أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ماد قبريال - العولمة والدولة القومية: السياق ومسار التغيرات















المزيد.....



العولمة والدولة القومية: السياق ومسار التغيرات


ماد قبريال

الحوار المتمدن-العدد: 5516 - 2017 / 5 / 10 - 09:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المقدمة: -

بعد تصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، أعيد طرح سؤال العولمة مرة أخرى، فيما يتعلق بالدولة القومية (Nation State) ومفهوم السيادة (Sovereignty)، والهوية القطرية (National Identity) من خلال التساؤل، هل افضت العولمة إلى إذابة الحدود بين الدول، وإسقاط الحواجز والقيود المادية والثقافية التي تعترض التدفق الحر للسلع والخدمات ورؤوس الأموال والمعلومات، وما هي تأثيرات العولمة على مفهوم السيادة ووظيفة الدولة القومية التي لم تعد كما كانت، أم ماتزال الدولة القومية تعلب الدور الأكبر في السياسية الدولية، من خلال التدليل على تصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي. تسعي هذه الدراسة لبحث العلاقة بين العولمة والدولة القومية، بجانب رصد التأثيرات والتحديات التي تمثلها ظاهرة العولمة على الدولة القومية، وقدرتها على أداء وظائفها التقليدية، وإشكالية هذه العلاقة من ناحية سياسية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية. وتنطلق هذه الدراسة من فرضية رئيسية مفادها أن الدولة ما تزال هي الوحدة الأساسية في التأثير في السياسية الدولية وأن أثر العولمة مازال محدودًا.

أولًا: تعريف العولمة:

العولمة هي ترجمة للكلمة الإنجليزية (Globalisation) وبعضهم يترجمها بالكونية، والبعض الآخر بالكوكبة أو العالمية، إلا أن الترجمة الأكثر شيوعًا وقبولًا عند المفكرين والباحثين هو العولمة، وقد تعدد السجال حول تعريفها ومفهومها ومضمونها بمعنى أنه ليس هناك تعريفًا جامعًا متفق عليه بين الباحثين، سواء كان من الناحية الأيديولوجية أو من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو في الأدبيات الأكاديمية، إلا أن المتفق عليه هو أن العولمة تعني ازدياد درجة التفاعلات الإنسانية العابرة للحدود السياسية للدول، وظاهرة الإنتاج المتوسعة، التجارة البينية وحركة رؤوس الأموال، نتيجة التطور في التقانة والمعلوماتية بجانب سيطرة وانتشار الرأسمالية العالمية
ويرى بعض الكتاب والمفكرين، أن العولمة هي سيرورة تاريخية نتيجة تفاعلات وتطورات في التكنولوجيا والنقل والاتصال كما ناقش توفلز في كتابه "الصدمة المستقبلية"، إذ يرى أن العولمة أدت إلى تقلص المساحات والفضاءات البعيدة، فضلًا عن التداخل في عالم المال والأعمال، فالأزمة التي ضربت اقتصاديات الدول الغربية 2008 أولًا تأثرت بها بقية دول العالم، ما يعني انعدام الفواصل الجغرافية والمالية التي كانت حاكمة فيما مضى، مقابل انتشار اقتصاد السوق والمنافسة والتجارة البينية كما يرى مناصري العولمة .
وعكس هذا الطرح، هنالك تيار يرفض العولمة ويعتبرها نوعًا من استمرارية القيم والأفكار الغربية الإمبريالية، وهي ليست سوى تعبير يخدم مصالح فئات محددة، ممن لهم ارتباطات وشبكة من المصالح المتنوعة مع الحكومات ورجال الأعمال بالإضافة إلى الأغنياء. في هذا السياق، يرى سمير أمين أن العولمة والرأسمالية ما هي إلا مشروع هيمنة أمريكية تسعى إلى تشكيل إطار جيوسياسي عالمي يخدم أهدافها بالمقام الأول وهو يحلل من زاوية العلاقة ما بين دول الجنوب والشمال في النظام العالمى ، في ظل ظاهرة العولمة بشكل عام، والسياسة الاقتصادية الرأسمالية العالمية بشكل خاص.
مهما يكن من أمر، فإن الدولة لم تعد هي الدولة التي تقوم بوظائفها التقليدية مثل توفير الحماية والآمن والسيادة التي صورها كلا من بودان Jean Bodin، هوبز (Thomas Hobbes)، بل أضحت امام تغيرات كبيرة، نتيجة التطور في البيئة الدولية، بدءا من ظاهرة العولمة وتأثيراتها، حيث لم يعد النظام العالمى الذى صاغته معاهدة وستفاليا 1648، الإطار والشكل الثابت الذى يحكم العلاقات الدولية، ولم يعد بالإمكان التسليم بمفهوم السيادة التقليدي في ظل التداخلات في شتى المجالات بين الدول والفاعلين الآخرين غير الدولة، مثل المنظمات الدولية والشركات العابرة للقارات، إذ أن هناك حاجة لفحص العلاقة ما بين الدولة ومواطني الدولة من جهة، سلوك وفعالية الدولة على مستوى النظام الدولي من جهة أخرى، ففوكو ياما يرى أن نمو الاقتصاد العالمى وما رافقه من ازدياد حركة المعلومات وحراك رأس المال أدى إلى تآكل استقلالية سيادة الدولة- الأمة ، بشكل يدعو إلى رسم جغرافيا جديدة وهو ما عبر عنه بنهاية التاريخ.

