|
هل أقباط مصر مونوفيزايت ؟
عماد امير
الحوار المتمدن-العدد: 5495 - 2017 / 4 / 18 - 14:07
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
انتشر استخدام تعبير مونوفيزايت ـــ الإيمان بطبيعة وحيدة للسيد المسيح _ بشكل كبيرعند مؤرخى العصور الوسطى فى الشرق و الغرب ولاسيما عند الحديث عن إيمان الكنائس الأرثوذكسية الشرقية - القبطية، السريانية، الأرمنية، الاثيوبية، والإريترية ـــ الرافضة لمجمع خلقيدونية . و يرجع السر في ذلك إلى الخلط بين هرطقة أوطيخا و بين عقيدة هذه الكنائس سابقة الذكر.
ولاستجلاء طبيعة ذلك الخلط وما يطويه من اختلافات؛ ينبغي أن نتتبع كيف نشأت هذه المشكلة:
كانت بداية المشكلة مع إعلان نسطور ـــ بطريرك القسطنطنية ـــ نظريته اللاهوتية التي نادى فيها بأن للمسيح اقنومين منفصلين ـــ الكلمة و الانسان ـــ يجمعهم فقط مجرد اتصال خارجى و ليس اتحاد اقنومى ومن ثم فإنه رفض أن يطلق على السيدة العذراء لقب أم الله بل أسماها أم يسوع أو الوعاء الالهي، وبذلك يكون قد قسم شخص الرب يسوع المسيح إلى شخصين ليس لاحدهما علاقة بالاخر . بدأت هذه الافكار تنتشر في أنحاء الامبراطورية البيزنطية و خصوصًا مع ترويج نسطور لها. ونظرًا لاختلاف هذا الفكر بشدة مع التراث الارثوذكسي الاسكندري؛ تصدى البابا كيرلس ــ الملقب بعمود الدين ــ لها وحاول فى البداية حل الامور بشكل ودي من خلال إيفاد الرسائل إلى نسطور، ومحاولة إقناعه بالتخلي عن أفكاره، و عندما فشل الأول فى ذلك؛ تواصل مع الكراسي الرسولية الاخري لنقض هذه البدعة مما أسفر عن انعقاد المجمع المسكونى الثالث ـــ مجمع افسس فى 431 م برئاسة البابا كيرلس ـــ الذي خلص إلي حرمان نسطور و فكره. و قد لخص القديس كيرلس تعريف طبيعة المسيح من خلال استخدام المصطلح الأرثوذكسي الأسكندري العريق "الطبيعة الواحدة المتجسدة لله الكلمة μία φύσις του θεου λογου σεσαρκωμένη " " وتعني أن طبيعتا المسيح اللاهوتية والإنسانية اتحدتَ فى بطن السيدة العذراء و نتج عنهما طبيعة واحدة دون أن يفقد المسيح أي من خصائص الطبيعتين سواء عن طريق الامتزاج والاختلاط او الانفصال والافتراق.
كان أوطيخا رئيس أحد أكبر الاديرة فى القسطنطنية، وصديق للقديس كيرلس ـــ عمود الدين ـــ ، ومن المتحمسين جدًا لرفض هرطقة نسطور. ونتيجة لعدم كون أوطيخا لاهوتي ضليع و لحماسه فى دحض فكر نسطور؛ أن خرج بنظرية مؤداها؛ أن الإتحاد بين الطبيعة اللاهوتية و الناسوتية فى شخص المسيح كان اتحاد حقيقى و لكنه غير طبيعي نظرًا لانصهار الناسوت فى اللاهوت ومن ثم أصبحت هناك طبيعة وحيدة وهى اللاهوتية. عندما وصلت تلك الأفكار لبطرك القسطنطنية ـــ نسطورى الفكر ــ قام بعقد مجمع عاقب فيه أوطيخا بالحرمان مما دفع الأخير للتقدم بشكوى للأمبراطور ضد هذا المجمع. وفى نفس الوقت بدأت تشتعل من جديد نظرية نسطور على يد هيبا ـــ اسقف الرها ـــ وثيودوريطس ـــ اسقف قورش ــ مما جعل الأمبرطور يأمر بعقد مجمع أفسس الثانى عام449م سمي فى مجمع خلقدونية بمجمع اللصوص ــ برئاسة البابا ديسقورس الاول ـــ و قد انتهى بتبرئة أوطيخا بعدما أرسل خطاب للمجمع يؤكد فيه إيمانه بتعاليم مجمعي نيقية وأفسس الاول. ويمكن القول أنه منذ ذلك الوقت أصبح من المعتاد وصف الكنائس الارثوذكسية الشرقية بأنها مونوفيزايت نسبة إلى بدعة أوطيخا.
