|
موارد العنف -6-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5512 - 2017 / 5 / 5 - 05:22
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
موارد العنف قراء لعقلية الكراهية -6- يتبع إن بناء هذه التكتلات المحتوية على أسرار البقعة التي تنطق قوتها بمفاهيم ما تنتجه مصانعها من دمار في الإنسان، وخراب في الديار، قد سبب في وجود مناط آخر للعلاقات الإنسانية، يتحقق به حد معين من الاتفاق على بنود عامة تحمي الملكية الخاصة للأقوياء، وتنفي عما عداهم من سكان هذا الكوكب حق الاختيار، وواجب القرار. وهو كل ما تواطأ عليه الأغنياء من مصالح تجمع دوائرَها لغة الأرقام المتعالية في كبرى المعاملات البشرية، لأن وجود هذا المشترك بين ملاك بسمة العالم، وبهجته، ومسرته، لم ينتج عنه إلا تغيير في جذور العلاقة القائمة بين كل الأطياف المكونة لمساحات الحركة في المجتمع الكوني، إذ ما حصل من تغير في البنى التحتية للعلاقات الاجتماعية، ما هو إلا نتيجة حتمية لما اندفع إليه المال في كبرى دوائره من طغيان، واستعباد، واستغلال، لأن تحقيق الرفاهية على حساب المحرومين، والمنكوبين، لن يجعل الواقع إلا مربادا، كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه. وهكذا، فإن مآل هذه العلاقات التي تدل نتائجها على مآلاتها الضرورية، لا يوحي بوجود أملِ الالتقاءِ على منزع يضمن حق الحرية في الحياة الكريمة، لأن ما يعاديه الإنسان في استقراره النسبي، ليس هو ما يحس به من مخاوفَ معلولٍ أثرها بالبداهة، بل ما يعن له من خوض غمرات حربه بين ظلمات المجهول الذي يأسر لبه بغموض كهف سره، وطلسم رمزه، والتفافِ جهده في عمقه على كثير من المعاني التي اختفت هندستها بين تضاريس واقعه المترع بالتناقضات العجيبة، وهو لا يدري من شدة الذهول الذي دهمه، إلى أي نهاية سيصل في كده بين مسارب المصلحة المشتركة، ومشاعب المنفعة العامة، لأن الانتصار على العامل الخارجي ممكن بالطبيعة التي وهبتنا سياجها للوقاية، والحماية، لكن ما هو عسر في عملية الترويض للمسالك التي تهبنا قدرتنا على العيش الضروري، هو ما يتحكم في ذاتنا من أجهزة باطنية، تشكل سقفنا الثقافي، والفكري، والمعرفي، لأنها هي التي تعرب عن نوعية نظرنا إلى هموم العالم، ومشاكله، وأزماته. ومن هنا، فإن انفصال الخارج عن الداخل في المواضعات التي تآلفت عليها حدود الأمم القوية، وانبثاق مركب ممزوج من عناصر متباينة، وأذواق متفاوتة، قد أغرى الضعفاء بوجود سياقات أخرى، يمكن لها أن تعود بنفع نتيجتها على الإنسان، والأرض، والحياة، لأنها بقوتها المكتنزة لمعنى الاستلاب، والاستبداد، لم تدع مجالا مفتوحا للتأمل في هدفها المستبطن لسر ما تظهره من تباكٍ على حقيقة ضياع الكائن البشري بين مهاد الكون. ولذا، كان هذا الأنموذج الذي يستظهر الضعيفُ حقيقته مما هو موجود في ذاته بالإكراه، ومفروض عليه بالإلزام، هو السبب في اختلال يطال كل الثقافات والحضارات التي تنبذ تقديس المادة الصماء، وترفض تشييء الإنسان، وتلويثه بما يخدم الآلة، ويثري عقل المتوغل في بركة