منتظرا قدوم النادلة.
لو قُدِّرَ آنذاك لأحد أن يجلس قريبا منه، لسمع خفقان قلبه، لم يكن في الأصل يقرأ الجريدة، بل كان محتميا بها ريثما يهدأ روعه.
ترصد حركتها بين الطاولات؛ كانت مشغولة ومفتونة، ولاسيما فاتنة، وكانت المقهى غاصة بالرواد، خاصة في القاعة الداخلية، حيث احتشد الشباب استعدادا لمشاهدة مباراة من البطولة الإسبانية.
بعد مدة، ربما قصيرة، وصلت عنده، فتوقفت عند حدود الطاولة أمامه، مسحتها بخرقتها الصفراء، ثم استقامت، تنتظر طلبه.
ــ قهوة عادية رجاء.
لم يستطع رفع بصره؛ أحس كأنه آثم، أو أن لسانه لن يطاوعه للتحدث إليها فيما كان عازما، كاد أن يهرب لولا أنها جاءته بالقهوة، فوضعت الفنجان على الطاولة، ودفعته نحوه، أما هو فظل مثبتا عينيه في قلب الجريدة، وقد عزم على الفرار بمجرد مغادرتها.
ــ هل من شيء آخر؟
وضع الجريدة جانبا، وقال:
ــ لا، ولكن أريد محادثتك.
وضعت أمامه عشرين درهما وهي تقول:
ــ اقتطعت ثمن هذه القهوة من دفعك المسبق، ثم أضافت:
ــ أما الفطور، فكان صدقة مني.
التفتت مغادرة، لكنه تشبث بيدها وهي مولية:
ــ رجاء، افهميني، رجاء.
ــ أ أتيت بكذبة أخرى؟
ــ لم أكذب في شيء مما قلته، صدقيني.
ضحكت ضحكة مصطنعة وقالت:
ــ أنت من هنا، مشيرة بسبابتها إلى الأرض، وصمتت قليلا ثم أردفت:
ــ لست فاسيا كما ادعيت، لقد رأيتك، رأيتك مرارا. وأنت، يا إلهي! على من تحسب نفسك كاذبا؟ أنت بائع الهواتف المسروقة.
ــ مسروقة! لا، أنا أشتري الهواتف من عند الناس، وأبيعها مجددا.
ــ و من أين يأتي بها أولائك الذين يبيعونك إياها؟ يصنعونها؟ إنهم يسرقونها من جيوب الناس البسطاء ومن حقائب النساء، وأنت تعلم هذا، ويوما ما سيجرونك إلى السجن.
قالت هذا وهي تتنصل من قبضته، ولما أفلتت، ذهبت قاصدة قاعة المقهى الغاصة بالرواد الذين بدت منهم صرخة عارمة أعقبت هدفا سجله أحد الفريقين.
تركته غارقا في أفكاره؛ فتذكر حادثة الشاب الذي نشل الهاتف من جيب ذلك الرجل في السوق، وتعجب كيف أن حب الربح السريع والوفير لم يسمح له بالتدقيق في مثل هذا؟ كان كسب المال أهم هدف رسمه مذ عاد إلى السوق في اليوم الذي تلا حادثة الساعة.
يتذكر جيدا أنه في صباح اليوم التالي كان كالممسوس؛ يبحث عن كل ما يمكن أن يتاجر فيه، ولما رأى رجلا يحمل هاتفا ساومه فيه، وبعد أخذ ورد ابتاعه منه بثمن بخس، واشترى آخر من رجل غيره، فنظفهما ثم وضعهما على صندوق فارغ من ورق الكرتون، وباعهما في يومه، فجنى من كل واحد منهما مائة وخمسين درهما، وهذا المبلغ، وإن كان أقل من سابقه الذي جاء بالصدفة، إلا أنه كان أفضل مما كان يجنيه من عمله مع البنائين في فاس، دون احتساب التعب.
ناداها فلم تستجب، ولما رأى رجلا داخلا إلى القاعة الداخلية للمقهى رجاه أن يدعو النادلة إليه فأخبره الرجل بلطف أنه هو النادل الذي سيعوضها في هذه الساعة، وإن كانت عنده حاجة فسيلبيها له.
