أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - عطر الصباح (شهادة في حق أبي رحمه الله) -2-















المزيد.....


عطر الصباح (شهادة في حق أبي رحمه الله) -2-


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 5509 - 2017 / 5 / 2 - 00:19
المحور: الادب والفن
    


طر الصباح
ذلك القنديل الذي أضاء الدرب بروحه
حاسة القدر اللطيفة
‏-2-‏
لم يكن أبي كما تعودت سماع حكاية بؤسه من غيري، ولم يحاصره ألمه بين موارد أرتادها بوضري، بل دل فيه الرغب ‏على المراد، والرهب على البعاد، إذ لم يشهد في عمره ما يدنيه من كدورة المكان، ويبعده عما تهبه الديار من أمان. ‏هكذا كان متخوفا مما يحدث بين الازمان من امتنان، ومتبرما مما تحمله الأماكن من افتتان، لأنه لم يبرح جرم ما حازه ‏بطبعه، ولم يطالب الدهر بما يخفيه عنه مقام ورعه، إذ الرضى بالقسم كسب الأخيار، وما ضاع منه في عميق ‏الأسرار، فهو العناء المدبر لزمرة الأشرار، لأن ما يجوز كسب نواله، لن يأتي في طوعه إلا بمعنى روحه، إذ لا ‏ينتظر مما هو لك، أن يكون لغيرك. وإلا، فما فائدة العقائد في صوغ الإرادات.؟ وما مكانة الأخلاق في صورة ‏الغايات.؟ ‏
قد كان هذا ممضا لابنه الذي اختاره لصفته، واجتباه لعلته، لأنه كان في حرده ابن وقته، وفي مشيه حبيس حوبته، ‏وأنى له أن ينحاز إلى ما غاب عنه من معان، ولم يخلب لبه ما يخدع القاصد من مبان. تلك هي الحقيقة التي نعاندها، والطبيعة ‏التي نطاردها، ومن شدة الحرص على ضدها، لا يلتئم لنا صوت إلا بها، لأنها ومهما أفضت إلى جؤار ذاتها، وأنهت ‏سؤال لذاتها، فإنها ما كانت إلا سرا في تولهنا، ونفسا نداري به تحولنا، إذ ما يصهرنا في قوته، لن ننجو منه إلا ‏بالانغماس في وحدته، لأن ما نناله من الغرق في لجته، لن يحمله إلينا نصح موغلٌ في نفي هزته. إذ البركات لا تأتي إلا ‏مما لا نظن نضجه، ولا الرحمات لا تنضح إلا مما نهاب نسجه، لأننا ومهما أغرانا الربيع وزهره، والعود ووتره، فإن ما ‏يحمله في كبد الغر من نزيف، هو العناد المسيء لما يصح به كنه التأليف، إذ لا يمكن لليوم أن يصير لحنا، ما لم يوجد له ‏في قاع الذات مكمنا، لأن سيرة المعاني بين نسيم الأكوان، لا يستنشق فوحها إلا من عرف حقوق الأعيان، إذ العقيدة ‏التي تواطأنا عليها في الطبيعة، هي التصديق بانتهاء المعنى إلى دقيق فهوم الشريعة. ‏
ربما حين أتذكر تلك اللمحة الروحية التي نبعت من أبي، أجدني مستمسكا بهدب من أهداب أربي، لأنني، وإن عاديت ‏ما في الحال من خشونة الفواصل، فإني ما اخترت إلا عشقا يصدح بنعومة الوصائل، إذ هي التي ترسم صورة الانتساب، ‏وتكتب سوْرة الاصطحاب. فلا غرو إذا ظهر السر بعد مرور زمن، لأنه كان وفيا لما يروم كسبه من ثمن، إذ ثمنه، ‏هو الوفاء لعهد مننه، لكونها ما أفادت الابن إلا حين استغرقت قلب الأب، وما كانت نفخا في الرغب، إلا حين ‏غمست الفؤاد في الأرب، وكلاهما في مجلب الخير أهل لوافر الكسب، إذ ما تفرع فيهما، لم يكن إلا نفحة التاريخ ‏في صدريهما. ومن هنا، لا عتب على الابن إذا تساءل، وهو لا يريد إلا كمال نص الاستدلال، لأنه يتأمل لبدة ‏الزمن الأغبر، فلم يشهد عليها كسوة التاريخ الأبهر. فما الذي أضاعه الآباء، ولم يرووا حكايته للأبناء.؟ سيكون ‏محبطا لسيري بين التواريخ العريقة، إذا فاصلت فيما بينها من برازخ عميقة، لأنني حين اتصف بصفة الوفاء، لم أكن ‏إلا رسما نقشه الصفاء، إذ ما طاب به سكون المقام، لم ينزح عما في الذات من روْح المرام. وتلك هي الدلالة على صدق ‏العمل، والبشارة على حصول الأمل، لأن ما انطوى عليه من سر الأزل، لن يظهر إلا في محل الأجل. وهو ذاك ‏الصوت المتحرك بعد ما أغلق باب الأوجال، وأقام بمناخ الأشكال، وأوقد سراج الأميال، لعله أن يستهدي إلى مهيع ‏الأبطال، إذ ما رامه الأب من راحة، هو الذي يبدد الابن من أجله شذا أزهاره الفواحة، لأن علم الآباء بمرسوم ‏المستقبل، وهو نتيجة الكسب المتقبل، لن يرد على الأبناء إلا كما هو كامل في الرسم، وأنى له أن يخالف ما نقش ‏عليه من وشم.؟ ‏
سيتذكر الابن في ألمه، كيف تساءل عن ورمه، وهو لا يدري أن ما يكابده، لو كان فيه وحيد كده، لما ‏كان لندوره أي أمل، لأنه خصيصة الذات التي حازتها بعجل. لكن ما غرس الأب في دربه، ونقش حرفه على ‏سربه، هو المورد الذي حازه في غروبه، وهو الموعد الذي سيظفر به عند حداد كروبه، لأن ما نهض في ‏عرصات قلبه من علل الزمان، لم يكن إلا رعبا يعول بين شرايين المكان، لأن خوفه على طوية ذريته، لم يرد حمأته إلا من ‏حرصه على شد عضد عقيدته، إذ لو لم يكن مدركا لما يحيط بالديار من فواجع، لما انتظر بحذر مغبة سانح المطالع. فلا ‏سر إذن إلا ما ورثه الأب لابنه، لأنه هو الذي يسبل عليه حلل مننه، إذ هو النظر البعيد، والسكب المديد، إذ القدر ‏لا يبخل بما يهديه من مهاد العطايا، لاسيما عند صدق النيات في رقة السجايا، لأن جوده موصول النبع بعينه، وصورته ‏مكنونة في حدة مرانه. فكيف ألوم الزمن على ما أبرزه، ولم يكن محبوبا له فيما أحرزه.؟ لا أراني في يومي متشبثا ‏بصيغة مزمومة من الأقوال، إلا لأني أوقن بأنها هي المحتوى لما في سوي فعل الآزال، إذ نزوعنا إلى كهف الخمول، ‏لم يصر صمتا في وجع الطلول، إلا حين أيس الفؤاد من ضمة الوصال، وغدا ما يخلب الطلب مزمجرا بزفير النصال. فهل ‏نفينا العدل في محصول حصيد البرية، لكي نطالب بقسم رصيد الأرزاء بالسوية.؟ كلا، لو عن لنا هذا الكلام، فإلى ‏أي رتبة سينتسب المقام.؟
‏ لو أبحرنا فوق الأعالي، وأبرمنا صفقة العشق تحت الدوالي، فهل سنجرع مع الحُب خمرة الأواني، لكي نفوز في دسم ‏المآدب بخالد الأماني.؟ ليس لي ذلك في صريح الإسناد، فكيف سيصير لي سببا في نيل شمائل الإخلاد.؟ تلك الأسئلة ‏لا تنفي عدل القضايا، بل تبحث في غور الخبايا، لعلها تشم عبق ما تطويه بين الحنايا، لأننا وإن أودت بنا الرزايا، فما ‏كسباه من ميراث، لن يكون إلا نسمة سارية في مشمول الأغياث، إذ انصهار الفرع في الأصل، هو العلامة على ‏تقديس الوصل، لأنه لم يرق الابن إلا ما كان له رقيا في النظر، ومتى سيعدو عما خطه فيه قلم القدر.؟ ‏