ثانيًا: العولمة وتغير قدرات الدولة القومية: -

أوجدت العولمة تحديات للمجتمع والدولة القومية بشكل عام، ما دعا بعض الكتاب إلى إعلان موت الجغرافيا نتيجة الفضاء المعولم مع تزايد تأثر الدولة من جهات ما فوق الدولة، وهو ما يؤثر على قدرة الدولة القومية سواء كان من ناحية اقتصادية، سياسية واجتماعية ثقافية. مما أوجب طرح سؤال حول العلاقة ما بين العولمة والدولة القومية، وما مدى قدرة الأخيرة على مجابهة التحديات والتهديدات الداخلية والخارجية في النظام الدولي المعولم، وهل انتشار العولمة وأتساع رقعة المبادلات التجارية الدولية سيؤدى إلى تحديد نمط ووظيفة الدولة التقليدية، وما مدى القدرة المؤسساتية للدولة وطريقة أدارتها للاقتصاد الوطني في ظل غلبة الاقتصاد السياسي العالمى.
بدءًا، نجد كتابات عديدة تذهب في تفسيرات متباينة، إلا أنه من الملاحظ أن هنالك تغيرات في طبيعة الجغرافيا السياسية بشكل ملحوظ، كما يرى أوهمي كاستلز، حيث أن الدولة القومية الآن مطالبة بأن تتصدى للتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، بصورة جعلت البعض يتبنى بموت أو نهاية الدولة-الأمة، فالدولة الآن ليست كما كانت في الماضي، بفعل ظاهرة العولمة المتعددة الأبعاد التي بموجبها فقدت الدولة التحكم في السيادة والاقتصاد إلى غير ذلك.
ووفقًا لفوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير، أن انهيار الكتلة الشرقية مثل نهاية التطور الأيديولوجي للأسنان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية وقيمها التي تدعو إلى اقتصاد السوق والخصخصة، تحت زعامة الولايات المتحدة في نظام الآحادية القطبية، وسيادة شعارات احترام حقوق الإنسان وجعلها كقيمة كونية، وفي هذا السياق، يذهب هنتغتون في أطروحته مخالفًا لفوكوياما ويرى أن الصراع القادم سيكون صراع الحضارات وأنها لن تكون بين الدول القومية بل عبر الثقافة والحضارة كمحرك، وغيرها من الكتابات المعالجة للتطورات في النظام العالمى بعد الحرب البادرة .
التحدي الأكبر للدولة القومية هو التوافق ما بين وظيفتها الأساسية في ظل كثرة الضغوطات الداخلية والخارجية المشتركة، مع تزايد المشكلات مثل البطالة، الفقر وإعادة توزيع الثروة والأمن، كمهددات داخلية تنبى بضرورة تدخل الدولة لمعالجة هذه التحديات، كذلك هنالك العديد من التحديات الخارجية للدولة القومية في ظل العولمة السياسية، وظهور التنظيم العالمي كممارسة فوق مستوى الدولة القومية مثل مؤسسات بريتون ودرز، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، منظمة التجارة العالمية، مع تزايد حركة تدويل رأس المال والأسواق المالية والثورة التكنولوجية والمعلوماتية، بصورة أوجدت لىها هذا الأثر الكبير في تقرير كثير من القرارات ذات الصبغة السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
هذه التطورات أدت إلى ظاهرة الاندماج في التكتلات الإقليمية لمجابهة هذه التغيرات مثل الاتحاد الأوروبي، اتفاقية امريكا الشمالية للتجارة الحرة، ومنطقة جنوب شرق آسيا وغيرها، ومن المعروف أن هذه التكتلات تقوم على أخذ بعض من صلاحيات الدولة القومية لصالح جماعة أكبر وهي الكتلة في سبيل تحقيق غايات محددة، ما يعني تآكل سيادة الدولة ووظيفتها التقليدية.
وعمومًا هنالك مدرستان رئيستان فيما يخص تناول أثر العولمة في الدولة القومية: -
أ‌- المدرسة الليبرالية، التي ترى إن الدولة قد أصبحت عاجزة عن مواجهة متطلبات العولمة، وأن هنالك مؤسسات وفاعلين مهمين على الصعيد العالمى غير الدولة يمكنها أن تحقق الكثير من التعاون.
ب‌- المدرسة الواقعية، التي تقر بمحورية الدولة في النظام المعولم، وأن الدولة جزء مهم ضمن السياق الدولي رغم الإقرار أيضًا بوجود فاعلين وتحديات سواء كان من الأعلى أو الأسفل .

