منار عبدالهادي ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 5507 - 2017 / 4 / 30 - 10:55
المحور:
الادب والفن
مع بزوغ فجر الاحد , لمع شيئا من وراء النافذة ! حمامة بيضاء ترفرف بجناحيها في الافق , شجرة نخيل يلعب نسيم الهواء بجدائلها المبتلة بفعل مزنة هطلت خلال الليل , قرص القمر الذي لا يزل شاخصا في السماء كأنه يسامر بعض السحب هنا وهناك . هناك شيء اخر يلمع .
هبت من النافذة التي تركتها مفتوحة الليلة الماضية نسمة هواء باردة نسبيا فاضطررت الى التحاف شرشف السرير الذي كان متكوما عند الحافة يشارف على السقوط .
هناك شيئا ما يتحرك ! يتحرك كأمواج البحر حين تهب عاصفة ما او كشجرة تحاول التشبث بأوراقها التي تتطاير منها ولكن دون جدوى . انه يحدق نحوي ! ماذا خلف تلك النافذة الملعونة التي تقابل السرير بحق الجحيم ! اغمضت عيني محولا وضعية نومي بعيدا عن مواجهة ذلك الشيء .
انكسر حاجز الصمت الذي كان مخيما في تلك اللحظة بتمتمات غير مفهومة . شخص معي في الغرفة ! فتحت عيني رافعا راسي عن الوسادة بعنف . حدقت الى ذلك الشخص الذي وقف بجانب السرير لبرهة من الوقت . يا الهي انها هي بقوامها الممشوق وملامحها الفاتنة .. كانت ترتدي فستانا من الستان زهري اللون وتضع طوق من اغصان الزيتون على شعرها الاسود المسدل على كتفيها فيما يحيط بعنقها عقد من الياقوت الاحمر وتمسك بيدها صولجان هو عبارة عن عصا يلفها ثعبان ذهبي تزخرفه احجار من الزمرد الاخضر يلتصق رأسه بكرة ذهبية في الاعلى .
- كرم .. ما الذي اتى بك الى هنا . تسائلت رافعا حاجبي من الدهشة .
- كرم ! .. انها في عالمك , اما في عالمي فأسمي بارثيونس وانا لست طبيبة اسنان كما تعتقد بل ملكة .
- كرم .. ما الذي تقولينه ؟
- امضي معي وسأريك مملكتي .
باب الغرفة اختفى فيما تحولت النافذة الى بوابة رخامية تزينها نقوش من الزخرفة الاغريقية تقود الى سلم صمم باعمدة درابزين من الرخام على شكل نساء شبيهه بأعمدة معبد ارخثيون , يدلف الى نهاية مجهولة في الاسفل . دلفت اليها كرم فيما تبعتها انا دون ان اعي ما يحصل . حين اختفى حاجز الضباب الذي كان يلفنا ويحجب عن اعيننا الرؤية عند وصولنا الى الدرجة الاخيرة من السلم , ظهرت باحة تحيط بها عدد من الاشجار فيما كانت تتوزع اثنا عشر عمودا بشكل مستطيل يعلو كل واحد منها تمثال لزيوس يطل على الباحة . كان كل عمود منقوشا عليه نحتا تصويريا يذكر بتاريخ زيوس منها نحت تصويري لريا وهي تعطي زوجها كرونوس حجراً بدلاً من ابنها زيوس لكي يبتعله , فيما صور عمودا اخر زيوس وهو يحارب تايفون ذلك الوحش المريع الذي له مئة رأس تنين وأكثر المخلوقات شراً على الإطلاق، حيث انفجر منه عند مقتله الحمم المنصهرة التي تطلع من قمة جبل إتنا في جزيرة صقلية , وهكذا باقي الاعمدة .
- لقد اصطفى زيوس الاله الابدي الاعظم لبلاد الاغريق قبل ان تولد اثينا اثني عشر ربا من ذويه تقاسموا ارفع المهمات الالهية حين بدأ بترتيب مجمع الآلهة .
لم تعلق كرم على ما قلت بل دلفت الى بوابة اخرى عند نهاية الباحة ادت بنا الى ما هو اشبه بقصر التيه . كان عطرها الفواح وفستانها الزهري وشعرها الذي تلاعبه نسمات الهواء الباردة تضيف اليها جاذبية لا مثيل لها فصرت احدق اليها اكثر من تحديقي بتفاصيل المكان المثيرة للفضول .
- انتي جذابة كرم .. لو تعلمين كم كنت اتضور شوقا لرؤيتك .
- الا تخشى المينوتور ! .. سر دون ان تنبس ببنت شفة . اجابت مبتسمة .
"المينوتور" ! تسائلت مع نفسي "ما الذي تقصد هذه المجنونة التي تدعي انها ملكة ؟ .. وما هذا المكان الذي دلفنا اليه للتو ؟" .
بعد دقائق من السير وصلنا الى بوابة اخرى ينتصب عن مدخلها تمثال لاثينا بارثينوس بكامل دروعها وهي تمسك رمحا في احدى يديها .
بعد اجتياز البوابة سلكنا ممرا طويل نسبيا تحيط به اشجار الزيتون من كلتا جانبيه فيما كانت اكثر الطيور عدد هي طيور البوم كما تدلت عدد من الثعابين من اغصان الاشجار .
