أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد الرضا شياع - محمد علي شمس الدّين والتّحولات اللوركية في شعره















المزيد.....


محمد علي شمس الدّين والتّحولات اللوركية في شعره


محمد عبد الرضا شياع

الحوار المتمدن-العدد: 1444 - 2006 / 1 / 28 - 06:14
المحور: الادب والفن
    


ظلّ الشّاعر الإسباني غارثيا لوركا** نموذجاً فاعلاً في حياة الشّاعر العربي المعاصر يتحرّك في أحـشاء النّصّ دالاً على " ولادة جديدة " يكون فيها الفاعل الذي يجعل عملية الولادة هاته قائمة على التّفاعل الجدلي بين الكاتب ونصّه من جهة, وبين الكاتب ومحيطه الخارجي من جهة ثانية؛ أيّ أنّ علاقة التّفاعل بين هذه الأكوان محكومة بالنّصّيّ وبالخارج النّصّيّ؛ هذا ما نعاينه في أول نصّ من الكتابة الشّعرية للشّاعر اللبناني محمّد علي شمس الدّين*** التي نحاول مقاربة شخصية لوركا فيها بوصفه نموذجاً ورمزاً تبلغ به كتابة هذا الشّاعر ملامح الإبداع ومعه تعرب عن دلالاتها المرتقبة.
لقد نشر شمس الدّين قصيدة في مجلة " الآداب " عام 1974 موسومة بعنوان لوركي " النّجمة البربرية "،(1) إذ إنّ " النّجمة البربرية " من المفردات التي ترد كثيراً في شعر لوركا، وإنّ قراءة القصيدة تأخذنا إلى المادة الشّعرية للشّاعر الإسباني، وما يلفت النّظر أيضاً أنّ القصيدة مهداة إلى لوركا وبابلو نيرودا:****
غارسيا، غارسيا
هل تمر الغزالات في ساحة الحرب؟
هل تنسج الطّير أعشاشها في الجحيم؟
داخلاً في مخاض الدّم الآدمي اقترب
وابتعد
أغمد الآن في وردة العين نصلاً خفيفاً-ونمْ-
إنّ غرناطة الآن تصحو على عرسها
وقد هرولت نحوها النّجمة البربرية .
من الملاحظ أنّ الباحث أحمد عبد العزيز قد وصف هذه القـصيدة بالقصـــة وهو يبحث عن مادة شعر لوركا فيها، فقد قال: " والقصة كما نرى تستخدم العناصر المحببة عند لوركا:الدّم، النّصل الخفيف، غرناطة، النّجمة البربرية، وأخيراً العرس اللوركي الشّهير".(2) وعلى الرّغم من أهمية هاته الملاحظة، إلاّ أنّ ما يعنينا الإبدال الذي تعرضت له القصيدة.
لقد نشر شمس الدّين هذه القصيدة مرة أخرى في كتابه " حلقات العزلة " (3) وإنّ قراءة القصيدة بوضعها الجديد_بولادتها الجديدة_ستكشف عن عمق المكانة المحورية التي يحتلها لوركا في بناء القصيدة وإنتاج دلالتها، وهي خطوة للبرهنة على أنّ هذا النّموذج له القدرة على توليد النّصوص وتجسيد ممارسة التّفاعل النّصّي واختبار أنماطه المرتهنة بما هو نصّيّ وما هو خارج نصّيّ ضمن الصّيرورة الجديدة التي نجدها في الشّكل الآتي:
غارسيا غارسيا
كُنْتَ في ساحةِ الخوفِ تصطادُها
حاملاً دميةَ الشّمعِ والطّفلة المريميّه
غارسيا
غارسيا
في أي وقتٍ تمرّ الغزالاتُ في ساحة الخوفِ
وما وزنُ هذا الجحيم؟
أطلق الآن سهماً خفيفاً
وطِر خلفَهُ
فقد هرولت نحوك النّجمةُ البربريّة .
إنّ الإبدال الذي طرأ على القصـيدة يدفع بالقارئ لرؤيتها وكأنّها قصيدتان، أو ذات منقسمة على ذاتها، تدل على المقابلة والتّشابه، حينئذ يُقرأ التّفاعل النّصّيّ من موقعين:الأول التّفاعل النّصّيّ الذّاتيّ، والثّاني التّناصّ الذي يبدو مهيمناً على القصيدة بفعل الحضور المتدفق للوركا.
