|
قراءة في العلمانية – 4 – المنظومة الأخلاقية – 2.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 5521 - 2017 / 5 / 15 - 14:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قراءة في العلمانية – 4 – المنظومة الأخلاقية – 2.
تحدثنا في المقال السابق عن ماهية الأخلاق بشكل عام، أهدافها، أدواتها و أماكن تجليها، ثم َّ بينّا أهمية التميز بين المنظومات الأخلاقية المختلفة باعتبار أن النتائج النفعية لكل منظومة تحدِّد المنتج الحضاري للمجتمع الذي يتبنَّاها، و كان الاستنتاج الذي ختمت ُ به هو أن تحديد المنظومة الأخلاقية الصحيحة، و النجاح في تنشئة الأجيال عليها، و الذي اعتبرته أهمَّ ما يجب أن تتوجه له طاقات أمَّة ٍ ما، سيحدد منزلتها و وزنها بين الأمم الأخرى.
أودُّ اليوم َ أن أتناول الخاصية الأهم للمنظومة الأخلاقية العلمانية، والتي تتمكَّن بواسطتها من النجاح و النمو و التقدم و الازدهار والوصول إلى مستويات أعلى من الوعي: للفرد و المجموعة، و تمضي نحو تحقيق أعلى مُمكنات القدرة و مُستوجِباتها، و أعني بها خاصية التفاعل الديناميكي مع الواقع.
في تعريف: التفاعل الديناميكي ----------------------------- التفاعل الديناميكي مع الواقع معناه:
- أن نشخص حاجات الأفراد، و الجماعات، داخل مجتمع ٍ ما، كما هي أي كما تظهرلنا و تخبرنا عنها العلوم التطبيقية،
- و أن ننظر إلى جميع الطرق التي يمكن أن يتم بها إشباع هذه الحاجات،
- و أن نبني الحلول بناء ً على ما يتوفر من مصادر، أو ما يمكن أو يجب استحداثُه،
- و ضمن سياقنا الحاضر، بكل ما يحمله من أفكار الحداثة، الناتجة عن شخوص معاصرين ٍ، أو قريبين من السياق الحاضر، معنيِّن بالأحداث و الحاجات، متأثرين بها و مؤثرين عليها، قادرين على إدراك كنهِها و منابعها و استحقاقاتها و تأثيراتها على الواقع و تأثُّراتها به،
- دون أن يكون لنا أي حُكم مُسبق على تلك الحاجات و الحلول،
- و دون أن تكون لنا قيم (أحكام) غيبية أو أيديولوجية مفارقة للواقع ننطلق منها للتشخيص و الحلول، تُستقى من أشخاص بعيدين عن زمننا، لم يواجهوا مشاكله، و لم يتعرضوا لاحتياجاته، و لم يعيشوا واقعه (بحكم أنه كان لهم زمن ٌ آخر و احتياجات ٌ أخرى و واقع ٌ آخر)،
- فيكونُ في النهاية ِ كل ُّ حل ٍّ لكل مشكلة أو حاجة: تعبيرا ً صادقا ً عن الأشخاص ضمن سياقاتهم الحالية المختلفة،
- و تختلف الحلول باختلاف الزمن و البيئة الجغرافية و الأشخاص و الأفكار، في عملية تغيِّر ٍ صحيٍّ مستمر، يضمن استمرار الفرد و المجتمع و الدولة،
- بعيدا ً عن أي جمود، أو تقديس لشخص أو فكرة أو حل أو أيديولوجية، عملا ً بمبدأ أن الثابت الوحيد هو: التغير و حتميته و ضرورته.
في المقارنة بين المنظومة العلمانية و المنظومة الدينية ---------------------------------------------------- في حين تلتزم المنظومة العلمانية بالمبادئ التي لخصتُها في تعريف خاصية التفاعل الديناميكي، و التي تتطلَّبُ بالضرورة: التغير ضمن جدلية: الإنسان و محيطه، نجدُ أن المنظومةَ الدينية تتَّسم بنقيض هذه الصفة، أي تتميَّزُ بـ : الثبات، و هو الأمر الذي يضعها دائما ً في مواجهة صدامية مع الفكر العلماني و مُتطلَّباته.
