|
موارد العنف -3-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5502 - 2017 / 4 / 25 - 04:39
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
موارد العنف قراءة لعقلية الكراهية -3- يتبع وعلى هذا، فإن تحول العالم إلى محل للفوضى في المفاهيم، وعبث في المعاني، لا يأتي منه إلا اختلاف عريض بين مركبات كلية الإنسان، وبنياته الوظيفية، إذ لا يمكن للقوي أن يسكت صوت الضعيف، ولا للضعيف أن يرغم صولة القوي. وإذ ذاك لن يستقر الكون على حد متآلف عليه في الأعراف المتصاحبة، ولن يستمر دور الإنسان في بناء وحدته، ورعاية وفرته، لأن صناعة هذه الفجوة بين كل المكونات التي يتقوم بها نسق الهويات المشتركة على بساط الوجود، سيؤدي حتما إلى التنازع حول كل الحقائق التي تربط فيما بين الألوان المركبة لصورة العالم، إذ هي التي تخضع لها في استقلالية الاختيار، والإرادة، لأنها نمط وجودها العقلي، ونسق سلوكها البدني. ومن هنا، تغدو هذه الصورة حاملة للهوية الخاصة، وهي التي تواجه بها الآخر بالسوية، وتبنبي عليها رغباتها في واجب الحياة، ولازمه في الحرية، لأنها كما تحدد سياقها بما كمن فيها من خصوصياتها، فإنها توضح إلى جانب هذا نوعية حقيقتها المرتبطة بأنظارها المثالية، وطرق كسبها لعلاقاتها بأخلاقها الواقعية، إذ لا يعني وجود ذلك إلا الاكتفاءَ الذاتي في تصور القضايا الإنسانية المصيرية، لأنه هو الذي يضمر حق الحياة المنسوب إلى الذات الواعية، والماهية العاقلة، ويظهر صوت الإنسان الممرع في عمقه بأمله، وألمه، وسواء في بعده الفردي، أو في نوعه الجماعي، لأنها لا تتصور لعينها خلاصا في أزمات الهوية إلا بالاحتماء به، إذ هو الذي يمنحها نمطا محددا في النظام، وسياقا من السنن التي تقوم عليها اجتماعيا، وثقافيا، واقتصاديا. وهكذا يصير كل ما عدا هذه القناعة المترسخة بتواتر التجارب في محيط معين، هو الشيء الذي تهابه، وتخافه، لأنها تخشى من أن يغير لبدتها، أو كسوتها، فتغدو بدون ثوابت، ولا مآلات، إذ أجمل ما صاغ الإنسان لبني جنسه، هو هذا المعبد الذي يجمع بطهارته كل الألوان المختلفة على مهاد الكون، لأنه لم يكن ربعا نقيا في الطبيعة، إلا لكونه يحتوي على أنظارها الجميلة، وأذواقها الرقيقة، إذ جعل الكون محلا قابلا لعبادة الجمال، وتقديس الكمال، هو الذي يمتعنا بقيم النظافة في مسالكنا الفردية، ومشاربنا الجماعية، لأنه يعلمنا أن نكتسب ذلك الجميل بمهارتنا، وطاقتنا، لكي نزرع فسيلة الحب بين البشرية، ونغرس وردة الأمل بين وهاد الطبيعة، إذ لا يمكن أن نقرأ هذا المنظر البهي في أعماقنا، ما لم يصر محددا لأفعالنا، ومرتبا لأعمالنا، لأنه قائم فينا، وواقع بنا، وهو الذي نرى به الاستواء مطلوبا، والانحراف مكروها، إذ هو الذات التي تربت على احترام الآخر، وتمرنت على الخلق الذي يزين وجه الكون، ومبسم الطبيعة. ومن هنا، يكون هذا الاعتقاد بضرورة مساهمة جمال كل واحد بسهم في حماية الحياة الكريمة، هو المعبر عن إيماننا بقيم الاختلاف، وسبل التعدد، لأن ذلك بالنسبة للإنسان أصل في استمرار نوعه، وبقائه نقاوته بين دوائر غيره من الكائنات الحية. وإلا، فما فائدة الحرص على صياغة الأنساق، وصيانتها من عبث العابثين، وطيش الطائشين، إذا لم تكن الغاية منها، هي حمايتها لما تحتويه من أسباب سرورها، ونعومتها.؟ إن طلب محض هذه الصورة، وخلاصتها، والوفاء لها بالتجريد، والتفريد، هو العامل النفسي الذي يطالب بجهده الإبقاء على جوهر الأنساق التقليدية، والدفاع عن مكانتها في إثبات الهوية، لا لكونها تتحصن بها من غيرها، بل لما فيها من قوة الصولة، ومناعة الفتوة. وهي الإضافة المعنوية التي تنصهر مع الذات في محيطها الداخلي، والخارجي، فتغدو قادرة على الفعل الجماعي، والاستثمار فيه بالاختيار، والملكة، لأنها تمتعها بمعنى الانتماء، ومغنم الانتساب. ولولا ذلك، ما هتفت الألسن بضرورة رعايتها عند كدورة الأفق عن مطلق الأنظار، ويأس الإرادات عن سوي الأفكار، لأن حتمية وجودها بلازم الشعور بالذات، ومكنون قيمتها في الاعتبارات الشخصية، ولو في أقل مساحة تتجسد فيها، وتكون صورة لها، هي الضرورة التي تكتب أقدارنا بين العناوين المشتملة على رغباتنا، وشهواتنا. ولذا لن تكون حفية بوجودها، ولا قيمة بظهورها فينا، ما لم تكن المرحمة سائدة بين كل الأنماط المبينة للفعل البشري، والسلوك الإنساني، لأنها دليل استقامة الناس على مبدأ مطلوب لهم باللزوم، وحجة في التاريخ على قبوله لوافر التضحية من أجله، لأنهم ما تواطئوا على احترام شأنه، إلا لأنه يحمي الأديان، ويهدي الأبدان. وحقا، إن التغير الذي حصل في منظومة الأخلاق، والتحول الذي واكبه في سائر مناحي الحياة البشرية، قد كان نتيجة طبعية لحضارة مادية فارهة، عبدت الآلة الصماء، ودهست الإنسان بخفافها الشقية، وخربت كل الأنساق التقليدية في العلاقات، والصلات، لأنها لو كانت طبيعة قيمها كما تعارفت عليه الأديان، والفلسفات، لبقيت مؤثرة بالخير في يوم الإنسان وغده، وفاعلة فيه بالصحة، والعافية، إذ لا دور لها في معلوم المساهمات المتعددة للحضارات الإنسانية، إلا فيما تحمي به الكيان، لأنها تمنح كل واحد منا قيمته المعنوية، وحدوده المادية، وتسبل علينا دراء الرحمة الذي نشعر بضرورته حين يضيع منا مجد اليوم، ولم يخلف فينا إلا غرم التشبث بطلول الماضي المتضمنة لما نحن عليه من أعراق، وأمجاد، وحماسة، وتواريخ، إذ التعلق في ذلك بطريقة سلسة، وعملية مرنة، هو الذي يمنح نشاطنا تفاعلا، وتقابلنا تسامحا، لكن إذ دل الخوف على رفض الماضي الذي لم نصنع مادته، ولم نفقه حركته، وأنى لنا أن نتفاعل معه، أو أن نلتئم حوله، وهو تاريخ نهرع إليه حين تغزونا الحضارة المادية بآلاتها الشقية، فإنه سيتحول الحاضر إلى حقل قابل لكل المخرجات التي يقتل بها الإنسان، وتهدم دوره، وتنسف دروبه، لأن قبول ذلك الواقع المفروض، واندماجنا فيه بعقلية المتوجس، لن يأتى منه دورنا إلا بالتوافق