ثالثًا: مستقبل دور الدولة القومية في ظل العولمة: -

رغم إقرار العديد من المفكرين والباحثين حول ضعف أداء الدولة وتمدد ظاهرة العولمة بمختلف أبعادها إلا أن أحداث أيلول/ سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية وما بعدها، كشفت محورية الدولة، نظرًا لفاعليتها وأهميتها في محاربة الجماعات والتنظيمات الجهادية ما دون الدولة مثل تنظيم القاعدة، بوكوحرام، وداعش النشطة، فضلًا عن تبادلها المعلومات الاستخبارية والأمنية في نفس الإطار ، وفي هذا السياق، نجد أن المهددات الأمنية تظهر بوضوح مدى أهمية وجود الدولة القومية لمجابهة هذه الظاهرة في أجندة الحكومات، كما في طروحات المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية ، كذلك مازال للدولة دور كبير في تشكيل الضبط سواء كان الضبط السياسي أو الاقتصادي المالي والنقدي فضلًا عن وجود أسباب أخرى، مثل الاسباب الايكولوجية، وظاهرة الاحتباس الحرارى والتغيير المناخي. والحاجة لجهود الدولة والدول للحد من مخاطرها.
فالدولة القومية لاتزال لديها القدرة في ميدان التحكم الاقتصادي، بالرغم من أن الحكومات القومية لم تعد هيئات اقتصادية ناظمة ذات سيادة بالمعنى التقليدي إلا أنها تظل جماعات سياسية ذات سلطات قادرة في التأثير على الفاعلين الاقتصادين والمؤسسات الاقتصادية ، فتدخل حكومة الولايات المتحدة بخطة الإنقاذ المالي 2008، يبين مدى قدرة سلطات الدولة، كما إذا أخذنا الاتحاد الأوروبي من حيث هو اندماج دول في كتلة اقتصادية سياسية إلا هذه الكتلة لاتشبه الأشكال الدستورية للدولة القومية، فمعظم صلاحيات الاتحاد نابعة من معاهدات مبرمة بين الدول الأعضاء، كما يعتمد الاتحاد على الأجهزة التنفيذية لدول الكتلة في تنفيذ السياسات المشتركة .
أسباب تجعل من وجود الدولة –الأمة ضرورة وجودية في النظام الراهن والمستقبلي، أي بمعنى حتمية وجود السلطات الحاكمة والدولة كفاعلين رئيسين لمجابهة هذه التحديات ما يسقط مقولات موت الدولة- الأمة من كتابات الليبراليين الجدد أمثال كينيشي أوهمي بكتابه عالم بلا حدود (The Borderless World) وكتاب نهاية الدولة الوطنية The End of Nation- State، مقابل تثبيت دور وفاعلية الدولة القومية في كتابات الواقعية الجديدة مثل والتز Waltz وغيره، كذلك بول هيرست (Paul Hirst) وجراهام تومبسون( Grahame Thompson) وكتابهما المشترك (Globalisation in Question) حيث يجادلان أن الدولة القومية مازالت فاعل أساسي لا يمكن تجاوزها في النظام الدولى ، مع الاعتراف بوجود تأثيرات للعولمة، فحتى في ظل العالم المعاصر المعولم لازالت سلطة فرض القوانيين وتنفيذها من السلطات التي تنفرد بها الدول القومية، حتي لو كانت هذه القوانيين تعكس إرادة المجتمع الدولى، تظل فرضها إلى حدا بعيد معتمدة على الدولة- الأمة ، مع التسليم بتغير البيئة الجيوسياسية والعلاقات الاستراتيجية بين الدول . وحتى أنشاء المنظمات والكتل الأحلاف الإقليمية سواء كانت سياسية أو اقتصادية نجد الدولة هي الفاعل والعضو الأساسي. إذ أن "عمليات العولمة ليست أحادية الاتجاه من العالمى إلى المحلى، ففي الحقيقة إن المحلى والعالمي يتداخلان، فالدول تواصل أداء دور أساسي في الطرق التي تعمل بها اقتصاداتها" ، بالرغم من العمليات التجارية والمالية الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات، فإنها تبقى مرتبطة بصورة متميزة بأسسها الوطن، فشركة فورد الأمريكية وجنرال موتور ما زلت أمريكية، وSiemens مازالت ألمانية، وحتي إذا نظرنا إلى الإدارات العليا لهذه الشركات مازال جل أعضاءها ممن يحملون جنسية واحدة وهو ما لا يعكسه التوزيع الجغرافي لعملياتها .