كان تصوفه حالا حل فيه، ومقاما تجلى به، لأن قطع الذات من شجرة الحياة، هو محل الإنكار في جمهرة العداة، إذ ما ‏بتر الصلة بصِرف الزمان، إلا فاقد سر وصلة المكان، لأن أظهر صور أعلام التصوف، هو ما يجانف أثقال التكلف. ‏وإلا، صار كل متألم الدار، هو الرسم الأبهر في سوي الأدوار، إذ الألم لا يكون مظهرا في الجمال، إلا إذا ‏احتوى على ما في الذات من جلال، لأنه يصير بالوجود دافعا، ويغدو بالحياة واقعا. وإذا غدا بين الأنحاء ساطعا، ‏كان لما يأتي به من يأس مانعا، إذ لا يقبل إلا أن يكون رافعا، ولا يرضى إلا أن يصير في الصورة فارعا. فما فضيلة ‏الألم إذا لم يكن صوت الإنسان في الخير، وصونا للدور من صولة الشر.؟
‏ قد يكون ما رتبه المربون في بعضه ضررا، لأنه إذا لم يكن فينا بدارا، فإن ما يغرسه من جرح في جوف الكساد، هو ‏الرجاء المنتقى في عجز العناد، إذ ما صار التصوف حزنا مشتِّتا، إلا حين ظهر سر الطلسم ملتفتا، لأن ما يرسمه ‏الأب على الصفحة من خطوات، لا يدبر إلا ما في جون الأبناء من هفوات، إذ شرعة السير على اليبس مربكة، وما ‏يظهر عليها من خدع الألوان مهلكة. فكيف المسير، وفي طياته غوائل المصير.؟ قد يؤرق الابن ما أسكت الأبُ من صوتٍ ‏يملكه، وهو يرى خمائل متغنجة بما يعركه. وقد كان حريا به أن يدعي استحقاقها، ولو جادل بحجته في امتلاك ‏حقها، لما أُبرم الحكم إلا لجنابه، لأنه ما تحاجج إلا بكسبه، وهو قمين بأن يورِّثه لغيره. وإذا احتمى بما قضى به غوره، ‏كان أصل القضية لحوزته، ولو جانب الحظ ما في جولته. إذ نحت التاريخ على أفنان الأشجار، لا يفتاته إلا زنيم ‏يدعي أمْن الأوجار، لأنه ما خبَّر الباطنُ الأسرار، إلا وألفاها كذوبة في الأخبار، إذ لا يحتاج إلى الزور في ‏النسب، إلا حقير لم يطوه التاريخ بما ينظمه من طرب.‏
فلا غرابة إذا كان نسب التصوف إدراكا، وكانت الصفة الدالة عليه امتلاكا، لأن رديء حظوظ الزمان، ‏يثري بالطيش سحَر الجبان، إذ لولا سبة الادعاء للمقامات، لما اختل الميزان في نوال المرامات، لأن ما يكتسيه ‏الإنسان من غضارة الرياش، لا يضفي على الذات الكاسدة إلا سفه الافتخار بمرح الانتفاش. لكن هل انتقى الأب ‏أطايب لذاته من دنيء الهمم، لكي تنحني منه الهامة عند قميء الذمم.؟ لو نالته معرة تقضي بعوارض الاستسلام، ‏لاحتار الفؤاد في حدس حبال الاعتصام. فأنى للقصد أن يريم عن جميل النيات، ويحيد عن رسم الغايات، لأنه التحبير ‏الأصفى عن سوي اللذات، والتعبير الأسمى في رقي الذوات. هكذا كانت تيجانيته أملا في وافي العهد، ‏وروحانيته عشقا لوارد المدد، لأنه ما اعتقد فيها إلا ما يسقي وجدانا تمرع بين حياض الوداد، ويشفي غلة ترنحت بشوق ‏الامتداد. فإن تذكر ابنه فواضل صلاته، فكيف سينسى جهر الفقراء بالهيللة في حضرته.؟ لأنه إن شهد في المقام ‏المجبر عليه أردأ صفاته، انحاش إلى ما اختبأ في الجراب من سر طياته، وإن جهر في كبَد الناس أسوأُ أصواته، كان ‏صمته دليلا على لزوم آياته، إذ ما كان بالأب المتزلف بأسناخه، ولا المتملق بأشياخه، لكي يصعد بذل تاريخه أعلى ‏درج رضوخه، ويرقى بخبث تأويله أحقر منالات شموخه، لأن ما يخضع الوصف المكتمل له، هو ما يبقى مجد ثنائه بعد ‏زواله.‏
‏ فلا غرابة إذا كان جهر الفقراء ساري الصدى، وهو يرتحل بين المنازل المحدقة في المدى، لكي يبني على الفسيح ‏قبة الوفاء، ويصدح بما في العمق من عشق الصفاء. وأنى لشيء أن يبدد همسه في الفؤاد، لكي يدبر على حطام خرابه ‏أقبح ما يحمله المراد. إذ أنس المكان بالصوت الرخيم الأوصال، وانطوى على سر زفيره المتقد في سني الأحوال. ‏وكأنه ما سمع في جؤاره إلا أزيز القلوب المحترقة بالأمل الجسيم، وأنين الأكباد المتوهجة بالخوف العظيم، فكان ‏الذهول أنينا تهديه الحواصل الحرى لصامت الفضاء، ونجوى تستفتح بابا مسكونا بأسرار السماء. فيا له.! كم ‏كان نفسا يخرق الأكباد، ويفتت ما في صخرة الذوات من بعاد.! لأن ما انطوى عليه من منح بين قنوت المراحل، ‏وما ناله من عطاء صادح بين المنازل، لم يكن حظوة يهتف بها بين يدي الحرمان، بل كان شوقا غضا بين ربى الكتمان، إذ ‏ما برز على الظاهر لونه، لا يخفي في قلب المهزوم إلا حيلة هوانه،لأن التصوف رسالة تزف عرائس المباني، وتغرس ‏في بساتين الفؤاد رياحين المعاني. وإذا غادرها سر ما تخفيه غروب السواني، ونابذها ما تقربه الألفاظ الدواني، ‏صارت هذرا في معرس الحكماء، وغثاء في منجع الخصماء. ولله در ابن الحاج شاعرا، وهو يقول معرضا بما يراه ‏وضرا:‏
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه ----- ولا بكاؤك إن غنى المغنونا‎
ولا صياح ولا رقص‎ ‎ولا طرب ----- ولا اختباط كأن قد صرت مجنونا‎
بل التصوف أن تصفو بلا كدر‎ ----- ‎وتتبع الحق والقرءان والدينا‎
وأن تُرى خاشعا لله مكتئبا ----- على ذنوبك طول‎ ‎الدهر محزونـا
قد تلتبس المقامات في سوء الحال، فيُُرى خسيس الهمة مقرورا بسمج المقال، وكأنه ما وجدت في طوره لغات ‏المعاني، وما أخفيت عنه جزالتها بين نصوص المجاني، إلا لتنطق ذاته بما تلحنه الأهواء من نشاز صوتها. فهل سكتت ‏كوامن السر بين أحشاء جبتها، وصار طالب السعد بالزيف محتقَرا في ملتها، وناقل أخبار الوزر وثيرا بسبتها.؟ ‏أجل، لم يكن الأب مِِزقا بين مدارِّ الغربة، لكي يستأنس بما في كبد المنى من ندبة، إذ فوت الحظ مما ليس موئلا للتمام، ‏لا يعدي إلا سليم الأمل بالآثام، لأن خشية المولى، ليست فيما نُولَّى، بل في جريان الأدب مع ما نملك، ولو كان ‏قليلا فيما أظلم وجهه وأحلولك، إذ الرضى بالقسم مهيع الطالبين، ومشرب الواصلين. ولولا ما في ذلك من كياسة، لما ‏انفجر نبعه بما كمن فيه من قداسة، لأن ما اكتساه السير من إزار المصابرة، لم يكن إلا برهانا على نقاوة المصاهرة، ‏إذ ما امتزج في القاع من مدام المكابدة، لن يصير إلا رعاية لما تقطع به الفيافي من مجاهدة. ولذا، لم يتعر قلب الأب من ‏صدق عهده، ولم ينزف بما يجانف سمو وكده، لأن ما كتبه في ذاكرة ابنه، لم يأت منه في معلوم الحظ إلا صونه،إذ ‏ما يبتذل سر الأمس، هو ما يرفعه اليوم بلا أساس، لأننا لا نطوي صفحة الأموات، إلا لكي نخلد إلى ما في القبر من ‏سر الأصوات،إذ لم يرحل ذكره عن الديار، بل روح تهيامه ترفرف حول مساجده بين الأكوار. وهل كان غير ‏ذاكر، لكي أكون لفعله غير شاكر.؟ كلا، بل رص بالحذر جدد الطريق، لكي يجتاز عليه براق التحقيق، ‏فينحصر الهم في أتفه الأقوال، ثم يخبو في القصد جميل أشق الأفعال.‏
وإذا كان للأب فضل ممنون على ابنه، فإن ما زهد فيه من رفاه باسِم لونه، لا يسقي وارثه إلا مدامة صدق المقولة، لأنها ‏لن تكون في صفي الأنظار إلا محض أمثولة، إذ هي السر المقذوف في سحره، والطيف الهارب من نظره، لأنه لن يتعلق ‏فؤاده إلا بما يرحل من أجله أحرار الهداة، ولن يخب في سربه إلا بسير بطيء يداري خموله بين مجاثم العداة، إذ الوفاء ‏لصِرْف ما تقوم به سنخ الروابط، هو الذي يكشف أسهل الطرق إلى مرح الفسطاط، لأن ما فقدناه في المرابع من ‏تقوى، لن يحل ألمه إلا ما فيما ألم به من جدوى، إذ هو التعبير الأسمى عن حصول النَّسب، ولو عز الاتصاف بمتناسب ‏النِّسب، لأن ما يخزنه الزمن الرديء لابنه، هو ما يفك الأب لغزه لفلذة جونه، إذ هما في الرسم مقام الإِعمال، لكن ‏ما يقط الوصل في سوْرة الإهمال، هو ما لا يمكن درأ كمده، وقد غدا مع موفور الألم علة لازمة لأرب يطوي ‏أوده، لأن الأب لا يُلبس ابنه إلا أجمل الحلل، لكي تمرح أجفانه فيما يختال عليه من لوائح الحجال. فكيف أغيب عن شم ‏فوح تلك المهاد الزكية، وهو حصر للمراد في المعاني الندية.؟
‏ لم يغفل الدمع عن استدرار نقش ما يدق دركه، لأنه لم يكن إلا مزنة هتونة بين سوانح حبكه، إذ لا تنأى سفن الليل ‏إلا لمرادٍ مغتربٍ في هرج الأكوار، ولا تغيب دارة الشمس إلا لمكان متضيق بوحشة الأدوار، لأنهما ولو أسعفا بما ‏تفتق عنه سابغ الكدر، وتدفق منه واسع الوزر، فإن ما يحدث فيهما من غز، وشموخ، هو المجرور بحلمه إلى مجثم الصولة، ‏والرضوخ، إذ لا نقرب في رهاننا إلا ما نراه وفي الطلب، لأنه الأجلى في وضوح نيات الجلب. وكلاهما في بحر ‏الصفات ممتحن، إذ ما يفجع الديار من بؤس متعين، هو ما انقطع حبله بين الصلات، وصار رسيما يمشي عليه هين الصفات، ‏لأن ما يمد الجسر بين الآباء، والأبناء، هو ما يسبل على قادم الزمن رداء الوفاء. ولولا ذلك، لما انتهى التفرد برسم ‏الماضي إلى سراب، إذ بينات الأفعال لا تشهد بنيل عين الصعاب، إلا إذا كان النفي جاريا في محل الإثبات، وسار ‏بالركب حاد يسوق نوق الغبن بالتياث، لأن ضامر سؤر الفجع في قلبه، لا يداويه إلا اغتلام ينزف من طلبه، إذ ما وقع ‏حافرٌ متهتكٌ على حافة الهوى، إلا وهو يسند حكايته إلى ممشوق الدوى، لأنه ما طلب بجوارحه ما دنى كسبه ‏بالحصول، إلا حين أيس من نيل مهيع الوصول. ‏