على أصول مسلمة، تحمي خصوصيات الهويات من الزوال، والذوبان، لأنها في تمثلاتها الظاهرة المعالم، لا تسلم إلا بما ينصف الإنسان، ويقيه من معرة الذل، والاستعباد. ومن هنا، قد يكون هذا التغير مرئيا لكل له من إلمام بما مضى من تواريخ عريقة، ومشهودا لمن عاش في وضع بدوي منغلق، ثم دهمته الحضارة برغبتها المتوقدة، فاستنزفت منه أنفاسه، وأصواته، فلم يعثر على حبل يربطه بما هو فيه من ضغوط التكاليف المغالية، أو خيط يصله بما فقده في تلك اللمحة التي تشرق على جبينه حين يتذكر عز الماضي، وقوته، لأن التعامل المنتظر منه كأحد أوجه التفاعل مع القيم المسببة للصراع الحضاري في الكون، لن يعدو ما تخلل تلك العملية من تناقضات، وافتراضات، إذ لا يرتقب منه إلا ما جابه به غيره، وصار دليلا على صدقه في نسبته، لأنه صمام أمان يندفع إلى حصنه بين مسارات متعاندة المشارب، ومترامية المشاعب، إذ لا يقبل منه في منطق الذات، ولا في مركب الهوية، أن يتسامح فيما هو تصور ذهني، انبنت عليه عقيدة الخير، ومعنى الجمال، ومفهوم الصلاح. ولهذا تصير صورة الأخلاق القديمة أنموذجا يقاس عليه كل ما يظهر في المجتمع من قيم متشظية، لا تشبه ما انصرم على الديار من صيرورات مختلفة، كانت محل طهر في أنظار العقلاء، وأكباد الأمناء، لأن استحضار صورة هذا الكيان بذلك الوصف العتيق الذي تفرد بميزته، ومزيته، هو الأكمل في رفض ما يربط الحاضر بالماضي من وشائج غير صريحة، لا تتحرك إلا في مساحات دائرتها الضيقة، إذ لا يمكن الاستغناء عن شيء يمثل جوهر فكرة الوحدة الثابتة، ويجسد الفضيلة في العقيدة الراسخة، لاسيما وهو يعبد الطريق نحو الأمل الذي ينشده في إشكالاته المعرفية، والحضارية. وهو ذلك النظر الذي يريد أن يعيد كل ما هو موجود بالتبعية في الحديث المحتدم الصراع، إلى ما هو مشهود بالأصالة في القديم الموسوم بعلامات الكمال، وآيات الجمال. وإذا كانت هذه صولة القديم في الحديث الذي يعتريه ألم أحلامنا الشخصية، لأنها تفصح عن نوعية العلاقة القائمة بين السياقات المهددة بالزوال، والتلاشي، وبين الأنماط التي صارت تفرض فرضا كليا على مساحات الكون، وتندفع إلى أن تلعب دور الموجه لإرادة الإنسان، والمحدد لاخيارات قيمه، واستعمالات أخلاقه، فإن ما يستهدفه الفقراء من وراء البحث عن أنموذج كون آمن، تقوم علاقاته على مبدأ السلم، وقاعدة التآلف، وناموس التآخي، هو عين ما يستهديه الأغنياء بتعبير يصدع بما هو غامض في الغور من نيات، ولذات، لأن مواصلة السير بين دروب الحياة الغضة بكدر المخاوف، والثرة بغصص المتالف، لن يكون سبيلها مأمون العواقب، ولا سليم المناكب، ما لم يحس الإنسان في عمقه بصوت الأمان، ويشعر بأنه يرفع في ظاهره لواء السلام، إذ ضرورة وجود ذلك المناط بين محددات ماهوية الكيان، وموجهات كليات معانيه الذاتية، هو ما يضفي على صيرورة الكائن البشري لونا من الأمل المترع بالعنفوان، ولو بدا عسير المورد في كثير من الأنظار التي