|
موارد العنف -1-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5496 - 2017 / 4 / 19 - 13:00
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
موارد العنف قراءة لعقلية الكراهية -1- يتبع بعد أن عرجنا في مقالاتنا حول عقيدة التسويغ على مجموعة من المناطات التي يتحقق بها تحريف المسار الأخلاقي بين مدارات المجتمع الإنساني، عن لي أن أنظر إلى عقلية العنف، وعقيدته، وما تحمله أفكاره من موارد شتى، تصب جميعها في اتجاه واحد، وهو رص الأشياء في وحدة الحياة بعلاقات متشنجة، وسلوكيات متعنفة، تتضمن فحوى الكراهية، والضغينة، وتحتوي على خطر متعدد الجوانب، والمناحي، يمكن له أن يحدث الفواجع في مسير الإنسان نحو لحظة تفاؤله، وأمله، ويربك كثيرا من القيم التي انبت عليها الصيرورة المتعددة في الواقع البشري، وتوقفت عليها كل الأفعال التي يلتزم بها الإنسان في صناعته للعمران، والحضارة، إذ ما نقوم به في مواجهة الزمن السائر إلى الأمام بسرعة فائقة، لا يتجسد إلا فيما نخلفه اليوم من أفكار وأخلاق لمن سيأتي بعدُ من ذريتنا، وحفدتنا، لأنهم المرآة التي ستنعكس عليها كل الصور التي نقشناها في عقولنا، وصنفناها في واقعنا، والصفحة التي نكتب عليها سِير سلوكنا، وتميز قيمنا، والكتاب الذي ستقرأه الأجيال القادمة بين مدارات الزمان، ومحاورات المكان، لكي تستوهب منها ما يرثه الخلف عن السلف من سلوك يثري الفعل المسؤول عن وظيفته، وعلاقاته بما سواه من النظم الإنسانية. ومن هنا يكون فعلنا هو المطلوب منا، والمسؤول عنا، لأنه بمنتهى الغايات المسلمة منطقيا، سيرفع هامتنا غدا، أو سيضعها على رغام الحسرة، والندامة. وذلك حين لا يجد غيرنا في تاريخنا ما يُقْدره على تجاوز أزمته التي تكالبت عليه بين أمداء واقع مفتون، يشهد اغتيال كل رابط يصل الإنسان بحضارته، وتاريخه، إذ لا يمكن أن يدرس يومنا في التاريخ الذي تفترض قيمته مستقبلا، إلا إذا كان لطفا ساريا في الوجود، ونسيما يهب على الذوات بآمال متسامحة، لأنه هو الذي يطيق أن يعبر بنا على جسر الزمن إلى نبع الشعور بهوية المستقبل المشترك نفيسُ ألحانه، وأنغامه، ويلحقنا بما انطوى عليه الماضي من عقيدة التسامح الذي سادت بأخلاقها الفارهة، وأنماطها الفارعة، فنكون جزءا من سلسلة تكتنز كل ما أنتجه الإنسان في تاريخه من ثقافات، وحضارات. ولذا، يصعب علينا أن نتوقف عن الاسترسال مع الأحداث التي تعترينا بأشباحها المجلجلة، وأصدائها المصلصلة، ولا أن نستكين إلى ما يدس أنوفنا في نتن المذلة، وعفن المهانة، لأننا ومهما أردنا أن نحدث فجوة في تاريخ العالم، وزمنه، لكي نعثر على لحظة فراغ فيه، فإن ما نحاوله من ذلك، ونكابده من أجله، لن يكون له أثر يوجه فعلنا إلى معين نقي لتحصيل رغباتنا الموجودة فينا بحكم الطبيعة، وكسب الفطرة، بل سينتج عنه ألم التأخر عن ركب الحضارة المشتركة العلم، والحكم، إذ مقصد النبلاء من عقلاء العالم، وزُراع بذور المحبة فيه، هو إثارة حوار الأخلاق المختلفة، واستفزاز الهمم نحو قبول التعدد في الطبيعة البشرية، لأن رفض كل القيم التي انحاش إليها الإنسان في شعوره بأوَّليات تطبيقاته النظرية، هو تعطيل لعجلة الاستقرار بين الأماكن القوية بتكاملها المعرفي، وتدوالها الأخلاقي. وإلا، فإن كل محاولة تريد