|
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (11)
موسى راكان موسى
الحوار المتمدن-العدد: 5512 - 2017 / 5 / 5 - 11:57
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
انهيار (( الماوية )) و الانقلاب التشيلي (ص 61ـ65) :
إن هذا المد الزاحف من الأفكار و الوقائع ، و الذي قمنا هنا بالتذكير به ، إن لم يكن قد قطع فقد ارتبك على الأقل ، بتدخل حادثين كبيري الأهمية ، وقعنا معا في مناطق من العالم تبعد كثير عن إيطاليا ، غير أنهما أثرا تأثيرا عميقا على مجرى الأحداث في بلادنا ، نظرا لمغزاهما الايديولوجي و السياسي .
في ليل 12 ـ 13 أيلول 1971 ، مات لين بياو في حادث تحطم طائرة . لقد كان هذا الرجل أحد أبرز دعاة (( الثورة الثقافية )) الصينية . و كان أيضا مهندس و مخترع (( الكتاب الأحمر )) الشهير حيث أنه جمع فيه أفكار و حكم ماو . و بإختصار كان لين بياو المحرك الأول و القائد (( الظاهر )) للأحداث التي جرت في الصين ، بقوة لا تقاوم ، منذ صيف 1966 .
و كان قد جرى اطلاق لقب (( الصديق الحميم و أقرب رفاق السلاح للرئيس ماو )) على لين بياو ، كما جرى تعيينه رسميا كخليفة له و ذلك في المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي الصيني المنعقد في نيسان 1969 . كما أن تعيينه قد سجل رسميا و أُذيع و نشر في إحدى مواد التعديلات التي أُدخلت على الدستور الصيني .
و لعدة أشهر ، لم يتسرب أي خبر حول وفاته ، لا في الصين و لا في الغرب . إن الخبر قد جرى تعميمه يوم 28 تموز 1972 . إلا أن الدهشة وصلت إلى مداها حين بدأنا نعرف رويدا رويدا ظروف موته (و قد وصفها فيما بعد شوان لاي في المؤتمر العاشر في عام 1973) . لقد مات لين بياو و هو يحاول الهرب إلى الاتحاد السوفياتي و بعد فشل آخر محاولاته لتصفية ماوتسي تونغ .
لم يكن ممكنا حدوث اضطراب أكثر مما حصل ... فلقد كان لين بياو أكبر منظر (( للثورة الثقافية )) ، و كل الموضوعات الايديولوجية الكبرى التي ارتبطت في الغرب بنظرية الثورة الثقافية ، و ذلك في صفوف الماركسية الثورية ، كانت ترجع مباشرة إليه : من موضوعات الريف و المدينة ، إلى موضوعات الامبريالية و العالم الثالث ، إلى موضوعة أولوية و غلبة السياسي على الاقتصادي (كتب لين بياو بأنه (( ينبغي وضع السياسة دائما في موضع القيادة ، إنها جوهر كل شيء))) ، وصولا إلى الأطروحات التي تصدت بنجاح و امتياز (في تنظيم الجيش كما في التنظيم الاقتصادي) للإنحراف (( التحريفي )) (الذي كان يراهن بكل شيء على التجديدات و التطويرات التكنولوجية و على التصنيع السريع ، و أخيرا على احترام متطلبات (( العقلانية الاقتصادية )) دائما و في كل مكان و في كل الحالات ...) .
يضاف إلى ذلك أن جو (( مؤامرات القصور )) الذي جرت فيه وفاته و الإعلان عنها ، كان يبدد (كما لو أنه حصل تبدد للأحلام وخيبة للآمال) الحظوة التي أحاطت مثل الهالة ، و حتى تلك اللحظة ، بالفئة القيادية الملتفة حول ماوتسي تونغ و التي وضعت نفسها على رأس الثورة الثقافية ، و ذلك على الأقل في أعين حلقات المثقفين الأكثر تقدما (في باريس كما في روما) .
في ترجمتها التي انتشرت عنها في الغرب ، كان لهذه (( الثورة )) تأثير شبيه بذلك الذي أحدثه ، بالنسبة لتلامذة لوثر ، قيام هذا الأخير بتعليق أطروحاته الخمس و التسعين على حائط كنيسة ويتنبرغ . لقد كان الأمر يتعلق بإعادة إحياء فكرة كان قد جرى إجهاضها و خيانتها .. بكلمة واحدة كانت تلك هي مرحلة (( النهضة )) أو (( التجدد )) و (( الإصلاح )) للشيوعية . إن التجديدات الايديولوجية التي قدمتها للماركسية (( التقليدية )) قد بدت و كأنها التأكيد و الضمانة لدخول هذه الأخيرة حقبة جديدة (عصرا جديدا) .