يربك شؤمها سير المتألمين بقسوة العالم، وشقائه، لأن الإحساس بذلك العمق الذي تسجن فيه مبادئ اللذات العاقلة، ولو كان رغبة جانحة في طلب مكامنها المستورة بين حواصل الزمن المتعارض الاحتياجات، هو الذي يمهد المسالك لتدبير سبل الرزق بين المالكين، والمملوكين، إذ هو الذي يضمن وجود شيء مشترك بينهما في الاختيار، ولازم لهما في تدبير الموارد بمقتضى الحكمة، لأنه لا قيام له إلا بوجود الطرفين المتفقين على واجب وجوده، والمتحدين في رافد بلوغه. لكن ما يثير الاستفزاز في كثير من هذه الموارد التي يحس الفقراء مع شحوبها بالاستلاب، والاستعباد، هو ما بدأت هوته تتسع بين الإنسان والآلة التي سرحت روحه، وأسرت مادته، ولم تترك لجهده مجالا يفرغ فيه محتوى أنفاسه المكتومة، ومضمون أسراره التي يأمل أن ينالها بين الديار المنكوبة، ويبلغها فيما يبنيه من أسس مهده، ومجده، إذ غدت الآلة منافية لقدرته، ومعادية لطاقته، وصارت تؤثر في قيادته، وتقبض على ريادته، لأنها ألزمت صانعيها بطرف من التحكم المستبد بخلاصة القوة، ومستهلكيها بطرف آخر من الانبهار، والذهول، إذ كل واحد منهما يحس فيما يحدث من صنائع بإحساسه، إلا أن الغالب مولع بتبعية المغلوب له، والمقهور مجبول على رفض قاهره، إذ هما معا في جدلية الغنى والفقر صوتان، ورأيان، لأن قيام الصناعة بجشع صانعها، لن يغني الفقير بحب ما يحميه من أطماع القوي المغرم بالامتلاك، والاستحواذ. وهذا ما أحدث التطرف في العلاقات التي تربط بين العمل، وروحه، وتصل بين المعاني ومفاهيمها الحقيقية في الطبيعة، لأن زخ روح العامل فيما تتنجه يده، لا يكون نسيما في كسبه، إلا إذا دلت الرابطة فيه على الصفاء، والوفاء. ومن هنا، فإن انزياح كل طرف إلى الغلو، وانجراره إلى الخوف، وانحياشه إلى الانطواء، لن يخلق بتنطع أنظاره مناخا معتدلا لنماء العلاقة التي تربط بين مختلف الطاقات، والكفاءات، لأنها ستكون حتما موردا للعنف، وردودِ الأفعال المتشنجة، والمتسرعة، وموئلا لكل الأخلاق المحركة للكراهية، والصراعات المميتة، إذ طلب كل واحد منهما للوجود بحد من الحدود، لن يتفق مع ضده في الصيرورة، وإن استظهره كل تيار بمعنى من المعاني المعلولة في تصوره لمدارات القوة التي يجب أن يتحاكم إليها العالم، لأن رغبة القوي في الرفاه، ليست هي جهد الفقير في حماية بسيط كسبه، ووقاية عشه من أصلال الذل، وأغلال الهوان. ولذا استحسن الأغنياء استعباد الفقراء، وسوقهم إلى أوحال رزق يكتسب بدنيء الهمم، ووبيء الأخلاق، لأن الرغبة الجامحة في استغلال خيراتهم لاكتساب مهارة الامتلاك، لا يثمر إلا حرصا على الاستقواء، والاستظهار، إذ بها تظهر مكانة التسلط، والاستلاب. وهكذا الفقراء في صياغة المفهوم الجديد لمعنى القوة المطلوبة، سيميلون في غمرات العجز إلى منبع الحقد، ومجثم الكره، وهو القاعدة الفاسدة لبناء القيم المقيدة للذوات بآسار الأنانية المتطرفة، لأن منطق حماية الخصوصية الذاتية، ونظام صيانة