الاستكبار، والاستعلاء، إذ الاغترار بهذا البرق الساطع من سماء الحضارة الغازية بصناعتها المدنية، والعسكرية، قد أفضى إلى ضياع كثير من القيم التي يبحث عنها الإنسان في سعي عيشه اليومي، وهي كل القيود الأخلاقية التي تضبط سير السلوك في الرغبات، والشهوات، وتيسر سبيل الإخاء، والوفاء. ولذا، فإن فصل الظاهر عن الباطن، قد انجرت إليه كل الحضارات المتصارعة بقيمها الروحية، والمادية، لأنها تنزع إلى أحد الطرفين المتعارضين المقدمات، والنتائج، وسواء من صير هذا الأنموذج المغريَ وقاء له من كدورة العيش بين الديار المطلولة ببكاء الفقراء، وأنين المحرومين، وزفير المنكوبين، أو من حارب أصول نظرياته، ومحددات فكره، وموجهات سلوكه، لأنهما معا يرتجيان حقيقة معينة، وهي زبدة ما يحرك الإنسان في تفاعله مع غيره، أو في إحجامه عن ذلك، والاكتفاء بغربته، أو اغترابه. لكن رفض المساهمة بسهم في هذا الجدل القائم حواره، ونقاشه، ولو لم تصب الرمية المحز، ولم يفر السكين الودج، لن يكون إلا إخلادا إلى الأرض، واتباعا للهوى، وربما قد يتجاوز ذلك حد القبول في المنطق الديني، والتأويلي، فيتحول إلى خيانة لضمير الاستقامة في العقيدة، والمعرفة، لأن هذه الأمة تحتاج إلى لسان صادق يعبر عن همس كدها، ونبض كمدها، إذ لا تملك في قاموسها إلا مفردات كانت معانيها الأخلاقية محط إعجاب فيما توارى عنا زمنه، ولم يهتف فينا إلا صوت نبله. وهكذا، فإن الفصل بين مادية الإنسان وروحيته، وعلى امتداد كل المدارات التي ينادى فيها باسم العودة إلى نقطة معينة في تاريخ الكون، لن يفيد في مستقبل هذه الأمة التي أنهكتها الحروب، وأوجعتها الندوب، لأن التغريد بضرورة أن يعيش الإنسان سمو الحياة في عمقه، ولو انطفأت جذوة المنى في واقعه، لا يأتي منه إلا ضمور لإحساسنا المشترك، وخفوت لرغبتنا في جعل هذا العالم موئلا للتسامح، والتراحم، إذ صناعة هذه العقدة المبنية على الخوف من الجسد، والحذر من الآخر، وادعاء كونها عقيدة دينية، يقوم بها معنى الولاء، والبراء، هو الإجهاز على النواميس التي تمزج بين حقيقة الكليات، وجزئياتها، وتصل بين المعاني بناظم رؤيتها الإلهية إلى كل ما يتحرك في بحر الوجود من نواميس، وقوانين، إذ ما هو ظاهر في الخارج الذي يبدي ملامح معالمنا النفسية، والاجتماعية، لم يكن مرئيا للحكم إلا حين كان أثرا له حيز وجودي في الباطن، وسببا ظاهريا تتحدد به عوامل الالتقاء مع الغير، أو الافتراق عنه، وسواء كان مآخيا في الصورة الذهنية التي نسعى إلى كسب تصديقها بين مخاض الواقع، أو كان مجافيا لنظرتنا الروحية إلى الطبيعة، والإنسان، لأن تلازم الداخل، والظاهر، هو الضابط الذي ينظم العلاقة بين الذات الواعية بعقلها الفطري، والمجرب، وبين ما يتعالى في واقعها من أصوات تنادي باسم الحقيقة. وحقا، قد تطيق مواعظ الزهد، والقناعة، لاسيما إذا اعتمدت على المفهوم السياسي للقضاء، والقدر، أن تحدث نوعا من التنفيس عن كرب الذات المأزومة، ولواعجها المكبوتة، وأشجانها المزمومة، ولكنها لا تستطيع أن تنتشلها من بؤس الديار المؤثرة على الكيان بما