|
من الفكر إلى الفعل: سارتر بين نقده للكوجيتو وحديثه عن الفعل
سيوري رزقي
الحوار المتمدن-العدد: 5508 - 2017 / 5 / 1 - 08:43
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في الفصل الذي عنونه سارتر ب"الكينونة بذاتها من كتابه الشهير الوجود و العدم"عمل على إعادة النظر في الفلسفة التأملية الديكارتية التي تعطي للوعي الأسبقية على الوجود مبينا في ذات الوقت أن ما يؤسس كينونة الإنسان هو الفعل ومن ثمة يبرز نقده لمفهوم الماهية الثابتة . كما ينتقد سارتر تصور هوسرل للوعي والقائل بأن كل وعي وعي " هو وعي بشيء ما" في شقه الانعكاسي . لقد اعتبر ديكارت أن الوعي من حيث هو قدرة خاصة على الإدراك هو الذي يحدد الإنسان، فالأنا أفكر هي الجوهر الذي ينبغي أن تبنى عليه جميع الأحوال (نستعير هذا المفهوم من سبينوزا) ومن ثمة فالوعي يكفي ذاته بذاته . إن سارتر لا يقبل بهذا التحدد بل يذهب إلى القول بوجود وعي ما قبل تفكري . فلو نحن سلمنا بالتحديد الذي أعطاه ديكارت للوعي بما هو الماهية الحقيقية للإنسان لما أمكن أن نتحدث عن الفعل . لكن ما يلاحظة سارتر هو أن ديكارت وجد صعوبات على مستوى تبرير التحديد الذي ذهب إليه بل حتى هوسرل حينما حاول أن يوسع من دائرة الوعي الديكارتي لم يفلح هو الآخر في التخلص من بعض المشاكل فكيف ذلك؟ لقد حاول هوسرل من خلال تعريفه للوعي بأنه " وعي بشيء ما " أن يوسع من مفهوم الوعي قصد جعله أكثر اتساعا وانفتاحا، إلا أن هوسرل حينما تحدث عن الإدراك فإنه ميز بين نوعين إثنين : 1 إدراك متعالي ينصب على الموضوعات المكانية ( طاولة، قسم، ...إلخ) . وإدراك محايث . في الإدراك المحايث يصبح فعل الوعي ذاته موضوعا للوعي . هكذا سيتحدث هوسرل حسب سارتر عن مفهوم الانعكاس، ومعناه أن الوعي سرعان ما يرتد لذاته محاولا إدراك ذاته . مثال ذلك أننا في الوعي العادي ندرك الموضوع ، فيما نتساءل أثناء الإدراك المحايث عن حقيقة إدراكنا للموضوع ذاته. يلاحظ سارتر أن محاولة هوسرل لم تخصلنا تماما من المشكل الذي طرحه ديكارت، بل إنها ظلت محافظة على نفس الثانية والمسافة بين فعل الموعي الذي يتحدد بالإدراك وبين الموضوع المدرك. وقد تنبه هيدجر إلى المشكل، وعرف كيف يعيد طرح السؤال حينما ذهب إلى أن الكينونة تتحدد بالوجود، وأن ماهيتها هي الوجود . ولكنه لم يصل إلى حد اعتبار الوعي خاصية من خاصيات الفعل أمام هذه الصعوبة التي يطرحها موقف كل من ديكارت وهوسرل سوف يستبدل سارتر تحديد ديكارت للإنسان الواعي بالإنسان بالفاعل فما المقصود بالفعل ؟ إن الفعل عند سارتر هو خاصية من خاصيات الإنسان ، ذلك لأنه يرتبط بالوعي ارتباطا وثيقا، إذ لا معنى للفعل مالم يكن واعيا . وإذا كان ديكارت قد ذهب إلى أن الوعي هو التحديد الأصيل للإنسان، فإن سارتر يذهب خلافا لذلك لإعطاء الأهمية للفعل . نلاحظ بداية أن الفعل يتجه دائما نحو العالم، ذلك لأن الإنسان عندما يختار، فهو لا يختار لذاته فقط، بل يختار شكل العالم الذي يعيش فيه ، ويكون العالم بذلك ليس إلا النتيجة المترتبة عن فعله . لا يتوقف سارتر عند هذا الحد، إن الفعل إنما يتسم بالتنظيم، ولا يمكن أن يكون منظما مالم يخضع للوعي . إن سارتر من خلال هذا التحديد الجديد يضرب التصور الديكارتي الزاعم بأن الإنسان يتحدد بوصفه ذاتا مفكرة . سارتر هنا لا ينفي قيمة التفكير، بل يذهب إلى اعتبار الإنسان ذاتا فاعلة ، ولها القدرة على الاختيار، ومن ثم على تحمل المسؤولية . فإذا كان ديكارت يحدد الإنسان بوصفه ذاتا مفكرة، بمعنى أن تفكيرها هو الذي يجعل من وجودها أمرا ممكنا ( بلغة كانط) فإن سارتر سوف يحدد الذات من خلال الفعل . إذا نحن تأملنا مليا تصور ديكارت، لوجدنا أنه بمثابة النتيجة الحتمية لقوله بأسبقية الماهية على الوجود ، هاته الماهية التي تتحدد انطلاقا من الفكر . لذلك يمكن فهم فكرة علاقة الذات بالفعل عند سارتر على ضوء مقولته الشهيرة " الوجود يسبق الماهية" فمادمت أوجد أولا، فإن ماهيتي لن تكون بالتالي إلا مجموع الإمكانات التي أختارها وأسلك وفقها . على ضوء هذه الفكرة ، إذا