المجال المفتوح للحركة الشخصية، سيلح بالخوض في حمأة الصراع لرغبة البقاء، والتعارك مع كل العوائق التي تعكر صفو الإحساس بالأمن، والسلم، إذ التحصن من غوائل الغير، والتوقي من بوائق خداعه، وحيله، سيغدو مع التفاف كل طرف على طي أسرار حوزته، هو الفعل الوحيد الذي يعبر خوفه عما يرجوه الإنسان في جهر علنه بمطلوب الأمان، ومرغوب السلام. وذلك مما سيحمل إلى هذا العالم بؤسا حقيقيا في مجالب السعادة، ولؤما يقسم المناطق على هذه البسيطة إلى يابسة مخذولة، وطرية محبوبة، لأن نزوع الكائن البشري نحو مهيع الاستفراد، والانعزال، سيقيم للأنانيات الفردية مساحات قابلة للتوالد، وضامنة للتناسل، ولو بطريقة غير إيجابية، وبقوة غير محكومة الدوائر، لأن ما يفصل بين المجدودين والمحرومين من فواصل، لن يصنع إلا طبقات متحاربة على مواردها، ومتقاتلة على مواقعها، وهي في حقيقة وجود اختلافها، لا أثر لها في صيرورة العالم، وجمالية طبيعته، إلا إذا كانت حقائقها مشتركة في سمو الغاية، ونبل الحاجة، إذ مسمى الذات في سياق الغربة الحضارية، وشعور الإنسان بانفصاله عن الأشياء المفروضة عليه، ولو صارت مع الإجبار عليها ضرورة في حاجته، يقتضي أن يتم بناء صورة العدو من الخارج، وتركيب الحد من بارز ظاهرها، ولو كان مناله قريب الملة، والأمة، لأن محدد الأخلاق في محتد الأنظار الثاقبة، لا يقتفي إلا أثر مضمرات الباطن الخفية، إذ هو الناطق بما انطوت عليه الذات من ضعف، أو قوة، والحارس على بقاء اللذة في الأشياء المباحة، والممنوعة. ولذا، لا نستغرب إذا أنتجت تلك الفردانية علاقات منزوعة الوفاء في سر الذوات، وسلوكات متعرية من الصفاء الجامع بين الأفراد، والجماعات، إذ الذاتية في قاموس الاغتراب، ومعجم الاستلاب، تعني رفض كل سياق ينفصل عن الكيان الملتبس بما يخالف ذوقه، ويعادي ما ظفر به من حدود حوزته. وذلك مرده في صورته الأولى إلى علة حب البقاء الذي تمتحن به الذات في سجن شهواتها الضيقة، لأن تصور عدوها في المنفصل عنها من العوارض، لن يعرفه بتعريف في رسوم قصودها المرتجاة من الوجود، والحركة. وعلى هذا يصير الوجود الخارجي عنها عدوا يهدد أمنها، ويتوعد استمرارها، لأنه من شدة الحرص على الخلد، وحدة الاحتفاظ على المكتسب الذي يحس فيه الإنسان بالاحتياج إلى مسرته، ومبرته، لا يحتمل إلا ما يزفر به هذا العمق المتضخم بأناه المستعلي، أو المصطرخ بآلامه الحرى، ولو جانف الحقيقة المشتركة، وجانب كل الخطوط التي تربط بآصرتها بين جميع الهويات المختلفة. ولذا، فإننا إن لم نتسابق الزمن، وتوافقنا على زرع ورد السلام بين الأمم، والشعوب، لن يكون للقضية المشتركة من توجيه سليم، وتحديد قويم، يجوز له أن يؤثر في قادم الزمن على العقول المدركة، ويحدث في رغباتها لطفا، ولينا، لأن تاريخ العالم في العداوة، لم يكتب بالدماء المنصهرة مع أشلاء البشرية المتفحمة، إلا حين تمزقت هذه الروابط، وتفرقت الإرادات حول أبعاد المصير المشترك