قبل متابعة مسارات الإبدال الذي تعرضت له القصيدة، نشير إلى أنّ الإنتاج الشّعري العربي المعاصر لم يألف ظاهرة نشر القصيدة ثم تبديلها فيما بعد، بل إنّ هذه الظّاهرة معروفة في القصيدة العربية القديمة، وإنّ شعراء الحوليات حاضرون في ذاكرة هذا الاعتبار؛ لذلك نرى من الضّرورة بمكان التّوقف عند هذا الإجراء، ففيه نرى عثور أفق انتظارنا على المؤشر الدّال على استراتيجية هذا الاتّجاه.
لم تكن القصيدة منشطرة إلى ذاتين فحسب، وإنما الذّات الشّاعرة أيضاً خبـرت هـذا
الانشطار، وهنا تتجلى العناصر الخارج النّصّيّة التي جعلت الشّاعر يقوم بإجراء مالم يكن متوقعاً، وهذا شأن يمكن مقاربته في دلالة المُناصّة المتمثلة في العنوان والإهداء.
كان عنوان القصيدة " النّجمة البربريّة " وكانت مهداة إلى غارثيا لوركا وبابلو نيرودا، وبما أنّ سلطة العنوان أقوى كان لا بد من استبدال كلمات الشّاعر بشخصه فيكون عنوان القصيدة الجديدة، وبصيغة التّأكيد " غارسيا غارسيا ". وعلى الرّغم من أنّ قيمة الإهداء الدّلالية أقل مما هي عليه في العنوان، فإنّ مناصفتها بين لوركا ونيرودا تخطف من مكانة الشّاعر سلطة التّفرد بالقيمة المطلقة للنصّ، لاسيما أنّ بابلو نيرودا كان إحدى شخصيات الحرب الأهلية الإسبانية، ومن المشاركين فيها قتالاً وإبداعاً، لكنّه ليس كلوركا. وهذا الاستدراك يوقظ فينا ثانية العناصر الخارج النّصّيّة التي تأخذ المتلقي لقراءة الواقع المعيش الذي يحياه الشّاعر محمّد علي شمس الدّين، حيث الحرب الأهلية اللبنانية، وقتال العدو الإسرائيلي المحتل في الجنوب فهو بين نارين؛ من هنا يكون استحضار لوركا بشكل متفرد له اعتبارات دلالية، فعلى الرّغم من أن الاثنين _لوركا ونيرودا_ من العناصر الفاعلة في الحرب الأهلية الإسبانية، إلاّ أنّ الشّاعر الشّيلي خرج منها مبتلاً بجراحه، وعاد إلى بلاده ليمارس نشاطه السّياسي الذي أوصله إلى مرشح الرّئاسة هناك، بينما دُفن لوركا تحت ركام هذه الحرب فلم يبق أكثر من وهج كلماته المنبعث من بين الأنقاض؛ وإنّ هذا الموضوع هو الذي حفّز شمس الدّين ليجعل منه صورة لذاته وموضوعه الذي لا يمكن أن يجسّده بناء وموضوعاً غيرُ شخصية لوركا التي تنقل القارئ مما هو خارج نصّيّ إلى ما هو نصّيّ، وكأنّ العلاقة بين هذه المعطيات تقوم على صراع عميق يتحول في ضوئه الموضوع إلى رؤيا إنسانية شاملة تكون فيها بؤرة التّحوّل كامنة في خصائص النّموذج الذي يستحوذ على رمزية النّصّ، وهو ما يمكن إدراكه دون جهد كبير برصد اتجاهات الحركة وعناصرها في كلتا القصيدتين أو في القصيدة بين الولادتين التي تكون دائماً لصالح غارثيا لوركا الذي به تتحقق إنتاجية النّصّ الذي نستدل فيه على اشتغال التّفاعل النّصيّ فيكون:
أولاً_ تفاعلاً نصّيّاً ذاتياً، وذلك من خلال العلاقة التي تجمع القصيدة في الولادتين.
ثانياً_ تفاعلاً نصّيّاً واقعاً عبر التّناصّ الذي ينجزه الحضور الفاعل للوركا.
ثالثاً_ تفاعلاً نصّيّاً متـحققاً من خلال المُناصّة التي تجلت في الإبدال الذي طرأ على عنــوان القصيدة والإهداء، وما تبعه من تغيّر في البنية الدّاخلية للقصيدة في كلتا الحالتين، فالمُناصّة هي التي تدلنا على المفارقة النّصّيّة بين القصيدتين، خاصّة ما يتعلق في البناء الدّاخلي لكليهما، والذي يسير بشكل مطلق في القصيدة الثّانية لصالح غارثيا لوركا، وقد عفونا أنفسنا من الإشارة إلى العناصر الدّالة على هذا التّحوّل لشدة وضوحها.
بما أننا معنـيون بالوقـوف على الأبعاد الدّلالية للتفاعل النّصّيّ بين الشّاعرين وتقصّي المديات التي تبلغها في بناء القصيدة، فإنّ متابعتنا لشعر محمّد علي شمس الدّين كشفت لنا عن قضية أساسية تتلخص في أنّ لوركا لم يتوقف عند حدود معينة في شعر هذا الشّاعر, وإنما لامس البعد الأسطوري فيه بالدّرجة التي يكون معها قد وقف على المحج ذاته الذي سلكه شعراء معاصرون مثل محمود درويش وعبد الوهاب البياتي. . ، وهذا ما نراه ماثلاً في قصيدة " صباح التّعب "،(4) التي تهيمن عليها التّيمة اللوركية، والتي يمكن رصد شخصية لوركا في أحد مقاطعها.
إنّ شمس الدّين ليس شاعراً سهل المراس، وإنّما هو شاعر يشتغل على الطّاقة الإيحائية للغة الشّعرية، فلا يُسلّم شعرُه نفسه للقارئ بيسر. ولئن تابعنا أيّ قصيدة من قصائده سنجدها مترعة بالومضات التي تشع في كلّ اتجاه، وهذا ما تجود به قصيدة " صباح التّعب " التي بذر في مستهلها بذرة أسطورية في أرض مليئة بالبذور الواقعية، بيد أنّ إنعام النّظر سيجعل المتلقي يتأمل حقيقة هذه الواقعية، حينئذ سيضطر لتقليب البصر واستدعاء أطياف من مكان بعيد، ترتبط _بالضّرورة_ بتلك البذرة الوحيدة:
إلى
مينرفا وخديجة وآسيا وبلقيس
كلّ النّساء التي ماتت غداً
مواليد برج التّعب .
تستحوذ مينرفا على القيمة المهيمنة في المقطع، ليس لأنّها تحتل الصّدارة في التّرتيب، ولكن لأنّ اسمها الأسطوري يمنح ألفة الأسماء الأخرى بعداً أسطورياً، وكأنّنا نقف أمام صورة فوتوغرافية تضم " نساء طروادة "،(5) فتقارن بين الواقع _مينرفا وخديجة وآسيا وبلقيس_ والمتوقع _مينرفا وجونو، وفينوس، وهيلين_ فتتجلى نمذجة الواقع بما يقابله من معطى أسطوري، ذلك الذي حدث في حرب طروادة التي دامت عشر سنوات وكانت قد قدحت شرارتها غريزة الانتقام.(6)
من هنا جاء الحضور اللوركي في مكان آخر من القصيدة ذاتها مصحوباً بشرارة مينرفا التي تضفي عليه هالة من التّكون الأسطوري المتدثر بأعراض الموت:
قال الرّاوي:
مينرفا لا تبصر وجه الماضي
. . . .
. . . .
آخ النّارُ على أطراف القلبِ
وشمسك زائغة النّظراتِ
مينرفا لا تبصر وجه الأمس
فهل تبصر وجهَ الآتي؟
. . . .
. . . .
بضراعة عصفور شتويّ
يتشبَّثُ بالمطر النّازفْ
بضراعةِ لوركا
إذ يتخبط في عرس الدّمْ
بضراعة هذا الدّوريّ الخائفْ
أتقدم نحوك يا مينرفا .
