|
أعتماد .. قصة قصيرة
عماد البابلي
الحوار المتمدن-العدد: 1440 - 2006 / 1 / 24 - 08:16
المحور:
الادب والفن
(( ليلة مقمرة والقتال يشتد بين جيشين وصرخات الموت تأتي من هنا وهناك ومنظر الدماء الممزوجة مع ضوء القمر يعطي له لون براق ورومانسي غريب ، كان لمعان السيوف ونصول الرماح الكثيرة بالنسبة لناظر من فوق يشبه كثيرا مشهد بحر تتراقص فوقه جزيئات الضوء .. شاب يحمل رمحا ويحاول جاهدا أن يشق طريقه عبر الجنود وهناك امرأة عجوز تبحث عنه وحين يراها يقف وعلى فجاءة يتعرض لضربة رمح من خلف ، يصرخ ( أمي .. أمي ) . تستيقظ السيدة اعتماد من نومها وهي تصرخ ( ولدي .. ولدي ) ، وتنهض ن السرير على أثر الحلم المزعج وتندب حظها وحظ ولدها ( جعفر ) الذي لم يعد من الحرب ، حرب الأمين والمأمون ، ذهب الابن منذ شهور والإشاعات تتحدث عن مقتله . كانت السيدة اعتماد لا تفعل شيء سوى التفكير بولدها والتأمل في ذكرياتها معه ، وعلى عادتها في كل يوم تجلس اعتماد عند الباب تنتظر وتركز بصرها على الطريق البعيدة لعل جعفر يأتي ، والناس بالعشرات مابين ذاهب وعائد غير آبهين بها أو حتى هي تأبه لهم .. كانت الدار صغيرة جدا وبسيطة وغير متكلفة في البناء على عكس البيوت الحديثة التي دخلت لها الزخارف والينابيع .. حتى وقت قريب كان يعيش في البيت ولدها جعفر المكافح في نصرة الأمين على عكس أخوه ( سليمان ) الذي يناصر المأمون الرابض وراء أسوار بغداد .. بغداد مدينة الرشيد الذهبية التي كانت مثله نرجسية حتى قعر الكأس ، كان سليمان يعمل لدى أحد النخاسين كسمسار جواري يوصل الطلبات إلى البيوت ، جواري قادمات من أنحاء الإمبراطورية العربية لا يعملن شيء سوى أمرين : متعة وخدمة .. تلك المسكينات ميراث عصر فتوحات بني أمية . كانت تلك الأفكار هي إفراز الانتظار الطويل للسيدة اعتماد لولدها جعفر ، علمها الانتظار أن ترى الحياة بمنظار جديد تتعجب منه هي نفسها . كانت السيدة اعتماد ترى أن الخلاف بين الأميرين ليس من أجل العقيدة بل من أجل مصلحة شخصية في التربع على كرسي السلطة .. صراع بين عائلتين ، بني برمك خوال المأمون الملتفين حوله كعصبة ، وأعمام الأمين المنحدرين من العباس عم النبي الذين يرون أنهم الورثة الشرعيين لإمبراطورية النبي العربي . تتذكر دائما بأن سليمان دائم الخلاف مع أخيه حول هذا الموضوع ، سليمان يساري تحرري يؤمن بأن المأمون سيجلب الديمقراطية والحرية إلى بغداد على العكس من أخيه صاحب المشاعر القومية الأصيلة ، استطاع سليمان من استثمار هذا الخلاف في كسب زوجة جعفر ( فيروز ) إلى جانبه لأنها كانت فارسية الأصل .. كانت السيدة اعتماد ترى الخيانة وتسكت حتى لا تتحول إلى فتنة بين الأخوين ، كانت ترى كيف كان سليمان ينسل إلى غرفة فيروز ليلا في فترة غياب جعفر .. هكذا كانت ترى اعتماد البيت مسرح للصراعات السياسية ومقامرة وخيانة .. كل شيء تغير حتى أن جارتها أم شيبان هي الأخرى لم تزرها من زمن بعيد ، سليمان أنقطع عنها بشكل كامل ولا تعرف لماذا ،حتى الآم المفاصل الذي يلازمها من زمن اختفى . تعود السيدة إلى نومها وهناك تحلم .. (( مجموعة من الجنود يحملون جثة على أكتافهم في موكب جنائزي في ظهيرة يوم عاصف ، يمشي الموكب وكان أحد الجنود يكّبر بـ ( لا اله ألا الله ) ويمر بالقرب من السيد اعتماد التي