يعيشه الإنسان بين غمرتها من صراع، واختلاف، لأنه في صورته الفردية، ليس إلا جزئية متأثرة بما تحمله كليته الجماعية من معان، ومبان، إذ لا يمكن له أن يوجد جرمه في حيز مساحة خالية مما يطرأ على مجتمعه من أعراض، وأمراض، لأنه صورة ينعكس عليها كل ما يعتريه من أحداث مؤثرة في وقائعه بالسلب، أو الإيجاب، ونسخة للمعنى الذي تطابقه حقيقته المثالية في عالم الروح الفياضة على الأجرام والأشكال بظلالها الوارفة. وهكذا تكون كثير من الخطابات المتحدثة بلغة تخليق القيم التي تربط بين الإنسان، ومحيطه النفسي، وموقعه الاجتماعي، غير مستوعبة للشرط الضروري الذي تقام به حقيقة الذات في الوجود، والجرم، والكيان، لأنها لا يمكن لها أن تستقل عن غيرها في كثير من مواردها الملتبسة بما تقتضيه معنى الجماعية من علاقات، وروابط، إذ تطبيق ما يسري على المجتمع من نواميس تتوالى أفرادها المشكلة لمصاديقها في الواقع، لن يبعد أحدا عن المسؤولية التي تنزل عليه بالثواب، أو العقاب، لأنها التكليف الذي يميز فيه بين ما هو ذاتي مرتبط بالهيكل، ومتكون من أعراضه الملازمة له، وبين ما هو جماعي متصف بالكينونة المتركبة مع غيرها في ماهية الكل، إذ التمييز بين هذه المتحدات في كلية الذات، هو عين الوصل بين مراتب الحقوق في نظام التشريع الإلهي، والبشري، لأنها محل للمسؤولية الشخصية، ومقام لما تقتضيه من التزامات في سياقها الفردي، والجماعي، إذ تعدد الحكم في المورد الواحد، لا يدل إلا على اختلاف الدافع بين الأحوال المتكاثرة. ومن هنا، فإن فقدان مناعة الذات بكل مكوناتها التي تتركب منها كليتها الجامعة لمعنويتها، وماديتها، وإرغامها على قبول ما يطرأ عليها في واقعها بين الآحاد من تغير، وتبدل، لن يصنع ذلك القصد الذي يحفد إليه الأقوياء في عز صولتهم الشرسة، ولن يبدع ذلك الفضاء الذي يتفجر منه ينبوع الحب المتبادل، والعطاء المتواصل، لأن تفسير مركب الإنسان بهذه البساطة، وشرح مضامينه بهذه اللغة الرديئة، هو فصل بين مكونات الذات الروحية، والمادية، إذ المزج بينهما هو المبتغى الذي تتدافع إليه كل الخطابات المتنورة في واقعنا العربي الراهن، لأنها تعبر عن سياقاتها الإنسانية في التاريخ، والحضارة. إن السبة التي لازمت الدراسات النفسية والاجتماعية في تفسيرها المقتضب للإنسان، هي تأويل صيرورته بما صنعه الأقوياء لتشريح جواهر ذاتية الضعفاء، واكتشاف كيفية فاعلية ما فيها من وظائف عضوية، ومادية، واستظهار كمية تفاعلها في محيطها الخاص، والعام، واستنباط علاقاتها التي لا تنتسب في صورتها المادية البارزة إلى ما هو متصل بعالمه الغيبي، والروحي، لأن إلغاء ما في الذوات من وجدانيات مترعة بالعواطف، والأحاسيس، والمشاعر، والاتجاهات، والميولات، هو طمس لجوهر الإنسان وهويته، وإفساد لضرورة دوره بين سوي الأفعال، ومنحرفها، وإهدار لحقه في كسب ما يحتاج إليه من مفعول الحرية، والكرامة، لأن فصل ماديته عن روحيته، وإحداث الصراع في حدي ماهية تركيبه، وكنه تكوينه، لن يصيره إلا شبحا ينزف بالعناء، والشقاء، وسرابا يموج بالكدر، والوضر، إذ النظر