تمـنح المسـافة بين الأسـطوري والواقعي القارئ زوايا نـظر متـعددة لقراءة القصيدة؛ وحتى لا تقع اللغة الواصفة في مطب التّعميم سنركّز على القضية المحورية في هذه المقاربة المتمثلة في تناول الأسلوب الذي كتب فيه شمس الدّين قصيدته. لقد عمد هذا الشّاعر إلى مسرحة ما كتب من خلال الشّخصيات والحوار والصّراع والفكرة، وإذا ما تأملنا البنية العميقة للقصيدة سنجدها منطوية على الحبكة أيضاً، وكي نكون منصفين في حكمنا يجب الإشارة إلى أنّ النّصّ لا يشتمل على كلّ السّمات التي يجب أن تتوافر عليها العناصر الخمسة التي هي عماد العمل المسرحي، لذلك فإنّ النّصّ شعري أكثر مما هو مسرحي، ولكنّ قولنا " مسرحة ما كتب " نابع من اشتمال القصيدة على جلّ خصائص العناصر المسرحية، وفي هذا الأمر _من وجهة نظرنا_ اعتبار يجعل القصيدة تعانق المعطيات الأسطورية التي كتبت فيها كثير من الأعمال الأدبية، وبخاصة الإغريقية التي كانت خلفية نصّيّة لبعض النّتاجات الأدبية ابتداء من شكسبير وصولاً إلى كتّاب معاصرين عرفتهم الآداب الحديثة. من هنا لم يكن استحضار أسماء نساء طروادة قضية تخلو من دلالة، لاسيما أنّ معطيات الحرب ماثلة في جلّ النّتاجات الإنسانية، ذاك ما أوحى لشمس الدّين باستقدام لوركا، وفي هذا المغزى تكمن غاية الاعتبار للأسباب الآتية:
1- تقوم حرب طروادة بسبب امرأة، وإنّ عنصر الأنوثة هو السّبب والوجود، بتعبير الفلاسفة.
2- أهم شخصيات الأعمال الدّرامية للوركا هي نسائية، بل تنشأ المواقف التّراجيدية وتنتهي على هذا العنصر، وسنوضح ذلك بعد قليل.
3- أهم شخصيات قصيدة " صباح التّعب " نسائية، لكنّ العنصر الذّكوري الوحيد، إذا استثنينا الرّاوي والشّخصيات الثّانوية، يظلّ لوركا، فهو محور الأحداث، بوصفه العنصر الأساسي في هذا النّتاج وهو الذي يمنح القصيدة دلالاتها التي ننتظر، ولكنْ كيف تتعلق الإجابة عن هذا التساؤل بالتّوضيح الذي وعدنا به القارئ في النّقطة الثانية، ويتلخص في كثافة المشهد الابتهالي الذي وضعه أمامنا محمّد علي شمس الدّين، والذي لا تغيب فيه دلالة الصّمت الفني الذي تبوح به نقاط الحذف التي تركها الشّاعر مبثوثة بين أبيات قصيدته، فضلاً عن حضور مينرفا وقراءة الزّمن بها عبر صوت الرّاوي الذي يأخذ المتلقي للمشهد الابتهالي الماثل بتلك الضّراعة الشّتوية التي لا تغيب عنها التّقاليد الطّقوسية، سواء أكانت دينية أم أسطورية، والتي ترى استجابة الدّعاء عند نزول المطر، لكنّ " ضراعة لوركا، إذ يتخبط في عرس الدّم " هي التّيمة المحورية التي تجيب مقاربتها عن كلّ التّساؤلات.