للبشرية. ومن هنا، فإن الخروج عن طبيعة هذا الكون، ورسوخه بنظام يربط بين الخالق، ومخلوقه، لن يؤسس في زخم الأنانيات المتعالية الإرادات، إلا لدرجات متفاوتة من الوعي، والإدراكات، لأن ثنائية الموجود، والوجود، لا تمنح أحدا حق التفرد بصياغة مراد الخالق في خلقه، ولا بالوصاية على مسير الإنسان فوق أرضه، إذ هو القادر على أن يسدي إليه بعض سره في مضمون حريته، لكي تقوم الحجة بذلك على برهان التكليف، وتفي الأدوار بما وضعت له في آفاق التأليف، لأن استفراد المخلوق بذلك، وتسلطه على غيره بموجبه، لن يؤهل الكون لقبول نداء الوحدة في كثرة المباني، ولا لتطلاب الحقيقة الجامعة لسر الاتحاد، إذ ما ينفخه الإنسان في صوت الأشياء الزافرة بكده، وسعيه، ليس إلا ما توارى من غور وراء جبته، وانطوى عليه من أسرار قفصه، وهو سره الذي يحتال به على غيره، وينفذ به إلى رغباته، لأن ادعاء امتلاكه لحق الإله بما قبض عليه من ريح القوة الفاتكة، لا يورد العالم إلا موارد الفساد، والعنف، والاحتراب. وإذا انفصلت هذه العرى بين الأغنياء، والفقراء، وانحاز فيها كل تيار إلى طرف في الصراع القائم بمورده، وانساق إلى اعتبار غيرية الآخر عداوة لدودة لمنزعه، فإن ما شينشأ عن ذلك من نزاع بين كل المناحي التي يقصدها الناس للالتئام، والالتحام، لن يترك للفقير فرصة يحس فيها بأنه يطيق بقدرته أن يدبر تكاليفه الحياتية المضنية، والتزاماته الكونية الملزمة، بل سيتحول هذا العجز إلى إياس، وذلك الضعف إلى هوان، ثم يسود المدى، وينهد الصدى، ويغدو الأمل سرابا يحبط كل نفَس يؤلف القصد على تحقيق غاية الكرامة، لأن إمكان إحساسه بذلك الفصل الحادث في مركبات جمعه، لن يفند في شتاته إلا ما يذرفه الغني من دموع الشفقة على فقره، إذ ما يبين حرص بناة الحقوق على صون الإنسان، ووقايته، هو ما يقدمه جهدها المبذول من خدمة لحماية جسم الطبيعة من سموم التباغض، والتقاطع، لأن سبل المودة بين المتعارضين، لا تكون مهيأة للسير، إلا إذا انتفى عنا ضمير الغدر، وانمحى منا رسم الخيانة، وصار الأمن مهادا للسعادة، وبساطا للهناءة. ومن هنا، فإن هذا الإحساس المترع بالأنانية المتصلفة، والذاتية المتعنفة، لن يترك للمواعظ الأخلاقية التي ينطق بها حماة الحضارة أي معنى قائم بقوته، وسارٍ بدوره، ولن يدع للنواميس المدبرة للعلاقات الاجتماعية أي نبل نافذ في مسالك التواصل، وواصل في معاهد التلاقي، لأنها لن تكون مقبولة في آذان الفقراء الذين يرون سبب فقرهم من شجع الأغنياء، ولن تصير غاية في النتائج التي تضمر عشق الإنسان المحروم لمعنى الحرية، والعدالة. وذلك مما سيصرف أنظارنا عن كثير من المعاني التي لم تتحقق من حقيقتها الوجودية، ولا من قيمتها الوظيفية، لأن قيم المفاهيم التي يضحى من أجلها بالنفائس، ستغيب عن الوجود المتدافع حول قوته، وسيتحول ما تخلف من الماضي الذي يكتنز وصايا التاريخ إلى رسم يثري موارد الكراهية، والعنف، لأنه هو الحصن الذي يفر