لم ننقل الحكاية من مدار إلى مدار، لكي يغدو حرفنا كاذبا في الاستظهار، لأنني ما شاهدت هزالا في غضارة ‏الهمة، حتى أرتاب في مكامن الذمة، كلا، بل كان التصوف جاريا على محيا كل منظر، فجاء الرسم منه وافيا بما ‏يكنزه من طرائف النظر، إذ لا أعزف مرثيتي على سنام جدث مصمت المعاني، لكي أوري عن سقطتي بزيف يعري ‏ضحالة المجاني، بل ادعيت بعض ما أمتلك، ولو مرح مني حظ البيان فيما أعلك، فإني لن أحيد عن نور صبح أضاء ‏الربى، فكان هاديا لحِلم غربتي إلى طيات الحُبى، لأنه لا يخرج عن سر الآباء إلا الرديء. وأي فضل لي في وصل ‏دنيء.؟ إن منتهى التفرد في الفضل، أن يكون الأثر سائرا على معنى الأصل، وإلا، فكيف لي أن أجهر بهمس ‏الانتماء، وقد غالى بالمين من ظن إزار الزور وافيا في الاحتباء.؟ ربما قد لا يهيل التراب على ما نأرز إليه من ‏كمال، إلا ما نفقده من تاريخ طال عمره بمخذول الآمال. لكن هل يحس المرء بالغربة، وهو في وطن الروح غير محدود ‏الرغبة.؟ ‏
في لحظة ساهمة، والأزمنة تباغت بالفواجع الهائمة، لم يكن مقدورا لي أن أدرك خبيئة الأزواد، لأن ما ندركه في ‏تناقض الرسم بين حدوس الأكباد، لا يفي بما يحبس النظر في جؤجؤ المشهد، ويغري الفكر بما نطقت به المرآة من ‏معنى مجرد، إذ كان من سابغ الأعذار فيما أوصى به من وصايا، أن لا يكون المعنى النازف بالتاريخ إلا وهجا في ‏الحشايا، لأن اقتدار الابن على لَيِّ ما هتف به الكمد، لم يكن سورة تتلى بين خمائل الولد، إلا لأنها دمعته المنحدرة بأنين ‏التحنان، إذ هي التي أغرته بكرب دب حزنه في خامد الأفنان، لأنه ما ولج بتسليمه فسيح القباب، إلا ليشعل قنديلا بين ‏علامات المشاعب، إذ ما كتبه الابن على صلصال لوحه، لم يكن إلا شامة على عرق كدحه، لأن همود الوجع، ما ‏فتت صخرة الطمع في بحر الجشع، إلا لأن الأب أبى أن يمالئ ما غرد به الغربان، إذ هو الذي أكد الهمم بجنون رغبة ‏الأكنان. فلا تلمني على ما انصرم، فإني أدركت اليوم سره فيما يلتئم، لأنه ما كان إلا عطاء، لا ينفقه الواصل ‏إلا سخاء، إذ ما انجلى من صراح كلماته، هو ما أقام للميثاق مهدا في جماع ملماته. ولولا ذلك، فبأي وصف أتقرب ‏به إلى مداره، وهو بعيد الشأو فيما نثره الدهر على مناره.؟
