أحمد عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 1444 - 2006 / 1 / 28 - 06:11
المحور:
الادب والفن
جميلة هي محاولة الشاعر أديب حسن محمد تقصي آفاق المشهد الشعري السوري .. و لكنها تبقى مشوبة بالرؤية الذاتية أكثر من أرتباطها بمنهج قراءة نقدي مؤتلف مع ما وصلت إليه أدوات التحليل و القراءة ..
و قد لفت انتباهي في سياق قراءاته توقفه عند المجموعة الثالثة للشاعر علي سفر رغم مرور وقت طويل نسبياً على صدورها و رغم صدور مجموعة رابعة له هي " إصطياد الجملة الضالة " ..و رغم أتفاقنا مع أديب على أن علي سفر لا يكتب الشعر من ذات الموقع الذي يفترضه البعض موقعاً افتراضياً لأقرانه الشعراء السوريين الذين يعيشون في ذات الوقت أزماتهم الثقافية كما يعيشون أزماتهم الحياتية ,إلا أننا نختلف مع أديب في كلامه عن تعمد الغرائبية في كتابة علي فالقصيدة في مجمل تجربة هذا الشاعر السوري هي قفزة في الخيال و التخييل اللغوي ولعل أغلب ما أتهم به الشاعر مراراً من صعوبة في بناء جملته الشعرية كان يتأتى من هذه الزاوية و التي تبدو غير مفهومة حين تساق في طور الحديث عن تجربةٍ شعريةٍ ما ..! إذ أنه من البديهي تماماً التفكير بالشعر على أنه فنً لغوي يستند إلى المجاز .. و عليه فإن تجربة علي و على مدار مجموعاته الثلاث السابقة وكذلك مجموعته الرابعة التي صدرت منذ عام و اكثر تحت عنوان " اصطياد الجملة الضالة " هي اقتراف لغوي يغوص في بنية المفهوم السائد و المتداول للواقعة الشعرية ليخالفها .. أكثر منه بحث في المتكرر و المستولد من روح التجربة السابقة ليتماثل معها ..
يقول علي في أحد نصوص مجموعته الجديدة :
" وبعدَ أن تمضي تَرجَلَكَ
يستقبلُكَ الذاهلونَ فَتحَ نَافِذَةٍ وإلغاءَ وقتٍ..
و يلوذونَ بحدواتٍ صدئةٍ
لتحدثَهمْ عَما جَرى في الغيمِ وأنهكَهُ
تقولُ أنَكَ تسللّتَ إلى مخادعِ الموتى
واحتويتَ كامِلَ العظمِ
َ وأنْكَ قد نادمتَ الهواءَ المديدَ
وأن شيئاً يُوقظُ الجميعَ قبلَ الصباحِ
بما يُشبهُ إنذاراتِ الحربِ في الأعلى
ليعودَ الصمتُ إذْ يأتيْ..
رماحٌ و سنابكُ
يعلن جندها مقابرهم رايات الزمن الجديد
تختصرُ المسافةَ بين سردِكَ المفهومَ
وبينَ احتمالِ تلاشيكَ ثانيةً
في امتطاءِ المخالفةْ..! " ص 12
البحث في اللغة و في نقض تراتبيتها المملة هي لعبة علي في ديمومة محاورته لعناصر اللغة ذاتها , و هو في النص السابق يدفع بالحالة التي يعانيها الشاعر إلى الواجهة على هيئة معركةٍ لا بد من الخوض فيها كي يتم الشاعر امتطاء المخالفة ..!
الألق الذي تكسبه الكلمات في هذا اللعب على المعنى و على اللغة في ذات الوقت لا يحيلنا في مجمل القراءة لتجربة الشاعر إلى أي شكل من أشكال المهادنة مع الجملة الشعرية السائدة لدى شعراء قصيدة النثر في سورية أو في الفضاء المحيط , فالرهان هنا على الاختلاف أكبر من الرهان على السير في الموجة الواحدة و الموحدة..!!
ففي هذه المجموعة و التي قد تبدو أكثر تجارب الشاعر معقوليةً و اقتراباً من الإنساني و ليس من محض اللغوي .. ثمة الكثير من اللحظات التي يتوقف فيها المرء مع شاعرٍ يقول شجنه بلغته الخاصة دون البحث عن جملةٍ لحنيةٍ غنائيةٍ يومية ٍ توقعه في طور التماثل مع الآخرين و نستعيد هاهنا قصيدته المهداة إلى خضر الآغا في الكتاب كمثال على هذا البحث حين يقول :
" هكذا.. كسُكنى العبورِ إلى الأقلِ
من عمرٍ يستحقُ
نرتجلُ حمأةَ أننا ننجو إلى حيث
يقفزنا الصفيرُ
فنرى الآجال آيبةً ونأخذُ الرصيفَ
كيف نسيتْنا ـ وقد قيلتْ منذُ حياةٍ
سُرٍقَتْ منا ولم تستردُ ـ
كلماتٌ لبستْ الجندَ واستمرأتْ تحقيقَ
ما عجزَ عنهُ اللصوصُ الأربعون..!