من المآسـي الشّعرية أو الدّراما الشّـعرية النّاضجة في أعمـال لوركا مسرحيــة
" عرس الدّم "(7) وهي أكثر الأعمال الإبداعية للشاعر الإسباني التي احتفى بها الأدب العربي المعاصر, فلا غرابة أن تبرز شخصية لوركا بقوة حين تكون مصحوبة بعرس الدّم. وإنّ المشهد الابتهالي الذي ابتدعه شمس الدّين ليس بعيداً عن هذا الموضوع، فإذا كان الدّم دليل المتقاتلين حول تلك المرأة التي كان يمزقها شعوران أحدهما نحو الخطيب والآخر نحو العشيق، فإنّ الأم الثّكلى تعيش هذه الضّراعة التي قالها الشّاعر، وهي مسيطرة على مشاعر الانتقام فتردد مبتهلة:(( فليبارك اللّه في سنابل القمح لأنّ ابني يرقد تحتها، فليبارك اللّه في قطرات المطر لأنّها تندّي وجه الموتى، وتبارك اللّه الذي يهيئ لنا مدفناً نستريح فيه)).(8)
يدعونا هذا المشهد الابتهالي إلى قراءة المشهد ذاته في قصيدة شمس الدّين الذي يحرّكه لوركا فيضفي عليه شعوراً أسطورياً معه تكون نمذجة الواقع نمذجة غير مباشرة، وهذا ما يمكن رصده من خلال حالات الانتقال التي تمارسها العناصر النّصّيّة, وهي تحقّب في أزمنة وتسافر إلى أمكنة متعددة. فحروب طروادة مثال حيّ على حالة الصّراع الذي تعيشه البشرية منذ عصور خلت، وأسبابها ونتائجها معروفة، لذلك أضحت مادة خالصة للكتابة الإبداعية، متجاوزة المعالجات التّاريخية، وإنّ أسطرة لوركا لواقعه المعيش عبر اقتتال الغجر الذي يقع بسبب العنصر النّسائي ما هو إلاّ وعي حاد منه بأنّ الأسطورة ورق شفاف يتم من خلاله معاينة ما مكتوب وراءه؛ من هنا قام محمّد علي شمس الدّين بتقديم لوركا نموذجاً لهذا الصّراع الكوني، ولكن لم يقدمه مجرداً من أعماله التي لا يمكن التّحديق بالأبعاد الدّلالية الشّخصية إلا من خلالها، فكان التّفاعل النّصّيّ بين قصيدة شمس الدّين وبين لوركا منجزاً في نمطين: الأول في" التّناصّ " الذي كتبته شخصية لوركا, والثّاني في " التّعلق النّصّيّ " الذي جسدته نتاجات لوركا بحضورها الفاعل، وهنا يمكن الإشارة إلى القيمة الفنية لهذا الاستدعاء, وفي هذا المقام بالضبط، لكنّ نباهة شمس الدّين دفعته إلى الابتعاد عن اجترار أعمال سواه، فهو لم يجعل الصّراع قائماً من أجل امرأة، وإنّ كان عنصر الأنوثة طاغياً في نتاجه، فالمشهد الابتهالي الذي كتب به نصّه جعل صوت الأم يتفوق على صوت الحبيبة أو العشيقة، وقراءة ضراعة الأم في نتاج لوركا أجدى من سرد أحداث " عرس الدّم " على الرّغم من لزوجة الدّم التي تغطي المشهد الابتهالي. وفي نظرنا إنّ هذا التّحوّل شاهد نوعي في كتابة الشّاعر التي تقول إنّها نمذجة للواقع الذي يعيشه ابن الجنوب اللبناني، وقد وصفه لنا في حوار أجريناه معه في قوله:(( فإنّه غالباً ما تتحول الأحزان في الجنوب إلى مظاهر شبيهة بالأفراح. فحين يموت فتى أو شاب، مثلاً، تصاحبه الزّغاريد إلى المقبرة، وتقام حركات شبيهة بالرّقص والتّلويح بالمناديل ولكنّها تجري تحت الدّموع. وهناك " ردة " لا تزال في بالي حتى الآن لأم شيعت ابنها الفتى إلى المقبرة وهي تقول له بصوتها الجميل والحزين:
" يا عريس يا طويل القامة وأجّلت عرسك ليوم القيامة "
فالميت هنا عريس وهو يزفّ إلى القبر بجماله وطول قامته، حيث الموعد يوم القيامة)).(9)
في هذه المُناصّة ما يعزز من قيمــة التّفاعل النّصّيّ في قصيدة شمس الدّين الـذي
تتأسس خلفيته النّصّيّة في ضوء الدّلالة الشّخصية للوركا الذي ظلّ نموذجاً يرمز من خلاله المبدع العربي إلى صور التّضحية والاستشهاد التي يقدمها المناضلون والشّعراء السّائرون على دروب الحرية، فتأتي أصواتهم دافئة من أقاصي الصّمت، تستحيل معها قطرات الدّم المسفوح إلى ينابيع للحياة.