إلى ما فيه من مادة مشهودة للعين البصيرة، واعتبار ذلك كامل كليته، ومنتهى غايته، هو الذي يمنحه هوية الجسد المستقل عن حقيقته الباطنية، والروحية، ويمتعه بخصائص غرائزه الباحثة عن واجب اللذة، ومنتهى المتعة، لأن حضارة البدن التي تدبر الظاهر بما تقتضيه رغبات شهواته، ونزواته، لا تشهد على مرآته إلا ما تصطاده صناعتها الفاتكة بين الديار البائسة من قوة الاستغلال لأوده، وأربه، إذ اعتباره مجرد مادة مطلقة، وإبعاده عما فيه من مفاهيمه الفطرية، والمكتسبة، ينفي عنه جزءه الأكبر الذي به قيام وجوده المستقل بين الكائنات الأخرى، وهو ما يسري فيه من روح الأزل الأبدية، وما يجري في عمقه من معنى يستحوذ على جهازه العقلي الضابط لعنفوان حركته، وعنوان نشاطه. ولذا، فإن كل سياق يفصل بينهما في مسمى ذاته الجامعة لكليته المكلفة بتعقل الحدث، وتبصر الأثر، لن يفسره تفسيرا يوضح حقيقته بين أنواع الكائنات التي يشاركها الوجود، ولن يعرفه بحدود ما تنطوي عليه طيات أنظمته المعقدة، لأنه كائن مزدوج الخلقة في كل عناصره المكونة لماديته المرئية، ومتعدد القدرات الضابطة لحيوية اندفاعه بين جل المدارات المحددة لنوعية جهده، وكسبه، إذ لا يمكن له أن يكون مادة بدون حركة، أو آلة تعمل بلا إرادة، بل يلزم في فيزيائية ماهيته أن يكون معبرا عن تاريخه البشري، وما يتفاعل فيه من سياقات تبني منحاه العقلي، ومتجهه العضوي، لأنه ليس جوهرا ماديا صرفا، ولا ماهية عقلية محضة، بل هو مجموع ما فيه من روح، وفكر، وإرادة، وإحساس، إذ لا يمكن أن يصدر عنه أي فعل يكون محل المطارحة، والمساءلة، إلا في إطار شعوره بالواجب الإيماني، والتزامه القيمي، لأن وجوده الذاتي بين الأعيان الخارجية، وفي صورته الميكانيكية الجماعية، يقتضي أن لا يشهد منه إلا فعله الذي يكشف عن صيرورته في الإنجاز، والانتاج، والربح، إذ هو الصورة الجلية لما هو موجود في نقوش صفحة روحيته من سمو، أو دنو، لأنها بضميمة الظاهر البارز في سلوكه المقصود بالإلزام، أو الالتزام، يكون محلا قابلا للتكليف بالوظيفة المحددة بالعقل المحض، والضمير المخلص، إذ لا يمكن أن يصير بدون حدود تحدد ماهية أقواله، وهوية أفعاله، لأنها تجسد صوره التي تركبت في عمقه، وهي التي تدل على ما يظهرها من عقائد الديانات، والفلسفات. ومن ثم، فإن عقدة الفصل بين البارز والخفي في كينونة الإنسان، لن ترسخ إلا لنظرة تجزيئية، تقتضب حقيقته في ماديته، لكي تدرسه في إنتاجيته التي تتقوم قيمتها بموازين القوى الاقتصادية، لا فيما يختزنه من انفعالات لها أثرها في خصوصيات فكره، وغايات سلوكه، لأن المفاصلة بين هذه المعاني المركبة فيه، وهي التي ترسم خطه الوجودي بين محاضن حياته المستجِنة لكل النظم الضابطة لواقعها، وما فيه من علاقات، وروابط، لن ترسم لنا صورة حقيقية لهذا الكائن الذي نريده أن يكون منفعلا بما يغزوه، ويثقله، لا فاعلا بما هو له في أصل وجوده الأزلي، والطبعي. وسواء في ذلك ما يؤدي إلى معرة احتقار الجسد، وجعله موطن العار، والعيب، واللعنة، أو ما يقوم به نظر سادن هيكله، وعابد وثنه، وهو