|
التيه، رواية، الجزء الثاني
محمد شودان
الحوار المتمدن-العدد: 5530 - 2017 / 5 / 24 - 09:34
المحور:
الادب والفن
كان كالهائم بين تفاصيل الذكريات، وثنايا الشوارع؛ راح يذرع الطريق في غير اتجاه، فتبعت قدماه الشوارع والأزقة كيفما التوت، حتى ألجأته إلى حي راق. انتبه على نباح كلب أسود، كلب صغير مهجن، كأنه رزمة صوف تتدحرج وتنبح، ولما انتبه فجأة إلى تفاصيل الحي، أحس أنه كان غارقا في ما لم يذكر منه شيئا، لكنه في هذه اللحظة من الصحو، وجد نفسه محاطا بأسوار الفيلات الهادئة، والشجيرات المطلة من خلف الجدران. توقف فجأة حين أحس بضيق شديد في صدره، ووجد أن لسانه قد جف من العطش، كأنه قضى مدة وسط البحر. البحر إذن، لمعت الفكرة في ذهنه كالبرق الوامض، فما أحوجه إلى برق يضيئ ظلام حياته، ويمطر فيهدأ روعه، وما البرق إلا وعد بالمطر. "آه متى تمطر سمائي فتهدأ روحي؟، لا بد أن أقصد البحر، فمجرد النظر فيه ـ كما يقال ـ يبعث الراحة والطمأنينة". هكذا حدثته نفسه، ولكن أين السبيل إلى البحر؟ خاصة من ذلك الموقع، وجد نفسه تائها بين المنازل الراقية المتشابهة، ولأنه لا يعرف خارطة المدينة فقد أحس بالضياع والحاجة إلى مساعدة فتبع الكلب وهو يعود استجابة لنداء غير بعيد، ولما انعطف مع الجدار الأول رأى حارسا جالسا في دكته، وهو الذي كان ينادي على كلبه ليعود إليه، فقصده. بادر إدريس بتحية خفيفة قبل توقفه على مقربة من الطوار حيث تقف دكة الحارس، فقوَّم العجوز ظهره وهو يرد التحية بصوت خافت يكاد لا يسمع، ثم استقام كلية في جلسته وهو يدفع ظهره براحة كفه، فبدا من حركته كأنه يشكو ألما من كثرة الانحناء. استسقاه كأس ماء، فانحنى ليلتقط من جانب كرسيه كأسا وقربة، وإذ هو يصب الماء من قربته سأله إدريس: ــ أين السبيل إلى البحر يا أخي؟ تطلع إليه بهدوء وهو يعيد القربة إلى مكانها وقال ــ البحر، إن لم تكن ابن المنطقة فقد تضيع قبل أن تصله. أمسك إدريس الكأس بيده، ثم رفعها محاذيا بها فمه، وقال: ــ لا، لست من هنا، فدلني على الطريق رجاء. ــ عد أدراجك، إلى أن تخرج إلى الشارع الكبير من حيث أتيت، ثم انعطف يسارا، وخذ الطريق إلى مفترق الطرق الكبير، ستصل إلى إشارة مرور ضوئية، ومن هناك انعطف يسارا مرة أخرى، خض ذلك الطريق النازل إلى آخره، عندها ستصل الشاطئ. شرب ما بالكأس دفعة واحدة، وتنفس الصعداء، ثم أدار الكأس المطلية بالقار في يده متأملا؛ إن الشرب من الكؤوس المطلية بالقار يضيف إلى الماء نكهة منعشة خاصة، فيجعله طيب المذاق. ثم طلب زيادة كأس أخرى لما رأى يد الحارس تمتد إلى الكأس في يده، كأنه يطلب منه تسليمه إياه. ــ الماء هنا بارد وطيب، أرجوك، ارو عطشي. ــ الحمد لله، الماء نعمة الله، وهي النعمة الوحيدة التي فاضت من الجنة فملأت الدنيا حياة. ــ (وجعلنا من الماء كل شيء حي) قال إدريس مزكيا كلامه. ــ صدق الله العظيم، ورحم الله من علمك، ثم قال ناصحا وهو يصب الماء ثانية: ــ لا تشرب الماء دفعة واحدة يا ولدي، ولا تشربه واقفا، هكذا علمنا رسول الله، وقد