ــ أريد سيجارة.
ــ ضحك معتذرا، وقال: طيب إذن ستأتيك هي بها، فإني لم أستلم منها علب السجائر بعد.
ارتاح للفكرة وقد ضمن قدومها، وبعد هنيهة أقبلت عليه، وهي تخرج السيجارة لتقدمها له:
ـ وهذه، ألم تخبرني أنك لا تدخن؟ ألست كذابا؟.
أمسك السيجارة ويدها، فقربها نحوه ثم قال.
ــ وكيف آتي بك لو لم اطلبها؟ فأنت امتنعت عن سماعي. ابتلع ريقه وأضاف: أولا أنا لا أدخن، ثانيا، أريد أن أشرح لك بعضا مما التبس لديك ثم أنصرف.
ــ طيب، أتمم شرب فنجانك سريعا، فسأخرج بعد تقديم الحساب للنادل الذي سيبقى لليل وطريقنا واحد.
ترك يدها، فانقلبت قاصدة ما كانت فيه وهي تعيد السيجارة إلى مكانها، رفع الفنجان نحو شفتيه فرشف منه ثم وضعه وهو يراقب مشيتها، لقد عزم أن يفضي إليها بكل شيء، وفي الطريق وفى بما وعد نفسه؛ أخبرها كل شيء، تقريبا كل شيء، حدثها عن سبب هروبه من المقهى ذلك اليوم، وعن خوفه من الإغراء، وأسبابه الدافعة إلى ذلك.
وجدت هي أن المسالة لا تتجاوز كونه قد تأثر بقول ذلك الطالب، وأن بعض الصدف ربما قد عززت مخاوفه، فاقتنع هو بذلك، نسبيا.
ثم أخبرها عن الأبكم، وقد أقسم لها أنه كان يتحرى عن صاحب الهاتف قبل شرائه، وأنه عازم على ترك الهواتف وكل ما قد تأتي منه المشاكل.
ــ وفيم ستتاجر إذن؟ سألته، فجاء الجواب بديهيا كأنه كان معدا سلفا:
ــ في الأحذية المستعملة.
ــ التي تُسرَق من أبواب المساجد؟
ضحكا على الفكرة النكتة، وأكد لها عكس ذلك بالفعل بعد القول، ففي صباح اليوم التالي تخلى عن الهواتف والساعات التي كانت بحوزته؛ فباعها بثمن القرع كما يقال.
لما بلغا سور الحديقة التي على يمين الحي الصفيحي، توقفا، ولتفادي ضغط الصمت الذي هيمن عليهما، سألها وقد صارت العين في العين:
ــ أين تسكنين؟
ــ هناك، أشارت بأصبعها اتجاه الشارع، ففهم أنها لا تسكن في الحي الفقير.
ــ آه، فهمت الآن، وأنا كنت أعرض سلعتي هنا على الرصيف، مشيرا إلى الرصيف الذي يحد الحي إلى الشارع.
لوت عنقها في دلال كأنها تتوسد كتفها وهي فاترة عن ابتسامة خفيفة، ثم دفعت بأنامل يدها خصلات شعر تدلت من مقدمة رأسها وقالت:
ــ أسكن هناك، مع ثلاث بنات أعرفهن، السكن هنا في هذا الحي لا يليق بالإنسان.
ــ لكني أسكنه، ومن الناس المغلوبين على أمرهم عدد غفير هنا، لو اطلعت على قلوبهم لما رضيت لهم غير الجنة مسكنا.
أحست وكأنه قد انفجر عليها، أو أنه أحس بالإهانة، فحاولت أن تشرح له أنها فتاة، وفي السكن بهذا الحي مجلبة للضر والشبهات، فأكثر اللواتي يقطنَّه من البنات دون أسرهم يتعاطين للدعارة.
ــ اعذريني، أنا لم أدْرِ لهذا أمرا، أصلا أنا ناء بنفسي عن الناس، ولكن هذا الحي، مهما كان بئيسا، فقد قدم لي... كل شيء.
نظر إليها حتى ركز عينيه في عينيها وكرر: كل شيء.