أن تجعل هذا الكوكب ملكا لها بالوساطة، والوصية، تسطو عليه بما تقتضبه في ذهنها من أفكار سوداوية، وما تحتقنه في صدرها من أصوات مخنوقة، لن يأتي منه في محصلته إلا فعل الخراب، والدمار، لأن عملية الإثبات والنفي في صيرورة الأشياء بين مدارات مواقعها المسلَّمة لها بين كل النظريات الدينية، والفلسفية، لا تكون إلا بالاحتكاك المؤدي إلى ظهور نمط بخفاء الآخر، وخمود سياق ببروز غيره، لأنهما في المرتبة التي يحتلانها عند الانتماء إلى صفة معينة، لا يجوز جدلا أن يموت ذا، بحياة ذاك، بل كلاهما في ناموس التضاد القائم بكل المباني، يتدافعان تحت معنى الخير، والشر، ويتشابكان حول مفهوم الجمال، والقبح. وذلك ما يمنحنا قوة طبعية على الفعل، والعطاء، ويجعلنا متمسكين بما نراه سليما في التفكير، والتنظير، ولو خالف ما يجأر إليه غيرنا في انتماءاته المتضيقة، وتحديداته المتضخمة، لأنها حقيقة الإنسان التي هي في جوهره مكنونة، وصوته الذي تردده كلية وجوده بين ظواهره المتنافرة، إذ لا يخلب لبه منها شيء حتى يخلق، ويبلى، ثم تغريه الأشياء البارزة له بفتنتها، وبهرجها، فتستحوذ على لطف نسيانه، لكي تغرقه في بحر غفلته، فتصير به موجودة في الطبيعة، ومفقودة في الحقيقة، لأنه ومهما ملك أشباحها في المادة، فإنه قد يفارق في باطنه نفحة روحها التي تسري في الحياة بنسيم المحبة، والمودة. وهكذا، فإن نظام الكون الذي يتركب من تركيبات معقدة، وتأويلات متعددة، وما يمثله من إحكام في الاختراع، ودقة في الإبداع، لا يقبل أن يكون محلا للفساد، ولا موئلا للشر، إذ موضعه الصلاح، وموقعه الخير. وإلا، فإن أي خلل فيه، سيؤدي إلى انهياره، وتلاشيه، وأي نكوص عنه، سيقود إلى معاداته، وحربه، وإذ ذاك يستحيل قطعا أن نكتسب الإيقان في إتقان الفعل الحكيم لصناعته، لأن طرو الخلل فيه، وظهور الجهل به، هو الذي يعرض مستقبل البشرية للفناء، ويقرب مستظهر الكون من الخفاء، إذ نتيجة الفعل غير المتسجيب للخصوصية الإلهية في تدبير نواميس العناصر المكونة للوجود، لن يكون صفاء في المورد الذي ننتمي إليه بعضويتنا في العائلة البشرية، لأن مخالفة الناموس الذي ينسج العلاقات بين الأشياء الظاهرة، والباطنة، هو في كل الوصايا سبب ما يلف الديار من بؤس، وشقاء، لأنه رابطة الإنسان بما خفي عنه من نظم يقوم بها بين الأكوان، ولم يجد لها من تفسير سوى ما صدقه من يقين، وإيمان. ومن هنا، فإن الإقرار بميلاد وظيفة أفعالنا بين هذه الدوائر المحكمة الصنعة، لن يصرفنا عن الأصل الذي حصل به التأثير في الأشياء؛ وسواء استجابت لأهليتنا، أو رفضت أحقيتنا، لأن قيام تلك الصلة بين الفعل وجوهره الذي ينتمي إليه في نظام الكون، هو الذي يجعل الإنسان حريا بالاحترام، والتقدير، إذ هو فيما ينوي من حركات، وسكنات، لا يلبي إلا حاجة المطلق في ذاته، وهي التي تسبل عليه إزار التضحية، والفداء، لكي يكتسب شرف الفعل السوي في موسيقى الكون الطافح بالأنغام الرخيمة، والأوزان الفخيمة، لأن انحصار الفعل في الذات التي ابتعدت عن بؤرة فطرتها، ومن غير أن تلتزم بالانتماء إلى الأصل الجامع لحقيقة الأشياء في كلية الاستجابة، لن يجعله أثرا ممتدا في صيغ الزمان، والمكان، إذ سموه فيما يحتويه من نفَس الخلد الذي يميزه عن الغثاء، والزبد، ورقيه فيما