|
رحلتي الى جبل تاراناكي في الجزيرة الشمالية / نيوزلندا
تيسير الفارس العفيشات
الحوار المتمدن-العدد: 5515 - 2017 / 5 / 9 - 03:56
المحور:
الادب والفن
..........
( أي سرور يملاء جوانحي فوق هذا الجبل الأشم الذي يتصاعد حتى السماء، ويكلل المروج المترامية حواليه بإكليل من الزهو والجمال ) ...
تبدى لي هذا الجبل دائما .. مثل شيخ مهيب ذهبت به السنين مذاهبها. مثل صوفي يعكف على كتابة رسالته الاخيرة في ضوء شمعة قديمة، جالساً بين سبائخ الغيم، يأنسه القمر وتسامره النجوم القريبة، لم أعرف شيخا مكتنزاً بحكايا التاريخ مثله، حين تقف أمامه تُشع عيناه بنور أشبه بنور الشمس، وتحس بالدفء ينال أعطافك ويسري في حنايا روحك.
هو كائنٍ هائل ينظر إلينا من الأعالي مثلما في الأساطير وحكايا الخرافة، رأيته جبلا يتداعى على نحو حلم ، يستجيب لشهوة الفكر في تغيير العالم بدءاً من هناك وهنا و( وهنا وهناك) ليس مكاناً، لكنه فصل من الزمن الذي يتصل بانطلاقة الخيال الذي يعيد إنتاج أحلام الماضي كي يؤسس الوعي به فيما بعد، عندما تأملت المفارقة بين الجبل وبين غابة السرو والقسطل التي تلفُ خاصرته ، بالغتُ في الثقة بقدرة الغابة على إكتناه أسراره الغائرة في زمنه المغرق في القدم.
كم لهذا الجبل الذي صار له حضور مهيمن على تلك القرية الوادعة الراقدة تحت قدميه من هيبة ، تلك القرية تراوح بين البساتين وعيون الماء ومساكن خشبية يعلو اسطحها القرميد الأحمر والأخضر، والقرية في وادي يتسع قليلا لينفتح بهوا خالصا الى جهة الغرب، يتميز الوادي بالخصب لفرط الماء الذي ينبع من الجبل. وتنتشر في حفافيه أشجار اللوز والعنب والرمان . ( جبلٌ ) أكتافه تنحدر دون تهدّل وتسترخي دون كسل، مثل شيخ يتقدم في العمر من غير أن تبدو عليه علامات الشيخوخة. وما أن ترفع رأسك لتحصر حدود حجره بعينيك، فلا تدرك ذلك تماماً، فتذهب الى المخيلة كي تسعفك . يزداد الهدوء كثافة كلما حاولت الاقتراب منه . وغالباً ما تشعر بأن ثمة انتقالاً بين الفصول يأخذك ويردك وأنت متأجج الأحداق .
جبل تاراناكي او جبل إيغمونت هو جبل بركاني يقع في منطقة تاراناكي على الساحل الغربي من الجزيرة الشمالية في نيوزلندا، يعتبر جبل تاراناكي واحد من اكثر المخاريط البركانية تناسقا في العالم، يبلغ ارتفاعه 2518 مترا ويحتوي على قمة ثانوية ترتفع 1966 مترا وتسمى فانثماز تقع على الجهة الجنوبية من القمة الرئيسية الباذخة.
في الطريق اليه صافحني شخص شعرت ان رسول او مبعوث الجبل. (هل تريد أن تصعد حقاً؟) شعرت بأنه يسوق لي تحدياً مضاعفاً. التفتُّ برأسي نحو الأعالي التي تحدق بي . (هل الطريق إليه وعرة إلى هذا الحد؟). لقد كان احتدام سؤالين بهذا الشكل كافيا للوثوب الى قلب التجربة الثرية الزاخرة ، كنت وصديقتي نعيمة عبد العال نأخذ أماكننا بثقة المكتشفين. شعرت صديقتي برعدة تنتاب أوصالها وقالت ( نصعد الجبل كمن يصعد إلى الأسطورة) . خجلت لأول وهلة من القول بأن هذه هي الحقيقة، فأنا أذهب إلى الجبل ليس بوصفه حقلاً من تضاريس الأرض ونتوءاتها، لكن باعتباره جزءاً من تكويني الروحي الممتد من الطفولة حتى بدايات العشرين يوم كنت أرعى قطيع الماعز في سفوح جبال ناعور ، هي اذن الطفولة والتاريخ يلتقيان في هذا الجبل مثل أسطورة نلمسها باليد. وفيما أصعد إليه، إنما أتقهقر فرحاً نحو طفولة ممزوجة بشهوة ذلك التاريخ الذي لا يزال طازجاً.