ساد صمت وجفاء بينهما، وكان هدوء الليل كافيا ليسترجع لحظات من ذلك المساء:
في اليوم الأول، حين كان يطرق أبواب البيوت، باحثا عن غرفة للكراء، متحمسا بمدخوله الحاصل من ربح الساعة، ما قوى عزمه على الاستقرار. وقد فكر أن التجارة أنفع من العمل مقابل أجر زهيد، وفهم أن في الإجارة استنزاف للمجهود وقتل لروح الإبداع، لا يزال متذكرا كيف أن تلك المرأة التي قد تغضن جبينها وتقوس ظهرها، قد أدخلته بيتها كأنه ولد من رحمها؛ فاكترت له غرفة، ومدته بملاءة ووسادة، وفي الليل قدمت له صحنا من الأرز بالحليب.
عجوز تسكن وحيدة في حي فقير، وتتعيش من كراء الغرف، يناديها النازلون عندها: أمي، ولا ترد إلا بنعم يا ولدي، أإنسانة هي أم ملاك؟.
انتشلهم من الصمت صوت لهاث، وكان مصدره من خلف السور القصير المسيج للحديقة، فتتبع إدريس الصوت بأذنه وبصره، حتى رأى شبح شاب يستمني في الظلام، فانفجرت النادلة بضحكة أيقظت الشاب الذي تسلل بعيدا إلى أن اختفى في الظلام، فالتفتت نحو إدريس وقالت باسمة:
ـ أ مع هؤلاء تطيب عيشتك؟
عجز عن الكلام استحياء، تذكر أنه لطالما استمنى هو أيضا، والاستمناء ظاهرة طبيعية في السجن؛ فعادي أن ترى شخصا يداعب قضيبه، ثم يتهيج وهو يضيف البصاق فيحتقن الدم بوجهه، ثم ينهار وهو يرتعش لذة.
قد يمارسها أحدهم متخفيا تحت ملاءته، لاسيما حينما تنطفئ الأنوار فتتصاعد التأوهات، أو أمام الجميع، وفي أي مكان وزمان، خاصة في المرحاض، وما المرحاض أصلا؟: ثُقبٌ في أرض الزنزانة عند زاوية قرب الباب، وعليها حائط قصير حد الركبة به صنبور ماء صدئ.
طبعا لم يخبرها بذلك، بل ظل صامتا إلى أن سألته وهي تدفعه نحو كرسي إسمنتي:
ــ أأنت فاسي؟
ــ أنا فاسي باعتبار مكان ميلادي، وحَيَّانِي باعتبار أصل والدتي، فأخوالي من تيسة. أما باعتبار أبي، نظر إليها وقال بصوت خافت ومرتجف: "ربما بيضاوي"،
ــ ولكن، لماذا ربما؟
ــ لأننا لا نعرف أصله، كل ما حكاه لنا، هو أنه كان في خيرية بالدار البيضاء، لا أعرف حتى إن كانت أمه قد وضعته في الخيرية مباشرة، أو إنها ألقته عند باب مسجد، أو فقط عثروا عليه في الشارع، أو مكب النفايات أو...
ولما طاب لهما الجو، فإنه قد حكى لها قليلا عن أحواله مع أخواله، وعن أشياء أخرى، لكن، باقتضاب.
ــ إذن، كنت تعمل بيديك، وتكسب قوتك بعرق جبينك، كيف دخلت السجن؟ أ لأنك كنت تعاشر الطلبة؟ هل تأثرت بأفكارهم؟ هل وجدوا عندك ممنوعات؟
ضحك قليلا، فقد حاصرته بأسئلتها، ثم أجاب وهو ينظر إلى نجوم السماء:
ــ قطفت الورد من حديقة القصر الملكي.