أثبت الطب الحديث أن الشرب في وضعية الوقوف يؤذي عضوا ما، لا أعرفه، ربما الأمعاء، أما الشرب دفعة واحدة فقيل إنه يؤذي الكبد. جلس إدريس على طرف الطوار ليشرب كوب الماء الثاني، تماما كما نصحه الحارس، لكنه كان شاردا، فطالت جلسته. مرت بهم شابة سمراء، تجر كلبا صغيرا بحبل في يدها، وكان هو في الوضع الذي سمح له بتقصي تفاصيل جسدها كاملة، كانت الفتاة في مثل سمرة النادلة تقريبا، ولكن سمرتها لم تظهر على بشرة وجهها، لأنه كان مغطى بكريمات موضوعة بعناية فائقة، أما جلد عنقها فهو الذي كان في سمرة براقة، وظاهر أنها ربما قد طلته بمرطب فبدا لامعا، ثم إنها أكثر إشراقا مما بدت عليه النادلة، وأنحف قليلا، لا بد أنها تتبع حمية مشددة لتحافظ على شكلها النحيف هذا. مشيتها مثيرة أيضا ومنمقة، أما التنورة التي ترتديها فتقف عند حدود الركبة لتكشف عن ساقين رائعين، وهذا ما سمح لإدريس بأن يسرح بعيدا، ويدب بخياله على ركبتيها صاعدا. أعاد الكأس إلى صاحبها، وشكر له شربة الماء المنعش ثم أخذ الطريق كما وُصِفت له، فسار خلف الفتاة صاحبة الكلب قليلا؛ تبعها رويدا وهو يطالع تفاصيل جسدها إلى أن انعطفت يمينا، أما هو، فقد كان من المفروض عليه أن يأخذ الطريق شِمالا. تبع مساره كما رسمه له الحارس، ولما وصل مفترق الطرق الأول، الذي ينتهي عنده الطريق الداخل إلى الحي الراقي، التفت يمينا فرأى الشابة وهي تصعد سيارة رباعية الدفع، في حين تكلف شاب بحمل الكلب وإدخاله إلى المقعد الخلفي. تطلع إلى المسار الذي يلزمه قطعه، فبدا له الطريق صاعدا نحو مفترق طرق كبير، وعلى يمين الإشارة الضوئية يرتفع برج ضخم كأنه لتوزيع الماء، وبدا أن الطريق إليه ليس بالأمر الصعب ولكنه شاق ومنهك. على الطريق الإسفلتي تمر السيارات مسرعة، أما على الرصيف فعدد الناس قليل، وهذا لأن شمس الضحى بدأت تقرع الرؤوس من فوق، وقد زاد هواء البحر المحمل بالرطوبة من شدة وقعها على الجلد. انتبه لنفسه وهو يمشي الهوينى، وحقيبته على ظهره، ففكر: ربما سيعتبرني الناس سائحا جاء ليمضي أيام العطلة الصيفية، فلا يميزني على السياح إلا الفرق في قدر المال عندي وعندهم وهذا غير ظاهر للعيان. كان قد وصل إشارة المرور الأخيرة المحاذية للبرج لما رأى في الجانب الآخر من الطريق دراجة ثلاثية العجلات محملة بشباب هائج، وكان في الصندوق الخلفي للدراجة أكثر من خمسة شبان مرحين ومنغمسين في الغناء بصوت عال، ومعهم مظلات شمسية، فتأكد حينها أن الطريق سالكة إلى البحر. توقف قليلا ليستطلع الأمر، فرأى في مكان غير بعيد رقعة واسعة ومزدحمة بالناس، تماما إلى جانب الطريق، وبدا من الواضح أنه سوق، وهو ليس ببعيد عن المكان الذي وقف فيه. كانت السيارات كثيرة، رابضة عشوائيا في بقعة قريبة لا يبدو أنها مرآب، تماما إلى جانب أكواخ قصيرة ممتدة على مساحة كبيرة؛ دونها بقعة شاسعة، وخلفها بنايات عالية، وإذا احتسبنا الحي الراقي الذي تركه خلفه، فإن سلا هي مدينة التناقضات الاجتماعية الكبرى. التفت يسارا حيث يقف، فوجد نفسه محاذيا لمقهى في ملتقى الطرق ذاك، وإلى جانبها امتدت دكاكين لخياطة المظلات الشمسية والمشمعات، أما القاعة الأصلية للمقهى فضيقة، لكنها تعوض ذلك بالمساحة المرصوفة أمامها، حيث تمتد الكراسي في الخارج على مساحة تضاعف قاعة المقهى مرات عدة، انتابه فتور خفيف وأسى وهو يخاطب نفسه: "ألا يرى قائد الملحقة هذا؟ أم إنهم لا يسمونه احتلالا للملك العام، يوم كنت أبيع قناني العطر في الشارع على البساط المشمع بفاس، في ذلك الشارع الذي دعوه، زورا والله حسيبهم، شارع الكرامة بحي الزهور، غالبا ما كان يتدخل القائد مدعوما بالمقدم ورجال القوات المساعدة المدججين بالهراوات، فيجلينا نحن الباعة المتجولين بالقوة، كانوا يطاردوننا بحجة أننا نحتل الملك العام، يا للظلم ! لا بد أن الفرق بيننا وبين أرباب المقاهي كامن في القيمة المالية التي نمثلها، ونروجها، فرأسمالي كله، آنذاك، ما كان ليتجاوز ثمن طاولة من هذه التي تغص الممر بمقاعدها الثلاثة، وإذن فالفرق الأساس يكمن في امتلاك المال. جعلته هذه الكلمة الأخيرة يتفقد ماله، فدفع يده في جيبه، واستخرج وريقات مالية من مختلف الفئات، عدها، فوجدها مائتين وسبعين درهما، تذكر الخمسين درهما التي تركها للنادلة فتحسر، ثم انبسط لأنه اشترى بها راحة البال. بدت له من داخل المقهى نادلة بيضاء البشرة، تتمشى بين رواد المقهى بدلال، فأثارته عجيزتها المكورة البارزة، وقد زادها السروال المطاط بهاء. "أف، إنه الإغراء مجددا، أف" لقد تشكلت لدى إدريس عقدة من الإغراء، وتأكدت مع بعض التجارب؛ هو نفسه لا يعرف من معاني الكلمة إلا بقدر ما أخذه من بعض الطلبة الإسلاميين الذين كانوا قاطنين في غرفة مجاورة لغرفته بفاس، وكانت تجمعه معهم علاقات طيبة، إلى أن أحس باستغلالهم جهله في أمور السياسة والدين، وأنهم يستدرجونه لتنظيمهم، فترك البيت الذي جمعه بهم آنذاك. وقد استقرت دلالة الإغواء عنده في الانجراف نحو لذتي البطن والفرج، وهما سبب هلاكه؛ منذ اليوم الذي تبع الفتاة فالتقطته أيادي العصابة، ثم يوم أكل السفوف ففتحت في وجهه أبواب السجن، ولا أحد يعلم ما يخبئه له المستقبل بعد. حدثته نفسه في شرب فنجان قهوة، ليرتاح من مشيه قليلا، ويمتع ناظريه باللحم الملفوف، لكنه ابتسم للفكرة وترك رجليه تقودانه نحو التجمع الذي بدا له غير بعيد. في الطريق، طفت صورة النادلة صاحبة الفطور فوق بحيرة اللحظة، فلام نفسه على سوء تصرفه معها، ثم، وهو يتمشى الهوينى حدث نفسه قائلا: ـ لقد قابلت الإحسان بالسوء، آه، لو تمهلت قليلا، فربما كانت نيتها صافية، من يدري؟ ربما كانت قد مرت من تجربة ما، فعزمت على فعل الخير. أما كان عليك أن تلاطفها؟ وأقلها، ألم يكن أولى بك وأجدر أن تسألها عن اسمها، وعن ظروف حياتها؟؟ ما كنت لتخسر أي شيء لو حاولت، أيها المجنون، من وضع القيد على يدك؟. انتشلته أصوات أبواق السيارات من بحر ذاكرته، الذاكرة التي انضافت النادلة إلى ترسباتها، فوجد نفسه على الطرف المقابل للسوق من الشارع، وقف في ملتقى الطرق، تأمل المكان كأنه مهندس يريد إعادة تهيئته، لقد كان السوق ممتدا على يمينه، أما إلى اليسار، فتمتد حديقة محاطة بسور قصير عليه سياج حديدي صدئ ومتهالك. تناثر الناس في الحديقة زمرا ومثنى وفرادى، هناك أطفال يلعبون الكرة، وهنا كهول يلعبون الورق. أما من الجانب الآخر، حيث السوق، فتتعالى الأصوات، أصوات الباعة وهم يتصايحون. يبدأ محيط السوق بمحلات صغيرة تعرض فيها الملابس المستعملة وأشياء أخرى، وللمحلات جدران إسمنت لكنها مسقوفة بصفائح القصدير أو الزنك، كتلك البيوت التي تنتشر في حيي الليدو وباب الغول بالمدينة التي لفظته، على أن الأخرى هناك كانت حيطانها من الطين وليس من الإسمنت كهذه. لقد قطن مرة في حي الليدو الصفيحي، قبل أن تهدمه السلطات، وهناك تعرف على الحياة الطلابية وأشياء أخرى، ولو فرضت عليه الذاكرة حضورها فسيتذكر ليالي الشتاء الطويلة، ولكن لا مكان للذكريات الآن فهو مشغول عنها بحاضره. وقبالة هذه المحلات، في البقعة المفتوحة، تربض السيارات والدراجات النارية، التي يحرسها شابان نشطان، تراهما في حركة ذؤوبة؛ هذا ينفخ في صافرته، أو يساعد سائقا على ركن سيارته، وذاك يستخلص من الزبناء، فتراه يولج يده في الزجاجة المطلة على مقعد السائق من السيارة، ومن دون أن تترك عيناه باقي السيارات يكمش كفه على ما قدمه السائق، ومن تم ينتقل إلى أخرى. ربما ساهما حتى في تنظيم حركة السير أيضا. راقبهما قليلا، فوجد أنهما لا يكفان عن الحركة، كل عضو من جسدهما يتحرك بتناسق كالآلة، اللسانان والأيدي والأقدام. ثم فجأة، وفي غفلة منهما تحركت سيارة مركونة في آخر الطابور، وخرجت عن الصف، كان المستخلص مع زبون تأخر في إعطائه الأجرة لما أبصر السيارة الخارجة، فشرع في الصياح والهتاف مستوقفا سائقها. انتبه صديقه فلحقها جريا، لكن السيارة كانت قد صارت أبعد من أن تُدرك، وهنا انطلقت الألسن بما تيسر من الكلمات الساقطة، صادف المشهد مرور رجل ملتح وزوجته المنقبة، فانتظر إدريس ردة فعل ما، ولكن شيئا من ذلك الذي توقعه لم يحدث، فترك الجو محتقنا بين الصديقين ومضى؛ كان كل منهما يحاول إلصاق تهمة الإهمال وعدم الانتباه إلى الآخر. مر بين السلع المعروضة على البُسْط المنشورة بطرفي الرصيف، وإلى اليمين في الأرض الترابية غير المرصوفة يمر مجرى الماء المستعمل الخارج من بين البيوت القصديرية، وقد صار أسود تنبعث منه رائحة الحمأ؛ يمر محاذيا الرصيف إلى أن يصب في بالوعة بالشارع، وفيما بعد سيعرف أنه ليس في الحي قنوات للصرف الصحي، ما يضطر السكان إلى حفر حُفَرٍ يطمرون فيها فضلات أمعائهم، أما مياه النظافة وغيرها فيتم تصريفها خارج البيت ما يشكل مجاريا تخترق الحي وتتدفق إلى الشارع فتبتلعها بالوعات شبكة التصريف، أما إن اختنقت هذه البالوعات بالأوساخ الصلبة والأكياس البلاستيكية فتتشكل البرك العفنة في كل مكان. مشى بين البسط بحذر، فدافع الناس بكتفه وهو يطالع السلع المعروضة والوجوه؛ وجوه شاحبة وغاضبة، تبدو بعضها كالقنابل الموقوتة. من الباعة من يعرض أشياء متراكمة لا تصلح لشيء، ولكنه لاحظ أن الناس يقبلون