تراقب جثة القتيل بكثب ، وتقول في نفسها ( أنه جعفر .. أنه جعفر ) ، وعلى فجاءة ترفع الجثة رأسها ويصرخ ( أمي .. أمي ) وتركض وراء الجنود وتصرخ ( ولدي .. ولدي ) )). تنهض السيد اعتماد من نومها منهارة وتذهب إلى قدر ماء وتقول في نفسها ( أه .. يا ولدي جعفر أين أنت الآن ) ، تعود السيدة اعتماد إلى باب الدار كما هي العادة في كل يوم تراقب وتتأمل في الوجوه الكثيرة التي تعطي أفكارا كثيرة فيما لو كانت كاتبة روائية ، هناك الكثير من المآسي المطمورة وراء تلك الوجوه البائسة ، مآسي يومية وهناك مآسي أخرى تركز عليها السيد اعتماد ، مآسي في اللاشعور الجمعي عمرها آلاف السنين ، أوجاع قديمة تركها الأجداد للأحفاد ليحملوها على أكتافهم ، اكتشفت السيدة اعتماد بأن لحاكم هو أسوء شخص من الشعب ويختاره الشعب لأجل ذلك وحين يأتي شخص أسوء منه يكون أكثر صلاحية من الحاكم القديم وهكذا .. وترى السيدة اعتماد بأن الإنسان هو الحيوان الأقسى والأغرب على وجه الأرض فكل الحيوانات تتكيف مع بيئتها المحيطة ، وكن الإنسان لا يستطيع التكيف نهائيا فحالما يستنفذ موارده البيئية بغباء فأنه يبحث عن بيئة أخرى وهكذا ..حدثت نفسها اعتماد ذات مساء عن معنى الكذب ولماذا الإنسان يكذب ؟؟ تسائلت كثيرا عن مغزى هذا السلوك الذي ليس له نتيجة ، لم تفهم اعتماد السبب الحقيقي لهذا السلوك الغريب . و النتيجة الأغرب التي اكتشفتها اعتماد خفوت مشاعر الحنين لولدها جعفر ولا تعرف لماذا حتى صارت تردد في داخلها من هو جعفر ؟؟ ما لذي يضيفه لها ؟؟ اقتنعت أخيرا بأن جعفر مات للأبد ويجب أن تبدأ حياتها من جديد .. حياة حقيقة دون أوهام ودون حزن .وتدخل للبيت وتتمدد على السرير ولأول مرة في حياتها تنام بسكينة وبهدوء وبلا أحلام . مشهد لقبور كثيرة قديمة موزعة هنا وهناك ، يأتي جعفر وفتاة صغيرة في الرابعة من العمر ويجلس أمام قبر صغير مكتوب عليه ( قبر السيدة اعتماد – توفيت سنة 165 هجرية ) تبدأ دموعه تسقط والطفلة تبتسم دون أن تعرف حقيقة البكاء بعد , ويخاطب الفتاة : ( تعالي يا اعتماد الصغيرة ، أنه قبر جدتك اعتماد ، لقد كانت سيدة عظيمة ماتت علي حزنا حين تأخرت في الحرب .) ويقبل القبر مرتين ويحمل اعتماد الصغيرة ويذهب بعيدا ..
عماد الربيعي نيسان / 2001 بغداد
#عماد_البابلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عندما يحلم الله
-
في المطعم المسيحي
-
آزمة الرومانسية في المجتمع العربي
-
جرذان لكن بشر .. عالم من أنصاف البشر
-
هيفاء وهبي ..أخر القديسين
-
السلفية البابلية .. أزمة الهوية العراقية
-
عمر بن الخطاب .. بداية التاريخ العربي الأسود
-
من وحي ملاك ثمل .. قصائد
-
النبي إبراهيم .. تحليل نفسي ورؤية جديدة
-
فلسفة نانسي عجرم .. الحتمية تنهض من جديد
-
الشبح ؟؟.. تعريف باراسيكولوجي
-
نحو دين جديد .. أفكار وخواطر لمثقف مرهق
-
عالم ليس لنا .. عالم تسكنه البقر
-
جبرائيل ونبي وهلوسة
-
عن الماركسية العراقية وأشياء أخرى .. تحليل أنثربولوجي بسيط
-
دفاع عن السيد ابليس
-
باراسيكولوجية الحيوانات .. مدخل
-
عن اللاشعور الجمعي العربي/ مواصفات الشخصية العربية
-
رسالة من الأميرة ضبأ إلى جرذان الدين السياسي
-
نيتشه ومختارات من كتاب هكذا تكلم زارادشت
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|