وضعت يدها على خدها متعجبة من جرأته، وانطلق هو يسرد لها القصة كاملة، ولما انتهى من كلامه، أضاف: لقد كانت براءتي واضحة من كل ما حاولوا تلفيقه لي؛ ظنوني منتميا لتنظيم سري، فحسبوا أني كنت ناويا على زرع قنبلة أو ما شابه، هذا طبعا كما سمعت من فم المحقق. هل تدرين لم تمت إدانتي بستة أشهر؟
ولما لم تجبه، قال:
ــ ليس لأني كنت جانيا، ولكن لأني كنت معدوما، إنه الفقر، ما كان معي المال الكافي كي أعين محاميا، والمحامي الذي كلفته المحكمة لم يحرك ساكنا، ثم لأنه لا أهل لي، لكل هذا، ولنحس طالعي، ولغير ذلك مما لا علم لي به، فقد ثبتت علي تهمة تخريب الممتلكات واستهلاك المخدرات.
ــ ما كان على إسماعيل أن يخلي سبيلك وأنت في تلك الحالة! كان يعرف أنك... أهذه هي الصداقة؟!.
ــ كذلك كان، ومن أجل ذلك آليت على نفسي أن أعيش وحيدا، دون صداقات.
ــ ولا أنا؟ قالتها وضحكت.
ــ لا، أنت شأن آخر، أصلا أنا لست واثقا من نوع العلاقة التي بيننا، ثم أردف وهو يضحك:
ــ أنت، إني أرى فيك أمي.
ضربته على قفاه وهي تقول هازئة:
ــ جدتك، ولست أمك، أأنا في عمر أمك؟ هل أبدو كبيرة في السن؟ إنما هي آثار الزمن، لو كان الوقت كافيا لتسمع عني، لعذرت،
تحاملت متململة لتقوم من مجلسهما ذاك، لكنه استبطأها، فقد أغراه وشَوَّقه أن يسمع قصتها، فأقنعها بأن تبقى قليلا، وأن تحكي كثيرا؛ فالحر قائظ والشارع خالي، والناس لاهون في مشاهدة المباراة، ولا من ينتظر قدومها...
ضحكت هي من كل ما تعلل به، ووجدت في نفسها رغبة لسرد حكايتها، لكنها كما أخبرته حارت من أين تبدأ، ولأنه كان متشوقا لمعرفة المزيد عنها، فقد تعمد الصمت، دافعا إياها أن تبدأ من حيث شاءت.
تلعثمت قليلا، وسألته:
كم يبدو عمري من خلال ملامحي؟
ــ دقق النظر إليها مليا، وتتبع تفاصيل وجهها على ضوء القمر والنور المنبعث من مصباح بعيد، ثم قال:
ــ أظنك في الخامسة والعشرين.
فترت عن بسمة وقالت وهي تمده ببطاقة هويتها التي استخرجتها من صدرها:
ــ ماذا عن هذه؟
نظر إلى البطاقة، قلبها جهة الصورة، ثم قدمها لها:
ــ إني لا أجيد القراءة.
ــ كيف؟ والجريدة؟
ــ تلك التي كنت؟... في المقهى قبل قليل؟ ثم بابتسامة شيطانية:
"لقد كنت أخفي فيها ارتباكي".
ــ مني أنا؟ إنه لرائع أن أرى رجلا يرتبك لما يراني.
ــ لقد خجلت من نفسي، تذكرين تصرفي السيئ الذي قابلت به إحسانك؟.
ثم حاول جاهدا أن يشرح لها السبب الذي حفظته عليه من كثرة ما كرره تلك الليلة على مسامعها، وأقنعته أنها لم تفعل ذلك إلا لأنها رأت فيه صورة الأخ، أو الإنسان المحترِم، وربما المحروم، فمن السهل على المحرومين التعرف على بعضهم، ثم لأنه لم يكذب لما أخبرها أنه خارج لتوه من السجن، ولاسيما أنه لم يسئ معاملتها؛ ذلك أن أغلب من يأتي المقهى لا بد أن يسمعها كلمات غزل خشبية، حفظتها هي الأخرى من كثرة التكرار.
لم يشأ إدريس أن يفوته سماع حكايتها، فردها إلى الموضوع بسؤاله:
ــ من أين أنت في الأصل؟
أعادها السؤال لما كانت فيه، فقالت:
ـ أنا من منطقة قريبة من هنا، تدعى السهول، ومن سوء الصدف أو حسنها، فإن لأبي أيضا حكاية أقرب إلى قصة أبيك، إلا أنه ليس من الخيرية.