أخذت ( العربة ) دورة غير مكتملة علي طريق ممهدة، قبل أن نجد أنفسنا في مدخل منبسط قليلاً، سرعان ما ينتهي بطريق ترتفع تدريجياً وهي تتوغل في ممر صخري راح يضيق كلما توغلنا، لنتوقف أمام بوابة خشبية محروسة، ظهرت أمامنا بغتة . كانت الشمس اللافحة في أوائل أيلول تنهش الظلال البرئية تحت أشجار السرو القسطل وتنبث بين الأيك الكثيف في الغابة، فتتراقص الظلال والأنوار كعافريت الحقول، والديار المترامية في الريف الضحيان تتثاءب لاهثة من هذا القيض اللافح ، حتى إذا ما انحدرت الشمس الى الافق لتغتسل في مائه الأزرق المتورد، كانت البيوت الزاهية تتبدى في فرحة مثل حوريات شقراء تسبح في اليم الكابي، بينما الجنادل تستقبل المساء بترانيم رتيبة كتلك النغمات البلورية التي راحت ترددها نواقيس الكنائس في القرية، وارتفعت في السهول المنبسطة ألسنة الدخان من مداخن المنازل تعلن سلام البيت،وعواء القطعان المتخمة يتهادى من بعيد مع مواكب الألوان والاشجان، سهوب من التراب الأحمر تتراءى كأنها أمواج من الجمر المتقد تتخللها أفواف من الصفرة الكابية في قلبها يُسَبِّح الحصى الرقيق، كان كل شيء يتحدث بلغة رفيعة باذخة لا يفهمها من الجماعة التى ترافقني في هذه الرحلة، أقول لا يفهمها منهم سواي.. . جو صوفي ساحر يتأرجح بين الظل والنور في نظارة تومض إيماض الفجر، وتنسحب عليها مسحة من السر الهائم في أودية الجانب الأعلى، وترن بين حفافيها نغمات عميقة التوقيع كأنها صادرة عن أرغنٍ مقدس. والجو فيه سجو حنون يمزج التأمل الهادئ بالطمأنينة الناعمة ، وفيه إشراق يفتح على آفاق تتجاوز نطاق الدنيا الحية العامرة..
كان ثمة شعور ذاتي جعل الجبل كائناً يخصّني وحدي فقط. وفيما راحت الطريق تتصاعد بشكل إفعواني حاد سيطر صمتٌ كثيفٌ على الجميع. تحولت الأجساد المكنوزة في العربة إلى كائنات أثيرية غير موجودة، يستعصي قياس خفتها وطاقتها على الوجود، مثل الأواني المتجاورة المستطرقة ..استغرق ذلك وقتاً خِـلته دهراً، تبدت لي النعمة الخفية التي يدفقها الجبل على خلقه المطمئن من حوله. وطاب لي أن أسمي ذلك سواداً يشفُّ عن حضرة صوفية، يحسن الجبل خطّها في دفاتر مريديه .
الانسياب المتأرجح يجعل العربة خفيفة في حضن رحب. هل كان الجبل يهدهدنا مثل أطفال في مهودهم ؟. غير أننا لا ننام. نسائم الجبل تمنح الطير والشجيرات والمهاوي، وقطعان الايائل المتقافزة والحيوانات الهائمة تمنحها مزيداً من الحضور الطاغي ، والأبراج الناهدة التي تحرس الطرق والثكنات الكامنة، والانهدامات الصقيلة والمغارات الغامضة لها تاريخ وقصص وحكايا وأساطير . أشارَ الدليل إلى جيبٍ حفرته الطبيعة في تجاعيد الجبل وقال: هذا آثار نيزك ضرب الجبل في فترة قريبة . كان الدليل يتكلم عن الجبل بلغة تضاهي الحب، إنه ضرب من تبجيل العاشق والذوبان فيه. عندما كان يضع يديه على حجر الطريق، يبدو كمن يلامس جسداً يحسّ به ويشعر بحركة النبض فيه ويحسن مكالمته . يقول لنا هذا ليس جبلاً ، أنه حجر حي يفيض علينا بالبركة والخير إن يحرس قريتنا ويهبها الأمان والسكينة، في هذا الجبل في كهوفه ومغاراته كان يسكن أنبيائنا وهنا كانت تتنزل عليهم الحكمة من آلهة الشمس وراح الدليل يعدد لنا أسماء كثيرة ويقرأ لنا من كتاب كان يحمله مقاطع من مواعظ وحكم هي أقرب الى تراتيل صلوات لازال يؤديها هؤلاء القوم في معابدهم إلى اليوم...