مردُّ ثبات المنظومة الدينية هو أنَّها تعتبر: الحضرة الإلهية، لا حاجات الواقع، مصدرا ً لقوانينها، و بالتالي تستحضرُ من المفارق الإلهي الحلول بواسطة عمليتي: الوحي و الإلهام، و التي يكون انقطاعُها بالضرورة انقطاعا ً لتلك الحلول، و هو الذي يؤدي بطريقة مباشِرة إلى: الثبات و استحالة التغير من داخل تلك المنظومة،،،
،،، عِلما ً أن المُتأثرين بالمنظومة الدينية من المؤمنين، و في السياق التاريخي الذي تمت فيه عمليتا الوحي و الإلهام، لم يشعروا بتعارض منظومتهم مع حاجات الواقع، و ذلك لأن الحلول التي قدَّمتها تلك المنظومة و ضمن ذلك السياق التاريخي كانت بشروط ذلك الزمان و خصائصه: ديناميكيةً بدورها، ملبِّية ً لحاجات الواقع، إنما تحولت إلى الثبات بفعل ِ مبدئها الرئيسي و هو احتكامها في المرجعية و الحلول إلى المقدس الذي لحكمة ٍ يعلمها توقف عن الوحي و الإلهام فغابت معهما الحلول تباعاً،،،
،،، و هو ما يشي ببشرية تلك المنظومات التي لم يتخيل منشئوها ما ستصل إلية الإنسانيةُ يوماً بمنجزاتها، و لم يتوقعوا هذا التطور الفكري و التقني َّ الهائل، و لا استطاعوا أن يروا بعيون بصيرتهم الانفجار السكاني المُرعب، و الحاجات و المشاكل المُتحصِّلة من هذه الجدلية المُستمرة التي لا تتوقف بين الإنسان و مُحيطه،،،
دعنا عزيزي القارئ ننظر ُ في مثال ٍ عمليٍّ بسيط كيف يتجلى مبدآ: الديناميكية و الثبات، في المنظومتين: العلمانية و الدينية.
مثال: الديناميكية و الثبات -------------------------- لو نظرنا إلى الموقف العلماني من موضوع: الإنجاب، وجدنا أن المنظومة الأخلاقية العلمانية تترك ُ للأبوين حُريِّة الإنجاب: إطلاقا ً أو تحديداً، فلا تتدخَّلُ في قرار الزوج (الزوج لغة ً تُقال: للمذكر و المؤنث المفردان، و للأبوين معا ً بنفس اللفظ) إنجاب َ العددِ الذي يرونه ُ مناسبا ً من الأطفال، أو الامتناع َ عن الإنجاب لو رغبا بذلك، كما أنها تتركُ لمنظمات المجتمع المدني و للدولة على حدٍّ سواء حق َّ توعية الأزواج حينما ترتفع ُ نسب ُ الإنجاب لتهدِّد المصادر المُتاحة من مأكل ٍ و مشرب و بُنى تحتية و مدارس و جامعات و مؤسسات خدامتية و اقتصادية، بحيث ديناميكياً (و عودا ً على التعريف في بداية المقال) يستطيع المجتمع أن يجد الحلَّ المناسب للانفجار السكاني، و يُقنِّن الإنجاب كما يحتاج ليضمن استمراره.
أما في المنظومة الأخلاقية الدينية فإن تحديد النسل ممنوع ٌ على الإطلاق، و يُسمح بتنظيمه فقط أي بالمباعدة بين الأحمال، و هو الذي يعني أن على المرأة أن تستمر بالإنجاب و لا تتوقف طالما كانت قادرة ً على ذلك، بمراعاة ترك مسافة زمنية بين الأحمال قد تطول أو تقصر، و هو الذي يتعارض ُ مع حق ِّ الزوج الأساسي في تحديد ما يريانه مناسبا ً لحياتهم، و ينعكس ُ سلبا ً على المجتمع ويُرهق الدولة التي ستنشغل ُ في تأمين الموارد اللازمة لهذا النهر الجاري المُستدام بقوة ِ ثبات المنظومة، و لنا في جمهورية مصر العربية التي فاق سكانها اليوم الـ 90 مليون مثال ٌ حيٌّ على كارثية هذا المنهج، و قس على هذا المثال ما شئتَ من الأمثلة.