لاحظت أنه قد نكس رأسه، فأمسكت بيده وهي تقول:
ــ "لم أقصد إهانتك، صدقني رجاء"، ولما رأت دمعة تسيل على خده توقفت عن الكلام نهائيا، فأقسم لها أنه لم يبك تأثرا بحاله، ولكنه بكى من الصدفة التي جمعتهما، فقد كان يظن أنه الوحيد الذي يعاني بسبب أصله وماضيه الذي لا يد له فيه، ولكن بداية كلامها أنبأته أن لها ماض مظلم وتعيس.
أصر عليها أن تتابع، راجيا، وراغبا، ومستعطفا، وممسكا بيدها...ولوهلة وجدا أنفسهما قد توحدا بقبلة ودمعتين.
ــ لقد كانوا يدعونه الدكالي، جاء إلى السهول فلاحا بئيسا، ومات كما جاء، كنت حين وفاته في الخامسة عشر من عمري، وكنت قد نجحت حينها في سلك الإعدادي، وانتقلت إلى الثانوية البعيدة قليلا عن الدار.
زفرت من أعماقها، فاحتضنها بذراعيه قليلا، ثم تركها لتتم ما بدأته، فمسحت دمعة ساخنة نزلت من عينها، وتابعت حكيها؛ فكانت تتكلم وهي هادئة، وكان هو ساهما في مأساتها، ثم سألته على حين غفلة:
ـ هل تعرف ما هو "التفريق"؟
فاته في سهوه كثير مما كانت تقول، فوجد نفسه يجيب نافيا.
ـ إنه طقس جنائزي؛ فبعد وفاة الوالد ـ رحمه الله ـ كنا نذبح كل ليلة نعجة لتتلقفها البطون عشاء، وقد اضطررنا إلى بيع كبش لنوفر السميد والزيت وغير ذلك من اللوازم، وبعد انقضاء الليلة الثالثة، كما في كل جنازة، يأتي يوم التفريق، وهو اليوم الرابع؛ فخرجنا إلى القبر وقت الضحى وقد أخذنا معنا التمر والماء.
بللنا تربة القبر بالماء، ثم فرقنا التمر على من حضر، وقرأ خال أمي آيات قرآنية على قبر الوالد وهو يحتضنني. لم أبك عند قبره كأمي، صدقني، والله، والحق أني صدمت بوفاة الوالد فلم أبك على وفقده فلم تجد عيني بقطرة واحدة، ولكم كنت في أمس الحاجة إليها، لقد مرضت بعد يوم التفريق أسبوعا كاملا.
في الليلة الأخيرة لمرضي، وبينما كانت الحمى تقلبني على الفراش، فطنت بين اليقظة والغفلة إلى أن خالي لأمي، وهو فقيه، كان يتلو سورة " والسماء والطارق" على رأسي، ففهمت أني على فراش الموت.
ــ لماذا؟
ــ سبق لي أن قرأت في أحد كتبه أن من أسرار تلك السورة الكريمة أنها تخفف وطأة الموت على المحتضر. ضحكت قليلا، وأردفت:
ــ "عمر الكلب!"
وقابلها هو بضحكة خاملة، وضمة حارة على مستوى الكتف.
التفتت إليه لتتأكد أنه مصغ إليها، فقد شعرت براحة غريبة لما فرّغت عليه حملها، وبهذا أخبرته، ثم أضاءت هاتفها معلنة أنها لا تفصلهم إلا نصف ساعة من الزمن حتى ينتهي وقت المباراة، فتخرج الجماهير كالجراد من المقاهي، وهي تعرف طبائع شباب هذا الحي؛ إن انهزم فريقهم المفضل فإنهم سيعيثون فسادا، وكذلك إن فاز.
فهم مرادها، لكنه ألح عليها أن تتابع قليلا، فقد زاد شوقه لسماع القصة، ذلك أنه ربما كان يرى نفسه في كل معاناة.
ولأنها انهزمت أمام إصراره، فقد روت له كيف تدهورت أحوالهم بعد وفاة الوالد، وأنه قد خطبها رجل مسن فرفضته، وخوفا عليها من الأذى انتقلت مع أمها إلى سلا، فسكنوا أولا بقرية أولاد موسى.
