|
الاسطورة والتاريخ
سعد سوسه
الحوار المتمدن-العدد: 5492 - 2017 / 4 / 15 - 16:06
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ان دراسة الاساطير تقودنا الى استبانات متناقضة ففي الاسطورة متسع للحصول على أي شيء ويبدو ان تتابع الاحداث لا يخضع لأية قاعدة من قواعد المنطق او من قواعد التواصل . ومهما قبلت الاساطير على اوجهها , يبدو انها تظل مقتصرة على كونها شكلا اوليا من اشكال النظر النفسي . 1 وكتب مالينوفسكي بعد دراسته لسكان ماليزيا فقال : ان الاسطورة في المجتمعات البدائية في تركيبها الاصلي الحي ليست قصة بل هي حقيقة تعاش ومن خلالها يتم التعبير عن الحياه الاعتيادية و القدر واعمال الانسان وهو اعتراف بالحلقة التي تربط الماضي بالحاضر وتأثير الاسطورة في الحياه الاعتيادية . 2 ومن هذا كلة نجد ان الاسطورة هي نظام فكري متكامل , استوعب قلق الانسان الوجودي و توقة الابدي لكشف النواقص التي يطرحها محيطة و الاحاجي التي يتحداه بها النظام الكوني المحكم الذي يتحرك ضمنه يعد التاريخ من المداخل الأساسية الذي به يمكن أن نستدل على أصل معنى الأسطورة وعلاقتها بحياة الإنسان وذلك من خلال تتبع التاريخ والذي يساعدنا على تحليلها وتفسيرها. ولقد برز الفيلسوف اليوناني يوهيميروس اهتمم بتحليل الأسطورة ووضع التفسير الملائم لها. حيث يرى في الأساطير قصص تروي بعض الأحداث العامة في حياة الشعب الذي ابتكرها وأبدع بها وذلك بعد إدخال بعض التعديلات عليها وصياغتها في قالب قصص مشوق . 3 . فالأسطورة ليست ناتجة من الخيال المجرد ، بل هي ترجمة لملاحظات واقعية ورصد لحوادث جارية. وعبرها انتقلت الينا تجارب الأولين وخبراتهم المباشرة، وهي تعود في أصولها إلى أزمان سحيقة سابقة للتاريخ المكتوب ، فقبل أن يتعلم الإنسان الكتابة كانت ذاكرته على قدر كبير من النشاط والحيوية وقد استخدمها لنقل الأحداث بأمانة عبر الأجيال . 4 . والأساطير في الفهم القديم هي مجموعة خرافات وأقاصيص وموضوعها الآلهة تتناول الأبطال الغابرين وفق لغة وتصورات وتخيلات وتأملات وأحكام تناسب العصر والمكان لذي صيغت فيه. وشكل الأنظمة والمستوى المعرفي ، وهي في الوقت ذاته تشكل ثقافة عصرها ، بحيث تبدو ذات خصوصية تربطها ببيئتها ومجتمعها بحيث يمكن من دراستها استقراء التاريخ الاصدق لزمانها ومكانها . 5 . لذلك فنجد أن الأسطورة كما يراها أصحاب الاتجاه التاريخي أو المدرسة التاريخية على أنها تشمل على تسجيل تاريخي لأحداث وقعت في مرحلة ما قبل التدوين وقد تناقلتها الأجيال المتعاقبة. وهي تؤمن تماماً أنها كانت وقائع حدثت بالفعل وعليه فأن قراءة التاريخ القديم دون الأسطورة أمر غير تام العلمية باحتسابنا الأسطورة السجل الأمثل للفكر وواقعه في مراحله الأولى عندما كان يحاول تفسير الوجود من حوله ، ويحاول قراءة الواقع الاجتماعي وتغييره. فالأسطورة بما تقدمه من فكر فهي تعكس المرحلة الحضارية التي يمر بها المجتمع، فهي تمثل المحتوى التاريخي للبنية العقلية لذلك المجتمع وفهم دلالته الاجتماعية والثقافية، فهي إذ تعبر بوضوح عما كان يجري في زمنها من احداث فهي تعكس طبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وتعطي معاني لطبيعة حياة الإنسان آنذاك ومن هنا تبرز اهمية الأسطورة في فهم ثقافة ذلك المجتمع ويمكن أن يضعنا أمام تصورات واضحة لاستقراء التسلسل التاريخي الحضاري لهذا المجتمع. فالأسطورة هي تسجيلا للوعي الإنساني اللاوعي في آن واحد ، فهي أخذت مساراً تطوريا بطيئا ، وأن كل عنصر من الماضي يفرض نفسه وتأثيره على الجماهير بقدر لا يقاوم. ولم يختلف في تفسيره للأسطورة العالم مولر ، والذي يرى في الأسطورة أحاديث مصورة لأحداث تاريخية حقيقية واقعية وتابعة في ذلك مع بعض الاختلافات الجزئية لكل من جاكسون وكذلك العالم أولدنبرج حيث اعتبروا الأسطورة هي قصة أبطال حقيقيين قاموا بأعمال مجيدة فلخدهم أخلافهم وحولوهم من بشر إلى الآلهة . أن الأساطير التي وصلت إلينا كما تراها المدرسة التاريخية ليست في أصولها إلا تاريخ البشرية الأولى التي تناست ملامحه الدقيقة واضفى الخيال الإنساني عليه جواً فضفافاً وتاريخ الآلهة ما هو إلا تاريخ لعصر الأبطال ، حيث كان الإنسان يعجب بالقوة والجبروت ويتطور هذا الإعجاب عند الأجيال إلى نزعة من التقديس تتلاشى معها الحدود الفاصلة بين حقائق الدافع الإنساني وخفايا الوجود الغيبي فتصل إلى حد عبادة الآباء، تم تعمل إلى تناسي هذه الابوة ودخولها في مرحلة التأليه. وهي ترى ان نشأة الأساطير على أساس مرتبط بالتاريخ المحلي للشعوب، بوصفه تعبيراً رمزياً عن الأبنية والاجتماعية والحضارية المعبرة عن الفكر الجماعي وبالأساليب البدائية العتيقة. 