الهوامش
*د. محمّد عبدالرّضا شياع: باحث وأستاذ جامعي عراقي مقيم في ليبيا _العنوان الإلكتروني: [email protected]

**فيديريكو غارثيا لوركا Federico García Lorca شاعر إسباني, وهو من أبرز شعراء جيل 1927 ولد عام 1898 في فوينته باكيروس, وهي قرية صغيرة تقع وسط غرناطة, وقد مات مقتولاً في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936 , وكان موته فاجعة كبرى أدمت قلوب محبي الأدب والإبداع, إذ ظلّ هذا الشّاعر المقتول غدراً عاملاً محفّزاً على الكتابة الإبداعية في كلّ مكان. . .
*** شاعر لبناني عرفه المشهد الشّعري العربي منذ سبعينات القرن العشرين بقصائده المسكونة بدخان قرى الجنوب, وبرموز الشّعر العربي والعالمي. له عديد النّتاجات الأدبية الشّعرية والنّثرية, وقد صدرت أعماله الشّعرية الكاملة عن دار سعاد الصّباح, القاهرة, 1993.
1-محمد علي شمس الدّين-النّجمة البربرية، الآداب، السّنة الثّانية والعشرون، العدد الأول، يناير، 1974، ص:37.
**** بابلو نيرودا Pablo Neruda هو من أبرز شعراء القرن العشرين ولد عام 1904 في قرية العريشة بشيلي, واشتغل بالسلك الدّبلوماسي لسنوات عديدة , وعندما قامت الحرب الأهلية الإسبانية كان قنصلاً عاماً لبلاده هناك, سرعان ما انضم إلى صفوف الجمهوريين, وكتب ديوانه الشّهير "إسبانيا في القلب" España en la corazon الذي كتبه المقاتلون على قمصان الشّهداء. كانت علاقته بلوركا متميزة جداً على الصّعيدين الإبداعي والشّخصي. فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1971. توفي في 23 أيلول 1973, بعد أن شهد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالنّظام الدّيموقراطي الذي كان هو أحد دعائمه. . .
2-أحمد عبد العزيز-أثر فيديريكو جارثيا لوركا في الأدب العربي، مجلة فصول, المجلد الثّاني, العدد الرّابع, 1983, ص:281 .
3-محمّد علي شمس الدّين-حلقات العزلة، دار الجديد, بيروت, 1993، ص:67.
4-محمّد علي شمس الدّين-الأعمال الكاملة، ديوان الشّعر العربي المعاصر, دار سعاد الصّباح, القاهـرة, ص-ص:261-276 .
5-سامي شنودة-الأساطير اليونانية:مدخل إلى علم الحضارة، دار اليسر للنشر والتّوزيع, الدّار البيضاء, 1988 ، ص:105 .
6-تتلخص هذه الواقعة الأسطورية في الأحداث التي نجمت عن حفلة عرس بليوس وثيطس التي دعيت إليها الرّبات باستثناء إيريس التي غضبت وأرادت الانتقام بسبب عدم دعوتها، فألقت بتفاحة ذهبية بين المدعوين حُفر عليها "إلى الأجمل" ، فادّعت كلّ من جونو وفينوس ومنيرفا أن التّفاحة لها لأنّها هي الأجمل، فتدخّل جوبيتر وكان حكمه إرسال الرّبات الثّلاث إلى جبل إيدا حيث يرعى باريس الجميل غنمه وهو الذي سيحكم، ويكون حكمه نافذاً، وحين حضرت الرّبات الثّلاث أمامه حاولت كلّ منهن استمالة قلبه، فوعدته جونو بالسّلطة ووعدته منيرفا بالمجد في الحرب ووعدته فينوس بأن تزوجه الامرأة الأجمل في الوجود، فحكم باريس للأخيرة وقدم لها التّفاحة الذّهبية، فاستعدت جونو ومنيرفا عليها. ثم بدأت فينوس بتنفيذ وعدها للرّاعي الجميل وأبحرت معه إلى اليونان فاستقبلهما منيلاوس ملك اسبارطة، وهو زوج الجميلة المنتظرة "هيلين" التي وقع اختيار فينوس عليها، وانتهى الأمر باختطاف باريس لها، فدامت الحرب عشر سنوات لاستردادها…
7- Federico García Lorca-Obras completas, Madrid, Tercera Edicion, p:1081, Tragedia en tres actos y sies cuadros.
