|
لمَسات ورّاق فرنسي الهوى: توحش اللغة الإنكَليزية ودموية ثقافتها
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5520 - 2017 / 5 / 14 - 11:46
المحور:
الادب والفن
صدرَ عن دار شُبّر للطباعة والنشر بلندن كتاب "لمَسات ورّاق فرنسي الهوى" للشاعر والمُصوِّر الفوتوغرافي العراقي فاضل عبّاس هادي وهو من الكتب الإشكالية المُثيرة للجدل من حيث الشكل، والمضمون، والمقاربات الفكرية الحادّة التي تنتقد الثقافة الإنكَليزية بشدّة وتعتبرها "وحشية ودموية" على النقيض من الثقافة الفرنسية الرومانسية المُرهفة التي لا تختلف كثيرًا عن الثقافتين الأسبانية والإيطالية. لا تقتصر ثيمة هذا الكتاب على المقارنة بين الثقافتين الإنكليزية والفرنسية حسب وإنما تمتدّ إلى طبيعة المجتمع الإنكليزي، وأنظمة الحكم الملكية التي تعاقبت على إدارة هذه "الجزر البريطانية" المُحتفية بعزلتها بعيدًا عن جسد القارّة العجوز. وبما أن الكتاب يترجّح بين الذاتي والموضوعي فحريّ بنا الإشارة إلى التقنيات المتعددة التي استعملها الكاتب فاضل عبّاس هادي، فالكتاب يخلو من الفهرس، وينعدم فيه التبويب، ويستطيع القارئ أن يشرع بالقراءة من أي صفحة يشاء! أما الضمائر التي غلبت على الأنساق السردية للكتاب فهي ضمير المتكلم وضمير الغائب ولا يجد غضاضة في استعمال ضمير المُخاطب من باب التنويع، أو كسْرِ الملل الذي قد ينتاب المتلقي من هيمنة نَسقٍ سردي يتكئ على ضمير واحد. مَنْ يعرف فاضل مِن كثب يُدرك جيدًا روح الدُعابة في أسلوبه، والسُخرية السوداء التي يتسلّح بها في كتاباته، وحينما يخونه التعبير لا يجد ضيرًا في استعمال اللهجة المحكيّة، والاستشهاد بالأمثال الشعبية العراقية الجريئة على وجه التحديد، فهو لا يخشى الأشياء المحجوبة أو المسكوت عنها أو اللامُفكَّر فيها، بل هو يبحث عنها بشكل محموم، ويستدعيها في مقالاته وكُتُبه التي ترسم الابتسامة على وجه القارئ رغم جديّة الموضوع الذي يعالجه، ومأساوية الحالة التي يتعاطى معها. يصرّح فاضل في لقاءاته الصحفية الشحيحة قائلاً:"لستُ موضوعيًا، ولستُ عقلانيًا"(ص95) لكنه مع اللهفة الشعرية والعاطفية التي تُلهب الوجدان. ينبغي على القارئ ألاّ يأخذ كل شيء على محمل الجد فبعض الحكايات مُختلَقة اجترحتها مخيلة الكاتب المجنحة ويمكننا الاستدلال على هذا "التلفيق" الإبداعي الجميل من هذا البيت الشعري الذي يقول فيه:" . . . وأنا السارد البارع لحكايات لم أعشها"(ص18) وهي ذات الطريقة التي كان يتبعها الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي طيّب الله ثراه في اختلاق الحكايات التي تزرع الابتسامة على شفاه القرّاء. لا تثقوا بتواضع فاضل حينما يصف نفسه بـ "الشاعر المجهول" أو بـ "خادمكم الصغير" لأنه سينعت أغاثا كريستي بالكاتبة "الإجرامية الشمطاء"(ص65)، ويصف شكسبير بـ "الوحشي العنيف والدموي"(ص154)، ولا يجد حرجًا في تسمية ت. س . إليوت، فيليب لاركن، تيد هيوز وشيموس هيني بـ "زعران الشعر الإنكَليزي الحديث"(224) مع أن شهرتهم قد طبقت الآفاق، وأن اثنين منهما "إليوت وهيني" قد نالا جائزة نوبل للأدب. مع أن ثيمة الكتاب تنحصر في المقارنة بين الثقافتين الإنكَليزية "الوحشية والدموية" بحسب توصيف الكاتب وبين الثقافة الفرنسية التي