رابعًا: الاقتصاد والعولمة والدولة .... تداخلات غير منتهية: -

تمثل العولمة الاقتصادية الركيزة الأساسية للعولمة، وهي تشير إلى ظاهرة تراكم وحركة رؤوس الأموال في كافة أنحاء العالم، مع زيادة الإنتاج وعمليات التصنيع المتقدمة، وارتفاع معدلات التفاعل الاقتصادي بصورة غير مسبوقة ، بجانب وجود الشركات العابرة للقارات ذات القدرات المالية الهائلة والنفوذ والأسواق المالية، في مرحلة ما بعد الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بين الاقتصاد الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة وحرية السوق، مقابل التخطيط المركزي للاقتصاد، والتي انتهت بانتصار القيم الرأسمالية وبداية اللون الواحد لأيديلوجية نهاية التاريخ كما تقول فرضية فوكوياما، فيما يسميه برهان غليون مرحلة الرأسمالية العالمية، وصعود نهج ليبرالية السوق على حساب السياسيات الاقتصادية الاشتراكية والكينزية في الفضاءات العامة، وهي الفترة التي مثلت بدايات العولمة الاقتصادية التي دعا إليها الكثير من المفكرين والاقتصادين أمثال ملتون فريدمان (Milton Friedman) عبر أبحاثه وكتاباته المتعددة، منها الحرية والرأسمالية والتي كانت لها الأثر الكبير في التحول نحو الوحدة الاقتصادية أي العولمة في النصف الثاني من القرن الـ20، خصوصًا بعد عام 1980 .
شهدت تلك البدايات من حقبة السبعينات والثمانينات التي عرفت بالريغانية نسبة للرئيس الأمريكي الأسبق والتاتشرية رئيسة الوزراء البريطانية في نفس الفترة، الدعوة لسياسات الخصخصة وابتعاد الدولة عن مساهمتها في القطاع العام، وهو ما حصل في العديد من الدول منها دول الاقتصاديات ذات التخطيط المركزي في الربع الأخير من القرن 20، مثل دول أوروبا الشرقية ما بعد الحرب الباردة والصين في أقصى الشرق ودول العالم الثالث.
أخذت العولمة الاقتصادية بدروها في تسريع وتيرة ادماج الاقتصاديات الوطنية في النظام العالمى، مع زيادة نفوذ مؤسسات بريتون وودرز في بنية الاقتصاد العالمى ما دعا بعض النقاد لوصفها بمؤسسات غير ديمقراطية، بعد إجماع واشنطن 1994 وأنشاء منظمة التجارة العالمية 1995 لتسهيل الاعتماد المتبادل بين الدول و الاقتصاديات القومية بجانب مراقبتها، مع ازدياد حركة وسرعة تحرك السلع و رؤوس الأموال و المعلومات عبر الحدود ، خاصة مع إزالة كثير من الحواجز الجمركية و العقبات التي تعترض سبيل المبادلات التجارية وتدويل رأس المال والأسواق المالية.