يتضمنه من سر الوجود الذي ينزف بالحقيقة الخالصة، لأنه هو الذي ينقله من زمن إلى زمن، ومن عمق إلى عمق، لكي يقطع به المراحل، والمنازل، فيصير ناطقا بالحكمة الإلهية السارية في الأكوان الجميلة. ومن ثم، فإن الأفعال المقبولة في قاموس حقائق الزمن الذي يؤثر بالبقاء، والفناء، هي تلك التي تضمنت تقديس ناموس الأزل في الحياة، والإنسان، والطبيعة، لأن إهمال هذا التأثير الكلي لفعل الخير الأول في صيرورة البقاء المجرد عن العيوب البشرية، لن ينتج عنه إلا ضيق في أفق المعرفة بالقوانين الجارية بأثرها على الأشياء الجلية، والخفية، إذ معرفة ذلك، هو الذي ينفخ مسحة الحياة في الإنتاج الذي خلفه الإنسان من بعده، وما زال أثره مواجها لغوائل الزمن، وريبه، لأن تضمنه لمعنى الخيرية، لن يوقف سيره إلى الأمام بخصيصته الفذة، بل سيجعله منطقا يتحدث بلغة التجارب، والخبرات، إذ هو التاريخ الذي كتبه السلوك السوي على صفحة الكسب المتصل، والمتسلسل، وأنى له أن يفنى، أو يبلى، وهو متحرك بنيات تنضح بروح الإخلاص، والتفاني، وترشح بمعاني الوفاء للعهد القديم في الأشياء التي أبتلي بها الإنسان لمعرفة سموه من دنوه، لأن صناعة العهد الجديد، لن يحمل خصائص ماضيه، إلا إذا فضل غيره بما يختزنه من أدب، وفضائل، كان اتخاذها منطلقا سليما لتجاوز الانحراف عن سياقها المحدد لها في الطبيعة، لأن ضم القديم إلى الحديث، لا يكون في الاعتبار صفة مشتركة بين المجموعات المختلفة الزمان، والمكان، إلا إذا كان هوية موحدة التأليف في كل المدارات المتعددة، تجمع مكارم الأخلاق في ماهيتها المرشحة للقبول بين العقول السليمة، إذ الأساليب يمكن لها أن تتضمن الاختلاف، لأنها وسائل للاستثمار في المتآلف عليه تواطأ، وإذعانا، لكنها بسبب الإحساس بالضرورة القائمة في معايير الأشياء الحاملة للمعنى الخالد، والتالد، هي محل للمسؤولية التي تحدد أهمية الاختيار، والإرادة، لأنها وظيفة الكائن البشري في الانتماء إلى الجماعة الواضحة المعالم، والمرامات. ولا غرابة إذا كتب الخلد لبعض الأعمال التي استجاب الإنسان لها في تدرج مراحل عمره الكلي، ولم يكتب لغيرها أن تتجاوز دائرتها المقصورة على فترة من الزمن، لأن تماسكها العضوي مع الكلمة الأولى، هو الذي يجعلها سياقا متفجرا بين أودية الفعل البشري السوي، والمتكامل، إذ تصنيفها بين الأفعال الخالدة، لا يتم إلا بما تستحق به الأهمية في احتياجات الإنسان، ورغباته المتتالية، لأنها تتضمن المعيار الأخلاقي الذي دأب التاريخ على تقديسه، واحترامه، لكونه ينتمي إلى النص الذي تقاس عليه مناقب الأخلاق في النوازل الحاضرة، إذ هو محل الالتزام في النظر الجماعي، لأنه يحتوي على كل ما يحدد الانتماء إلى هوية فاعلة بالتواطؤ، والاشتراك. ومن هنا، يكون صعبا تسويغ الخروج عن هذه الدائرة، لأنها مسيجة بما تتضمنه نتائجها من غايات محبوبة، لكن منطلق العزوف عنها، لا يتأتى من ضدها القائم معها بالعناد، والعداء، بل ينشق من باطنها ما يبدد به الانحرافُ سبيل الاحتياج إلى ما استجن فيها من قيم كبرى، وعناوين الأخلاق المثلى، لأن مقاييس الحيدة عنها، لا تعرف إلا عند التحديد الوصفي لما هو مراد منها في التكوين، والتدبير، إذ يبين كل واحد منهما قيمة الفعل للشيء، لأنه يرتبط بالشعور المعقولِ بدور كل حقيقة في سياق الكل الجامع لأصل الانتباه إلى ما نطق به لسان الحق في أزل المعارف. ولذا يضع كلُّ محدود حدا لماهيته، لأنها تشكل هويته بين الأشياء المختلفة الأسباب، ولو اتحدت في صياغة الغايات، إذ هي محل الفحص العقلي، ومآل كل رجاء يبتغي تضامن الحقائق في حقيقة واحدة، هي موقع النظر الأول، وموضع نؤوب إليه في كل قياس نريد أن نوجه به السلوك في فعل العمران، والحضارة. وإذا كان درك هذا الملحظ ضروريا للوصل، والاستمرار، فإن ما يهمش هذا التلاقي بين المعاني، والمفاهيم، هو ما يفصل بين اللفظ وحقيقته، لأن قوة المعرفة في بساطتها المتجاوزة لكل الأنماط الفكرية المعقدة، إذ قصارى الجهد منها في الغاية المحددة، هو ما تضيفه إلى الإنسان من سعادة، أو شقاوة. ولا حرج إذا كان مدرك بساطتها مؤهلا للقيام بها، ما دامت الغاية منها، هو وجودها بين الحقائق التي نختبر بنياتها، وقصودها، لأنها هي التي نحكم عليها بالإيجاب، أو السلب، لا لأنها مقصودة لما يحوم حولها من شكوك، وملاحظات، بل الهدف منها، هو التسليم لها، والتفويض لما تحتويه من نفس السماء، لأنها صلتنا مع المطلق الذي نعرف به قيمة الجمال، والحب، والخير. ولذا يكون كثير من الانحراف عنها معبرا عن القصور الذي يحصل في درك أبعادها النفسية، والاجتماعية، لأنها لا تكون قيمة حقيقية إلا إذا احتفظت على ثوابت نواميسها، وقوانينها، واستكانت إلى ما في خصوصيتها من أفضلية، ومزايا، إذ ما نختاره من أساليب التعبير عن شوقنا الأرضي، وعشقنا السماوي، لا يتحول إلى مثال مجسد في الواقع، يسترعي الاهتمام، والانتباه، ما لم يكن كيفية مقبولة في الوجود الكلي للحقيقة الأزلية، لأن تبادل الأدوار بين الأزمنة، والأمكنة، هو الذي يعلمنا كيف نستسلم للاختيار الذي أفضينا إليه بسبب من الأسباب، إذ هو الذي يحمل هوية الانتماء إلى سلالة معينة في المعرفة البشرية، والانتساب إلى أمشاج مختلفة في العرق، واللون، واللغة، لأن تاريخنا الذي يعرب عن وحدتنا في التصنيف الكوني، هو ما تواطأ فيه الناس على حقيقة مجردة، تكون معيارا على الولاء لغاية تحتفظ على شعورنا بالحياة، والطبيعة. ومن هنا، فإن ما يتطلبه ذلك من دوافع تتجه بنا إلى المحافظة على الهوية المشتركة للكون، هو الذي يظهر قرارنا الوجودي في نيل تعددية محورية، ترتكز معالمها على تقديس الخصائص الدائمة في العلاقات البشرية السوية، لأن تمعننا في طرق حبك هذه الخيوط التي تصل بيننا وبين تاريخنا، هي القوة التي تجعل انتماءنا إلى زمن الإنسان ميسرا، ومبسطا، إذ ما ينتجه ذلك من اعتبارات بديلة عن لغة الصراع التي تسود العلاقات بين الأمم، والشعوب، هو القادر على تغيير لغة العالم في ألسن الناطقين باسم الإنسان، والمدافعين عن حريته، والمنافحين عن كرامته، لأن ترسيخ النزاع في محل يجعل هذا الكائن ضعيفا بلا إرادة، ليس مبتغىً للحقيقة الرائعة التي نعبدها، ونوحد بها أنظارنا إلى الأشياء المتصارعة حولنا، لأن لازم الانتساب إلى الأديان، أو الفلسفات، هو ما نشعر به من وحدة مقيدة باختياراتنا السلوكية، والأخلاقية. وذلك ما يجعل قضية الوحدة عمقا للتوحيد الذي نتحارب حوله، لأن ادعاء الوحدة في عالم متحارب، ومتقاتل، هي الكلمة التي ينطقها أدعياء الإصلاح بلا معنى، إذ لا توحيد بدون أن