لاحظ قارئ الكريم أن الإنجاب المُستمر كان في سياقه التاريخي الماضي وقت تفاعل المقدَّس الإلهي مع الأرضي البشري بالوحي و الإلهام قبل انقطاعهما: حلا ً واقعيا ً عمليا ً بامتياز، فنحن ُ نعلم أن الأمَّة اليهودية َ كانت قبائل َ بدوية تعيش ُ في صراع حادٍّ على الأرض و الموارد مع جيرانها في أرض كنعان و من جاورها من ممالك، الذي كان يستوجِب بالضرورة استدامة العنصر البشري المُقاتل و المُدافع عن الأرض و الحامي لمملكتي إسرائيل: الشمالية و يهوذا و قبلهما لإتلاف ِ تلك القبائل، و لذلك نجدُ تقديسا ً كبيرا ً للعائلة في الفكر اليهودي ووريثه المسيحي اللاحق، إلى الدرجة التي تغدو فيها كثرة ُ البنين ميراثا ً من الرب و بركة ً منه يتشرف بها الأب في المجتمع و يفتخر بها في المجالس، و يغدو العقم عارا ً يلحق بالأبوين و عقابا ً يدل على غضب ٍ إلهي،،،
،،، لكننا لا نواجهُ اليوم هذه المشكلات المتعلقة بالقبيلة و الغزو و الاضطرار لحماية النفس ضد الإغارات اليومية غير المتوقعة، بحكم أننا نعيش في مجتمعات آمنة مُستدامة تحت شكل:الدولة، التي تضمن الحقوق و تنظِّم ُ العلاقات بين الأفراد و تعمل ضمن مؤسسات ٍتحكمها قوانين ثابتة تقوم ُ على تطبيقها و تحديثها مؤسسات أخرى معنية، في سياق: حداثة ٍ، لم تتسنى بشكلها الحالي لإنسان العصور الماضية،،،
،،، أعتقد بشكلٍ شخصي أن المُنجز الحضاري َّ الأهم للمجتمعات البشرية هو: الدولة، لأنها الحاضن و الضامن للحضارة، و المُستديمُ للمُنتج الحضاري، و الشكل الوحيد الذي يمكنُ أن يجمع ثقافات ٍ مُختلفة لمجموعات ٍ متعدِّدة تحمل أفكارا ً متنوعة، بتصالُح ٍ تام، بل و بتعاون ٍ و تشارُك ٍ محمودين مطلوبين ضرورين لا غنى ً عنهما، ليؤدي تفاعلها جميعا ً في ديناميكيةِ و جدلية الإنسان و محيطه إلى ارتقاء الفرد والمجموعة و الدولة إلى ما أسميه: مستويات ٍ أعلى من الوعي يبلغون فيها أقصى مُمكنات القدرة.
خاتمة المقال ------------- بالنظر ِ إلى المجتمعات الغربية التي تبنَّت العلمانية، و بمقاربتها بمجتمعاتنا العربية التي ما زالت تقف ُ في أحسن الأحوال حائرة ً و خائفة غير قادرة ٍ على تبني العلمانية بشكل رسمي كامل، و على اضطراها إلى تبني بعض ممارسات لا ترتقي لأن توصف بالعلمانية و إن كانت تشبهها، بحكم أن تلك الممارسات ما زالت في سياق ٍ لا يخدم المبدأ العلماني العام و لا يأتي في إطاره إنما يستديمُ نقيضه و بالتالي لا يمكن وصفه بالعلماني،،،
،،، و التي (أي المجتمعات العربية) ما زالت في أكثر أحوالها وضوحاً تجاه العلمانية تستعديها و تشيطنها و تسمها بكل ما هو سلبي و بغيض إلى النفس، مُخطئة ً و غير منصفة،،،
،،، نجدُ (نتيجة ً لذلك النظر) أن أحوال المجتمعات الغربية أصبحت نماذِج مُثلى و أماني شبه مستحيلة تتوق إليها المجتمعات ُ العربية، لكنَّها لجهلها بقانون السبب و النتيجة، و لأدلجتها شديدة العداء للعلمانية لا يمكنُ أن تصل إليها يوما ً (طالما بقيت على هذا العِداء و أحيانا ً العدوان غير المُبرَّر إما لفظيا ً و إما بالفعل).