ترتب على ذلك، تزايد حدة المنافسة الدولية، واضطرار الدول للتوجه نحو تشكيل العديد من التكتلات الإقليمية الاقتصادية والسياسية والثقافية ، مثل تكتل الاتحاد الأوروبي واتفاقية امريكا الشمالية للتجارة الحرة، ومنطقة جنوب شرق آسيا وغيرها. وبلا شك أن لهذه التكتلات أثار سلبية وأخرى إيجابية على الدولة القومية وسيادتها لصالح هذه التنظيمات الإقليمية الاقتصادية والسياسية ، ما أوجد تحديات للدولة القومية سواء في دول الشمال أو دول الجنوب، ما يعرف بدول المحيط والأطراف أو المركز والهامش، والأخيرة تعرف بضعف بنيتها الاقتصادية.
العولمة الاقتصادية أثرت في قرارات الدولة القومية في مجالي التجارة والاستثمار وأصبحت الأسواق التجاريـة والماليـة خارجة عن تحكم دول العالم، إذ أضحت الشركات الكبرى تدير عمليات الاستثمار والإنتاج، وأصبحت متواجدة حتى في المفاوضات واللقاءات الدولية ذات الصبغة الاقتصادية، في الوقت الذى يقوم فيه البنك الدولي بالإشراف على السياسات المالية العالمية، فيما يختص صندوق النقد الدولى بالإشراف على السياسات النقدية، وتقوم منظمة التجارة العالمية بالإشراف على السياسات التجارية، فضلًا دور البنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولى. وهو ما يعكس قدرة هذه المنظمات وما تملكه من سلطات ونفوذ مقابل تناقص الأدوار الوظيفية للدولة القومية.
وإجمالًا يمكن إيجاز تأثيرات العولمة الاقتصادية على الدولة القومية في الآتي: -
1. نهاية دولة الرفاه وتخلى الدولة عن دورها خاصة تقليل النفقات الاجتماعية.
2. تزايد سيطرة المنظمات فوق الدولة القومية مقابل تناقص سيطرة الدولة على حركة التجارة والمال.
3. البطالة وازدياد الفقر.
4. النزاعات والحروبات على الموارد. (بين الدول-بين الجماعات والمجموعات في إطار الدولة القومية).
5. ظاهرة الهجرة والمهاجرين خصوصًا من بلدان الجنوب الفقيرة نحو بلدان الشمال الغنية لعوامل اقتصادية بجانب أسباب أخرى مهمة.
وبالطبع لا يمكن التسليم، بابتعاد الدولة القومية عن القيام بدور في النشاط التجاري والاقتصادي، لاختلاف بنيات الدول وأنظمتها، فحتى الدول الصناعية المتقدمة مازال للدولة حضور في تحريك وتفعيل أدواتها منعًا للانزلاق والخطر المالي، مثلما حدث من اضطرابات مالية في 1998، كذلك تدخل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بخطة الانقاذ المالى2008، فالأسواق لا تستطيع السيطرة على قنوات التحرك مقارنة بالدولة، ولعل المعلم الأبرز هو المبادرة السياسية في هذا الشأن، باتفاق الدول العشرين G20 في بازل 1975 الذى أرسى لبنك التسويات العالمى BIS في الأشراف على المؤسسات المالية العالمية. كذلك في بلدان العالم الثالث، ما تزال الدولة هي الفاعل الرئيسي أن لم يكن الأوحد في أداء وظائفها.