نركز جهدنا على النتائج المتوقعة من أفعالنا التي نخلد بها قيمتنا الإنسانية على هذه البسيطة، لأن سبب تأثيرنا في الكون، لا تجري سننه في محيطنا النفسي، والاجتماعي، إلا إذا أيقنا بمسؤوليتنا الوظيفية في إجراء فعل الخير بين شرايين مجراه الطبعي، إذ الاضطلاع بهذه المهمة التي تحرر المعاني من عداء أضدادها، هو النص الذي يفصل بين فعل المفسدين، وعمل المصلحين. وتأسيسا على هذا، فإن الفصل بين هذه الحقائق المتحدة المقاصد، لا يكون مستساغا في الذهن إلا حين يكون العقل نارا طائشة، لأن تجاوز نارية الفكر إلى نورانية القلب المضيئة، هو الذي يمحص الصورة، وينظفها من شوائب العلل، والزلل، إذ العقل حين ترد عليه رياح التغيير التي تفصل بين الموصولات، وتصل بين المتباينات، فلم يجد له من محضن سوى قلاع الخرافة، والأسطورة، أو لم يعثر له على سبيل سوى القطع بين ما جمع في الطبيعة، لا يأتي منه أي اختيار يلتزم ببناء الحقائق في كلية التوحيد، والوحدة، لأن ضعف الشيء، وهوانه، لا ينشآن إلا حيث ينفرد سياق بالتفكير في استكناه الحقيقة، ويكون ما عاداه مخالفة لعرف العقول المتسمة بالأحكام المعيارية، إذ ما يقوم به الإنسان من تسويغ لعجزه، قد يؤدي به في نهاية تفكيره إلى ممارسة العنف، ومزاولة كل عمل حقير، يؤدي إلى تهدئة نزعة الاستفواء التي يشعر فيها الفرد بأنه يمتلك القدرة على الاستفراد بالأشياء الممنوحة للاستفادة، والاعتبار. ولذا، فإن سياق ما يجري في الحياة من مخاضات متصارعة، لا يجوز صرفه عن ضرورته التي تقوم به في حركيته، لأن فهم طرق تكونها بين المفاهيم المتداولة، وسواء تحمل غلطا في المنهج، أو صوابا في التقدير، هو الذي يبلغنا إلى درك الظواهر التي تتلاشى معها إرادتنا للخير الوفير، إذ وعي ما فيها من خيوط تربط بين أجزائها، وتصل ماضيها بحاضرها، هو المعيار الذي يدل بصيغه على الحدود القابلة للابتلاء بالصلاح، والفساد. وحقا، إن كثيرا مما ابتلينا به من صراع، ونزاع، لم ينشأ إلا من هذا الجهل الذي يتظاهر بالمعرفة الكاملة الأبعاد، والمناحي، وهو غير قادر على النفاذ إلى حقيقة ما يقع من أحداث تختلف فيها الأنظار قبولا، أو رفضا، لأن صعود رأي على غيره، وعلى رغم قفزه على ما عداه، واعتباره مطيقا لأن يكون ترياقا لكل ما يحدث من ضخام الأرزاء، وجسام الأدواء، هو تبسيط لعملية تكوُّن الأفكار في محيطها النفسي، والاجتماعي، وتبخيس لما يتفاعل في الأشياء من حتيمات يستلزم بعضها بعضا، ويستوجب الجزء فيها الكل، إذ حصر هذه الضرورات في منحى واحد، وقصرها على معنى متفرد، وحبسها في سجن منفرد، لن يؤثر في زوالها، ولا في إبقائها، بل يغري بكثير من الصخب، والجلبة، ويثري مجال النقاش العام بأفكار ردئية، ودنيئة، وكلاهما، لا يعكر إلا صفو العقول التي تريد أن تشهد هذا العالم جميلا في اختلافه، وتعدده، لأن ما يصير قيمة أخلاقية في الوجود البشري، ليس هو ما نبرهن به على النقيض المتردد في الأحكام، بل ما يستلزم إنكار كل خلل يحدث في هرم القيم التي تتنافس من أجل صلاح صيرورة العالم، وحيلولته دون الوقوع بين مخالب العقل المتوحش، إذ إمكانية تدبيره لكل الموارد التي يغشاها الإنسان بكده، وسعيه، هي التي تجعل خطاب الإصلاح قيمنا بالجدارة، والاستحقاق، لأنه يوحي بتبادل التجارب