كان الفكر هو الذي يؤسس لماهية الإنسان عند ديكارت، فإن الفعل هو الذي يجعل من " ماهية" الإنسان بل ومن وجوده أمرا ممكنا . لذلك يمكن قراءة كل أفكار سارتر على ضوء هاته الفكرة بالذات . إن ما يجعل الإنسان متميزا حسب سارتر هو عدم وجود ماهية قارة خاصة به ، وهي نفس الفكرة التي سبق وأن أشار إليها روسو فيما مضى حينما تحدث عن " قابلية الاكتمال" ، بحيث إذا كان الحيوان يبلغ من خلال صيرورته في الوجود حده الأقصى " الذي خصته به الطبيعة" على نحو مسبق ، فإن الإنسان يتحدد بوصفه دائرة مفتوحة على جميع الإمكانيات وهي إمكانيات لا متناهية .وبعبارة أخرى إذا كانت للحيوان ماهية ثابتة وطبيعة خاصة فإن الإنسان "يتحدد" بوصفه ليست له ماهية خاصة ، كما أنه لا يتوفر على طبيعة معينة . ومن هنا حسب روسو كما سارتر تتأتى كرامة الإنسان وقيمته ، قيمة يرجعها سارتر إلى قدرة الإنسان على الفعل . إن الفعل إذا هو الذي يضفي على الأنسان كرامته وانفراده عن باقي الموجودات ، ذلك لأن الفعل لا يكون فعلا مالم يتوفر على عنصر الوعي وإلا لما كان الفعل ممكنا . إن ذلك النجاح الذي أحرزه شخص ما بمجرد الصدفة لا يعتبر فعلا فيما تفجير الديناميت الذي قام به شخص وخطط له مسبقا باعتباره غاية يعتبر بحق فعلا . فهو صادر عن ذات واعية منظمة ومحددة لوسائل فعلها . إن الفعل الذي تنجزه الذات ليس إلا ذلك الترجمان عن النقص المستمر الذي يعيشه الإنسان في فعندما أطمع إلى إنشاء بيت جديد فما هذا إلا ترجمة عن ذلك النقص الذي أحس به إزء البيت القديم ، وعليه يكون الوعي مطالبا بالتفكير في تصور لإنشاء هذا البيت الجديد . يمكن إذا أن نحدد خاصية ثانية للفعل تبعا لسارتر وهي كونه رغبة في شيء غير كائن ولكنه ممكن . ومرة أخرى إن ما يمنح الإنسان القدرة على الفعل هو النقص الذي يعتريه ، فالإنسان من خلال الفعل إنما يسعى لمحاولة تغطية هذا النقص دون أن يجد لذاته " خلاصا" . إن الذي يجعل الإنسان في سعي دائم إلى الحرية بما هي ماهيته الأصلية هو هذا النقص الذي يدفع إلى الفعل يتضح إذن أن سارتر يذهب إلى إعطاء تحديد آخر للإنسان على خلال التحديد الذي كان قد أعطاه ديكارت، ليس الوعي مجرد وعاء فارغ ، كما ليس مجرد قدرة انعكاسية تتأمل موضوعات المعيشات النفسية ، بل هو السمة المميزة للفعل ، ولا معنى للفعل مالم يكن متسما بالوعي. يمكن القول إذن بأن الإنسان يتحدد من خلال الفعل المتميز بالوعي. هكذا يتجاوز سارتر مفهوم الوعي المنلغق بين كل من ديكارت وهوسرل ، لكي يصبح الوعي بمثابة دائرة مفتوحة على وجودها. إن الوعي وفق هذا الفهم هو الشعور العميق بالوجود ، وبالقدرة على الفعل . إن الفعل هو قدرة على الإنسان اللانهائية على تجاوز وضعيته الراهنة نحو وضعية آخرى أو هو بالأحرى القدرة على نفي إمكانية من أجل إثبات أخرى . قد يكون الفعل مجرد شيء عابر، مساعدة إنسان أعمى مثلا كما قد يكون الفعل مدمرا يمتد لتدمير مدينة بكاملها . لكن سارتر لا يعطي قيمة للنتائج ، فالمهم هو أن يكون هذا الفعل صادرا عن حريتنا ويكون بالتالي فعلا يمتاز بالوعي"والقصدية".
#سيوري_رزقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقاربة سوسيولوجية لمفهوم -الهابيتوس-بيار بورديو نموذجا
المزيد.....
-
في لحظة تاريخية، السلطات الكورية الجنوبية تعتقل الرئيس المعز
...
-
يحدث للمرة الأولى بتاريخ كوريا الجنوبية.. الشرطة تعتقل الرئي
...
-
البيت الأبيض: ضعف إيران قد يدفعها لإعادة النظر في موقفها بشأ
...
-
بعد تكليفه بتشكيل حكومة لبنان.. نواف سلام يستقيل من -العدل ا
...
-
ألمانيا: معركة قانونية حول -شوكولا دبي- تنتهي بحظر النسخة ال
...
-
بزشكيان ينفي التخطيط لاغتيال ترامب
-
كوريا الجنوبية.. توقيف الرئيس المعزول تمهيدا لاستجوابه
-
رئيس إيران يرد على الاتهامات الأمريكية بالتخطيط لاغتيال ترام
...
-
وزير خارجية أمريكا يكشف عن خطة -تشمل قرارات صعبة- لغزة بعد ا
...
-
مصدر فلسطيني يوضح لـCNN تفاصيل صفقة التبادل بين إسرائيل و-حم
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|