لا يترجى إلا أن يكون خادما لشهوته التي يدبر مصيرها بريقُ حضارة فارغة من معناها الروحي، والمعنوي. وهكذا، فإن الغلو في روحيته، أو في ماديته، لن ينشئ إلا فراغا في طرق تحديدنا لما يحتاج إليه من نواميس تسير بحياته إلى الفاعلية الإيجابية، لأن حبسه في قفص الروح، سيكون في كليته مقتضيا لرهبانية متبتلة، وزهادة متقشفة، لا تلامس واقعها بما يقتضيه تكليف الكيان بواجب الإصلاح للطبيعة، والرعاية للحقيقة. وهكذا حصره في موضوعات المادة، وما تستلزمه من حركة عضوية، لن يكشف لنا إلا عن منحنيات سلوكه بين غرائزه المتنوعة، وما يستوجبه تمركزه حولها من انفصام بين روحه، وبدنه، لأن قصر كل الأفعال البشرية على ما تحدثه في موضعها من أثر له علاقة بصيانة خارجه، هو الذي يوسع الهوة بين الإنسان وانفعالاته الباطنية، إذ هدم ذلك بمقتضى ما يبرزه في مجال الحدث من صلات بمضمون القوة المتحكمة في مصائر المستضعفين، هو السبب في ارتباك تواصله مع ذاته، لأنه لا يمكن له أن يدركها إلا في كليتها الجامعة لمضمونها الإلهي، والبشري، ولا أن يفهمها إلا في علاقتها بما تضمره من نيات، ولذات، إذ ليس كائنا غائيا إلا لكونه محلا للاختيار الذي ينفعل بواجب عقائده، ولازم أنظاره الدينية، وأذواقه الفلسفية. ولذا يصير مرتبطا بألوهيته عن طريق سمو روحه، وأشواقها المتعالية، وببشرية بوساطة رغبات جسده التي تخدم جزئه الطيني، وتحدد قيمته في البناء الكلي للوجود، والطبيعة . إن خطاب المفاصلة بين كلية الذات الروحية، وجزئياتها المادية، يخلق حدودا سميكة بين وظيفتي الإنسان في جونه، وبرانه، لأنه لا يجوز أن يُنظر فيه بنظرة أحادية إلى ظاهر الأثر المجرد، وبارز الفعل المنحاز إلى الغاية المعتبرة في مقاييس القوة المتجبرة، إذ هو نتيجة تستوجب المساءلة بضرورة الإلزام بالتكليف الجماعي، لأنه لا يمكن له أن ينصهر في بؤرة المجموع، إلا بالتزامه الموضوعي بالكليات العامة التي تحدد مناط الأفراد، والجماعات، كما لا يحق أن يُنظر فيه إلى باطن السبب المطلق، وخفي علاقته بقيمه الإيمانية، والتصديقية، لأنه وعلى رغم تضمنه للدوافع الكامنة وراء الفعل المطلوب بالاختيار، والمضمرةِ في الإقدام عليه بالقدرة، لا يجوز لنا أن نجعله وحده ضابطا في تحقيق المناط، وتقييده بما هو واجب في ذاته، وجائز في عرضه، إذ استقلاله بمحل المساءلة الشرعية، والقانونية، سيصرفنا عن حقيقة تأثر الأشياء بمعنى الحدوث الذي يكتسبه فاعلها بالإرادة، لأنه لا يجوز في منطق بناء القضايا المركبة، أن يحدد السبب بدون النظر إلى عين مسببه، وموقِعه في الوجود، والتكليف، ولا أن نفصل المسبب عما يكمن خلفه من نيات ترص الغاية في العقل بالتصور، وتوضح القصد في الفعل بالتصديق، لأن تمازج الموردين، واختلاطهما في ذات واحدة؛ هي الفعل الروحي، وهي الأثر المادي، لا يمكن فصل وحداته إلا في تفسير ظاهري ينظر إلى تشكل وعي هذا الكائن الواعي بوساطة مادته، لا بما أوجده الأزل فيه من نوازعه الروحية، والمعنوية. ومن هنا، فإن اعتبار الإنسان كائنا غريزيا، لا يقلقه إلا إشباع رغباته، وإرضاء