في سبيل غرض مقصود بالنتيجة، وهو مساءلة اختيارات الأخلاق، لكي نستكشف منها ما يدعو إلى الانهيار، والتلاشي، أو ما يبني أنموذجا له قوة التأثير على توحيد الكون، وتقريب المسافات التي تتناءى بالحلم البشري عن طريق الرعاية، والمناعة، إذ تفويض كل علاقات الإنسان إلى مقتضيات المادة التي تعرب عنها الآلة العجماء، هو رفض مبدئي لروحانية العالم، وجمالية تماسكه بالفضائل التي تبرزها قيمة احترام حق هذا الكائن المستخلف في الأرض، والمستغل لخيراتها، وبركاتها. ومن هنا تكون تجزئة هذا المبتغى نفيا للجزء الأكمل فيها، إذ لا يجوز أن تتغير كل المواضعات الاجتماعية، وسواء في ذلك تقاليدها، أو أعرافها، أو عاداتها، أو غيرها مما يتقوم به الكيان المادي والمعنوي من آداب، وأخلاق، إلا إذا شككنا في الأصل الجامع لوحدتنا القائمة على حركية التاريخ المشترك، وشعرنا بالغبن في كل الروابط التي تصل بين أنواعنا في جنس المتوحد الغاية، إذ هي لا تعرف الحدود المزعومة في المفاضلة، والمفاصلة، بل هي مطلوب الإنسان الذي تحدى من أجله الصعاب، ونازل النكبات، وعارك المصائب، لأنها توضح كيفية بناء خياراته الفكرية، والعلمية، وطرق وضع هويته المناسبة لدوره، ووظيفته. ومن هنا، فإن أول مصدر للعنف الذي نترجى فهم عقليته المستحوذة عليه، ليس هو ما يحدث من مشاحة حول حدود القصود، والأهداف، بل هناك أمر خفي في عمق هذه العلاقة التي تربط بين الإنسان، والأشياء التي فيها إغراء، ونفور، لأن استحضار الخوف من كل ما يرده الفرد في المجتمع، واستفخام ذلك في كل المسالك التي يستهدي إليها بجهده المكدود، هو شعور باطني بوجود مناطق جوفاء في الأواصر التي تربط الصيرورات مع بعضها، وحضور وجداني بقبول الحقائق لمعاني أضدادها، إذ لا يمكن أن نتوجس خيفة مما نحس بأنه يصل فينا بين ما نراه استواء، وبين ما نخاله انحرافا، لأن المادة التي تتكون منها مفاهيمنا، والطاقة الفكرية الموجهة لسلوكنا، هي التي تحدد نوعية أقوالنا، وسببية أفعالنا، وإلا، فإن محاولة الفصل بين آليات جهاز التفكير الذي يضمر الإطار المعرفي للذات المكلفة، وبين الأخلاق التي تواطأ المجتمع عليها في سياقه العام، والخاص، وصارت مع شدة التشبث بها سببا في كسب رهان الوجود بين عوالم متصارعة بالكراهية، هو زرع حقيقي لفسيلة العنف الذي لا يميز بين الأفعال إلا بما تمليه الأنانية من غرور، واغترار، إذ لا يقوم في الأشياء إلا إذا انفصلت عن كلياتها، وانحسر فيها المراد عن حقيقتها. وهكذا، فإن أزمة العقل الفقهي على جهة الخصوص، أو العقل العربي على جهة العموم، لم تتجسد في كونه لم يهدأ باله بما تفرزه الحضارة الفارهة، بل في كونه لم يستطع أن يستوعب الحقائق في أبهى تجلياتها، وأظهر ملامحها، لأن افتراض ما هو ميتافيزيقي في تفسير الظواهر، ومحاولة سبك كل القناعات بهذه النظرة المحدودة الأفق، إن لم يكن مستندا إلى دراسة ما هو فيزيقي، وهو محل التأمل العقلي، والتبصر الفكري، لن يكون إلا نظرة روحية مستغرقة في العماء، لا تشهد ما له علاقة بما هو مادي في جوهر الحقيقة. ولذا، فإن الاستغراق في المجال الروحي، من غير التوسط بالعالم المادي الذي تتركب منه جواهر الأشياء في الطبيعة، لن يفضي إلا إلى نزاع مستفيض بين الدروب الذي ينزف على رُحبها صوت الإنسان