خامسًا: العولمة والسيسيولوجيا الثقافية الجديدة: -

أضحى تأثير العولمة ليس فقط في الاقتصاد والسياسية على الدولة القومية، بل لها بعد سوسيولوجي ثقافي أيضًا، ما يعني إن هنالك جوانب أخرى أصبح للعولمة فيها تداعيات بصور مباشرة، خاصة في الجانب الاجتماعي، حيث لم تعد الدولة وحدها المتحكمة في العمليات الاجتماعية وتشكيل المفاهيم العامة، في الوقت نفسه، أصبح الحفاظ على نمط الحياة والثقافة المحلية والإبقاء على الهوية الوطنية بمعزل عن التأثيرات الخارجية أمر من الصعوبة بمكان، وخضع الأمر للعديد من النقاش من قبل الباحثين، ويذهب البعض منهم في طرح فكرة المواطنة العالمية في الدولة ما بعد قومية، وسبق أن طرح هنتغتون مفهوم صدام الحضارات حيث أعتبر أن الصراع القادم لن يكون بين الدول بل ستكون بين الحضارات ، لأهمية العامل الاجتماعي والثقافي في تشكيل الاتجاهات، ويعبر هابرماس بمقولة المواطنة الدستورية ويعتقد أن بانسجام أفراد المجتمع السياسي بالمبادئ الديمقراطية والمساواة في المواطنة واحترام حقوق الإنسان ذات الأهداف الكونية . وفكرة المواطنة العالمية هذه ليست بحديثة إذ عبر من قبل كانط (Kant) في بحثه المشهور مشروع السلام الدائم (Perpetual Peace) عن هذه الفكرة لإرساء نوع من العلاقة الأممية بين الشعوب والقوميات بعدما استقراء الواقع الأوروبي.
مقابل تلك الرؤية للعالم ذو الثقافة الواحدة، يذهب محمد عابد الجابري في اتجاه معاكس بالقول أنه ليست هناك ثقافة عالمية واحدة ، بل ثقافات متعددة، ويرى أن العولمة ليست فقط مجرد تطور رأسمالي بآلياتها المتعددة بل هي أيضاً عبارة عن إيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم وأمركته، وهو يفرق بين العولمة (Globalisation) والعالمية (Universalism)، والأولى كما ذكر آنفًا هي أداة إيديولوجية كما هي تعبر عن تطور النظام الرأسمالي بينما يرى الثانية تطور وطموح مشروع للوصول للعالمية ، وغيره من الباحثين والمفكرين، ويستدل على مقولات العولمة نفسها، بانها تسعى لإزالة الحدود الاقتصادية والثقافية بين الدول وبالتالي التواصل بين الأفراد والشعوب بلا حواجز للوصول للدولة العالمية والمواطنة العالمية ذات الثقافة الواحدة، وهو ما يرفضه الجابري بشكل قد يعني إن الدولة بمفهوما التقليدي وعناصرها الشعب والإقليم والسيادة عرضة للزعزعة بفعل ظاهرة العولمة. وبالتالي التأثر في الهويات الوطنية المحلية.