شهواته، لن يفضي بنا إلا إلى رسم صورة غير متجانسة لحقيقته، ووظيفته، لأن صياغة ضروراته فيما يضفي على الجسد غضارة، ونضارة، لا يلتحم مع ما هو موجود له في لوحة الوجود، إذ الغاية من صيرورته في التكوين، والتركيب، والترتيب، والتشريع، هو ما يفيد به نظام الحياة من إدارة سوية لطبيعتها، وحقيقتها، لكي تصير أكنانها محضنا للفضيلة، والسعادة، لأن مهاد الكون، لن تكون محلا للأمان، ما لم تصر حركتنا في كسب ضرورتنا الوجودية متسمة برعاية الواجب الدنيوي، والأخروي، إذ كل واحد منهما يستدرك نقص الإنسان الذاتي، والخارجي، ويمنحه قوة التحليق في عالمه الروحي، ومناعة التفاعل مع مكونه المادي. وإلا، نزع الإنسان في عضويته بين الأسرة البشرية إلى الأنانية، والأثرة، وانحاز إلى العنف، والقوة، وإذ ذاك، يفقد خصوصيته الإنسانية، ونوازعه التي تدفعه إلى صنائع المعروف. وهي الجزء المكسوب أثره للآخرة، لأن خدمة الإنسان، والسعي في قضاء ضرورياته، وحمايته مما يصرفه عن حاجياته، هي الأعمال التي ندخرها ليوم الجزاء، إذ نفعها لا يرتبط بما تحققه من متعة طبيعية، ومادية، بل بما ينال بها من وفاء لمقتضيات الدين، والتزام بوظيفته في إدامة الحياة، وإعمارها بالخير، والحب، والجمال. وبناء على ما سبق من تحديدنا لبعض المكونات النفسية والاجتماعية للعنف، فإن إسكات صوت الحرية في الذات بمقتضى ما تُطمئن به حيل الأقوياء لواعج المحرومين، وتهدئ به حدة غضب المنبوذين، لن يوجد في مركب الذات إلا تسويغ التكيف مع هزيمة تضعف الهمم عن بلوغ المرتجى من هذه الحياة التي نبحث عن قيمة معناها، وجدواها، لأن نهايتها في الطلب محتوم للموت الذي يربك كل نظر ، وفكر، إذ ما عدا ما يطويه فناء حقيقتها من وجود حياة نسبية قائمة في الأشياء الموصوفة بمعنى الحركة، فهو ما نقوم به من فعل متعقل لتأبيد صورة الحق في الكون، وتخليد معنى التكامل في الإنسان، وتأثيل مضمون الحقيقة في الأجيال اللاحقة، لكي يكون خيط الصلاح موصولا بين الحاضر، والمستقبل، وحبل الخير ممتدا بين دورات الزمان، ومدارات المكان، إذ الانتصار الحقيقي الذي يحتمي الإنسان بشدة مراسه، وحدة مرانه، هو ما يشهده في صيرورة واقعه من عهود راسخة، وعقود لا ترد عليها الخيانة في أصل حقيقتها الأخلاقية، ووضعيتها الإنسانية. وسواء ما كان سببا يحقق بذاتيته موفور السعادة، والهناءة، أو ما كان علة متصلة بسيرته المفجوعة بحرمان الشقاء، والعناء، لأنهما يعبران معا عن معنى الموقف الذي يعنيه الانتماء إلى دائرة معينة، تحكمها سياقات محددة، إذ مقتضى الاطمئنان إلى كمال المسرب، وجمال المشرب، هو ما يحس به الإنسان من أمن يزيل عنه مخاوفه الخارجية، ويمرعه بأشواقه الباطنية، لأن تداخل ما غرس في الذات من خوف، وحرص، وألم، وما يستثيره وضع صورتها الظاهرية من هلع، وضجر، وملل، هو الذي يؤدي بشهوة الفرد إلى الاختفاء وراء البزة المشهود نقاءها، والاحتماء خلف الصورة المطلوب صفاءها، لأنها هي التي تهبه صورته الاجتماعية، وتفرض عليه التزامات يؤديها طيعا، أو مكرها، إذ هي التي يحمي باطنَها بما