يعتقد المؤلف أنها "رومانسية متحضرة ورقيقة جدًا" إلاَ أنّ الثيمات الفرعية تنحدر صوب السيرة الذاتية والثقافية للشاعر والمصوِّر الفوتوغرافي فاضل عباس هادي الذي تعلّق بالأدب والفن منذ يفاعته، وأحبّ تعلّم اللغتين الإنكَليزية والفرنسية وكان ينتظر على أحرّ من الجمر الكتب الأجنبية التي يجلبها "طاهر" من بغداد بالأكياس ليقتني منها ما يشاء مستعينًا بالمعاجم الإنكَليزية والفرنسية لقراءتها وفهم ما يستعصي من الكلمات والمصطلحات الغريبة عليه في مطلع حياته الأدبية في مدينته الحميمة "الناصرية" التي يمحضها حُبًا من نوع خاص. وحينما ينتقل إلى بغداد تتبدل الصورة، وتتسع مداركه الأدبية والفنية، ويبدأ الكتابة باللغة الإنكَليزية في صحيفة Baghdad Observer كما تتعمّق لغته الفرنسية شيئًا فشيئًا ليكتشف بحسّ الشاعر المُرهف والمصوِّر الفوتوغرافي الذي "يلاحظ كل شيء"(ص5) أنّ الفرق الكبير بين اللغتين هو أنّ الإنكَليزية "متوحشة قاسية" والفرنسية "مُتحضرة ناعمة" كما يحلو له أن يُقرنها باللغة العربية التي يعتقد بقوة أنها "أخت الفرنسية بالرضاعة" ويا لها من التفاتة شاعرية ذكية لا تصدر إلاّ عن مبدع مُرهف الحسّ. كيف بدأ الكاتب تحامله على اللغة الإنكَليزية؟ ولماذا غيّر وجهة نظره بها وبالمجتمع الإنكَليزي وبثقافته "الدموية"؟ بالتأكيد لم يكن هذا التغيير وليد لحظته وإنما جاء نتيجة لقراءات واسعة ومعقمّة أوصلته إلى هذه القناعة الثابتة التي تقول بأن مسرحيات شكسبير دموية وأنها تدور غالبًا حول الصراع على السلطة. وأن أدب الجريمة هو الذي يتسيّد على كل الفنون القولية ليكشف حقيقة هذا المجتمع الذي يتقبل هذا النوع من الأدب المتدني الذي تفوح منه رائحة الدم فلاغرابة أن تصبح أغاثا كريستي كاتبتهم المفضلة، وهذا الأمر ينسحب على توماس دي كوينسي، وكولن ولسون، و ج. ك. رولنغ، وماري شيلي وعشرات، وربما مئات الأسماء الأدبية الإنكَليزية التي تكتب رواية الجريمة وهي للمناسبة الأكثر مبيعًا المملكة المتحدة. تتراكم ألحوظات الكاتب السلبية ليس على الأدب الإنكَليزي حسب وإنما على الثقافة الإنكَليزية بشكل عام، وعلى المجتمع الإنكَليزي الذي يختلف بطبيعة الحال عن المجتمع الويلزي والأسكتلندي والآيرلندي الشمالي فهؤلاء جميعًا وخاصة الآيرلنديين منهم "يستخدمون الإنجليزية بعد أن يحرِّروها من شوائبها البريطانية"(ص95). يرصد الكاتب بعض الصناعات والمهن المحلية فيكتشف أن مهنة "البغاء" تأتي بالدرجة الثانية بعد صناعة السيارات، ويقارن بين وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة في إنكَلترا وفي فرنسا ويتوصل إلى أن الصحف الإنكَليزية لا تهتم إلا بالفضائح وزيادة عدد المبيعات، أما الصحف الفرنسية فهي ثقافية، فنية، جادة وإنسانية ولو دققنا جيدًا لوجدنا أن ملاحق "الغارديان" و "التايمز" لا تقل أهمية أو عمقًا عن ملحق "اللوموند" الفرنسية، وهذا الأمر ينسحب على قنوات البي بي سي والإذاعات الإنكَليزية التي تقدم موادَ ثقافية وفنية وموسيقية مشابهة لما تقدّمه الإذاعات والقنوات التلفازية الفرنسية وربما تقدّم أفضل منها في بعض الأحيان بحسب خبرتي المتواضعة في متابعة الأفلام الوثائقية والبرامج الثقافية والفنية التي تقدّمها البي بي سي على مدار السنة كغذاء