قلتَ: سنعبرُ
والرؤيا أنّا مضينا على البلاطاتِ
بما تحتها من ماءٍ تراكمَ وشكّلَ
الزمنَ الذي لمْ نلحقهْ..
قلتَ: هي صورتهْ
ورآنا العابرونَ وبكوا وقالوا
أولئك الذين "طوبى"
ثم نالوا حظوظنا..!! " ص 36
منطق الجملة و كما في النص السابق يطمح لأن يبتعد عن السكون اللغوي و الذي يسود في أغلب التجارب النثرية التي تقدم ذاتها من موقع خصوصية الشاعر و من تبحره في زواياه الشخصية و هنا يمكن لنا أن نرى و من خلال رؤيتنا الذاتية صوراً مختلفة لدى علي عن تجربته السابقة ففي اصطياد الجملة الضالة تبويب مختلف للنصوص يفردها أمام القارئ و بما يسمح له لأن يخرج من أسر المناخ الواحد للقصائد إلى مناخاتٍ متعددة أخرى..
فالعناوين الدالة هنا توقع القارئ لحظياً و آنياً في أسر دلالاتها و لكنه يخرج منها بالتتابع و بالتتالي لمساحات الدلالة التي تنطوي عليها النصوص , فهنا لدينا من العناوين ما يبعث على التساؤل و البحث من قبل القارئ ذاته فنقرأ " قصائد خارج السياق " و " قصائد و نصوص مستعادة للأيام القادمة " و أيضاً " حصالة الريح " و التي أرفقت بعبارة " أدخر فيها : علي سفر " و هنا قد يتساءل القارئ عن بواعث بحث الشاعر عما هو فج و غير مألوف في عالم الكتابة الشعرية التي يحاولها ..؟ سيما و أن أحد أكبر أسباب نفور البعض من هذا النمط الشعري هو أمتلاء جملته بالكثير من الخشن و القاسي من العبارات , لا من حيث جرسها الموسيقي بل من حيث دلالاتها و انتمائها للسياق الراهن في أنماط الكتابة الشعرية ..؟
و نقول في محاولة تفسير الأمر و بعد قراءتنا لهذه المجموعة أنه ربما يكمن الجواب في محاولة علي سفر الحثيثة لكتابة ما هو خاص و مختلف و بما يجعله ينفر حتى من الجميل المتفق عليه فالجمال لديه و بحسب كتابته هو جمالٌ غير محسوب في العلاقات السوية بين العناصر بل في الغريب و الخشن الذي يحيط بحياتنا ذاتها فنقرأ و على سبيل المثال قوله :
" أقلُ الأشياءِ المنفّرةِ
معرفةُ الحبِ
والأكثرُ عدمُ الحبِ
وشيءٌ لا ينفرُّ مِنهُ سوى الغربانِ
هذهِ الأركيولوجيا..! " ص 46
و أيضاً قوله :
" الأشياءُ الوحيدةُ الباقيةْ
تُشبهُ ظِلاً يَصرفُ نُقودَ حُبِهِ
قليلٌ يمارسَ قليلاً
ولا أحدَ يمكنُهُ اتساعُ الكنايةِ " ص47
و قد يلاحظ القارئ مما سبق وجود اختلاف بين النصوص المتوفرة في الكتاب بحيث أننا لا نعثر على نقاط تشابه بين النصوص سوى في عمقها و منبتها بينما تسير في تلاوينها و منحنياتها مساراً مختلفاً يفيد بمعنى الاشتغال على النص أكثر من تركه حراً و على السجية كما يقال ..
علي سفر في كتابه الشعري هذا .. مختلف عما سبق و مختلفً عن ذاته السابقة , و لعل ما قدم به الشاعر ابراهيم الجبين للمجموعة يعبر حقاً عما هو عليه شاعرنا حين قال:
" لم يكن علي سفر على حق حين ابتعد عن الكتابة على طريقة "بلاغة المكان" ديوانه الصادر عام 1994 كان يجرب عوالم أخرى. ويخوض بهدوء في تيه الصمت والإياب. وهاهو الآن ومن جديد في "اصطياد الجملة الضالة"يعثر على مفاتيح جديدة. لقراءةٍ أكثر إمتاعاً. وكتابةٍ أكثر حضوراً. " علي سفر" في بيت الشعر السوري جديداً وحاضراً أيضاً "
د . أحمد عبدالله
شاعر عراقي مقيم في دمشق
*اصطياد الجملة الضالة – شعر
علي سفر
دار الناس , بيت الشعري السوري
دمشق , بيروت 2004
#أحمد_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