في نهاية الممر ظهر قصر مرتفع فريد من نوعه تحيط به عدد كبير من الاعمدة الرخامية وقريب جدا من معبد بارثيون من الناحية المعمارية .
كان هناك عدد كبير من النسوة يتجولن في المكان وهن يحدقن الى هذا الغريب الذي يدخل الى هذا المكان للمرة الاولى . كنَّ يرمقني بنظرات ملؤها الدهشة والاستغراب فيما كنت احث الخطى مع كرم التي توجهت الى بوابة القصر . عند المدخل كان يقف صفين متقابلين من الحارسات كل صف يتكون من خمسة نساء يحملن رماحا في ايديهن . عند اقترابنا منهن سحبن الرماح سامحات لنا بالدخول الى القصر .
كانت بوابة القصر تؤدي الى رواق ينتهي بباحة اهليليجية الشكل ذات ارضية من الرخام الابيض تتوسطها تمثال لاثينا . تتوسط الباحة اربعة اروقة كما تحيط بها عدد من التماثيل واللوحات التي تصور اثينا بأشكال مختلفة .
توقفت قليلا لتأمل جمال المكان ثم سرت قليلا بأتجاه التمثال المرتفع الذي يتوسط الباحة .
- أحد الآلهة اخبر زيوس بأن زوجته ميتس التي كانت حبلى منه سوف تلد له ولدا يكون أقوى منه ، فقام زيوس بأبتلاع متس ليحول دون تحقيق النبوءة ، وحين فعل ذلك أصابه صداع شديد ، اضطر بعدها هيفايستوس ابنه من هيرا وهو إله النار والحدادة إلى أن يضربه بفأس على رأسه فخرجت منه أثينا بكامل لباسها وأسلحتها تصرخ صرخات الحرب .
قالت كرم .. ثم اضافت :
- اثينا هي إلهة الحكمة والحرب والقوة وحامية المدن وهي توفر الحماية لمدينتي التي اسميتها هورا جنوفورياس والتي تعني باليونانية ارض الكرم تيمنا بأسمي كما غيرت اسمي الى بارثيونس والتي تعني العذراء .. اردت ان اعيش عالمي الخاص بعيدا عن ضوضاء الواقع .. اثينا تحب الثعابين وطائر البوم واشجار الزيتون لذلك رأيت هذه الاشياء بكثرة في مدينتي .
- انا في عالمك اذن ؟
- نعم انت الان ضمن عالمي الذي رسمته لنفسي , لكن لا تفرح كثيرا فوجودك مقتصر على هذه اللحظات فقط , فقد اسميت نفسي العذراء كما قلت سلفا واي حياد عن ذلك يعني زوال ما تراه .
وبينما هي تتحدث قطع بصري تمثال مكون من جسد بشري ورأس ثور موضوع عند الرواق الذي يقع مباشرتا خلف تمثال اثينا :
- المينوتور ! صرخت مندهشا ..
- نعم انه هو , وهو موجود حيثما ذكرته لك قبل الان .. لم يقتحم رجل عالمي قبل الان وكل من حاول الاقتحام صار فريسة للمينوتور . انت الرجل الوحيد الذي فعل ذلك دون ان يمسه هذا الوحش , ربما حاول لكنه تراجع في النهاية .
- انا احبك كرم والمضي من دونك صعب .. لقد ملكتي عالمي وابسط دليل على ذلك هو وجودي هنا .. لا ادري اين انا ولا اعرف سبيل الخروج .
- ستعاني حمى الخلاص لكن سيكون بمقدورك التحرر من عالمي في نهاية المطاف .. الشيء الذي اود ان تعرفه هو ان تعلم ان الحياة ليست ربح دائم وعليك ان تعرف كيف تتعامل مع الخسارة .. سنتعب حين نتشبث بأشياء لم يكتبها القدر لنا كما اننا لن نحصل عليها في النهاية .
- كيف ذلك وقد ضاعت مفاتيح القيود التي تربطني بك وصدئت اقفالها حتى صار الخلاص منها مستحيل .
- المستحيل كلمة اقنعت نفسك بها وبأمكانك ان تقنعها بالممكن .
ثم استطردت مبتسمة :
- بقائك معي يعني تحجرك كتلك التماثيل .
قالت وهي تومئ برأسها الى احدى زوايا الباحة . ثم اضافت :
- حينها لن تقترب منك النساء ولن تحصل مني على ما تريد .
فأضفت باسما :
- اتحجر ! .. انتي ميدوسا اذن !
- اصمت .. ستسمعك اثينا فتظن أنك بوسيدون . قالت بصوت منخفض .
- بوسيدون ! انتي تحبيني على ما يبدو .. الآم المكابرة اذن ؟
- هذا يكفي منار .. لا اريد ان يكون مصيري مثلها .. وعليك الرحيل الان فقد انتهى الوقت .
رن منبه الهاتف قاطعا علي الحلم . انها الخامسة والاربعون دقيقة صباحا , كان ضوء الصباح يخترق زجاج النافذة التي كانت موصدة . نهضت من فراشي متكاسلا وانا اتأمل ذلك الحلم الرهيب .
#منار_عبدالهادي_ابراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