وفي الحقيقة يمكن إجمال طبيعة إيمان الكنائس الشرقية الارثوذكسية في تلك العبارة :" طبيعة واحدة المتجسدة لله الكلمة " أى طبيعة مكونة من طبيعتين دون انفصال او امتزاج او اختلاط .
يعود رفض الكنائس الشرقية لفكر اوطيخا إلي مجموعة من الأدلة والأسباب التاريخية : 1- قول القديس ديسقورس في مجمع خلقيدونية بعدما سئل عن رأيه فى مبادئ أوطيخا الأساسية: " إذا كان أوطيخا يعتقد بهذه المبادئ المنحرفة فلا يستحق الحرم فحسب بل يستحق الإحراق أيضًا" و قال أيضًا عندما تم إتهامه بالإنتماء إلى بدعة أوطيخا: " نحن لانتكلم عن إختلاط ولا إنفصال ولا تغيير و ليكن كل من يقول بالأختلاط أو التغيير أو الأمتزاج محرومًا". وفي خطاب له إلى رهبان دير هناطون ـــ دير يبعد 9 أميال عن الأسكندرية ـــ قال القديس ديسقورس: " إن الله الكلمة واحد مع الله الآب فى الجوهر فى أخر الدهور، لأجل خلاصنا صار واحداً مع الأنسان فى الجسد و قد بقى كما هو من قبل" . 2- في عهد الأنبا ثيودوسيوس أسقف أورشليم ـــ تنيح 457 م وكان ينتمي إلي فكر و إيمان الكنيسة الشرقية الرافضة لمجمع خلقدونية ـــ قام رجل يُدعى يوحنا ـــ خطيب من الأسكندرية ـــ بالترويج لأفكار أوطيخا فتصدى له الأنبا ثيودوسيوس و أرسل حكمًا بإدانة هذا الفكر إلي فلسطين، سوريا، والأسكندرية. وقد وصف الأنبا ثيودوسيوس هذا الفكر بأنه هرطقة أسوء من هرطقة بولس السموساطى، أبوليناريوس، ونسطور. 3- كتب البابا تيموثاوس إيلوروس ـــ تيموثاوس الثانى البابا 26 بطريرك الأسكندرية، ومن أكثر أعداء مجمع خلقدونية – من منفاه عدة رسائل إلي الأسكندرية و فلسطين يعارض فيها الذين يرفضون أن يؤكدوا أن المسيح الذي هو واحد مع الله الآب في الجوهر بحسب اللاهوت هو فى نفس الوقت واحد معنا فى الجوهر بحسب الناسوت. هناك حادثتان تؤكد معارضة البابا تيموثاوس إيلوروس لفكر أوطيخا : أ- الحادثة الأولى : أثناء منفاه كان هناك رجلان من الأسكندرية أحدهما من هرموبوليس والآخر يُدعى ثيوفيلوس أقاموا فى القسطنطنية وزعما أن لهما نفس رؤية البابا تيموثاوس، وكانت أفكارهم تنتمي لبدعة أوطيخا، وحينما وصل هذا الكلام إلى مسامع البابا تيموثاوس؛ أرسل خطابات إلى كل من في الأسكندرية يحذر فيها الناس مما يفعله هذان الرجلان. ب - الحادثة الثانية: عندما زار البابا تيموثاوس القسطنطنية عام 475 م ـــ بعدما أعاده الإمبراطور باسيليسكوس ـــ قام الأخير بإصدار منشور عام يلغي فيه مجمع خلقيدونية. و قد أدان هذا المنشور أولئك الذين يتمسكون بفكرة أن التجسد كان شبهًا خارجيًا فقط فعارض بعض الرجال فى القسطنطنية هذا الأمر، وكان رد البابا تيموثاوس عليهم: " إن الأسفار تعلمنا عن المسيح أنه تشابه معنا في كل شئ وأنه صار بالكمال بنفس الطبيعة البشرية معنا ماعدا الخطية. وهو قد وُلد بطريقة فائقة بدون إتصال زيجي، ولكنه صار إنسانًا كاملًا إذا حُبل به فى مريم العذراء ووُلد منها بالروح القدس وهو نفسه ظل بإستمرار الله المتجسد بدون أى تغيير". 