والقصد من العولمة الثقافية هو الاندماج في وحدة أكبر، تقوم على أسس المواطنة العالمية والمصالح المشتركة بجانب القيم الجماعية كما يذهب جل المفكرين والباحثين من دعاة العولمة، مع ذلك، ثمة من يتشكك في هذه الرؤية ويعتبرها محاولة غزو ثقافي هادفة نحو نشر القيم النيوليبرالية والغرب بصورة أكثر تحديدًا، ويستند أصحاب هذا الرأي على التجربة التاريخية مثل الاستعمار، ووسط هذه الآراء المتعارضة تظهر التقاءات على العولمة التي أصبحت أمر واقع، والسؤال هل الاندماج أم رفض الاندماج، نتيجة للتداخل الذى أفرزته العولمة الثقافية، فالتقنيات الجديدة من وسائل الاتصال والتواصل سهلت من التفاعل بين المجتمعات بصورة غير مسبوقة، وأدت إلى تقلص المساحات والفضاءات البعيدة عبر الإعلام المرئي والمقروءة والمسموع، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، القنوات الإخبارية العالمية التي أصبحت تنقل الأحداث مباشرة فما يحدث في امريكا يمكن أن يشاهده شخص في أقصى الأراضي الافريقية، فالعولمة تستطيع عبر آلياتها التأثير في الثقافات.
ويفترض في العولمة أن تذيب الهويات المتباينة نحو الثقافة الجديدة في ظل العولمة، ما يعني بشكل أو بآخر التأثير في الهويات الوطنية للدول أي بمعنى تغيير علاقة الفرد مع الجماعة تحت نطاق الدولة، إلا أن الحديث عن عولمة العالم من حيث الوحدة الثقافية تستدعى البحث في التاريخ الإنساني والسيسيولوجيا لمعرفة كيف تواصلت الأمم عبر المراحل التاريخية المختلة، وهل هذا التداخل الجديد بالصورة التي لم تسبق من قبل، ستؤثر على هوية وقيم ومفاهيم المجتمعات المختلفة لبلورة نقاط مشتركة، نتيجة هذا التفاعل والتداخل الاقتصادي، السياسي، الثقافي، الأيديولوجي والديني بين الشعوب البشرية في مجملها ما أطلق عليه التبادل الثقافي ، لئن المحصلة النهائية للعولمة الثقافية بشكل ما تمثل الحالة النهائية للعولمة ، ونهاية مركزية الأرض كواقع تاريخي لحضارة مركزية كما يرى جيرار ليكلرك مع التسليم بوجود عمومية للشعور بالمركزية ، والحالة الجديدة تفرض الاندماج في النسق العولمي، وهي فكرة تتوافق مع دعاة العولمة الذين يرون أن على الوحدات الآخر أن تتكيف مع الخطوط العريضة لها .
المعضلة الرئيسية في حالة العولمة وتأثيراها على الثقافات والهويات الوطنية تأتى من أعلى ومن أسفل، وفي ظلها حدث استقلال كوسوفو 2008، انفصال جنوب السودان 2011، وإجراء استفتاء اسكتلندا 2014 والثى انتهت لصالح البقاء في المملكة المتحدة، مع وجود دعوات أخرى مغايرة تسعى لتثبيت الذات مقابل الآخر، وما الحركات الاجتماعية ذات القوالب السياسية، مثل دعوة إقليم الباسك للانفصال بجانب تصاعد الاحتجاجات الإثنية والطائفية في كثير من مناطق العالم ما يخلق تنازعات مع مفهوم المواطنة العالمية، مقابل تناقص سيطرة الدولة على الحركة الاجتماعية واتجاهاتها، في ظل التشديد على فرض نمط معيشي ثقافي واحد دون النظر إلى الاعتبارات الأخرى.