إليه فاقد قفص حاضره، وشانئ غده. وإذ ذاك، لن تدل الألفاظ على حقائقها، ولا المعاني على مصاديقها. وفي ذلك خرابُ كل الروابط التي تربط بين الهويات، ودمار كل الأخلاق التي قدمت الإنسانية من أجلها أغلى صور شجاعتها، وبسالتها، لأنها ستغدو بدون مرجعية تمنحها مشروعية الوجود، والطبيعة، وتهبها سر بناء هرم الحياة الموطأة الأكناف، والأطياف. إن شعور الإنسان بالتهديد فيما يقوم به وجوده، وتتقوم به حدوده، سيحتم علينا أن نعيش صراعا ظالما بين الأقوياء، والضعفاء، ونزاعا حول الموارد التي تصنع شدتنا، وحدتنا، لأن كثيرا من جهدنا الذي نوظفه لإصلاح جهاز الأخلاق في الكون، والطبيعة، سيغدو بدون غاية تحمينا من غوائل الافتراق، ونوازل التمزق، إذ ما يمكن له أن يُسمع صوته في عالم يسود الارتيابُ علاقاته، هو ما يغذي تلك الكراهية القائمة بين من كان حظهم العاثر سببا في احتلال آخر مراتب السلم الاجتماعي، وبين من قادتهم الفجوات إلى أعلى مراقي السعد، وهم يترنحون بشقاء الإنسان، وعنائه، لأنه الصوت الأجلى في تعبير كل واحد منهما عن رغبته الأكيدة، إذ ذاك يحددها بغاية، وذاك بحاجة، وكلاهما يتنازعان البقاء، ويتعاركان حول الصفاء. ومن هنا، فإن أكبر دعم تقدمه قيم الأديان، والفلسفات، هو إعادة تلك الروابط إلى وسطيتها، واعتدالها، إذ تحقق هذا المناط في تداولنا للقيم التي تبني مستقبلا مشتركا للإنسان، ووجودَه في حاسة الأفكار المؤثرة على كل الخطابات المتسمة بالدفاع عن حق الإنسان في الحرية، والكرامة، هو الذي يصل الأعالي بالأسافل، ويدفع بتلك العلاقة إلى الاستقرار، والاستمرار في ارتباط وثيق بعهدها الذي تواطأت المجتمعات على وجوب الالترام بحقيقته، والاستقامة على مقاصده، لأنه ينظر إلى ما فيه صلاح الجنس، وبقاء النوع الملتزم بأخلاقه السوية فيما هو محدود له من قدره، وما هو ممنوح له بين كبد مورده. لكن ما طرأ من كدر على رسوم هذه القراءات التي تعج بصراخ الألسن المناضلة باسم الإنسان، وحقة في المساواة، والكرامة، وسواء كانت ألوانا دينية، أو أطيافا سياسية، هو الذي يجعل صيرورتها متطرفة في أعين ناظريها، ومغالية في سمع سامعيها، لأنها في انحيازها إلى الفقراء، ورغبتهم في نشدان الانتقام لمظلومية رسخها تاريخ الدماء، ستضيع حظوتها العتيدة في العيش الذي تخاله وثيرا على أسرة الواجدين، والمثرين، وفي انجرارها إلى ما ترومه القوة المحركة لمصانع المسير، والمصير، ستفقد خصوصيتها التي تربطها بالطبقات السفلى من المحرومين، والمقهورين، وإذ ذاك سيكون خطابها متعاليا على ما تسكنهه عقول الكاسدين من سلامة واقعها، ومتحدثا بلسان لا ينطق بلغة حشود عريضة تستنطق السماء بمناجاتها، وتتعاوى على الأرض بنحيبها، إذ هي في معلوم ما تسلم به، وتخضع له، لا تطيق الاستماع إلى صوت لا يحاكي نبضها، ولا يوافق إحساسها. ومن هنا كان كثير من الدعوات مرفوضا، ومتجاوزا، لأنها إذا ماثلت لسان الفقراء بما تنقشه من حزن في