8-أنجل دل ريّو-مسرح لوركا، في لوركا:دراسات نقدية حول شعره ومسرحه، ترجمة خليفة محمد التلّيسي, الدّار العربية للكتاب, 1992، ص:274
9-محمّد عبدالرّضا شياع-دعوة للإبحار الوحشي والسّفر الجميل في مراكب الشّعر، حوار مع الشّاعر محمّد علي شمس الدّين, الملحق الثّقافي للميثاق الوطني(المغرب) الأحد7 الاثنين 8 يوليو, 1996، ص:4 .


التّعريف بالكاتب
*الاسم:محمّد عبدالرّضا شياع.
- مكان وتاريخ الولادة: العراق 1962.
- الجنسية:عراقية.
*التّحصيل العلمي:
- دكتوراه الدّولة في الآداب: "النّقد الأدبي الحديث والمقارن" بتقدير حسن جداً(مع تنويه خاصّ من أعضاء لجنة المناقشة) - جامعة محمد الخامس- كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط - تاريخ المناقشة 29-05-2001.
- دبلوم الدّراسات العليا(السّلك الثّالث - الماجستير) في الآداب: "النّقد الأدبي الحديث والمقارن "بتقدير حسن جداً - جامعة محمد الخامس - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط - تاريخ المناقشة23-02-1996.
-بكالوريوس آداب بتقدير جيد جداً - جامعة بغداد, كلية الآداب 1984.
*الأبحاث الأكاديمية:
-"الرّؤيا الشّعرية بين المبدع والمتلقي"- بحث لاستكمال متطلبات الحصول على "شهادة استكمال الدّروس"- "دبلوم الدّراسات المعمّقة"- بإشراف الأستاذ الدّكتور أحمد الطّريسي أعراب- جامعة محمد الخامس- كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
-"فيديريكو غارثيا لوركا وعبد الوهاب البياتي: دراسة في التّناص" رسالة لنيل دبلوم الدّراسات العليا(السّلك الثّالث- الماجستير) في الآداب بإشراف الأستاذ الدّكتور أحمد الطّريسي أعراب- جامعة محمد الخامس- كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
-"الخلفية النّصية الإسبانية والشّعر العربي المعاصر: بحث في التّفاعل النّصّيّ"- أطروحة لنيل دكتوراه الدّولة في الآداب بإشراف الأستاذة الدكتورة فاطمة طحطح- جامعة محمد الخامس- كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرّباط.
*الوظائف:
- يعمل أستاذاً جامعياً منذ عام1998 لغاية الآن 2006 في الجامعات الليبية.
- عمل رئيساً لقسم اللغة العربية من عام1999 لغاية 2001. كما عمل منسقاً للشؤون العلمية لقسمي اللغة العربية واللغات الأجنبية من عام2001 لغاية 2003.
* الدّراسات والمشاركات النّقدية:
- له العديد من الدّراسات والأبحاث النّقدية المنشورة في المجلات والدّوريات في عدد من الأقطار العربية.
- له ثلاثة كتب تحت النّشر.
- شارك في العديد من المؤتمرات والنّدوات العلمية.
- ترأس وشارك في لجان تقييم مسابقات علمية.





#محمد_عبد_الرضا_شياع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- متحف هيروشيما للفن يوثّق 35 عاماً من التعبير البصري الياباني ...
- -الذي لا يحب جمال عبد الناصر- وأبرز الإصدارات للقاهرة للكتاب ...
- 7 كتب عن تاريخ الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال والإرهاب الصهيون ...
- لأول مرة في موريتانيا معرض دولي للكتاب مطلع 2025
- فتح باب التقدم لجوائز معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته 56 ...
- وردة الطائف إلى قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي
- بعد الحادثة المروعة في مباراة غينيا ومقتل 135 شخصا.. جماعات ...
- -عاوزه.. خلوه يتواصل معي-.. آل الشيخ يعلن عزمه دعم موهبة مصر ...
- هل تعلمين كم مرة استعارَت أمي كتبي دون علمي؟!
- رئيس الهيئة العامة للترفيه في السعودية تركي آل الشيخ يبحث عن ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد الرضا شياع - محمد علي شمس الدّين والتّحولات اللوركية في شعره