الخاتمة: -

وفقًا لما سبق، للعولمة تأثيرات على الدولة القومية، التي لم تعد كانت في السابق، بفعل التداخلات ما بين الشأن الوطني والبيئة العالمية خصوصًا بعد الحرب الباردة، وبلا شك هذه التغيرات أسهمت في تغير علاقة البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمجتمعات العولمة، مع تآكل سيادة الدولة وزيادة المهددات الأمنية والتداخلات الإنسانية مثل ما حدث في البلقان، كوسوفو وليبيا من جهة، وظاهرة العولمة من جهة أخرى، إلا أن ذلك لا ينفى بوجودية الدولة وسلطتها في النظام المعولم، وهي ما زالت قادرة على مواجهة التحديات مهما يكن من نتائج العولمة، تظل الدولة هي الوحدة الأساسية في النظام الدولى، وما خروج بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي إلا دليل على ما سبق ذكره من تحليل.

قائمة بالمصادر والمراجع: -
المراجع العربية: -
1. المحمداوي، علي عبود. الإشكالية السياسية للحداثة من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل: هابرماس أنموذجا، الرباط، دار الأمان، 2011.
2. أمين، سمير. الاقتصاد السياسي للتنمية في القرنين العشرين والواحد والعشرين، ترجمة فهيمة شرف الدين، بيروت: دار الفارابي، 2002.
3. ديكن، بيتر. "العولمة منظور اقتصادي-جغرافي"، في اقتصاد القرن الحادي والعشرين: آفاق اقتصادية اجتماعية لعالم متغير، ترجمة، حسن عبد الله بدر، عبد الوهاب حميد رشيد، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.
4. عابد الجابري، محمد. العولمة والهوية الثقافية، المستقبل العربي، العدد 228، فبراير 1998.
5. فنسنت، أندرو. نظريات الدولة، ترجمة مالك أبو شهيوة، محمود خلف، بيروت: دار الجيل، 1997.
6. فوكوياما، فرانسيس. بناء الدولة: النظام العالمى ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي العشرين، ترجمة مجاب الإمام، المملكة العربية السعودية: العبيكان، 2007.
7. ليكرك، جيرار. العولمة الثقافية: الحضارات على المحك، ترجمة، جورج كتورة، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2004.
8. محمد مسعد، محيي. الدولة في ظل تحديات العولمة، الإسكندرية، مؤسسة رؤية للطباعة والنشر والتوزيع، 2010.
9. مجموعة من الباحثين، العولمة: تحديات الواقع، عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2010.
10. موراي، ورويك. جغرافية العولمة: قراءة في تحديات العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية، نقله إلى العربية، سعيد منتاف، سلسلة عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2013.
11. Held, David and Mc Grew, Anthony. Globalization/ Anti- Globalization: Beyond the Great Divide, Cambridge: Polity Press, 2007.
12. Hirst, Paul and Thompson, Grahame. Globalisation in Question, (Cambridge, Polity Press, 1988.
13. Huntington, Samuel P. Foreign Affairs, Vol. 72, No. 3, summer, 1993, pp. 22-25.
14. Rodrick, Dani. One Economic many recipes: Globalisation, institution and economic development, Princeton- oxford, Princeton university press, 2007.






#ماد_قبريال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العولمة والدولة القومية: السياق ومسار التغيرات


المزيد.....




- -ساعد نساء سعوديات على الفرار وارتد عن الإسلام-.. صورة ودواف ...
- ماذا تكشف الساعات الأخيرة للسعودي المشتبه به قبل تنفيذ هجوم ...
- الحوثيون يعلنون حجم خسائر الغارات الإسرائيلة على الحديدة
- مخاطر الارتجاع الحمضي
- Electrek: عطل يصيب سيارات تسلا الجديدة بسبب ماس كهربائي
- تصعيد إسرائيلي متواصل بالضفة الغربية ومستوطنون يغلقون مدخل ق ...
- الاحتلال يقصف مدرسة تؤوي نازحين بغزة ويستهدف مستشفى كمال عدو ...
- اسقاط مقاتلة أمريكية فوق البحر الأحمر.. والجيش الأمريكي يعلق ...
- مقربون من بشار الأسد فروا بشتى الطرق بعدما باغتهم هروبه
- الولايات المتحدة تتجنب إغلاقاً حكومياً كان وشيكاً


المزيد.....

- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ماد قبريال - العولمة والدولة القومية: السياق ومسار التغيرات