روحي وبصري وثقافي متواصل. يقول فاضل عن نفسه مُستجيرًا بصيغة الشخص الثالث وكيف أصبح كاتب هذه السطور متفرنسًا تمامًا يكره الثقافة "الأنغلو- ساكسونية" كراهيته للدودة الشريطية التي كانت تكمن في أمعائه أيام الطفولة"(114) ثم يذهب أبعدَ من ذلك فيقول إنه يشعر كمن يُرجم بالحجارة حينما يقرأ نصًا شعريًا أو روائيًا لكاتب إنكَليزي من دون أن ننسى محبته الخاصة لدوروثي ريتشاردسون التي يعتبرها فاضل أعظم روائية إنجليزية، وألفاريز الذي كتب عن مثالب الشخصية الإنكَليزية وعيوبها، كما يحب جيمس جويس وصموئيل بيكيت لأنهما سافرا إلى فرنسا ونهلا من معين الثقافة الفرنسية وبعض اللغات الرومانسية الأخرى بينما لم يحب ييتس لأنه لم يغادر آيرلندا الشمالية ليتلاقح مع لغات وثقافات رومانسية أخر. وعلى الرغم من تطرّف الكاتب في بعض آرائه إلاّ أن عينه الثاقبة لم يفلت منها شيئًا في الحياة الاجتماعية والسياسية والنفسية والأخلاقية إضافة إلى الجانب الثقافي الذي أخذ حصة الأسد في هذا الكتاب. من بين ملحوظاته المهمة أن أغصان الأشجار وأوراقها في باريس وبرلين تعانق نوافذ البيوت وتكاد تقبّل ساكنيها بينما تعاني الأشجار البريطانية من عزلة تتناغم مع عزلة البريطانيين أنفسهم. الممنوعات في بريطانيا تزداد وتتفاقم يومًا بعد يوم، فالتصوير بالحامل الثلاثي ممنوع لأنه يزعج المارة ويعيق حركتهم، ومقاهي الأرصفة معدومة بلندن لأن الشوارع ضيقة أصلاً، وأن اللندنيين لا يخرجون إلى الشرفات ليستنشقوا هواءً نقيًا بسبب الضغوط النفسية التي يعاني منها غالبية المواطنين الإنكَليز. يمكننا القول باطمئنان كبير أن معظم الآراء التي قالها بحق الساسة والسياسيين البريطانيين صحيحة لكن الشتائم والكلمات النابية التي وجهها لهم غير مقبولة ولا يمكن أن نضعها في إطار النقد السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي. وفي الختام لابد من الإشارة إلى أنّ هذا الكتاب يفتح آفاقًا جديدة للقارئ العربي الذي لم يتعرف على هذه التفاصيل المثيرة التي لا يمكن الإحاطة بها جميعًا في مقال واحد.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفنان التعبيري ستار كاووش ينهل ثيماته من كتاب الحُب
-
التفكير بالعين: مقاربة نقدية تفتقر للإجابات الشافية
-
ديفيد هوكني: الفنان الذي خلّد الطبيعة والأصدقاء
-
رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان
-
مقدمات وإشارات تعريفية بآثار إبداعية ومعرفية
-
عذراء سنجار: وطن مخطوف وطائفة مُستباحة
-
التربية الجمالية في الفكر المعاصر
-
سينما المؤلف
-
ضوء القمر ولغته البصرية المرهفة
-
رواية -التوأم-. . نص أدبي مُدوّن بعينٍ سينمائية
-
لا أحد يعود. . . نصوص متماسكة ترتدي حُللاً جديدة
-
عام السرطان: سيرة روائية لمقارعة المرض العُضال
-
رولان بارت الكاتب الذي أماتَ المؤلف، وأحيا القارئ
-
فيلم Elle سردية بصرية تخالف توقعات المُشاهدين
-
فيديل كاسترو: عدوّ أميركا اللدود
-
النكهة المحليّة في قصص فاتحة مرشيد
-
مانشستر على البحر: قوّة التقمّص وبراعة الأداء
-
نساء في الظل يقوّضنَ جدران الفصل العنصري
-
عفوية السرد وسلاسته في معارك الصحراء
-
الحداثة: مقدمة قصيرة جدًا
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|