و الحالة أن هذه المؤامرة من هذا الجانب و ذاك ، و هذه الأساليب السياسية القديمة و التي كان يتم بواسطتها تحميل (( رفيق السلاح الحميم للرئيس ماو )) بمفعول رجعي (و بعد الوفاة) نفس النوايا السيئة التي كانت لدى ليوتشاوشي ، الذي كان لين بياو قد انتفض ضده كأكثر الأعداء تشددا ، و كان كل ذلك يأتي ليعيد التذكير بسوابق مشؤومة و معروفة للقاصي و الداني ، كنا نظن (أو أردنا أن نأمل) بأن الشيوعية لن تسقط فيها مرة أخرى .
و حتى هذا ، لم يكن طبعا كافيا ليهز إيمان (( المثقفين الكبار )) . لقد واصل سويزي و بتلهايم و العشرات غيرهم ، كتابة نفس الأشياء كما في السابق . و مع ذلك فإن السقوط المفاجئ للين بياو ، و الصعود المتوازي لدنغ هيساوبنغ (و معه لا مبالاته اللا ايديولوجية بمعرفة لون القط ، بشرط أن يكون قطا قادرا على الامساك بالفئران) ، و إن لم تكونا علامات على التحول أو الانعطاف إلا أنهما كانا بالتأكيد من النذائر المبشرة به .
لقد بدأ حينذاك وهم و أسطورة (( الثورة الثقافية )) بالخفوت .. و بقي منه ، و لفترة من الوقت ، ذلك (( العطر الايديولوجي )) ...
و لكن ، و بما أن التاريخ كان قد قرر في غضون ذلك الإنتهاء من الأساطير و الأوهام بأسرع مما كان يحصل في السابق ، و أن يعود بغتة ، أستاذا للحياة ، فإن حياة هذا العصر أيضا كانت قصيرة .
في أيلول 1976 مات ماو . و لم يمض شهر على ذلك إلا و كانت زوجته تشيانغ تشينغ قد اعتقلت مع ثلاثة أشخاص هم أبرز و أهم ممثلي الجناح المتطرف . إن محاكمة (( عصابة الأربعة )) _أوثق مساعدي ماو خلال السنوات الأخيرة من حياته_ كانت تلطخ الصورة الأسطورية للرجل الذي كان مهندس (( المسيرة الكبرى )) و قائد و مرشد أكبر ثورة في العشرين . لقد كانت الصين (ذلك الجدار الكبير الذي كان على الشيوعية العالمية أن تستند إليه لإنطلاقة جديدة لها ) تتخلى هكذا عن (( الثورة الثقافية )) معتبرة إنها المغامرة الأكثر طيشا و الفاجعة الأكثر جللا ، التي حكمت عليها بها (( الآفة الايديولوجية )) في السنوات الأخيرة . و في نفس الوقت وقعت معاهدة تحالف مع اليابان ، و أقامت علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية .
لقد كان الأمر يعني فعلا نهاية لمرحلة ، و قفلا لدورة .. لقد سكت الأنبياء الأكثر حماسا و الأكثر خيالا . و عزلوا أنفسهم ، و لكن ليس من أجل إجراء مراجعة مع أنفسهم و إنما كما لو إنهم قد اختلفوا مع التاريخ .
الحدث الثاني الذي سبق و أشرت إليه (بعد حادثة موت لين بياو) هو الإنقلاب العسكري في التشيلي و إغتيال أليندي في أيلول 1973 . لقد كانت (( الوحدة الشعبية )) أول تجربة سياسية أعطت لنفسها بوضوح و صراحة مهمة تحقيق إنتقال تدريجي نحو الاشتراكية على قاعدة إجماع ديمقراطي و بالطريق السلمي . كان الهدف يبدو بشكل عام و بإختصار و كأنه نفس الهدف الذي حدده لنفسه الحزب الشيوعي الإيطالي منذ فترة طويلة . و من هنا كان من المفهوم تماما أن تُتابع المحاولة التشيلية عندنا بإنتباه و يقظة كما لو أن الأمر كان عبارة عن تجربة علمية في مختبر .