عليها بطريقة عجيبة؛ فترى الرجل وسط البساط، يقلب السلعة بيديه، وهي في الغالب متلاشيات لا بد أن صاحبها قد جمعها من قمامة العاصمة والأحياء الراقية. يفتش الناس وسط تلك الأشياء المتراكمة، والبائع يصيح بعباراته التي قد تصلح لنص كوميدي، وترى الزبون يقلب ما يسمونه سلعة بيديه وبتفانٍ تام كأنه يبحث عن إبرة مفقودة؛ قد يطأ بقدمه شيئا آخر فيكسره، ولكن، لا أحد يهتم، ولاحظ أيضا أن بعض الباعة يتعاطون المخدرات علنا، وبعضهم يعرض سلعته في عربته المدفوعة أو سيارته. لم يغره الوقوف عند سلعة، ولا الانكفاء على بساط ما كبقية الناس، بل فضل السير، فراوغ بعض الباعة الذين يعرضون سلعتهم وهم واقفون في سبيل المارة؛ يقف الواحد منهم وسط الممر، عارضا ما بيده من سلعة على كل من مر أمامه، وسلعهم في الغالب إما هواتف، أو ساعات يدوية، أو حتى ملابس وأحذية مستعملة. وجد في طريقه جوقة من الناس متحلقين حول صاحب سيارة يعرض سلعة غير واضحة من شدة الزحام، أراد أن يتطلع إلى ما الذي يعرضه؟ وما هذا الذي جذب الناس بهذا الشكل؟ وقد أسعفه عنقه الطويل الذي مده بين الرقاب ليتطلع إلى ما هناك، فوجدها أحذية مستعملة متراكمة، والناس منهمكون في نبشها، حتى إذا ما راقت أحدهم فردة حملها بين يديه وشرع في البحث على زوجها، إلى أن يكتمل بين يديه زوج جيد، فيفاوض البائع في الثمن. كانت سيارة التاجر مرقمة بأرقام أوربية، وكان التاجر مرفقا بامرأة شقراء، ربما هي زوجته، إلا أنه هو وحده من كان يفاوض الزبناء، أما هي فمكتفية بالمشاهدة، ومراقبة السلعة بين الأيدي. في غمرة الزحام، أحس كأن كفا تلمسه عنوة في مؤخرته فالتفت بسرعة، ووجد خلفه شابا على وجهه علامة جرح ممتد من أذنه إلى فتحة شفته، ربت الفتى على كتفه مهدئا إياه وكأن شيئا لم يحدث، فراقبه إدريس وهو يمضي إلى أن زرع نفسه في جوقة أخرى. ركز عينيه عليه، فلاحظ أنه يحاول دفع يده خلسة في جيب شخص منحنٍ على تلك السلعة التي تجمع الناس حولها، كأنه كان منحنيا لأخذ شيئا ما، وبمجرد ما استقام الرجل واقفا، وهو يقلب كماشة بين يديه، كان الفتى قد نشل من جيبه هاتفا محمولا، أدار إدريس عينيه بين الناس، فلاحظ أن النشال قد كان تحت مرأى كثير من الباعة، ولكن أحدا لم يتدخل. وجد أمامه ـ غير بعيد ـ طريقا ضيقة مؤدية إلى ساحة فسيحة مملوءة عن آخرها بالخردة والمتلاشيات المعروضة على البسط الصغيرة والكبيرة، فتمشى قليلا بينها، ثم توقف ساهما، عاودته الرغبة في الذهاب إلى البحر بعد هبوب نسيم رطب، ولكنه وجد متعة في البقاء ومطالعة أحوال الناس، وفي غمرة تيهه وقف عليه شاب نحيل وهو يمد له ساعة يدوية، فرد عليه مصدوما: ــ عفوا يا أخي، لا رغبة لي فيها. ــ با با با... فهم أنه أبكم، فوضع راحته على صدره وانحنى معتذرا، لكن الأبكم أصر على وضعها في يده، ورغم أنه حاول التنصل منه، إلا أن الساعة قد صارت بمعصمه، ثم شرع الأبكم يقبل رؤوس أصابعه مجتمعة، دلالة على أنها وجدت اليد المناسبة، ومما زاد ورطة إدريس أنْ تدخل أّحد المارة فاستحسن منظر الساعة