اشتغلت أمها في غسل الأواني بإحدى المقاهي، وفي أوقات فراغها، كانت تشتغل في بعض البيوت، إلى أن تعبت، فتخصصت في خدمة بيت عائلة راقية بالرباط، ثم إنها صارت تشكو من صدرها في أيامها الأخيرة، ولاسيما جذر ثديها، لكن ظروف العمل وقلة ذات اليد فرضت عليها الصبر والتداوي بالأعشاب، إلى أن اشتد بها المرض فزارت الطبيب.
وما هي إلا زيارة، فصورة بالأشعة، ثم بالرنين، لتعرف أنها مصابة بالداء الخبيث. التفتت إليه وهي تقول:
ــ "لقد قتلها السرطان" وأجهشت بالبكاء.
احتضنها بين دراعيه، فأسلمت رأسها على كتفه وهي تجهش، ولما أحس بدموعها الباردة تنفذ عبر القميص قام من مكانه وأخرج من جيبه منديلا، ثم جرها من يدها لتنهض من على الكرسي، كل هذا وهو يمسح أسفل عينيها، ثم ترك المنديل في يدها لتكمل المهمة.
سارا في الشارع ببطء، فكان الصمت هو سيد الموقف. لقد فهم أن هذا الوضع الذي آلت إليه هو ما دفعها لتعمل كنادلة، وأما هي فقد كتمت أشياء لا يصح ذكرها؛ رأت أنه ليس من الواجب أن تخبره عن ظروف عملها، أو كيف كانت تجربتها الأولى.
ــ آسف.
ــ بل شكرا لك، فقد كنت في أمس الحاجة لهذه الدموع؛ هل تعرف؟ أن تبكي أمام شخص غريب، أن يحتضنك من لم تلتق به إلا مرة واحدة فتحس كأن الكون كله قد احتضنك بدفئه، صدقني، أنا لم أبك على ماضيَّ، فالماضي لا يستحق البكاء ولا الندم، ثم أردفت وهي تتلعثم:
فقط، ربما، لست متأكدة، أحسست كما لو أنه قد فاض من عيني الحنين إلى أشياء غامضة، لقد كنت غيمة جامدة، وأنت، أنت الذي أنصت إلي، باهتمام، ذلك الاهتمام والإنصات الذي حرمت منه منذ وفاة المرحومة، اهتمامك بقصتي وحياتي الغائبة عن الحضور في ساعة اللقاء، هذا هو الذي فجر هذا الحنين، وأنا ممتنة لك، فقد تخففت من حمل ظل جاثما حيث لم أك أدري.
كانا قد بلغا حدود سكة قطار الشوارع عند مفترق الطرق السفلي، وصار لزاما عليهما أن يعودا، فقد تركا مسكن كل منهما خلف، والمنطقة غير آمنة، خاصة تحت جنح الظلام.
اتفقا على أن يرافقها كل ليلة بعد انقضاء عمل يومها، على أن يحكي كل منهما للآخر ما تيسر، طبعا هي لم تحك له كل شيء، لكنهما تعرفا على اسم كل منهما وتبادلا رقم الهاتف وقبلات.

يتبع



#محمد_شودان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التيه، رواية، الجزء الثاني
- التيه، رواية، الجزء الأول
- رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء. كاملة
- رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء الفصل الثاني
- رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء الفصل الأول
- تبخيس الثقافة
- الأحزاب الإسلامية والديمقراطية
- الخمار قيد في رأس المرأة
- الحمار العربي
- عربي أنا
- سيناريوهات تشكيل الحكومة المغربية
- نار تحت البرقع
- انتهى الكلام,,, إلى مزبلة التاريخ
- حربائية بنكيران
- مشروع متحف
- النظرية الثورية عند امرئ القيس
- مارطون تشكيل الحكومة المغربية
- نبوءة الشاعر
- شرارة شباط
- الدين والفلسفة


المزيد.....




- دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في ...
- مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
- اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار ...
- كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل ...
- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد شودان - التيه ، رواية ، الجزء الثالث