كما و أجد ُ أنَّنا في هذه البقعة من الكوكب الأزرق الصغير، السابح في مجرَّةٍ ضمن مليارات المجرَّات، لا زلنا نحاول أن نخترع العجلة من جديد، لنعطيها شكلا ً لا يمكن أن يدور- فلا يدور سوى الشكل الدائري، هذا قانون الطبيعة - لكن مع إصرارنا العجيب أن نعطي الشكل الجديد الذي لن يدور إسم: العجلة التي تدور، و ننسب له كل صفاتها، ثم بعد ذلك نجلس َ لنتباحثَ و نتحاورَ و نتجاذب الحديث و نخترع التحليل وراء التحليل في الأسباب التي أدت لعدم دوران عجلتنا، لنقول كل شئ عن كل شئ، ما عدا الشئ الوحيد النافع و الصادق و هو: أن ما لدينا ليس عجلة، وأنه لا يمكن أن يدور، و أننا نخدعُ أنفسنا بأنفسنا، لأننا باختصار نرفض: العلمانية.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في العلمانية – 3 – المنظومة الأخلاقية.
-
عن فاطمة عفيف.
-
قراءة في العلمانية – 2- المنظومة الشاملة.
-
بوح في جدليات - 20 – دجاجاتٌ على عشاء.
-
لن يسكت هؤلاء – و ستبقى الحجارة تصرخ!
-
قراءة في الوجود – 9– عن الوعي، الإرادة و أصل الأفعال.
-
قراءة في الوجود – 8– عن الوعي، الإرادة و المسؤولية – 2
-
قراءة في الوجود – 7 – عن الوعي، الإرادة و المسؤولية – 1
-
للمرأة في يوم عيدها - تحية المحبة و الإنسانية.
-
شكرا ً أبا أفنان و لنا لقاء ٌ في موعد ٍ مناسب.
-
عن اللغة العربية و دورها في: بناء الهوية و التعبير عن الثقاف
...
-
اعتذار للأستاذ نعيم إيليا - دين ٌ قديم حان َ وقت ُ سداده.
-
قراءة في مشهد ذبح الأب جاك هامل.
-
قراءة في اللادينية – 9 – القتل بين: الحتمية بدافع الحاجة و ا
...
-
إلى إدارة موقع الحوار المتمدن.
-
عن هزاع ذنيبات
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 10 – ما قبل المسيحية – 5.
-
بوح في جدليات - 19 - خواطرُ في الإجازة.
-
لهؤلاء نكتب.
-
عن محمد علي كلاي – نعي ٌ و قراءة إنسانية.
المزيد.....
-
مشهد ناري مضاء بالمشاعل على مد النظر.. شاهد كيف يحيي المئات
...
-
من الجو.. نقطة اصطدام طائرة الركاب الأمريكية والمروحية العسك
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تسلّم الرهينة الإسرائيلية في قطاع غزة
...
-
ضغوط وحرب نفسية وسياسية.. ما المراحل المقبلة من تنفيذ اتفاق
...
-
سقوط قتلى إثر تحطم طائرة على متنها 64 شخصا بعد اصطدامها بمرو
...
-
تواصل عائلات الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة دعوة حكوم
...
-
تحطم طائرة ركاب تقل 64 شخصًا بعد اصطدامها بمروحية عسكرية في
...
-
مبعوث ترامب يوجه رسالة لمصر والأردن
-
أنباء عن وجود بطلي العالم الروسيين شيشكوفا وناوموف على متن ط
...
-
شبكة عصبية صينية أخرى ستضرب إمبراطورية ترامب للذكاء الاصطناع
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|