هكذا كسانا الفخر صفات الحوامد، لأن ما رعيناه بين مغابن المعاهد، قد بدا نجم عشقه بين ولع القلوب، فزال به الغشاء، ‏والكروب. تلك هي لحظة الفخار التي أنست بما انطوت عليه من أسرار، ولمحة الفضل التي تمرعت الذات بين حوضها ‏المدرار، لأنها ومهما كانت محصورة بالزمن، فإنها عمر ممتد بين ساكن الدمن، إذ هي الكرامة التي استكانت لها ‏الأقدار، واستلان لها الاختيار، فكانت مثارا لومضة العز، ولولاها لما عن لنا أن ننقض خيام العجز، لأنها هي التي ‏مهدت طريق الاجتياز، لكي يحصل لنا شرف الإنجاز. وكيف لا يكون النهل من بنعه ريا، وهو ما ابتغى أن يكون ولده ‏إلا واعيا، يقرأ في صباحه ومسائه وصيته، لئلا يسكت الأزيز بين الديار الغضة بصوته. هكذا كان الأسف حزنا ‏متوانيا، والألم متدانيا، لأن ما نخبر به من سر، وما نكني عنه من قدر، قد غدا مع الغربة شقاء، وصار مع الكمد طلاء، ‏إذ ما أخبر به من إخلاص النية، هو ما نخرصه بين ألوان المُنية، لأن ما كان في المساس صريح المران، قد جاء مع غرور ‏الدهر موصوفا بالمدان، إذ أكثر من دفناهم بتعجب، لم نعقل عنهم إلا ما احتواه النظر من عتاب شاحب. فكيف ‏سنغوص في بحر الرغبة، وهي التي لا يقربها إلا وافر الغربة.؟ أجل، في طغيان الجهل، لا نعتاد صون معنى التقديس إلا ‏بدجل، فكيف سأستأذن على أهل المقابر، لكي أخبرهم بما تزيفه من بعدهم المحابر.؟ ‏
وإذا كنا نرى في الآخر ما يحمله جراب الذكرى، فإننا نستحضر معاني همس بها بين صراخ الورى، لأنها ‏روحه التي بقيت آسرة للبُّنا، إذ هي عنوانه الذي يعبر عنه في مكنوننا. فلم نهدم ترجمته بين هوس الديار، وشغب ‏الأصوات بضجيج الأفكار؟ ربما قد تكون دعوة الأب في ذريته سراجا، يضي دروبا نكتسي من وضوحها تاجا، ‏فنتوسع في الفضل كما كان هو بخلقه منبسطا، لأن ثمرة رعاية الخلق لا تكون في منتهى الصوغ إفراطا، إلا إذا ‏فارقت استواء حدودها، ونافرت اعتدال قيودها. كلا، بل هي الأمل المتدفق بين نيات العقول المتزاحمة، والمنى التي تحنو ‏إليها نياط القلوب المتراحمة، إذ لا نتكدر بالضجر إلا في الموقف المتصادم، ولا نتعلل بالشقاء إلا في المرام المتصارم. ‏وذاك ما تخفيه الذوات في عجزها المتقدم، وتدفعه عن خارجها المتهدم، لأن ما يحول بيننا وبين البساطة، هو ما نقدسه من ‏أوضار الوساطة، إذ لا نتسخ إلا حيث انتفاش لعنة المصالح، لأنها المورد الآسن المكاشح. فذا قد حاز شرف الدنيا ‏بخداعه، وذاك قد فاز فيها بخنوعه. فهل تدل الثمرة على الشجرة.؟ أجل قد كانت سرا في المذرة، وغدت في مضعتها ‏شديدة الانتباه، لكنها حين اجتالها الشر إلى منبع الاشتباه، غدت نارا محرقة لما نبت بين الهضاب من أشجار، ونسفا لما ‏سكن من هدوء في الأحجار. فكيف سننسى وصية الأب، وهو يقول بعجب، الانتصار في نهايات الطلب، لا في ‏بدايات الأرب.؟ فما أحيلاه، شيء يجرني إلى تمجيده، وهو الذي يشتعل بحرارة مستحرة في تبديده، لأن هدم ‏أكنان الهوس في العقول، أجلى من الإخلاص لفروع الأمنيات عند عاشق الأصول، إذ ما يؤلم منابت الفضل في الكيان، ‏هو ما نخاله فقدا عند غموض البيان، لأن عدم درك المجلى في الأشياء، لن يبلغنا إلى اكتناز سر الأقوياء، إذ لا عظمة ‏إلا فيما نكسبه من معاني. وما نفقده من هنيء الأماني، فهو يسير في طريق العزة، لأنها الكمال في البزة، ومن لبسها على ‏طهر الأبدان، كانت جمالا في رؤية الأعيان.‏