إن النهاية المأساوية و حمام الدم الذي شكل خاتمة مطاف تلك التجربة ، قد أثارا بالطبع اضطرابا كبيرا . و لكنهما أظهرا على وجه الخصوص الضرورة القصوى الطارئة لإنجاز استراتيجية سياسية تكون على مستوى تجنّب هكذا خاتمة كارثية . إن الفوارق بين الحالتين كانت طبعا كبيرة . و لكن يبقى أنه كان هناك بعض أوجه الشبه .
بعد 1968 ـ 1969 إزدادت حدة الصراع السياسي و التوترات في إيطاليا . كان اليسار في حالة توسع ، و كانت الحركة النقابية تقوم المبادرة الهجومية ، و كانت الجامعات لا تزال في حالة ثورة . و في نفس الوقت كنا قد لاحظنا علامات لا تخطئ تنذر بخطر ردة سلطوية و معادية للديمقراطية . لقد جرت مؤامرات و استفزازات (دموية) و أعمال إرهاب ، ظهر أنه تورط فيها ليس فقط قوى سياسية من اليمين و إنما أيضا بعض أجهزة الدولة ..
نحن لن نتناول هنا (( المساومة التاريخية )) و هي استراتيجية كان الحزب الشيوعي الإيطالي يعتقد أنه يستطيع بواسطتها أن يستخلص درسا و في نفس الوقت أن يلاقي علاجا للنتيجة الكارثية لتجربة أليندي في التشيلي . إن ما يهمنا أكثر هنا هو التطور الايديولوجي الذي أدت إليه هذه الاستراتيجية و الطريقة التي ساهمت من خلالها في تسريع الإتجاهات التحريفية التي أظهرها الحزب الشيوعي الإيطالي منذ مؤتمر العشرين . و لكن قبل أن نواصل الكلام ، من الضروري أن نقدم هنا توضيحا .
#موسى_راكان_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (10)
-
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (9)
-
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (8)
-
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (7)
-
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (6)
-
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (5)
-
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (4)
-
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (3)
-
افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (2)
-
افول الماركسية الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (1)
-
علم التاريخ و (( مضار التاريخ ! ))
-
شيء عن العلمانية
-
شيء عن الإصلاح
-
جامعة البحرين و جنرال إلكتريك .. أما بعد
-
ورقتي المقدمة في ندوة (( الشباب .. و تحديات المستقبل )) بالم
...
-
شيء عن إلغاء مجانية التعليم الجامعي
-
شيء عن جامعة البحرين - المستقبل ، و الدور المشبوه القادم
-
شيء عن جامعة البحرين - الثالوث المحرم
-
شيء عن جامعة البحرين - إحتكار الإعلام ، و قمع الأصوات الأخرى
-
شيء عن جامعة البحرين - السلطة المطلقة ، و تشتيت القوى التلمذ
...
المزيد.....
-
وسط ترقب لرسالة أوجلان.. ماذا يريد حزب -ديم- الكردي من زيارة
...
-
تركيا تشترط القضاء على حزب العمال الكردستاني لإعادة النظر في
...
-
مراقبون للشأن اللبناني: مهاجمة المتظاهرين السلميين عمل مشين
...
-
إضرام النار في الجسد: وسيلة احتجاجية تتكرر في تونس بعد 15 عا
...
-
حصيلة عمل فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب بمناسبة اختتا
...
-
افشال السياسة العنصرية لترامب واسرائيل بحق الفلسطينيين مهمة
...
-
الحزب الشيوعي يرفض اتفاق إنشاء قاعدة عسكرية روسية في السودان
...
-
-ميول إسلاموية- ـ المشتبه به يقر بتعمد دهس متظاهرين في ميوني
...
-
كلبة الفضاء السوفييتية -لايكا- تشارك في -يوروفيجن 2025-
-
جبهة البوليساريو تنفي تواجد مقاتلين تابعين لها في سوريا
المزيد.....
-
الذكاء الاصطناعي، رؤية اشتراكية
/ رزكار عقراوي
-
نظرية التبادل البيئي غير المتكافئ: ديالكتيك ماركس-أودوم..بقل
...
/ بندر نوري
-
الذكرى 106 لاغتيال روزا لوكسمبورغ روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثور
...
/ فرانسوا فيركامن
-
التحولات التكتونية في العلاقات العالمية تثير انفجارات بركاني
...
/ خورخي مارتن
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
/ آلان وودز
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
المزيد.....
|