كنّا نبالغ في الصعود، والجبل ينحني بطقسه الحميم وينثني نحو شغافنا المستسرة . كلما تقدمت العربة في الصعود. كنا نشعر بالجبل يرافقنا مجاوراً للعربة، حيناً من الشمال وحينا من اليمين . مثل شخص شاسع يحمي تقدم أحباء أليفين حاضناً فيهم قلوبهم الطيبة وأحلامهم البريئة كي يمنحهم مزيدا الالفة والطمأنينة، وأخذت الصخور تتبادل الألوان أمامنا من الأسود الفاحم الى الأحمر الى الداكن المشرب بالأبيض . كمن يستبدل ملابسه بين لحظة وأخرى باحثاً عن زينة تناسب زائريه. لا أعرف لماذا رأيت فيه كائناً حياً قادرا على الكلام معنا لو أن أحدنا توجه إليه بالكلام . كان يصغي لهسيس أصواتنا ويسمع الى خفق قلوبنا برصانة شيخ عاشق. وكنتُ أتصلُ بحضوره على طريقة متصوفة البوذيين : أعضاء مسترخية، أحداق مفتوحة، وحواس في يقظة الكشف، وهو يسرّ لي الأشياء. الجبال أيضاً تميل إلى العزلة، الجبال أيضاً تنتظر، الجبال تعرف الحزن الجبال تختزن الهموم ، الجبال ضرب من الكتب وغابات من الأسرار..
هبتْ علينا ريح مشحونة برائحة خمرية نادرة لم ندرك مصدرها. قال دليلنا إنها آثار شجر نادر لا ينبت إلا في هذا الجبل . وأشار نحو جهة في الجبل (انظروا هناك)، وكان علينا أن نتبيّن المشهد، ونجوس بأنظارنا لكي نلمح بقعة خضراء تبرق عن بعد. رأيت فيها شجرا يتطاول يزهو ويتماهى مع تجاعيد الجبل في آنٍ واحد. ثمة ما يشبه غاباً منساباً في تضاريس يصعب عبورها. إنها واحدة من الغابات الموغلة في الطبيعة. وبعد قليل توقفت (العربة ) ليعلن الدليل أن الطريق الصالحة للعربات قد انتهت، وعلينا، إذا أردنا مواصلة الرحلة للقمة، أن نترجل ونبدأ العبور إلى القمة ( تركت صديقتي عبد اللطيف في العربة ) . والوصول إلى (هناك) استدعى مني سيراً مرهقاً استغرق حوالي الساعة والنصف ... رفعتُ رأسي لكي أنظر إلى هامة الجبل الشاهقة، متخللاً بنظري حلقة كثيفة من أشجار غامضة ذات أزهار نارية اللون، كانت لا تزال تظلل المكان. فيما يتسرب جدول ماء صغير بين صخور هائلة الحجم تدحرجت منذ أحقاب طويلة لتصل وتشكل حصناً طبيعياً يحرس القمة، تأكدت لحظتها أن كائنات خرافية ساعدت الطبيعة على صياغة هذا الجسد الصخري العظيم. بدا لنا المكان صالحاً لعزلة النساك بعيداً عن العالم، حيث لا تسمع فيه غير صوت الطبيعة وصداها، كيف تسنى لهذا الجبل أن يحتفظ بالطبيعة كأنها بعض أثاثه .
ثمة أسطورة عند شعب الماوري الذين جعلوا من الجبل في هذا البلد بعض آلهتهم تقول إن الجبل يأخذ في الليل هيئة روح عظيم يتجول في القرى والأحراش، يمضي هناك كامل الليل، والناس يعرفونه في كل مرة، ويشعرون بأن يداً رحيمة تربت على أكتافهم وتغلق عليهم باب الدار في نهاية سهرتهم ليكون نومهم عميقاً وزاخراً بالأحلام.
كانت الرحلة الى جبل تاراناكي رحلة زاخرة بالتهاويل عامرة بالسرور، أحياناً الأسطورة أثمن وأعز من الحقيقة التاريخية الجافة القاسية ، الأسطورة حلم جميل لطالما كانت قوتاً تغذت به النفوس الشاعرة الحالمة ....
#تيسير_الفارس_العفيشات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رحلتي الى دير جون سانتا في هضاب مدينة هستن ....الجزء الاول
-
مايكوفسكي وصديقه يسينين
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|