6 .اذن إلى ان ظهر التاريخ الذي نعرفه الآن كانت الأساطير موجودة عند الشعوب كلها، وكانت هي نفسها تاريخ الشعوب، ولكن ليس تاريخها العادي بل تاريخها المقدس وكانت الأساطير وحدها التي تمثل أهمية لأن الآلهة خلقوها في الأزمنة الغابرة وعندما انتهى العصر البدائي، انتقلت المجتمعات البشرية إلى الحضارات الزراعية القديمة ، ولكن الأساطير لم تندثر بل بقيت لذلك هناك أساطير بقيت حتى أيامنا هذه. أما الفيلسوف والمؤرخ الانكليزي ، ديفيد هيوم، فيؤكد مجادلاً ان العمل بالتاريخ يلطف المخيلة ويعقل العقل ويرسخ فعل الخير وكذلك يؤكد المؤرخ الروسي (ف.أو . كليو تشيفسكي) ان دراستنا للأسلاف تجعلنا نفهم أنفسنا ، وفي الحال المغايرة فأننا سنغدو مجرد دمى اليه فارغة لانعرف كيف جئنا إلى هذا العالم ولماذا ، وما هو الهدف من حياتنا . وما الذي سيحدث لنا فيما بعد . ولكن كيف نستطيع ان نميز تاريخ شعب ما إذا كان متنوعاً هذا التنوع كله من الأدب والملوك والمفكرين والقادة والشخصيات التاريخية، فنحن لا نستطيع أن نرى الماضي بالعين المجردة. والذي يمكننا أن نعتمد عليه للحصول على معطيات يركن اليها ونكون رأيا قريباً من الواقع الفعلي، لاشك أن ما يمكن أن نعتمد عليه هو اولاً وقبل كل شيء المصدر التاريخي . وعليه فأن وصف كل شيء استناداً إلى التاريخ يواجه صعوبة بالغة إذ لم يرافقه التأكيد على الأعمال البطولية والأسطورية والتي قد تجد طريقها مخلدة الذاكرة البشرية بوصفها مفخرة للشعوب التي تنتمي إليها وهذا يعطي أهمية للاتجاه التاريخي أهمية علمية في فهم معنى وتأثير الأسطورة في شعب من الشعوب ولقد أفادنا هذا الاتجاه في بناء تصور نظري عن ماهية الأسطورة والبطل الذي سوف ندرسه لاحقاً في التاريخ البشري والذي يعطي معنى حقيقي عما هو موجود في حاضر ذلك المجتمع فاستحضار تلك المفردات والمفاهيم التي تعبر عنها الأسطورة في صورة البطل فهي تدل على حضورها الرمزي في ثقافة المجتمع الحالي.
المصادر
1 . كلود ليفي شتراوس، بنية الاساطير، مجلة الفكر العربي، العدد77، ترجمة حسين قيس، بيروت، 1984، 148. 2 . آرثر كورتل، قاموس اساطير العالم، ترجمة سهى فريجين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط21، بيروت، 1993، ص8. 3 . د. أمل مبروك ، الأسطورة والأيديولوجيا، دار التنوير للطباعة والنشر ، بيروت، 2011، ص26. 4 . فراس السواح ، مغامرة العقل الأولي ، دار علاء الدين للطباعة والنشر، ط1، دمشق، 1996، ص14. 5 . سيد محمود القمني، الأسطورة والتراث ، دار سينا للنشر ، مصر ، ط2، 1992، ص21. 6 . د. احمد اسماعيل النعيمي، الأسطورة في الشعر العربي قبل الإسلام ، دار سينا للنشر، ط1، القاهرة ، 1995، ص38.
#سعد_سوسه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاسطورة والتحليل النفسي
-
حكاية خرافية ...مجموعة قصص قصيرة جدا
-
مشاعر منتهية الصلاحية
-
مناضل بالصدفة
-
عطب في الذاكرة
-
موت انسان . ق . ق . جدا .
-
عطر الجسد . قصة .
-
عوامل التغير الاجتماعي
-
طبيعة التغير الاجتماعي
-
سلبية الدين
-
الدين ظاهرة ثقافية .
-
اثر الثقافة على التنمية البشرية
-
مانديلا اخر الاولياء الصالحين
-
الثورة والديمقراطية
-
الديمقراطية والشورى . الجزء الثاني
-
الديمقراطية والشورى .
-
مصادر الشرعية الجزء الثالث
-
مصادر الشرعية الجزء الثاني .
-
مصادر الشرعية
-
الثقافة وتعاريفها واطر دراستها .
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|