وموقعها من يده، وأضاف: ــ تعاون معه، لا بأس، اعتبرها صدقة، لن تخسر لو أعطيته خمسين درهما مقابلها! ثم وضع يده على معصم إدريس وقد قرب وجهه من الساعة، وأردف: ــ إنها ماركة سويسرية، ثمنها الحقيقي يتجاوز الألف درهم. ــ خذها منه إذن، ــ سامحني، أنا، ها هي عندي، قال هذا وهو يكشف عن ساعة في معصمه، ثم مضى وهو يتمتم بكلمات. هَمَّ إدريس بنزع الساعة من يده، لكن الأبكم خطف يده وقبلها، ثم فرد أصابعه الخمسة أمام وجه إدريس وهو يتوسل، استخرج إدريس ورقة من فئة عشرين درهم وعرضها عليه، لكن البائع الأصم امتنع أولا، ثم قبِل العرض في الأخير، خاصة لما نصل إدريس الساعة من معصمه، ووضعها في الكف اليمنى للبائع، فمد الأبكم يده لالتقاط الورقة النقدية ثم انصرف ساخطا. أمسك إدريس الساعة بيده، حار في ما سيفعل بها، ثم فكر بألم: ــ لا بد أني سأصبح غدا في السجن مجددا، فمصروفي على هذا النحو سيدفعني إلى السرقة كي أعيش، وأنا لا أتقنها. كانت نيته أن يقتر على نفسه حتى لا يفلس من ليلته؛ وللاستدراك خمن أن بإمكانه المبيت ليال عدة في الخلاء، ربما في الشاطئ، أو في محطة القطار، أو غيره، على أن يبحث عن عمل في البحر إلى أن يستقر به الحال. مذ كان في السجن وهو يخطط لركوب البحر في مركب صيد تقليدي، أو أقلها ليشتغل في المرسى أولا؛ كأن ينظف المراكب، أو أن يساعد في تفريغ الحمولة... المهم أن يبقى بجانب البحر، وأن ينفتح على أمواجه الفضية ومياهه الزرقاء، وحده البحر يستحق الإعجاب، مياه زرقاء تلد أمواجا فضية. كان غارقا في أمواج فكره، يمشي بين الباعة كمن يسير خلال النوم، والساعة لا تزال في يده، إلى أن استوقفه رجل: ــ بِكَمْ؟ انتبه من غفلته لما علم أن السؤال موجه إليه، ودون سابق تخطيط وضع الساعة في يد الرجل على طريقة الأبكم، ثم قال باسما: ــ جرب أولا، ولا بأس بخصوص الثمن، عدل الرجل وضع الساعة في معصم يسراه ببطئ، ثم قال: ــ طيب، كأنها صممت لي شخصيا. طالع إدريس الرجل فحدس من خلال هندامه أنه رجل ذو دخل سمين، فقد كان يرتدي قميصا أبيض وسترة شديدة السواد، أما حذاؤه، فقد كان من الجلد، راقيا وملمعا، مما أوحى له أنه لا بد جاء راكبا سيارة، ثم تذكر أن ذلك الرجل قبل قليل قد أخبره بأن ثمنها يضاهي الألف درهم، فرد عليه بكل لباقة: ــ يا أخي، إن ثمن الساعة في الحقيقة باهظ، ولكنني في حاجة إلى مال، ثم أردف مستفزا إياه: وربما لا أظنك قادرا على دفعه. ــ أجل، أعرف أن هذا النوع غال، وأنا أريدها لنفسي، وسأشتريها منك على أن تخصم لي قليلا. ــ أنت يا ابن الأصل الطيب أحق بها، ومساومتك عيب علي، أعطني فيها ثمان مائة درهم وهي لك. ــ أرجوك ! ــ ... ــ أعطيك خمسمائة؟ ــ يا أخي، والله لو كان الأمر بيدي، فما كنت لأبيعها، ولكن، لما قدر الله بذلك، فأنت يا ابن الكرام أولى بها، زدني مائة وخمسين، والله وليي. قدم الرجل المال لإدريس، ثم ذهب جذلا والساعة معه، لكنه ترك إدريس عالقا وحائرا؛ عدَّ المال مرات ومرات، فركها ورقة تلو الأخرى، وفكر مع نفسه: "هل كان هذا الرجل ملاكا أرسله الله لأجلي؟ أم إني في يوم حظي؟ ثم ماذا عن الأبكم؟ وقبله النادلة؟ فجأة قرر البحث عن البائع الأبكم، فربما ما كان بشريا، بل كائنا بُعث ليُفهمه شيئا خفيا، ربما بعثه الله بسره كغراب قابيل وهابيل، وربما هذا يعني أني ظلمت هابيل/فاطمة. جال في السوق قرابة نصف الساعة بحثا عن صاحب الساعة ليتيقن إن كان آدميا أم لا، فأرهقه الإعياء وأيقن أنه لن يجد الأبكم أبدا، خاصة وأن السوق كان غاصا بالناس. مر بالقرب من صاحب عربة يبيع فيها وجبات سريعة، فتنادت أمعاؤه طلبا للأكل، ولبى النداء. كان صاحب العربة مشغولا بقلي السردين المحشو بالتوابل، وأمامه على الشواية رُصَّتْ قطع الدجاج مصفوفة فوق الجمر المتوهج، وقد احمرت أطرافها فصارت شهية ومغرية، طلب منه سندوتشا مكونا من أربع حبات سردين ونصف خبزة. أخذ السندوتش من يد صاحب العربة، وعض طرف الخبز مباشرة بعد جلوسه على كرسي بلاستيكي، فسال المرق على أصابعه، فلعقها وتابع أكله بلهفة وتلذذ؛ لقد وجد السمك طريا وهائلا، وهو لم يذق طعاما مستساغا طوال المدة التي قضاها في السجن. كانت وجباتهم فقيرة وعفنة؛ إما قطاني تسبح حباتها في ماء أصفر، أو مرق أحمر بخضر قليلة وغير صالحة للأكل لولا أنها فرضت عليهم، وعليه هو خاصة، لأنه لم يكن في إمكانه الاستغناء عن وجبات السجن كبعض ممن عرف؛ أولائك الذين كانوا يعيشون في ترف. أما اللحم في السجن فقد كان كالخشب، وهذا أفضل تشبيه وجده. بعد فراغه من الأكل دفع للبائع عشرين درهما ووقف منتظرا الفكة، ولكم دهش لما رَدَّ إليه صاحب العربة أربعة عشر درهما؛ عرضها في راحة كفه، وعدها قطعة قطعة، فوجد الوجبة رخيصة، بعدها سأله عن ثمن فخذ الدجاج المشوي، ولما أخبره أنه بعشرة دراهم، مدها له في الحال، ثم طلب معه قليلا من الصلصة، فجعل يغمس الفخذ فيها ويرفعه ليلتقمه بفمه، وهكذا إلى أن أتى على آخره، ثم مص العظم امتثالا للمثل المغربي السائر: "اللذة كلها في العظم". قام من مكانه وقد أحس بالشبع والارتياح، فأخذ ورقة معلقة بجانب العربة، وفيها مسح يديه، ثم التف مغادرا، وهنا التقى بالأبكم صاحب الساعة، فبادره بالتحية واضعا يده على صدره وانصرف مرتاحا. يتبع
#محمد_شودان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التيه، رواية، الجزء الأول
-
رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء. كاملة
-
رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء الفصل الثاني
-
رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء الفصل الأول
-
تبخيس الثقافة
-
الأحزاب الإسلامية والديمقراطية
-
الخمار قيد في رأس المرأة
-
الحمار العربي
-
عربي أنا
-
سيناريوهات تشكيل الحكومة المغربية
-
نار تحت البرقع
-
انتهى الكلام,,, إلى مزبلة التاريخ
-
حربائية بنكيران
-
مشروع متحف
-
النظرية الثورية عند امرئ القيس
-
مارطون تشكيل الحكومة المغربية
-
نبوءة الشاعر
-
شرارة شباط
-
الدين والفلسفة
-
في ظلال ما قبل الإسلام
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|