يدبره في عمقه من صراح النيات، ويدير ظاهرها بما يستر عورة عجزه عن وصول الغايات، لأن تمامها فيما تمنحه من متعة يحس بها في ذاته، ويرضاها في كيانه، إذ هي التي يخشى فواتها، ويبذل نفيس أنفاسه في بقائها، لأنها هي المحددة لنوع علاقته التي يبني سمو نظامها فيما يصله بغيره، ويرفع قيمتها بما يزرعه من فسائل الفضل، والنبل، إذ فقدان هذا المركب الذي يحتوي على كل خصائصه الفردية، لن يصير إلا حربا على مسمى الجماعة، ورفضا لمركزيتها في التدبير للاختلاف بلازم الحكمة، والعدالة. ولذا يكون مهيع العنف عصارة لما يحس به الخائف من لواعج متضرمة بآلامه المفجعة، وأوجاعه المزعجة، لأن مرجع ذلك إلى استلذاذه بما يرتجيه من الآمال الوديعة، والأحلام اللطيفة. وإلا، فإن إحساسه بوجوده بين غابات موحشة، وموغلة في الظلمات المخيفة، لن يجعله إلا متألما بفرط ما يختبئ وراء أشجار الحياة من غوائل فاتكة، وفوادح قاتلة، لأن درجات الخوف، ومراتبه في سياق المجتمع المحتدم النزاع، قد يتحول مع توالي الفواجع إلى ألم مزمن، وربما من شدة الاحتياط الذي تندفع إليه الذات عند تخوفها من المجهول، سيفرض واقعا نازفا بأجواء نفسية معذبة، وأدواء اجتماعية مدنفة، يتألم فيها الإنسان بكل ما كان حقه أن يكسب به الارتياح، والانشراح، لأن فقدان بوصلة الحياة بين موارد الفزع المهول، لن يأتي منه إلا جبن في الموارد، وهلع في المشارب، ولن يحدث معه إلا ألم يقلق الأعصاب، ويقط الأوصال، ويشل الإرادة، ويرعش الجسد، ويجعل الكيان قابلا للموت، والانتحار.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موارد العنف -5-
-
موارد العنف -4-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله)-2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق أبي رحمه الله) -2-
-
موارد العنف -3-
-
موارد العنف -2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله) -1-
-
موارد العنف -1-
-
عقيدة التسويغ -11-
-
عقيدة التسويغ -10-
-
عقيدة التسويغ -9-
-
عقيدة التسويغ -8-
-
عقيدة التسويغ -7-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
-
عقيدة التسويغ -6-
-
عقيدة التسويغ -5-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -3-
-
عقيدة التسويغ -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -2-
المزيد.....
-
ترامب يهدد بفرض رسوم جمركية.. كيف يؤثر ذلك على المستهلك؟
-
تيم حسن بمسلسل -تحت سابع أرض- في رمضان
-
السيسي يهنئ أحمد الشرع على توليه رئاسة سوريا.. ماذا قال؟
-
-الثوب والغترة أو الشماغ-.. إلزام طلاب المدارس الثانوية السع
...
-
تظاهرات شعبية قبالة معبر رفح المصري
-
اختراق خطير تكشفه -واتساب-: برنامج قرصنة إسرائيلي استهدف هوا
...
-
البرلمان الألماني يرفض قانون الهجرة وسط جدلٍ سياسيٍ حاد
-
الرئيس المصري: نهنئ أحمد الشرع لتوليه رئاسة سوريا خلال الم
...
-
إسرائيل.. تخلي حماس عن السلاح أو الحرب
-
زكريا الزبيدي يتحدث لـRT عن ظروف اعتقاله
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|