كلامها، استوحشتها زمرة الأغنياء، وإذا أعربت عن انصعاقها بالقوة، وانصهارها بالمادة، كانت سببا للكراهية العقدية التي تعادى من لا يفصل بين خطاب السماء، ولغط الأرض، إذ منطق ما قامت به هذه الدعوات في عمق التاريخ الإنساني، وغدت به مرتحلة بين منازل التطور البشري، هو سعيها إلى خلق نفحة التوازن بين الواجدين، والفاقدين، وإذا تجاوزت هذا السياق الذي أبرم حوله عقدها، وحزالة بيانها، وأرادت الانتماء إلى دائرة تحكمها خصوصيات تتوهم في ذاتها قوة التميز المفضي إلى عناد الاستعلاء، فإنها لن تصير بحديثها من صوت الديانة، ولا من صدى الفلسفة، لأنها قد فارقت حدود الوسط الذي تدعي الانتساب إليه، وهو سر في وجودها، ومعلم خالد في ظهورها. وأي تناف يحصل فيه بين كلياتها، وجزئياتها، لن يصهر العالم إلا في بوتقة الحروب، والاقتتال. ولذا كان هذا الخطاب الذي يؤسس لمنطق التميز بالقوة سببا للعنف، والإرهاب، لأنه ميل إلى طرف من طرفي الصراع الذي أوجده ألم الفقر، وظلم الغنى. وذلك حين انقطعت العلاقة بين المشتركين في خيرات الكون، ونعيمه، وانفصلت الأواصر بين الثقافات، والحضارات، وسادت قيم المصلحة الذاتية، والمنفعة الشخصية، إذ تغذية هذا الخلاف باسم المطلقات التي تآلف الناس على كلياتها، وصارت مسلمات لها في تنظيرها، هو الذي سيلبس النزاع أسمال الرقاعة، وأدران الرعونة، لأن ما تآلفنا عليه في مقبولات العقل السوي، قد كان سلما بين الديار المنطوية على سر وجودها، وسلسا في الذوات المدبرة لمواطن اختلافها، وما كان منه حربا، ونشازا في الأصوات، فهو غير قائم الإحساس إلا عند وجود ما يهدد الحوزة، ويبدد الإيالة. لكن فرضه فيما توقف سياقه على ضرورة استواء النسب فيه، وتدافع العلل فيه إلى كسب معلوله، سيدفع بنا إلى أن نختلف فيما حقه الوحدة، وواجبه الاتفاق، ونقتتل فيما هو سبب للعيش الوفير، وسبيل للحياة الكريمة. وإذ ذاك، لن نبرئ ذواتنا من نزوعها نحو الكراهية، والعنف، لأنهما لا ينشآن إلا حيث يحس الإنسان بخوفه، وهلعه، إذ هما سبب في الرذائل التي سودت وجه العالم، وشوهت صورته، وصيرته مرمى للأحقاد، والضغائن.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موارد العنف -2-
-
عطر الصباح (شهادة في حق والدي رحمه الله) -1-
-
موارد العنف -1-
-
عقيدة التسويغ -11-
-
عقيدة التسويغ -10-
-
عقيدة التسويغ -9-
-
عقيدة التسويغ -8-
-
عقيدة التسويغ -7-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
-
عقيدة التسويغ -6-
-
عقيدة التسويغ -5-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -3-
-
عقيدة التسويغ -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -2-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -1-
-
عقيدة التسويغ -3-
-
عقيدة التسويغ -2-
-
عقيدة التسويغ -1-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -8-
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|