4- كان مار فيلوكسينوس ـــ أسقف منبج ـــ معارضًا قويًا للنسطورية فقد كان يرى أنها تسللت بمكرٍ من خلال مجمع خلقدونية، وطومس ليو (لاون )، كما كان معارضًا قويًا لبدعة أوطيخا حيث قال: " أن بدعة أوطيخا تؤمن فقط أن الله الأبن أخذ لنفسه مظهر شبه إنسان بدون أن يأخذ أي شئ من العذراء، وهذا التعليم يضعف من مدلول التجسد ولهذا ينبغي أن ترفضه الكنيسة . وقال أيضًا: " أن أوطيخا وقع في بدعة الثنائية المانية ـــ نسبة إلى مانى ـــ التى تعتبر أن المادة شر لأنه إذا كانت بدعة أوطيخا تنكر أن ربنا قد صار متجسدًا من العذراء وأنه واحد معنًا في الجوهر أفلا يتضمن هذا رفضًا منها ـــ يقصد بدعة أوطيخا ـــ بالأعتراف أن الله من الممكن أن يصير إنسانًا على أساس الفرض المسبق بأن الطبيعة البشرية هي شر". يتضح من هذا كله بما لا يدع مجالًا للشك رفض الكنائس الأرثوذكسية الشرقية الغير خلقدونية وأبائها لبدعة أوطيخا وإدانتهم لها، وإن لقب مونوفيزايت غير دقيق وغير أمين وأن إلصاقه بهم خطا فادح. وإن كان هذا الخطأ يمكن فهم مبرره إذ صدر من المتخصصين الغربيين بسبب انقطاع الفكر الأرثوذكسي الشرقي عن الغرب منذ قرون عديدة، ولكن ما المبرر وما العذر الذى يجعل المؤرخين الشرق أوسطيين يتمسكون بهذا اللفظ بالرغم من كونهم يستطيعوا بمنتهى اليسر التواصل مع الكنائس الارثوذكسية الشرقية والاطلاع على فكرها الا أن يكون ذلك ناتج من تغلب روح النقل و النمطية على روح الإبداع و التجديد المراجع: 1- إسحق إيليل منسى: تجسد الأبن الوحيد بين تعليم القديس كيرلس الكبير وهرطقة نسطور، تقديم ومراجعة: الأنبا بيشوي، ط1، الناشر مطرانية دمياط و كفر الشيخ، 2004م . 2- الأنبا بيشوى: المجمع المسكوني الثالث في أفسس عام 431م و الصراعات العقائدية في القرنيين الرابع والخامس حول شخص وطبيعة السيد المسيح، ط1، القديسة دميانة للرهبات للنشر، بلقاس، 2005م. 3- القمص تادرس يعقوب: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كنيسة علم و لاهوت ، د.ت. 4- سعيد حكيم يعقوب: الآباء و العقيدة، سلسلة دراسات آبائية، ع 40، ط1، مؤسسة القديس أنطونيوس – المركز الأرثوذكسى للدراسات الأبائية ، 2012م. 5- ف. سي. صموئيل: مجمع خلقدونية، ترجمة: عماد موريس اسكندر، ط1 ، دار باناريون، القاهرة، 2009م. 6- موسوعة الانبا غريغوريس مجلد 1 بعنوان اللاهوت المقارن اعداد الاكليركى منير عطية ، الناشر مكتبة الانبا غريغوريس
#عماد_امير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاعلامى مفيد فوزى و الشيخ الشعراوى
-
المؤرخين الاقباط و روح الذمية
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|