المتمخض عن آماله، وآلامه، لأن ترجي المحال في ذا، أو في ذاك، لن يأتى نتاجه إلا نشازا في الصيرورة البشرية، إذ هي مرتبطة بكونه كيانا متعددا في خصوصياته، ومتنوعا في طبائعه، لا يستقل منه جزء عن جزء آخر، ولا يستغني فيه كل عن كلية، لأن قيام ضرورته الوجودية متأكدة بحضور كل العناصر المكونة له في ماهيته الذاتية، وهويته الشخصية. ومن هنا يكون الخطاب الروحي مقابلا للمادي على جهة التقابل، ومعارضا له في الكينونة المتعاركة الغرائز، والرغبات، وكل غلو في أحدهما، أو تحريف لمسارهما، أو استهانة بهما، لن يؤثر إلا بما هو أسوأ في ترتيب العلاقة القائمة بين الذات الواعية وغيرها من الكائنات المحيطة بها، والمتجسدة في جنسها، وفي كل الأنواع التي تحتمي بصلادة نظام الكون القائم على الإبداع، والحكمة، لأن تجاوز هذه العلاقات المدهشة الإتقان، لا يعني سوى الانفراد الذي يسير بالإنسان إلى طريق الأنانية المسدود، وهو في حد ذاته مرام يقود إلى الضياع، والفراغ، ويسوق إلى النزاع، والكراهية، إذ كل ما يخرج عن وضعه، أو عن طبعه، لن يكون إلا هدما للروابط، ونسفا للعلاقات. وذلك ما وصل إليه الخطاب الديني حين انزوى إلى ركن قصي، واكتفى بذاته عن غيره من القوى المركبة لسياقه الكوني، ولم يرد أن يعبد الطريق بينه وبين كل المختلفات الموجودة بتناقضها في العالم الإنساني، لأن ربط هذه الخيوط مع بعضها، ووصل ماضيها بحاضرها، هو الذي يفقهنا بطرق بناء الحقيقة في العلم، والمعرفة، والحضارة، إذ عدم فهم منطق التعدد في المتشابهات، والاختلاف في المتنافرات، هو المجاز الذي يمر عليه كل من خال الكون بلا نظام، وظن العلاقات البشرية بدون انتظام، لأن كثيرا من نزاعاتنا الباطنية، والظاهرية، لم تكن مفردات تضر لغة العالم الجميلة، إلا حين حملت فوضى الإنسان، وعبثيته بكل التنويعات التي تتولد منها أواصر الإخاء، والمحبة، إذ جور الإنسان بمقتضى تجاوز الناموس الأزلي القائم بالنظام في صيرورة الأشياء، هو الدليل على دخوله إلى عالم دناءته، وخسته، لأن توليد العنف في الحقائق التي تحرص الطباع السليمة على حماية وحدتها، هو الذي سوغ مرسوم الظلم، والغطرسة، والجبروت، إذ هو التخلي عن كل الحواجز الفكرية التي أقامتها الديانات والفلسفات بحدودها، ورسومها. ومن هنا نضع أيدينا على أول معلم في الدوافع التي تدعو إلى العنف، والكراهية، لأنهما لا يتحققان إلا بوجود تربة قابلة لزرع الفتنة فيما توافق الناس على صلاحه، وخيره.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عقيدة التسويغ -11-
-
عقيدة التسويغ -10-
-
عقيدة التسويغ -9-
-
عقيدة التسويغ -8-
-
عقيدة التسويغ -7-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
-
عقيدة التسويغ -6-
-
عقيدة التسويغ -5-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -3-
-
عقيدة التسويغ -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -2-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -1-
-
عقيدة التسويغ -3-
-
عقيدة التسويغ -2-
-
عقيدة التسويغ -1-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -8-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -7-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|