هكذا كان أبي يقول، وهو واثق بسريان القدر فيما يدول، لأن ما يزول عنا من غير قبضه، هو كثير في العجر الذي ‏نداري عوارضه، إذ لا نفتل إلا ما استبين العقل من وثاق، وحبال، لأنه الأوفى في كبح جماح الأكاذيب بالقيد، ‏والعقال. فلا غرابة إذا أخبر عن سر الغموض، لأنه أدرك ما في تركيب الحقائق من رضوض. فهل ألومه، وأبكي على ‏حزونة زمامه، لأنه لم يكن بالبذح وثيرا.؟ أم ألحى دهرا لم ننل من نعمه إلا نقيرا.؟ كلاهما في الفقد سيان، إذ ما ‏كنت عاتبا على الدهر ما نابنا من نسيان، بل كد الجناح على حراسة الكلمة، فلم يظفر حرده بين حدائق المعنى على ‏تمام الجلمة، لأن تعثر القدم في مواطن الزلل، هو الرأي الذي يجاريه كاره الخطل، إذ لا نجر البساط على مرابع ‏المجد أفرادا، بل تكاثفت الأيدي على طي الحاشية التي نقاتل عليها أوغادا، لأن انحياش العاجز إلى القوة، هو الخراب ‏المبدد لأحلام الفتوة، إذ لا يعطل السير إلا عرجُ العليلِ الكلية. وما أفلح ركب يقودهم العجز رسْلا إلى مجامع الدنية.! ‏تلك هي ذكريات المجالس التي نبس فيها صوت الخوف، فكانت وقاء من أنظار تترى بالحيف، إذ لا يطيش السهم إلا من ‏قوس وجلة، لأن ما في الزناد من روح صالية، هي التي تفري ودج المرامات الدقيقة، إذ هي الرمية المصيبة لكبد الحقيقة. ‏فلا تغتر أخي بما اختل فيه الدليل، فإن مويه القناة الصدئة لا تروي ما في الجوف من غليل. فالزم ما في العمق من أوتار ‏الصدق، ينبعث منك خرير ينبوع العشق، إذ لا يشتاق اليقين إلا إلى نظيره، ولا يلتئم على الرديء إلا خبيره. وابتسم ‏تحظ في الصون بعز المعاني، إذ لا يحلك بالصفات إلا وجهُ فاقد المباني. هكذا كانت الميزة مبرة، لأنها نور يسري في ‏الدنى بألوان المسرة. وإذا غدت استكبارا، كان الأمد فينا استنكارا.‏



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موارد العنف -3-
- موارد العنف -2-
- عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله) -1-
- موارد العنف -1-
- عقيدة التسويغ -11-
- عقيدة التسويغ -10-
- عقيدة التسويغ -9-
- عقيدة التسويغ -8-
- عقيدة التسويغ -7-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
- عقيدة التسويغ -6-
- عقيدة التسويغ -5-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -3-
- عقيدة التسويغ ‏-4-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -2-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -1-
- عقيدة التسويغ -3-
- عقيدة التسويغ -2-
- عقيدة التسويغ -1-


المزيد.....




- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - عطر الصباح (شهادة في حق أبي رحمه الله) -2-